الكاتب والناقد الأدبي لونيس بن علي للنصر

الميديـــــا أصبحـت تستخـــدم أفكـــار المثقـــف لأغـــراض إيديولــــوجيـــــة

* الرواية المُمتعة هي التي تعرف كيف تتحايل على صلابة الحقيقة التاريخية

يعتقد الكاتب والناقد الأدبي الدكتور لونيس بن علي، أنّنا اِنتقلنا من مرحلة يكون فيها المُثقف هو من يستغل الميديا لكي ينشر أفكاره إلى مرحلة أصبحت الميديا هي من يستغل أفكاره، لأغراض تخدم إيديولوجيا ما. مشيراً في هذا السياق إلى أنّ النخبة لا تعني الكائنات العليا التي لا تتنفس الهواء، بل هي مجرّد مصانع لإنتاج الأفكار والمفاهيم والتصورات والأحلام وفي فترات ما صناعة الأوهام.

 حوار: نـوّارة لـحـرش

صاحب «تفاحة البربريّ»، يذهب إلى اِعتبار الميديا مؤسسة لصناعة التاريخ، لصناعة الأفكار، لصناعة الأفراد، وأكثر من هذا لصناعة وعي أحادي يجمعنا جميعًا –حسب قوله- تحت سقفها الّذي يدنو من رؤوسنا كثيراً.
بن علي وهو يتحدث عن النقد والناقد ومسألة موتهما المتداولة منذ سنوات، قال موضحاً فكرته: «يمكن أن نتفق بوجود تعطّل حقيقي للنقد سواء في وعينا ككائنات اِجتماعية أو سياسية أو ككائنات أدبية أو نقدية. العطل يعني أمرين: أوّلا اِنسحاب النقد عن وظيفته الاِجتماعية والسياسية. أمّا الأمر الثاني، فهو النقد كمُمارسة معرفية، أي النقد كأداة للمعرفة والبحث وطرح الأسئلة ومناقشة أفكار الكُتُب وأفكار منتجي الكُتُب، أيضًا النقد الّذي ينبش في قواعد الخطابات، ويبحث عن مظان الجمال في الأعمال الأدبية أو الفنية، فهذا النقد هو النقد الّذي لا ينشأ إلاّ في حيّز نخبوي. كما تحدث في نص الحوار عن أمور وشؤون ذات صلة بالنقد والرواية. وعلى وجه الخصوص عن الرواية المُمتعة التي تعرف كيف تتحايل على صلابة الحقيقة التاريخية وتعرف أساليب نسج الحكايات المُمتعة من الواقع.
تنشر على صفحتك بعض مقالاتك وقراءاتك الأدبية والنقدية. اِنطلاقا من هذا. كيف ترى تعامل المُثقف والكاتب الجزائري اليوم مع مواقع التواصل والميديا، وإلى أي حد هو سقف تأثيرها وسطوتها على/وفي الحياة الثقافية عموماً؟
خطر الميديا هو في قدرتها على تعطيل إحساسنا بالفرادة
لونيس بن علي: ليس هناك ما أخاف منه أكثر من سطوة الميديا على وعينا الفردي، فهي مضادة –في طبعتها اليوم- لمفهوم الوعي الفردي الّذي يمكن أن يُميّز الأفراد عن بعضهم البعض. خطر الميديا هو في قدرتها على تعطيل إحساسنا بالفرادة، لنغدو مجرّد كائنات أورويلية (نسبة إلى جورج أورويل الّذي تخيّل شخصيات تخضع لسلطة الميديا في صناعة وعيها في روايته 1984)، تفتقد إلى تلك الخصوصيات التي تجعل الواحد منا قادراً على أن يكون هو وليس نسخة لنموذج ما. هكذا أتأمّل بحذر علاقة الميديا بنا، كفواعل اجتماعية وثقافية وإلى حدٍ ما سياسيّة. أرى بكثير من الاِرتباك كيف أنّ إستراتيجيات الميديا اليوم تلعب هذا الدور الخطير ليس في توجيه الوعي نحو مشترك محدّد، بل في صناعة ذلك الوعي، ليكون مجرّد أداة طيّعة لتصديق أيّ شيء.
لقد حذّرنا بوديريار من هذا الزحف المُخيف للميديا وثقافتها، لأنّ خطرها يكمن هنا في إعادة تشكيل الحقيقة، وتحويل الزيف إلى بديل مقنع عن حقيقة لن تكون بعد اليوم تاريخية بل ميدياتيكية. قال ذات مرّة أنّ حرب الخليج الأولى جرت وقائعها في قناة السي إن إن، وكان مُحقًا في ذلك، لأنّه يكشف لنا كيف أنّ الميديا بكلّ وسائطها لم تعد مهتمة تمامًا بنقل الخبر أو الحدث، بمقدار اِهتمامها بصناعته.
هل يعني هذا أنّ الميديا مؤسسة لصناعة أنواع أخرى من التاريخ والأفكار وحتّى الأفراد والوعي...؟
لونيس بن علي: تمامًا. الميديا مؤسسة لصناعة التاريخ، لصناعة الأفكار، لصناعة الأفراد، أقصد لصناعة وعي أحادي يجمعنا جميعًا تحت سقفها الّذي يدنو من رؤوسنا كثيراً.
أتصوّر أنّ الميديا صنعت كمال دواد، كما صنعت حمداش، كما صنعت ميشال أونفري، كما صنعت كذلك برنارد هنري ليفي. الميديا صنعت الحروب والأزمات، وصنعت الخوف الدائم بأنّنا على وشك أن نضع حداً لوجودنا البشري على أرض يبدو أنّها لا تتسع لنا جميعًا. الميديا صنعت أحداث 11 سبتمبر، وصنعت كلّ ذلك الرعب أو ذلك الإحساس بالضعف أمام آلة الموت.
 وهل استغل المثقف هذا الفضاء الميدياوي لصالحه أم العكس الّذي حدث؟
لونيس بن علي: ماذا عن المثقف؟ أصبحنا نراه ضيفًا على بلاطوهات التلفزيون، يُناقش، يُحاور، يُندد، يصمت، يُزيف، يقول شيئًا ما، صرنا نراه أكثر من أي وقت مضى، لكن لا أدري إن كانت الصورة قد خدمته وأخرجته من مكتبه أو مقهاه أو حانته أو جامعته؟ ما أشاهده من نقاشات كثيراً ما تصف نفسها بأنّها نخبوية، لا تُقنع تمامًا، لماذا؟ لأنّنا اِنتقلنا من مرحلة يكون فيها المُثقف هو من يستغل الميديا لكي ينشر أفكاره إلى مرحلة أصبحت الميديا هي من يستغل أفكاره لأغراض تخدم إيديولوجيا ما.
الكلمة الأكثر دقة في توصيف «أزمة النقد» هي «تعطل النقد» بدل «موته»
معظم مقالاتك قراءات نقدية وأدبية في الرواية على وجه الخصوص. في وقت يجمع الكثير على موت الناقد -لا النقد-. فما الّذي يمكنكَ قوله في هذا الشأن الإشكالي، وهل حقا مات الناقد الأدبي العربي؟
لونيس بن علي: لا يمكن أن نصدق أسطورة «موت النقد»، كما لا يمكن تصديق أسطورة أخرى عن «موت المؤلف»، لا أدري ما الّذي سيولد من أساطير بعد هذه؟ لكن الأكيد أنّ هناك كلمة أكثر دقة في توصيف «أزمة النقد» وهي «تعطل النقد» بدل «موته». هنا، يمكن أن نتفق بوجود تعطّل حقيقي للنقد سواء في وعينا ككائنات اِجتماعية أو سياسية أو ككائنات أدبية أو نقدية. العطل يعني أمرين: أوّلا اِنسحاب النقد عن وظيفته الاِجتماعية والسياسية، ففي سياق اِجتماعي يكون الأفراد ممنوعون عن إبداء الرأي المُخالف لا يمكن أن نتحدث عن شيء يدعى «نقد»، لأنّ المسألة تتعلق هنا بمدى إدراك الأفراد لوضعهم الاِجتماعي والسياسي كأفراد متفردين مجبولين على التفكير المسؤول دون وساطة ولا وصاية. في هذه الحالة، فإنّ المجتمع الّذي يُربّي كائناته داخل ثقافة القطعان لا يمكن أن نجد فيه (شيء) يسمى نقدا، وإن وُجد فهو محرّف عن طبعه.
أمّا الأمر الثاني، فهو النقد كمُمارسة معرفية، أي النقد كأداة للمعرفة والبحث وطرح الأسئلة ومناقشة أفكار الكُتُب وأفكار منتجي الكُتُب، أيضًا النقد الّذي ينبش في قواعد الخطابات، ويبحث عن مضان الجمال في الأعمال الأدبية أو الفنية، فهذا النقد هو النقد الّذي لا ينشأ إلاّ في حيّز نخبوي.
بالمناسبة، النخبة لا تعني الكائنات العليا التي لا تتنفس الهواء، بل هي مجرّد مصانع لإنتاج الأفكار والمفاهيم والتصورات والأحلام وفي فترات ما صناعة الأوهام.
هل نملك نقداً في الجزائر؟ هو سؤال طرحته على طلبتي في الجامعة في مقياس «قضايا النقد الجزائري المعاصر»، فكنتُ أوّل الأمر مستاء من هذا الخيار في عنوان الوحدة، لأنّه خيار غير دقيق، بل غير علمي بتاتًا، لذا فضلت أن أسمي الوحدة «قضايا النقد في الجزائر» هنا، شعرتُ بنوع من الاِرتياح، والسبب أنّ الممارسة النقدية داخل الجامعة تتوقف في مستويين: مستوى غائب عندنا هو مستوى صناعة النقد منهجًا ومفاهيما وأدوات ومخيالاً، ومستوى شائع هو اِستهلاك مادة النقد كما تمخضت عن ممارسات نقدية لا علاقة لنا بها، على الرغم مِمَّا يُشاع في بعض المجلات المحكمة التي تُطالب الباحث عندنا بأن يكتب بحثًا أصيلاً في حين فكرة أصالة البحث منعدمة في سياقاتنا.
صحيح أني لا أدعي نكران أهمية التفاعل مع ما ينتجه الآخر من نظريات ومدارس ومعارف عظيمة لن يكون في مصلحتنا رفضها كما ينادي البعض من المتسرعين، لكن هذا لا يمنعني من طرح السؤال التالي: لماذا لا نستطيع بناء نظرية نقدية تشبهنا؟

يمكن للكلمة التخييلية أن تُقلِب منظومة فكرية وإيديولوجية بأكملها
تكتب في الرواية نقداً وقراءات وتأليفاً. ما الّذي يمكنك قوله حول ما يُثار عنها في حيّز الاِنتقاد، والنقد الّذي يحاول أن يُشكك في عافيتها؟
لونيس بن علي: حين فرغتُ ذات يوم من قراءة رواية صينية معاصرة لكاتب صيني يُدعى «داي سيجي» وعنوانها «بالزاك والخياطة الصينية الصغيرة». وكانت الرواية بحق مُمتعة، قرأتها بنفس واحد، كما لو كانت قطعة شهيّة من الحلوى. حينها، وأنا منغمس في تلك المُتعة تساءلت: أليست وظيفة الرواية، بالأساس، خلق هذه المتعة لدى القارئ؟
قد تبدو الرواية، من حيث اِشتغالها على مرحلة تاريخية حاسمة في الصين، رواية ملتزمة سياسيًا بفضح مرحلة ما و، لكنّها، ومع ذلك، لم تسقط في مستنقع الإيديولوجيا، بل اِحتفظت بقدرٍ كبير من الجمالية ومن الفنية، ومنحت للقارئ تلك المتعة التي يبحث عنها. سنكتشف في الرواية، قدرة الأدب على تغيير مصائر الإنسان، وكيف يمكن للكلمة التخييلية أن تُقلِب منظومة فكرية وإيديولوجية بأكملها. حقيبة مليئة بروايات بالزاك، كانت النافذة السحرية التي فتحت وعي بطلي الرواية على عالم مختلف.
وما هي الرواية الممتعة في نظرك؟
لونيس بن علي: إنّ الرواية المُمتعة في نظري، هي التي تعرف كيف تتحايل على صلابة الحقيقة التاريخية، وتعرف أساليب نسج الحكايات المُمتعة من الواقع. ما أريد أن أصل إليه، من خلال اِستحضاري لرواية «سيجي» هو هذا السؤال بالذات: هل اِنتبه الروائي عندنا إلى عامل المتعة عند تأليفه لأعماله الروائية؟ أن يُفكّر الروائي في عامل الإمتاع هو دليل اِنتباهه إلى القارئ، فعلى الرواية أن تقدّم دليلاً بأنّها ترغب في قارئها. الغالب أنّ الروائيين يهتمون بأنفسهم بالدرجة الأولى، أي ما يشغلهم هو ما يمكن أن تمنحه لهم الرواية، في حين لا يطرحون السؤال من الزاوية الأخرى: ما الّذي يمكن أن يقدموه للقارئ؟
إنّ قراءة بعض الروايات هي أشبه بالخضوع لعملية تعذيب، ومع ذلك لا يشعر الروائي بتأنيب ضميره الأدبي، لأنّ إمتاع القارئ ليس أولوية بالنسبة له، الأولوية ربّما تكون في الحصول على جائزة. لقد قال رولان بارت معرّفا القارئ بأنّه ذلك الشخص المنفيّ في كليته في سجل الخيال. فلماذا يعمد بعض الروائيين إلى طرده من تلك المملكة؟ مملكة المتعة.
لا أظنّ أنّ الرواية التي تعاني من خلل في التخييل قادرة على إمتاع القارئ، حتّى لو حرصت على قدر عجيب من السلامة اللغوية، ومرّد هذا في نظري أنّ الروائي لم يطوّر أدواته التخييلية، بل ظلّ حبيس الإطار المحدود لوعيه بالواقع الّذي يعيش فيه، وليس غريبا أنّ هناك من مازال يكتب عن مآسي الحبّ بنفس الرؤية السائدة، وبنفس الحكايات المستهلكة، وبنفس اللّغة الغنائية الحالمة أو الموجوعة.
وماذا عن مقروئية الرّواية؟
لونيس بن علي: مقروئية الرّواية تحدّدها طبيعة ردود الأفعال مِمَّا يُكتب اليوم عندنا، لأنّ اِقتناء الكِتاب مجرّد عملية تجارية فقط، ولا تعكس بالضرورة حقيقة إن كانت الرواية رائجة أم لا. لقد اِندهشت أنّ رواية قد تحصلت على جائزة وطنية، في حين هي رواية مُهلهلة بنائيًا وفنيًا تخييليًا، ولا أظن أنّها تستحق حتّى أن تكون ضمن قائمة الروايات المُشاركة. هنا يجب أن نتساءل: من الّذي يُبيح شرف الرواية اليوم؟ هل يُعقل أن تُمنح جائزة لرواية ضحلة؟ هذا في نظري، من بين الآليات الناجعة في تدمير هذا الفن، وفي تشويه مسار تطوّره. لكن يجب أن نكون عقلانيين نوعًا ما، فغياب النقّاد هو الّذي فتح الطريق مُشرعة عن آخرها لكلّ هذا الهزال الروائي.

تاريخ الخبر: 2023-09-05 00:25:02
المصدر: جريدة النصر - الجزائر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 56%
الأهمية: 52%

آخر الأخبار حول العالم

هذه أبرز نقاط الخلاف التي تحول دون التوصل لاتفاق هدنة في غزة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 12:25:18
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 70%

دورة مدريد لكرة المضرب: الروسي روبليف ي قصي ألكاراس حامل اللقب

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-02 12:24:39
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 51%

هذه أبرز نقاط الخلاف التي تحول دون التوصل لاتفاق هدنة في غزة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 12:25:24
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 66%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية