الإخلاء والتجسد الإلهي
الإخلاء والتجسد الإلهي
فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضا الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلا لله لكنه أخلي نفسه آخذا صورة عبد صائرا في شبه الناس, وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتي الموت موت الصليب في2:5-8.
الإخلاء هي كلمة مفتاحية لسر التجسد الذي لله الكلمة الذي أعلن بالميلاد العذراوي ونعيد له في هذه الأيام, فبالإخلاء صار الكلمة جسدا وحل بيننا, وقد صاغ لسان العطر بولس الرسول عن هذا الإخلاء سيمفونية رائعة في رسالته إلي أهل فيلبي في الإصحاح الثاني من العدد الخامس إلي العدد الحادي عشر, وعنها قال القديس غريغوريوس النيصي معطيا تعريفا أو وصفا لإخلاء الله الكلمة قائلا:ما الأكثر فقرا بالنسبة لله من هيئة العبد, أي تواضع أعظم بالنسبة لملك الكائنات من أنه يشترك في طبيعتنا الفقيرة؟ ملك الملوك ورب الأرباب يأخذ بإرادته شكل العبد, رب الخليقة ينزل في مغارة هذا الذي يقبض بيديه علي الكون لا يجد مكانا ولو صغيرا لكي يمكث فيه, بل وضعوه في مذود للحيوانات غير العاقلة, الطاهر وغير الدنس قبل دنس الطبيعة البشرية آخذا كل فقرنا, ووصل إلي حد أنه خضع أيضا للموت, الديان انقاد إلي المحاكمة, رب حياة كل الكائنات خضع لساحة المحاكمة, ملك القوات العلوية لم يشل أيدي الذين قيدوه
(التطويبات, المقالة الأولي)
هذا الإخلاء الذي نسميه في اللاهوت سر الإخلاء ندعوه سرا لارتفاعه عن استيعاب العقل البشري الذي ينوء تحت ثقل الماديات, والارتفاع الكاذب بأمجاد باطلة, فكيف يستوعب أن يخلي كائن عال بالطبيعة ذاته, هذا الذي يريد أن يمجد ذاته ويرفعها فوق الألوهة؟! إخلاء المسيح لذاته نراه في ثلاثة جوانب مهمة:-
الجانب الأول:-
في التأنس, كتنازل الله الكلمة الذي ينزل إلي قياسات الطبيعة البشرية.
الجانب الثاني:-
في كل حياته علي الأرض, كتواضع الكلمة المتجسد الذي أتي إلي البشر في صورة أو هيئة عبد حتي لا يرعبهم ويبعدهم عنه.
الجانب الثالث:-
في آلامه وموته علي الصليب, كطاعة الذي قبل الموت لأجل خلاصنا.
وهذه الجوانب الثلاثة ترد علي أسئلة تراود أذهان البعض, بل وتقودهم إلي إنكار وجود كائن خلق هذا العالم, أو هذا الكون وبالأخص خلق الإنسان العاقل الذي يعاني من وجوده في عالم يسوده الظلم والشرور والحروب والمآسي من كل نوع, وهذه الأسئلة تتلخص في:
1- إن كان هناك خالق عاقل شخص لهذا الكون وخلقنا, أين هو؟ ألا يتوجب أن يظهر لنا!
سؤال منطقي جدا لا يمكن ‘أن يكون خالق هذا الكون له كينونة مشخصنة عاقلة ويترك الخليقة العاقلة التي خلقها دون أن يعرف نفسه لها بل ويصنع معها علاقة شركة, وهذا بالفعل ما فعله الله الكلمة بتجسده بأنه أظهر ذاته للبشرية العاقلة التي تتوق إلي معرفة خالقها.
2- إن كان هناك خالق فهو هناك في السماء لا يبالي بمن هم علي الأرض وأقصي تقدير أنه وضع قوانين تسوس الأرض وهو منشغل عن خليقته بأمور أخري لا نعرفها؟
وهنا أيضا التجسد الإلهي وإخلاء الكلمة لذاته يجيب عن هذا الأمر, فقد تجسد ابن الله وولد كطفل صغير رقيق وعاش علي الأرض حياة بسيطة جدا كأفقر إنسان, فلم يكن له ابن يسند رأسه ولم يكن يملك دينارا واحدا وعاش حياته محتقرا ومرذولا من الناس, إذا فهذه الحجة التي يقدمها البعض ليست ذات معني لمن يؤمنون بظهور ابن الله في الجسد.
3- قال أحدهم إن كان لهذا الكون خالق لكان الأحري به أن يتألم؟
وهذا حقا ما فعله الله الكلمة المتجسد حينما قبل الآلام بإرادته عنا بإرادته وحده حتي الصليب وقبل حتي الموت وأظهر لنا أنه مشارك لنا في كل أمور حياتنا من الولادة وحتي الموت.
لذلك فإن الميلاد ظهور إلهي, انكشاف ابن الله في تواضعه, والتواضع الأعظم هو الذي عاشه ابن الله معلقا علي الصلب, الميلاد محطة عن طريق الآلام والقيامة, ولما كان الخلاص علي الصليب أهم شيء في إيماننا, لم يهتم المسيحيون الأولون لتاريخ مولد المسيح, فنحن لا نعرف اليوم ولا الشهر الذي ولد فيها المخلص علي وجه الدقة, وهذا لا يهمنا في الحقيقة لأننا لا نعالج تاريخا ولكننا نتعامل مع عقيدة راسخة, فروحية العيد تعبر عنها رسالة بولس الرسول إلي أهل غلاطية: لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودا من امرأة مولودا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبنيغل4:4.
عبارة ملء الزمان تعني أنه ليس علينا أن ننتظر أزمنة تعطينا معرفة جديدة عن الله لأننا نلنا كل معرفة بالمسيح. والأحداث الدائرة مهما كانت مؤلمة فهي لا تلغي الفرح الذي جاءنا من المسيح, لا يضاف شيء علي المسيح ولا شيء ينقصه, فتعليمه كامل وشخصيته كاملة لننال التبني, فشكرا للذي تجسد وولد من العذراء مريم ليهبنا أن نعرفه ونصير أبناء لله أبيه فيه بالروح القدس الذي أعطانا أن نمجده في كنيسته.
كل عام ومصرنا الحبيبة وكل العالم في سلام وبخير…