التأويل عند مفكري رجال الأديان العالمية

عودة للموسوعة
لوح منقوش عليه صورة موسى بن ميمون في كنيس موسى بن ميمون، الحي اليهودي، الموسكي، القاهرة، مصر

التأويل عند مفكري رجال الأديان العالمية إنَّ الذي عُني بدرسِ التفكير الدينيّ لدى أصحاب الديانات العالميّة: اليهودية، والمسيحية، والإسلام. وتَتَبّع مَوقف أكثر هؤلاء المفكرين إزاءَ نَتائجِ التفكير الفلسفي العالمي، سيَنتهي إلى حد ما إلى الرَّأي الذي يَقولُ أنَّ تأويل النصوص الدينية لتتفق وبعض الأفكار الفلسفية السليمة ظاهرة تاريخية في التفكير الديني. ومِنَ الشَّواهد أوالأدلة على ما نقول ما وَجَدنا من هذا التأويل في جميع العصور، وأنَّ فكرة التأويل لدى ابن رشد لم تكن بدعًا ولا تقليدًا منه.

ولعل من البواعث الهامة التي بعثت أولئك المفكرين من رجال الديانات العالمية الثلاث إلى التأويل، هوما يراه الواحد منهم من أنَّ دينه عالمي للخاصة والعامة من جميع الأمم وفي جميع العصور، فيجبُ حتىقد يكون مُتفقًا في أفكاره مع الحقائق الفلسفيّة التي قامت الأدلّة على صحتها، والتي فرضت سلطانها العام أوالعالمي، وذلك ما لاقد يكون إلا بالتأويل.

وكذلك من مسببات الاضطرار إلى التأويل بإيجاز أنَّه في مسائل الطبيعة وما بعد الطبيعة قد تحدث الأنبياء وأحبار الدّين ورؤساؤه بالمّجاز والإلغاز عمدًا لخطورة الموضوع، وذلك لتكون العامة ومن إليهم بمنجاة من محاولة فهم هذه المسائل التي فوق طاقتهم، ومن ثم وجب التأويل لبعض النصوص بالنِّسبة للحكماء الذين تؤهلهم عقولهم واستعداداتهم لتأويلها وإدارك ما فيها من حقائق اتىت بطريق الرَّمز والمجاز، كما يذكر «كليمانت الإسكندري».

وفضلًا عن هذا وذاك؛ فإنَّه — وقد وجدت فكرة العالمية لكلٍّ من الدين والفلسفة، وأخذ الباحثون يُعملون عقولهم فيها — كان لا بدَّ حتى يَظهرَ التّعارضُ بينهما لاختلاف طريقة العرض والأسلوب وخطة البحث لدى هذين الطرفين، فكان لازمًا التأويل بينهما، وهذا ما حصل عملًا في كلٍّ من الأديان الثلاثة.

التأويل لدى اليهود قبل فيلون

لوحة تخيلة ل كليمانت الإسكندري تعود لعام (1584) بريشة أندريه تيفيت.

كان التأويل ظاهرة تاريخية دينية؛ إذ كانت مدينة الإسكندرية بعد قليل من عهدها بالوجود، المدينةَ التي التقت فيها الحضارة في ذلك الزَّمن البعيد، وفي هذا يقول كروازيه «وكانت الإسكندرية نقطة الاتصال لمُختلف حضارات العصر القديم: حضارة مصر، وحضارة الشرق بعامة، وحضارة اليونان؛ فقد تواعدت هذه الحضارات على اللقاء على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، والبطالمة كانوا أذكياء وطموحين، فحين رأوا عاصمتهم غدت أغنى المدائن في العالم، عملوا على حتى تكون أيضًا أكثرها وأغناها مِنَ الفهماء والمثقفين.»

وقد كان لليهود مثلهم مثل غيرهم من أبناء الأجناس الأُخرى، جالية كبيرة تَعتَزُّ بدينها الذي يقوم على التوراة وتنطقيدهم الدينية المأثورة، إلا أنهم مع هذا اضطروا للأخذ بنصيب من الفلسفة والآداب اليونانية، وهذا مما جعلهم يترجمون فيما بعدُ خطهم المقدسة لليونانية التي كانت لغتهم العادية.

ولا عجب بعد هذا وقد رأوا لليونان فلسفة تناولت المسائل الإلهية، ومسألة خلق العالم، وغيرَها من المسائل التي يعهدونها على نحوٍ ما من دينهم، حتى يَنْسَاقوا إلى البحث والتفكير والمُقارنة بين ما لديهم، وبين ما فهموه في هذه الفلسفة، وكان لذلك نتيجة طبيعية هي حتىقد يكون لهم في هذه النَّاحية كتابات طريفة باللغة اليونانية.

وقد انتهى اليهود من تلك المُقارنات إلى أنَّ فلسفة اليونان أوالآراء التي رأوها حقائق وأُعجبوا بِها مِنها بعبارة أدق، تحتويها التوراة، وإلى أنَّ هذه الفلسفة تُعتبر شروحًا للحكمة التي تزخر بها التوراة نفسها، ومن ثم أخذوا يعملون على استخلاص هذه الفلسفة من التوراة بطريق التأويل، والشاهد القوي لهذا ما سنعهده من عمل «فيلون» الذي يقومُ على هذا التصور والفهم، إلى غير ذلك حصل في الإسكندرية المزج بين الوحي والفلسفة.

ولكن ينبغي أنْ نَقِفَ لحظة نُحَاول فيها حتى نتعهد بعمقٍ العوامل التي دفعت يهود الإسكندرية لذلك التَّصور الذي يجمع بين الديانة الموسوية والفلسفة الإغريقية. إنَّ جِماع هذه العوامل، وهومجرد رأي، هوأنهم أصحاب أول دين سماوي له كتاب بين أيدينا، وهذا الكتاب تناول كثيرًا من المشاكل التي شغلت الفلاسفة القُدَامى، وهم إلى ذلك أومن أجل ذلك شعب الله المُختار أوأبناؤه، جلَّ وعَلا عن هذا الزَّعم، ويُضاف إلى هذا وذاك أنهم فقدوا وطنهم فأصبح الدِّينُ هوالرباط الوحيد الذي يجمع بينهم.

وكان لذلك كلّه حتى رأوا حتى يعملوا على إظهار أنَّ دينهم يحتوي ما يعتز به اليونان من فلسفة تقبلتها عقول الأُمم الأُخرى، فكان من هذا تأويلهم التوراة تأويلًا مَجَازيًّا يُظهر ما فيها من حِكمة وفلسفة كما يرون، وبخاصة أنَّ طريق التأويل المجازي كان معروفًا من قبلُ لدى اليونان. وكماقد يكون النَّص الدينيّ موضوعَ التأويل ليتفق والحقيقة التي يثبتها العقل، كذلك قد يحدث موضوع التأويل نصًّا من الأساطير أوالآداب التي لها حظها من القداسة لدى أُمَّة من الأُمم ليتفق والفكرة التي يراها المؤوِّل بعقله. ومن هنا نعهد أنَّ هذا الضرب من التأويل الديني الفلسفي كان معروفًا لدى اليونان، وقد اصطنعه جميع ممضى من المذاهب الفلسفية فيها، ولكن الفيثاغوريين منذ أول عهدهم كانوا أول من اصطنع هذه الطريقة وتوسعوا فيها، إلى غير ذلك كان الأمر كما يقول الأستاذ «برهيه»: سُعار التأويل المجازي هذا، كان معروفًا له قدره في جميع مركز فلسفي عالمي. إلَّا أنَّ الإسكندرية كانت هي المركز الأهم لهذه الطريقة في نحوعصر فيلون، وكانت كتاباته هي المَعِينَ الأهم لها.

كان هذا عند اليونان قبل فيلون، ونجد الأمرَ كذلك أوقريبًا منه عند بني جلدته اليهود وإخوانه في الدِّين، لقد كان هؤلاء قبل فيلون يرون في التوراة معنى حرفيًّا، ومعنى آخر مجازيًّا يجبُ معهدته لأهله بالتأويل؛ ولهذا كما يذكر الأب مارتان، كان فيلون في تأويله لسيرة الخلق مُطمئنًا إلى أنَّ اليهود تجاوز حتى عهدوا لها تآويل كتأويله، إذ كانوا لا يرون أخذ بدء سيرة التكوين حرفيًّا.وفيلون نفسه يُشير أحيانًا إلى بعض تآويل سابقيه، وله من هذه التآويل موقفه الخاص الذي ليس هنا الآن بيانه.

التأويل لدى فيلون

فيلون الإسكندري (20 ق.م- 50 ب.م) الصورة أصليّة من عام 1584, إعادة موائمة الصورة عام 1952.

الكلام على التأويل عند فيلون الإسكندري معناه الكلام على العُمدة في هذه النَّاحية في رأي كثير من الباحثين؛ فقد كان لموقفه حيالَ التوراة وفلسفة اليونان الأوائل، وتأويلِ كثير من نصوص تلك أثَرٌ مباشر أوغير مباشر في مُفكري المسيحية والإسلام في العصر الوسيط، عندما وَجَدوا أنفسهم في مثل موقفه، وقرءوا ما وصل إليهم من كتاباته فيما ورثوه من فلسفة الأفلاطونية الحديثة بالإسكندرية. إنَّ القارئ لِمَا خط فيلون يحس إحساسًا قويًّا بأنَّ الشريعة والفلسفة هما المصدران لتفكيره، ولا عجب في هذا، فإنَّ الحقيقة واحدة؛ فلا تناقض نفسها وإن اختلفت صور التعبير عنها، يُريد حتى يقول بأنَّ ما حق من الفلسفة ليس إلا ما نجده في التوراة من حكمة، وإن لبست على أيدي الفلاسفة ثوبًا أوثيابًا أخرى. ولكن كيف من الممكن أن هذا والشريعة بظاهر كثير من نصوصها لا تسير والفلسفة! هنا نَجِدُ فيلسوف الإسكندرية يُصَرِّح بأنَّه تقريبًا جميع ما خاص بالعقيدة من نصوص له معنى مجازي يهدف إليه. وإذن، فالتَّأويل ضروري لما يراه فيلون وأمثاله من أنَّ الأنبياء تحدثوا كثيرًا بالمجاز سترًا للحقيقة عن غير أهلها، إذنقد يكون فهْم النص على حقيقته ليس مقدورًا للجميع، ما دام طريق هذا هوالتأويل الذي ليس مقدورًا أومسموحًا به للناس جميعًا. وللتَّأويل أصول أوضحها فيلون وشدد في اتباعها، ومنها يتبين ما لكلٍّ من المعنى الحرفي والمعنى الخفي من قيمة لديه:

  • إنَّه يَرَى أنَّ المعنى الحرفي يُشبه الجِسْمَ، والمعنى الخفي يُشبه الروح.
  • ومع هذا ينبغي ألا نُهْمِلَ المعنى الحرفي، بل يجبُ حتى نُراعي الحرف والروح معًا أوالظاهر والخفي؛ ولهذا يلوم الذين لا يُلقون بالًا لكلٍّ منهما، ويرى من الواجب العناية بهذا وبذاك، وذلك بما أنَّه من الواجب العناية بالجسم والروح معًا.

على حتى فيلون مهما يُشَدِّد في عدم إهمال الحرف، فإنَّ تشبيهه له بالجسم بجانب المعنى الآخر الخفي الذي يُشبه الروح، ويُضَاف إلى هذا تآويله التي تنزل بالمعنى الحرفي إلى العدم أحيانًا، وكذلك ما يضفيه في بعض الحالات من تآويل تُعارض تآويل أُخرى مأثورة، إذا جميع هذا يجعلنا نرى بحق مع «برهييه» أنَّ تعبير «قوانين التأويل المجازي» التي يُكَرِّرها فيلون نفسه لا تعني أكثر من مبادئ عامَّة لا تنال من حُرِّية من يأخذ في التأويل.

وفي الواقع إنَّ فيلون يجعلُ من التأويل وسيلة ضرورية يُحَقِّق بها أغراضًا لها قيمتها لديه، أوبِعِبَارة أُخرى لتتفق النصوص المُقَدَّسة مع آرائه الفلسفية: في الله، وفي خلق العالم، وفي النفس، وفي الدين بصفة عامة، الدين الذي يحرص الحِرصَ كله على أنْ يأخُذَ صفة «العالمية»، لا حتى يظل دينًا لطائفة خاصَّة هم بنوإسرائيل، إلى غير ذلك بالتأويل المجازي الذي اصطنعه فيلون يستخرج ما في التوراة من فلسفة تظهر أنَّها عارية منها لوأخذت نصوصها حرفيًّا.

ويرى فيلون أنَّ من الضروري تأويل النصوص التي تثبت بظاهرها لله ما لا يليق به من الصفات والأحوال: كالتجسيم، والكون في مكان، والكلام بصوت وحروف، والندم، وهوفي هذا يقول: الله لا يأخذه الغضب ولا يندم ولا يتحدث بحروف وأصوات، وليس له مكان خاص يَقَرُّ فيه.

جزء من لوحة رفائيل مدرسة أثينا حيث يظهر فيثاغورس وهويخط، بينما يقدم له شابٌ لوحًا يظهر تمثيلًا تخطيطيًا

ويؤوِّل حفظًا لعظمة الله ولتنزيهه عن العناية بما لا يليق بجلاله من أمور تافهة، ومن بَابِ التَّمثيل نرى التوارة تقولُ: إذا ارتهنت ثوب صاحبك فإلى غروب الشمس ترده له؛ لأنه وحده غطاؤه، هوثوبه لجلده، في ماذا ينام. وهنا يصيح فيلون: «ولكن كيف! هل يُعنى الله بمثل هذه التفاصيل التافهة؟» ثم يقول: «إنَّ أبطأ الأذهان إدراكًا وفهمًا ليَرى أنَّ وراء الحرف معنى آخر يُبين بالتأويل الحق المجازي.» وهويؤوِّل كذلك قصَّة خلق العالم في ستة أيام، وهي بنصها الحرفي أنَّ الله في خلق العالم كان مُحتاجًا إلى مُدَّة، وفي هذا يقول: «إنَّ الأيام الستة التي يتحدث عنها موسى لا تعني أنَّ الخالق كان في حاجة إلى مُدَّة من الزمن.» ولكن موسى أراد حتى يعهدنا باللغة التي نفهمها نحن البشر بنظام العالم الذي خلقه الله، ومنزلة بعضه من بعض، وهذا أمر فهمه يسير في رأي فيلون الذي يقول في هذا الصدد: «إنِّي أَرى منَ السَّذاجة حتى نَعْتَقِدَ من هذا أنَّ العالم خُلِقَ في ستة أيام، أوبصفة عامَّة في فترة مِنَ الزمن.»

كما يؤوِّل أيضًا للتخلص من المعنى الحرفي الأسطوري ذي الغرض، وهويُحارب بشدة هذا الضرب من التأويل الذي يهدف إلى نقد التوراة بجعلها بمنزلة خط الأساطير الإغريقية، إنَّه يُقاتل هذا الفهم الحرفي في ميدانه، وذلك بأنْ يُعارضه بفهم حرفيٍّ آخر يتفق وسموالتوراة، ثم يُضيف بعد هذا تأويلًا آخر مجازيًّا. ومن المثل لذلك ما اتى في التوراة عن تضحية إبراهيم لولده إسحاق،(هكذا يعتقد اليهود خلافًا لما يُفهَم من القرآن حتى التجربة كانت في سيدنا إسماعيل عليه السلام.) فقد رأى بعض الشُّرَّاح في هذا مماثلة لما اتى في بعض الأساطير الإغريقية من هذا الضرب من التضحيات.

ومثال آخر وهوسيرة بلبلة الألسن التي وردت في التوراة، والتي قرَّب إليها بعض معاصري موسى أسطورة إغريقية تقول بأنَّ لغة الناس والحيوان كانت أول الأمر واحدة. إنَّ فيلون يعرض هنا هذه الأسطورة ثم يذكر أنَّ موسى وقد اقترب أكثر ماقد يكون من الحقيقة فَصَلَ الحيوانات عن الكائنات العَاقلة، وأظهر وحدة اللغة بالنِّسبة للناس فقط أول الأمر، على أنَّ فيلون بعد حتى حمل من شأن موسى هكذا لم يرضَ هذا التأويل ووصفه بأنه أسطوري أيضًا. وبعد ذلك كله نراه يؤوِّل، صيانة أيضًا للتوراة من حتى تكون كتاب أساطير كبعض خط اليونان، يؤوِّل الأشخاص التي اتىت في قصص التوراة، وذلك بأن يَجْعَلها رُموزًا لبعض حالات النَّفس، ومن مثل هذا سيرة خلق آدم ثم حواء من إحدى أضلاعه، وإغراء الحية لهما، وقتل قابيل لهابيل، جميع هذا ونحوه تناوله فيلون بالتأويل المجازي الذي يُعتبر الغرض الأخلاقي هوالناحية الأساسية فيه.

ويَتَّصِل بهذا التأويل النفسي أوالرُّوحي ما مضى إليه من تأويل أشياء العبادة بجعلها رُموزًا للحالة الداخلية للنفس، مثلًا إنَّ التابوت هوالرُّوح بفضائلها غير القابلة للفساد، وأفكارها التي لا تُرى، وأعمالها المرئية المشاهدة، وآنية صب الشراب موضوعة على المنضدة، هي الروح الكاملة تفتح ذاتها لله، وزنبق الشمعدان هوفصل الأمور الإنسانية والإلهية، وعلوالتابوت هوعظمة الروح التي تُضَحَّى وتقدم قربانًا، وزيت المصباح هوالحكمة. وأخيرًا في تلك الناحية، نكتفي بالقول بأنَّ فيلون يؤوِّل أيضًا لغاية أُخرى مُهِمَّة جدًّا في رأيه؛ إذ إنَّها تُعبر عن فكرته الأساسية من استعماله للتأويل المجازي، وهي أنْ يَصِيرَ الدين الموسوي دينًا عالميًّا، وهذه الغاية يحول دونها فهم النصوص فهمًا حرفيًّا دائمًا. ولذلك نراه يتشدد في ضرورة تأويل كثير من نصوص التوراة، يتشدد حتى إنه ليقول: «هؤلاء الذين لا يُريدون قبول كيفية التأويل المجازي، ليسوا أغبياء فحسب، بل هم أيضًا مُلحدون.» ومما تَقَدَّم كله نرى أنَّ أنواع التأويل التي عهدناها عن فيلون هي ثلاثة كما يذكر برهييه، وهي:

  • التأويل الحرفي ذي الغرض.
  • التأويل الحرفي البسيط.
  • التأويل المجازي.

وقد كان حربًا على النوعين الأولين دفاعًا عن الدين الموسوي، وقد كان من هؤلاء وثَنِيُّون يُريدون جعل التوراة بمنزلة خط الأساطير اليونانية، ومنهم يهود جُهَلاء هم أولى بالرِّثاء منهم بالموجِدة، ولم يكن التأويل الذي يدعوإليه ويُوجبه لكثير من نصوص التوراة إلا التأويل المجازي، وكان مَصدره في هذا الضرب من التأويل: الإلهامَ، والبحث والتفكير الشخصي، والمأثورات.

وكانت نتيجة اصطناع فيلون طريقةَ التأويل المجازي حسب ما رأى لنفسه، التأويل الذي عهدنا مبلغ تشدُّده في رعايته! إنَّ فيلون جعل التوراة بذلك تَتَّسِعُ لما كان يراه حقًّا من الفلسفة الإغريقية، ولَعَلَّه بهذا قد رَفَع من شأن الدين الموسوي وكتابه المُقدس في نظر العالم الهلنسي، الذي كان يعيشُ فيه، فقد كان يُفاخر بهذا الكتاب وما حوى من حكمة — يوصل إليها بالتأويل — لم يصل فلاسفة اليونان لأسمى منها. وعلى فرض أنَّ فيلون نجح فيما أراده وعَمِل له، فقد أفسد التوراة وأخرجها عن حتى تكون كتابًا دينيًّا يتأثر به القلب والعقل معًا، فيهدي بذلك قارئه للخير والسعادة، بل إنه كاد بصنيعه حتى يمحوما أنزله الله في التوراة من هدى ونور!

التأويل لدى ابن ميمون

صورة غلاف كتاب دلالة الحائرين لمؤلفه موسى بن ميمون

موسى بن ميمون حَبرٌ من أحبار اليهود وفلاسفتهم، عاش في القرن الثاني عشر، يرى ابن ميمون ضرورة التأويل المجازي للتوراة، كما وُجد نَفسُ التأويل قبل ظهور ابن ميمون لدى غيرهِ مِن مُفكّريْ اليَهود، مثل سعيد بن يوسف أبويعقوب الفيومي المشهور ب"سَعْدِيا" (882م) وأبي أيوب سليمان بن يحيي بن جبيرول من رجالات القرن الحادي عشر. ومن كتاب ابن ميمون «دلالة الحائرين» يمكننا فَهمِ طَريقة ابن ميمون في التأويلِ، وغَرَضُهُ مِنه والبَواعِث التي بَعَثتهُ عَليهِ، حيثُ يَقولُ في مُقَدِّمة هذا الكتاب: «هذه الرِّسَالةُ لها أيضاً غرضٌ ثانٍ، وهوشرح النصوص المجازية الشديدة الغموض، هذه النصوص التي نَصطَدم بالكثيرِ مِنها في أسْفارِ الأَنبِياء دُونَ أنْ يَكونَ واضحًا أنَّها من المَجَاز، والتي —على الضد من هذا — يَأخُذها الجَاهلُ والذَاهلُ عَلى مَعْنَاها الخَارجيّ، دُونَ أنْ يَرى فيها معاني خفية».

وهويَرى أولًا وقَبل كُلّ شَيءٍ أنَّ الأنْبياءَ —وَتَبِعَهُم في هذا عُلماءُ الشَّريعةِ — قد تَحدثوا بالمَجاز عَامِدين في الدِّينِ، وبِخَاصَةٍ إذا كَان الأَمْرُ أمْرَ المَعَارِفِ التي لا تُطيقُها العَامَّة، والتي لا يَصِل إليها إلا الخَاصَّة، بما مَعْناهُ قِصَّةُ التَّكوينِ التي هِيَ عِلمُ الطّبيعةِ، وقصّةُ «المَركَبةِ السّمَاويّة» التي هِيَ عِلمُ ما وَرَاءَ الطّبيعةِ، وهوفي هذا يقول: «إنه لأجلِ هَذا نَجدُ هَذه المَوضُوعاتِ أيضًا تَتَركَّز في خط النُبُوَّاتِ على المجاز، كما نجدُ فهماءَ الشّريعةِ يتحدثون فيها بالمجازِ وبالإلغازِ، وهم يَتْبَعونَ في ذلك خِطَّة الكُتب المُقدَّسة». إذًا يَجِبُ التَّأويلُ لِفَهمِ المَجَازاتِ وما تَرْمي إليهِ مِن مَعانٍ، فذلك —فيما يؤكد ابن ميمون — هُوَ المِفْتَاحُ لِفَهمِ كَلِّ مَا قَالَهُ الأنبياءُ، وَلِمَعْرِفَةِ حَقيقتهِ تَمامًا، وبهذا التَّأويلِ نَتَجَاوَزُ المَعْنى الظَّاهرَ للنَّفْسِ إلى المَعْنَى المُرادِ، وَكَمْ بَيْنَهُما مِنْ فَرقٍ! عَلى أنَّ لِلمَعنَى الظَّاهِر قِيمَتُهُ بالنِّسبة لِطَائِفةٍ خاصَّة، كما للمعنى الخفيِّ قِيمَتُه بالنِّسبة لِطَائِفَةٍ أخُرى؛ فَكَلِمَاتُ الأنبياءِ تَحوي ظَاهريٍّا الحِكَمَ النَّافِعَة في سبيلِ تحسينِ حَالةِ الجَّمَاعَاتِ الإنْسَانِيَّة، وَغَير هذا مَن أنواعِ الخَيرِ، وَلمَا تَرمِي إليهِ مِنْ مَعانٍ خَفِيةٍ مَنافعُ لا بُدَّ منها، وبخاصةٍ في العقائدِ ما دامَ مَوضُوعُها هوالحقيقة لا ما يُشْبهُ الحَقيقة. كما هجر لنا ابن ميمون فيما خط ما يَدُلُّ على أنَّه كَان هُنالك أصولٌ يَسترشِدُ بها، ويمكن استخلاص هذه الأصول من تأويله نفسه في كتابه «دلالة الحائرين»:

  • يجبُ حتىقد يكون في الظَّاهر ما يُرشد المتأمل بعقله إلى المعنى الخفي.
  • أنقد يكون هذا المعنى الخفي أجمل وأليق من المعنى الذي يدلُّ عليه النص بظاهره.
  • أن نصيرَ إلى التأويل إذا كانت النُّصوصُ لوأُخذت حرفيٍّا تؤدي إلى التجسيم، أوجواز النقلة أوالكون في مكان على لله، ونحوهذا مما يتصل بصفات المخلوقين التي يَسْتَحيل عقلًا حتى تُنسب إليه؛ ولهذا يجبُ إذاعة تأويل هذه النصوص وأمثالها للعامَّة والخاصَّة على سواء.
  • أن يُصارَ إلى التأويل متى قام الدَّليل العقلي السليم على بُطلان المعنى الذي يُؤخذ من ظاهر النَّص؛ ولهذا تُركت النصوص التي تشهد بظواهرها لحدوث العالم، مع إمكان تأويلها؛ لأنَّه لم يَقُم الدليل القاطع على قِدمه حتى من أرسطوطاليس.
  • ألّا نصل بسبب التأويل إلى مَعنى يَهدم أساسًا من أُسُس الشريعة؛ ولهذا كان السَّببُ الثاني في عدم تأويل النصوص التي تشهد بظاهرها لحدوث العالم، أنَّ القول بقِدَمِه كما يرى أرسطوطاليس يستأصل الدين من أساسه، ويدمغ جميع المعجزات بأنها أكاذيب.
  • وأخيرًا ألّا يُذاعَ من التَأويلِ إلا القليلُ الذي يَكفيي لِفَهْمِهِ، وأنْ يّكون ذلك للمُستعدِّ لهُ فَحَسْب.
صورة غلاف رسالة في اللاهوت والسياسة لمؤلفه باروخ سبينوزا.

وهذا الأصل نجد ابن ميمون يرعاه حقٍّا، ويتبين ذلك من كتابه لتلميذه «يوسف بن يهوذا» إذ يقول: «إنّك لم تسألني إلا عن المبادئ الأولى، ولكنَّ هذه المبادئ لا تُوجد في هذه الرِّسالة مُرَتَّبة ومُنَظَّمة يتلوبعضها بعضًا، بل إِنَّها على الضد من هذا لا توجد إلا في غير وضوح ومُختلطة بموضوعات أخرى يُراد شرحها، وذلك بأنَّ قصدي في هذه الرِّسالة الاكتفاء بأن تلوح الحقائق وراء ستار يكاد يُخفيها، وبهذا لا أكون مُعارضًا للغرض الإلهي». هذه هي الأصول الهامة التي أمكن استخلاصها من كتابه القيم الآنف الذكر، والتي على هداها سَارَ ابن ميمون في تأويلاته، ومنها يتبين أنَّه كان يسير على الجادَّة التي سار عليها قبله وبعده أمثالُه من رجال الدين الفلاسفة والمفكرين. وهنا، نَجِدُ منَ المهم حتى نلاحظ أنه كأمثاله من الذين اصطنعوا التأويل في الخط الوحيية، قد عمل على حتى تتفق التوراة والعقل، أوبالفلسفة السائدة في عصره بتعبير آخر، هذه الفلسفة التي كانت في رأيه مفتاحًا لفهم بعض ما اتىت به خط الأنبياء، ولكن نجد له مع هذا ما يشير بوضوح على تقديره للتوراة أكثر من تقديره للفلسفة.

وذلك بأنه قد يستعين حقًّا ببعض الآراء الفلسفية السليمة على فهم بعض ما اتى في التوراة، وقد يؤوِّل بعض نصوصها تأويلًا مجازيًّا لتتفق وما قام الدليل القاطعُ على صحَّته من الآراء الفلسفية، ولكنه مع هذا وذاك لا يجنح إلى التأويل إذا كان الأمر على غير ما ذكر، بل يقبل الحل الذي اتى في التوراة عن الأنبياء بلا تأويل. ولذلك نراه يلوم جِد اللوم الذين نطقوا بِقِدَم العالم تقليدًا لأرسطوطاليس وغيره من الذين يعتبرون حجة في الفلسفة، دون مرشد سليم قاطع بالقدم، ثم رفضوا لهذا ما اتى به الأنبياء مما يُثبت الحدوث.

يؤمن موسى بن ميمون إيمانًا تامًّا بأنَّ ما قام عليه الدليل العقلي السليم القاطع لا يُمكن حتى يتناقض أويتعارض وما اتى به الوحي، فإن أحسسنا تعارُضًا بينهما كان ظاهريًّا يجب حتى يزول بتأويل النَّص، أوإذا لم يكن الدليل سليمًا قاطعًا، وجب قبول ما اتى به الوحي؛ حتى ولوكان تأويله مُمكنًا، وحتى لوكان الرأي الفلسفي لأرسطوطاليس أوغيره من مشاهير الفلاسفة.

على أنَّ هذا الصنيع من ابن ميمون كان حظه النقد الشديد من «سبينوزا»، إنَّ هذا الفيلسوف اليهودي الهولندي (1632–1677م) يقرّر في رِسالته «في اللاهوت والسياسة» أنَّ الكتاب المُقَدَّس قد شقي بمن سلَّطوا عليه التأويل في جرأة لا نَجِدها لهم إزاء كتاب غيره، ثم ينتهي بتأكيد أنَّ طريقة ابن ميمون لا فائدة منها مُطلقًا، وبأنَّها لا تدعنا نُدرِكُ المعاني الحقة للكتاب المقدس، وإذن يجبُ رفض صنيع ابن ميمون باعتباره عملًا ضارًّا وعابثًا.

التأويل لدى رجال الكنيسة المسيحية

نسخة غوتنبرغ من الكتاب المقدس، وهوأول كتاب مطبوع في العالم الغربي.

نحنُ الآن في العالم المسيحي حيث يُوجد دين حديث له كتاب موحى به، ويُحاول حتىقد يكون عالميًّا، ويجدُ نفسه إزاء الفلسفة اليونانية التي صارت عالمية بالعمل، ويرى مُفكروه في هذه الفلسفة حقائق لا يمكن إنكارها، وبعضها لا يتفق وبعضَ نصوص الكتاب المُقدس لهذا الدين السماوي، فكيف العمل،يا ترى؟ وكيف سيعمل رجال هذا الدين إزاء هذه الفلسفة،يا ترى؟ أينكرون ما فيها من حقائق تُعارض كتابهم المُقدس، وحينئذ لا يتكلفون عناء تفسير ما اتى بكتابهم تفسيرًا فلسفيًّا،يا ترى؟ أم يعترفون بها، وإذن لا بد من تأويل بعض النصوص الدينية لتتفق وتلك الحقائق،يا ترى؟ هكذا وُضعت المُشكلة أمام مُفكري العصر المسيحي وفلاسفته من أول ظهور المسيحية إلى نهاية العصر الوسيط، بل إلى هذه الأيام، كما وضعت من قبل أمام مُفكري اليهودية، وكما ستظهر من بعدُ أمام فلاسفة الإسلام.

وليس علينا هنا تحقيق كيف من الممكن أن يُعلل رجال الكنيسة فهم فلاسفة اليونان ما عهدوا من حقيقة: هل ذلك لأنَّهم أفادوا مُباشرة إلى حدٍّ قليلٍ أوكثير من الخط الموحاة، كما يرى البعض ومنهم القديس بولص نفسه مُتَأثرين برأي فيلون الإسكندري،يا ترى؟ أولأنَّ جميع إنسان له حظه من الوحي الطبيعي الذي مصدره «الحدثة» هذا الوحي الذي تجاوز في الزمن الوحيَ الذي مصدره الحدثة بعد حتى تجسدت، على ما يُفهم من إنجيل القديس يوحنا.

ليس علينا تحقيق هذا التعليل، ولكن نُشير إلى أنَّ «لاكتانس » المُتوفى سنة 325، هذا المسيحي الحقيقي يعترف بأنَّ كلًّا من هؤلاء الفلاسفة عهد جزءًا من الحقيقة، وأنَّ هذه الأجزاء في مجموعها تُكَوِّن الحقيقة كاملة، وكذلك نُشير هنا أيضًا إلى أنَّ القديس أوغسطين المتوفى سنة 430، يرى من بعد «لاكتانس» أنَّ ما حق من الفلسفة الأفلاطونية الحديثة يُوجد في إنجيل يوحنا، بل إنه ليوجد في سفر الحكمة حقائق لم يعهدها أفلوطين نفسه.

وإذن إذا كان الأمر هكذا، أي: إذا كان الإنجيلُ قد حوى ما حق من الفلسفة اليونانية، بل حوى حقائق أُخرى لم يصل إليها هؤلاء الفلاسفة اليونان، وكان الإنجيلُ إذا أُخِذَت نُصوصه كلها حرفيًّا لا تظهر منه هذه الحقائق، كان لا بُدَّ من تأويل بعضها ليظهر ما فيها من المعاني الخفية الفلسفية، وهذا الموقف، والأمر كما ذكرنا، هوما وقفته الكنيسة من أَوَّل أمرها، حيثُ قبلت مبدأ احتمال بعض النصوص معاني مُتعددة، ووجوب التأويل أحيانًا حسب ما تعارف اليهود قبلهم عليه من قواعد وأصول.

أوريجانوس، أب وفيلسوف الكنيسة المسيحية.

حقًّا إنه يعود إلى مدرسة الإسكندرية مبدأ تعدد معاني الكتاب المقدس، ومبدأ التأويل المجازي لبعض نصوصه، هذا التأويل الذي ساد في العصر الوسيط وبخاصة في القرون الأولى منه. ويرى «كليمنت الإسكندري» ، المتوفى نحوسنة 215م، يرى تأويل ما اتى في الكتاب عن سيرة خلق العالم في ستة أيام؛ لأنَّ الله — كما يقول — لم يخلق شيئًا في الزمان الذي لم يُوجد إلا مع العالم نفسه. وطريق التأويل الذي اختطه كليمنت نرى «أوريجانوس» يسير فيه بأكثر جرأة وثباتًا وعزمًا؛ إنه يعتبر — مثل فيلون — المعنى الحرفي الظَّاهر كالجسم، والمعنى المجازي الخفي كالرُّوح، كما يؤوِّل جميع نص يُفهم منه حرفيًّا التجسيمُ في الله، وكذلك ما اتى في سيرة التكوين عن خلق العالم في أيام ستة، وعَنِ الجنة الأَرضية، وخلق حواء من ضلع من أضلاع آدم، وما استتر به آدم وحواء من أوراق الشجر التي اتخذاها بعد حتى ذاقا الشجرة المُحَرَّمة ثيابًا منهما تستر العورة.

وهذا التأويل من أوريجانوس لما ذكرناه ونحوه لم يَعُد شيئًا نكرًا في أَيَّامه؛ لأنَّه كان من المُجْمَع عليه تقريبًا من آباء الكنيسة في القرون الخمسة الأولى، تأويل سيرة الخلق في ستة أيام تأويلًا مَجَازيًّا، كما يذكر الأب مارتان. وإذا هجرنا أوريجانوس والقديس «جيروم » المتوفى سنة 420م والذي تأثر به في وضوح، نَجِد القديس أوغسطين يَسيرُ في التأويل المجازي بفطنة؛ إذ يرى وجوب التمييز بين ما يجبُ حتى يؤخذ من النصوص حرفيًّا، وبين ما يجب تأويله مجازيًّا، على أنَّ تكون نتيجة التأويل الاتفاق مع العقيدة، ومبدأ وجوب اتفاق نتيجة التأويل مع العقيدة نراه صار مبدءًا مُتوارثًا لدى كثيرين من مفكري رجال الدين المسيحي من بعدُ.

وكما كان هؤلاء حريصين على هذا، كانوا حريصين كذلك على وجوب تقدير المعنى الحرفي أولًا، فهوالذي يقوم عليه المعنى المجازي، كما سنرى ذلك عند القديس تُوماس الأكويني، حتى إنَّ أَحدهم «ويدعى هيج» يحمل بشِدَّة على الذين يُهملون المعنى الحرفي إلى الآخر المَجازي، مُتغافلين عن حتى ذاك هوالأساس. ومردُّ حرص هؤلاء على هذين المبدأين، هوأنَّهم كانوا رجال دين قبل حتىقد يكونوا فلاسفة، فلم يُحاولوا قسر الكتاب المُقَدَّس على حتى يتفق حتمًا والفلسفة. على أنَّه في القرن الثاني عشر ليس لنا حتى نمر دون إشارة إلى «أبيلارد» المتوفى سنة 1142م، وقد كان مُعاصرًا ل «هيج» الذي عهدنا حملته الشديدة على من يهملون المعنى الحرفي، فقد أمعن في التأويل المجازي.

لقد سار أبيلارد في هذا التأويل شوطًا بعيدًا متأثرًا بفيلون اليهودي، وبهذا أمكنه حتى يوحِّد بين آراء أفلاطون وما اتى به الإنجيل. ولم يكن وحده مُتفردًا بهذه النَّزعة التوفيقية المغالية، بل كان له نُظَراء في هذه النَّاحية عملوا على التوفيق بين أفلاطون والكتاب المقدس. ولكن أبيلارد كما كان يسلط التأويل على التوراة، كان يؤوِّل أيضًا في كتابات أفلاطون في شرحه له، لما كان يرى من أنَّ الفلاسفة كالأنبياء، كانوا يتحدثون بالمجاز والألغاز توريةً عمّا يريدون بيانه من حقائق. وهنا ينبغي حتى نُشير إلى وقوف القديس «برنارد» موقف المُعارض الشديد أبيلارد فيما اصطنعه من طريقة فهم الفلسفة والإنجيل، حتى كان ما معروف من الحكم على هذا بالسكوت وحرمان أنصاره سنة 1140م. وإذا هجرنا القرن الثاني عشر إلى ما بعده، نجد التأويل المجازي هبط عن مكانته التي عهدناها، إلى درجة أنه لم يعد يُعَدُّ من التأويل أوالتفسير بمعنى الحدثة.

لوحة للقديس أغسطينوس بريشة فيليب دي شامباني، تعود إلى القرن السابع عشر

فإنه من الحق أننا نجد في القرن الثالث عشر «ألبرت الكبير» المتوفى سنة 1280م، وهويُعتبر بحق أكمل ممثل للتفسير الحرفي، ففي رأيه أنَّه لا يُوجد إلا تفسير واحد حريٌّ أنْ يُسَمَّى تفسيرًا، وهوالذي يشرح المعنى المراد من المؤلف والذي يُوحيه النَّص نفسه، وأنَّ أية فكرة لا يوحي بها النص لاقد يكون لها أية قيمة، ولا تَسْتَحِقُّ حتى يلقي المرء لها بالًا، على أنَّه قد يقبل أحيانًا المعاني المَجَازية، ولكن لا على أنها معانٍ أخرى تعارض المعنى الحرفي، بل على أنَّها تطبيقات لنتائج المعنى الأول الحرفي وتؤخذ منه. وفي هذا الاتجاه لإهمال التأويل المجازي، على أنَّه وسيلة لاستخراج ما في الكتاب المقدس من فلسفة، نجد تلميذ ألبرت الكبير الأشهر نعني به القديس توماس الأكويني يُصدر في تفسير الكتاب المقدس عن أنَّ جميع ما عدا المعنى الحرفي لا يُعتمد عليه، وأنَّه لا شيء من تلك المعاني الأخرى إلا وهوموجود بوضوح في المعنى الحرفي الذي ينبغي الاعتماد دائمًا عليه.ولنا حتى نُقرر أنَّ الأكويني في تقديره للمعنى الحرفي وجعل المعاني الأُخرى تقوم عليه، يستلهم القديس أوغسطين كما يذكر هونفسه، كما يستلهم «هيج» وسان فيكتور. وما ينبغي لنا أنْ نَفْهَم من هذا أنَّ الأكويني يرفضُ دائمًا التفسير المجازي المأثور وبخَاصَّة أنَّه يُعنى كثيرًا بما أثر من التفسير عن أسلافه، فإنَّ من الحق أنه إذا كان يستبعد التآويل المجازية؛ لأنها لا تتفق وسياق النص ومحتواه، فإنه يقبلها غالبًا وكثيرًا، على أنه يميزها دائمًا بعناية عن التأويل الحرفي.

والآن لننتهي من التأويل لدى رجال الكنيسة المسيحية، نذكر أنَّ الحال في القرن الرَّابع عشر كان كما هوالحال في الثالث عشر من الاتجاه للتأويل الحرفي وتقديره، كما نُلاحظ أخيرًا أنَّ تأويل الكتاب المُقدس ليتفق والفلسفة الإغريقية كان له رجاله مثل كليمنت الإسكندري وأوريجانوس وأبيلارد، على اعتبار أنه يحوي جميع الحقائق الفلسفية السليمة، وأنَّ التأويل أوالتفسير أخذ بعد هذا اتجاهًا آخر هووجوب اتفاق نتائجه والعقيدة، وهذا الاتجاه كان له ممثلوه كما عهدنا آنفًا.

ومعنى هذا الاتجاه أنَّ تفسير الكتاب المقدس صارت الغاية منه فَهْمَ الكتاب نفسه، وحسب ما توحي به النصوص من معانٍ، لا ليتفق مع هذه الفكرة أوتلك من الفلسفة اليونانية، كما أصبحت الغاية منه أيضًا التدليل على الآراء والعقائد اللاهوتية.

التأويل لدى المسلمين

الصفحة الأولى من طبعة المخطة الميمنية بمصر لتفسير الطبري الجزء الثاني

ثارت مسألة التأويل نفسها في الإسلام، واتخذت الوضع نفسه، ورُبَّما كان ذلك للعوامل نفسها التي من أجلها ثارت في اليهودية والمسيحية، مع زيادة عامل آخر، ونعني بهذا محاولة جميع أصحاب ممضى من المذاهب الإسلامية، وبخاصة في فهم الكلام وفي التصوف، إيجادَ سند لآرائهم من كتاب الدين الأول نفسه، وطريق ذلك تأويل نصوص القرآن العظيم التي يرون ضرورة تأويلها حسب القواعد التي مضىوا إليها.

وقبل الكلام عن التأويل لدى مُفكِّري الإسلام، نُشير أولًا إلى أنَّ تفسير القرآن — وكم بين التفسير الذي يراد منه فهم القرآن، وبين التأويل الذي يُراد منه الاستدلال لرأي أوممضى مُعَيَّن من فرق! — كان يُنظر إليه في فجر الإسلام والصدر الأول منه بعين الحذر الشديد؛ إذ كان رجال السلف الصالح يتهيَّبون القرآن. روى ابن سعد في طبقاته أنَّ القاسم بن محمد بن أبي بكر، وسالم بن عبد الله بن عمر كانا يمتنعان من تفسير القرآن؛ إذ يريانه أمرًا خطيرًا، كما ضرب سيدنا عمر بن الخطاب بِدِرَّته ضربًا وجيعًا رجلًا كان يسأل عن متشابه القرآن، وكذلك كان الأَمْرُ في أَيَّامِ بني أُمَيَّة.

على أَنَّهم ما كانوا يرون بأسًا في تفسير القرآن بالمأثور الثابت عن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين بالنقل السليم، بل قد ظهرت الحاجة شديدة إليه، والمثل الأعلى لهذا الضرب من التفسير نجده في تفسير الطبري المعروف.

ومع هذا؛ فلم يَلبث القرآنُ حتى نَاله ما نَالَ الكتابَ المقدس من قبل، الأمرُ الذي نَقَدَه بشدة سبينوزا من قبل، فقد ظهرت التآويل المجازية لكثير من آياتِهِ على أيدي المُعتزلة والمتصوفة والشيعة، بل قبل هذه الفرق أيضًا. لكنَّ رِجَال هذه الفِرَق هم الذين توسعوا في هذا الضرب من التأويل، وكان لهم من اصطناع هذه الطريقة أغراضٌ محدودة، ولهم لبلوغ هذه الأغراض وسائلهم الخاصة.

التأويل لدى المعتزلة

أراد المُعْتَزِلة وهم الفرقة المعروفة من فرق فهم الكلام، حتى يُبعدوا عن الله تعالى جميع ما يُوهِم التَّجسيم أوالتَّشبيه، وأن يؤكدوا وحدانيته من جميع وجه، وعدله وحرية المرء في أعماله؛ ليكون مسئولًا حقًّا وعدلًا عنها، وأن يبعدوا الخرافات والأَسَاطير عن الدين، ومن ثم صرفوا كثيرًا من الآيات عن مَعَانيها الحَرْفِيَّة الظاهرية إلى معانٍ أُخرى مَجَازية، واستعانوا في هذه السبيل الوعرة الشاقة بالقرآن نفسه في آيات أخرى وباللغة يجدون بها ما يُسَاعدهم في تقرير المعاني التي يرونها.

ومِنْ أَجل ذلك نجد بينهم وبين فيلون وابن ميمون تشابهًا كبيرًا من ناحية الغاية من التأويل من بعض النواحي، وإن كان المُعتزلة لم يكن من هدفهم حتى يعملوا لإظهار اشتمال القرآن على أمهات الأفكار والآراء الفلسفية اليونانية، كما كان صنيع المتقدمين.

ومن الميسور حتى نأتي بمُثل كثيرة لتآويل المُعتزلة في القرآن، ولكن نرى أنَّ هَذا ليس ضروريًّا هنا؛ إذ لا يتَّصِل اتصالًا كبيرًا بموضوع عملنا الأصلي، ويكفي حتى نَذْكُر أنَّه يمكن الرجوع في ذلك إلى:

صورة غلاف كتاب الكشاف من تأليف جار الله أبوالقاسم محمود بن عمر بن محمد، الزمخشري

«محاضرات» الشريف المرتضى أبي القاسم علي بن الطاهر المتوفى سنة 436ه.

«الكشاف» لمحمود بن عمر الزمخشري الذي اتى بعد سابقه بقرن من الزَّمان، ويُعتبر هذا الكتاب المثل الأعلى للتفسير الاعتزالي.

ومع أنَّ هذا الكتاب كله تآويل اعتزالية؛ فلا ضرورة للإشارة إلى مواضع مُعَيَّنة منه، ولكن مع هذا نُشِيرُ إلى تأويله لهذه الآيات من باب التمثيل:

  • الآية 255 من سورة البقرة:Ra bracket.png اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ Aya-255.png La bracket.png
  • الآية 18 من سورة آل عمران:Ra bracket.png شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ Aya-18.png La bracket.png
  • الآية 129 من سورة آل عمران:Ra bracket.png وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ Aya-129.png La bracket.png
  • الآية 172 من سورة الأعراف:Ra bracket.png وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ Aya-172.png La bracket.png
  • الآية 72 من سورة الأحزاب:Ra bracket.png إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا Aya-72.png La bracket.png
  • الآية 11 من سورة فصلت:Ra bracket.png ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ Aya-11.png La bracket.png

إلى غير ذلك من الآيات التي لا تكاد تُحصر، والتي سلط عليها المعتزلة التأويل بكل سبيل، وذلك لتتفق معانيها في ممضىهم المعروف.

على أنَّه مع هذا ما ينبغي لنا — وقد أشرنا إلى هذا آنفًا — حتى نقول بأنَّ المعتزلة بما أوَّلوا من آيات القرآن تأويلًا مجازيًّا، كانوا يُريدون حتى يُظهِروا ما رأوه حقًّا من فلسفة اليونان في القرآن، كما كان الأمر بالنِّسبة إلى صنيع فيلون الإسكندري، وابن ميمون الأندلسي في التوراة.

وكذلك ليس لنا حتى نقول بأنهم تأثَّروا بهذين المُفكرين اليهوديين في كيفية التأويل، وإن كان الشبه غير قليل بين طريقة الأولين وطريقة المعتزلة. جميع ما في الأمر على ما نعتقد أنَّ المسألة كما ثارت في اليهودية والمسيحية، وضعت كذلك بالنسبة للإسلام، أي إنه يجب تنزيه الله تعالى عن جميع ما يُوهم أنَّ له شبهًا كثيرًا أوقليلًا بالإنسان، ومعنى هذا تنزيهُه عن الصفات الجسمية والعواطف البشرية، كأنقد يكون له وجه أويدان أوعينان أوقدمان، أوقد يكون له حركة وينتقل من مكان إلى آخر، أوحتى يحس ما يحسه الإنسان من الغضب والمكر والفرح ونحوها من الإحساسات والعواطف البشرية.

ولكن القرآن وكذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، اشتملا على نصوص كثيرة تُشير إذا أخذت حرفيًّا إلى التجسيم والتشبيه، وماقد يكون من ذلك من الصفات والعواطف والإحساسات البشرية؛ فيجبُ إذن صرفها عن معانيها الظاهرية الحرفية إلى معانٍ أُخرى مجازية، وبخاصة أنَّ القرآن نفسه استخدم التمثيل أحيانًا في تفهيمنا ما يُريد.

ومن ذلك قوله تعالى (سورة البقرة: 28): Ra bracket.png إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ Aya-26.png La bracket.png وقوله تعالى (سورة الحشر: 21):Ra bracket.png لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ Aya-21.png La bracket.png

كتاب تأسيس التقديس أوأساس التقديس/ تأليف الإمام فخر الدين الرازي الذي انتقده ابن تيمية في كتابه بيان تلبيس الجهمية؛ ومعه رسالة في نفي الجهة للإمام شهاب الدين بن جهبل (ت. 733هـ) في الرد على ابن تيمية.

على أنَّ المسألة وإن اتخذت نفس الوضع لدى كثير من رجال الديانات الثلاث؛ فإنَّ الأسباب قد تختلف كثيرًا أوقليلًا، لم يكن في رأينا من الأسباب لدى المُعتزلة الاعتزازُ بأنَّ التوراة اشتملت على ما ثبت صحته من الفلسفة اليونانية، أوما عهدوا منها، كما كان الأمر بالنسبة لفيلون مثلًا؛ بل الأمر أنَّ المعتزلة فرقة من رجال فهم الكلام لهم ممضىٌ خَاصٌّ، فأرادوا حتى يجدوا له مثل غيرهم مِنَ المُتحدثين المسلمين أدلة من القرآن على ما مضىوا إليه. وقد وجدوا الأمر يسيرًا أحيانًا فلم يَحتاجوا إلى التأويل المجازي، ووجدوه عسيرًا أحيانًا بالنِّسبة لكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ فعملوا على تأويلها، وساعدهم على ذلك ما معروف في البيئة الإسلامية من حتى كثيرًا من آيات القرآن تحتمل الواحدة منها معاني كثيرة مختلفة.

على أنَّ هذه الفكرة نفسها، وخشية البتر برأي في تفسير القرآن، جعلا بعض الفهماء المسلمين يترددون في تعيين المعنى المراد من بعض الآيات، ومن هنا اتىت تسميتهم «بالوقوف»، ومنهم المتحدث المشهور عبيد الله بن الحسن العنبري.

أمَّا موقف أهل السنة في لقاء هؤلاء المعتزلة، فمن الممكن إيجازه في أنهم ينقدون بشدة طريقة المُعتزلة في تأويلهم القرآن تأويلات يظهر فيها الميل إلى الرَّأي والتعسف، وهذا الموقف يظهر لنا واضحًا جدًّا في تفسير الإمام المتحدث المتفلسف فخر الدين الرَّازي المتوفى سنة 606ه، وتفسيره هذا يُعتبر بحق في نظر كثير من الباحثين نهاية ما وصل إليه إنتاج المسلمين الفكري في هذه النَّاحية، ومنه نعهد أنَّ المؤلف قد عُني عناية شديدة بتفنيد آراء المعتزلة التي عملوا بكل جهدهم للاستدلال لها، إذا لم نَقُل لأخذها من القرآن.

التأويل لدى المتصوفة والشيعة

هذا؛ وبجانب التأويل الاعتزالي، نجد ضربًا آخر من التأويل سار فيه أصحابه إلى أبعد شوط، ونعني به التأويل الصوفي. وفي الحق إنَّ المُتصوفة لهم تآويل مجازية للقرآن خاصَّة بهم، وأغلبها — إذا لم نقل كلها — مُتَطرف إلى حدٍّ بعيد، وهم مثل الشيعة يرون أنَّ الإمام علي بن أبي طالب، عنده عن الرسول ، فهم هذه التآويل كلها التي ينبغي ألا تُلَقَّن إلا للمريدين وحدهم شيئًا فشيئًا. وفي هذا يقول عمر بن الفارض الشاعر الصوفي المعروف، في قصيدته التائية المشهورة:

وَأوْضَحْ بِالتَّأويلِ مَا كَانَ خَافِيًا عَليٌّ بِفهمٍ نَالَهُ بِالوصيّة


وعلى هذا، الإمام علي بن أبي طالب هوإمام التصوف الإسلامي في نظر الصوفية، وهذا الرأي الذي أخذه المُتصوفة عن الشيعة، ينكره بتاتًا أهل السنة بحق، فإنَّ الرسول لم يخصَّ أحدًا من صحابته أوذوي قرابته بفهم خاص ظاهري أوباطني. وإن من الحق مع هذا على ما نَعتقِدُ، أنَّه وإن كان غيرَ سليم ما مضى إليه الشيعة والمُتصوفة من إسنادهم للإمام علي فهمًا باطنيًّا يضم المعاني الخفية للقرآن التي خصه بها الرَّسول ، فإنَّه ليس من السهل حتى نُنكِر تفاوت العقول في فهم الكتاب العظيم، وإدراك ما تضمنه من تعاليم وحقائق، وفي هذا يرى الغزالي أنَّ أكابر الصحابة وفي مقدِّمتهم عمر وعلي، فهموا من أسرار الدين وحقائقه أكبر نصيب.

تختلف تآويل الصوفية والشيعة — وبخاصة الباطنية منهم — عن تآويل المعتزلة بأمرين:

  • المبالغة في التأويل المجازي الذي لا قرينة مُطلقًا عليه من القرآن، وفي طلب ما زعموه من المعاني الخفية فيه، حتى خرجوا به عن معانيه الحقة الواضحة التي لا ريب فيها.
  • إسناد هذه التآويل للإمام علي كما رأينا بلا مرشد سليم. وبعد هذا وذاك، نرى هؤلاء وأولئك يشهجرون مع المعتزلة في أنهم عملوا جاهدين على إدخال آرائهم الفلسفية في القرآن والحديث بطريق ذلك التأويل المجازي، فيه — على رأيهم — يستخلص ما في النصوص الدينية الوحيية من حقائق فلسفية عميقة تستتر وراء المعاني الحرفية لهذه النصوص.

والمُثُل لهذه التآويلات الشيعية والصوفية كثيرة جدًّا، ومن اليسير حتى يجدها من يريدها في التفاسير القرآنية لكلٍّ من هاتين الفرقتين، ونُشير من بين التفاسير الصوفية إلى:

  • كتاب حقائق التفسير لأبي عبد الرحمن السلمي النيسابوري المتوفى سنة 412 هجرية.
  • تفسير محيي الدين بن عربي، المتوفى سنة 638 هجرية.
  • تأويلات القرآن، لعبد الرازق القاشي أوالقاشاني السمرقندي، المتوفى سنة 887 هجرية.

ومع ذلك؛ فإننا نرى أنْ نأتي بمثال واحد للتأويل الصوفي، ومثال واحد آخر للتأويل الشيعي.

يقول الله تعالى في سورة يس: (الآيات 12–17):Ra bracket.png إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ Aya-12.png وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ Aya-13.png إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ Aya-14.png قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ Aya-15.png قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ Aya-16.png وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ Aya-17.png La bracket.png

فهذه الآيات وما تلاها لم تجئ حسب معناها الظاهر، وهوالسليم المُراد بلا ريب، إلا لتقصَّ علينا للعبرة والذكرى نبأ أصحاب القرية الخاطئة الضالة مع الرسل الثلاثة الذين أوفدهم الله إليها فكذبوهم، ولكنَّ المتصوفة هجروا هذا المعنى الظاهر وزعموا أنَّ لها معنى خفيًّا باطنيًّا، فرأوا أنَّ القرية ليست إلا الجسم، وأنَّ الرسل الثلاثة هم الروح والقلب والعقل، إلى غير ذلك أوَّلوها كلها تأويلًا مجازيًّا لا مرشد ولا قرينة عليه.

والمثال الثاني هوتأويل هذه الآيات الأولى من سورة الشمس:Ra bracket.png وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا Aya-1.png وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا Aya-2.png وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا Aya-3.png وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا Aya-4.png La bracket.png

الله تعالى يقسم في هذه الآيات وما تلاها ببعض الظواهر الطبيعية الفلكية الكبيرة على ما أراد تقريره بعدُ من الحق، وهذه معانٍ ظاهرة، وهي السليمة المرادة بلا ريب، ولكنَّ الشيعة بتفسيرهم الذي بلغ الذروة من التعصب والتعسف، أوَّلوها — لتشهد لهم ببعض ما مضىوا إليه — تأويلًا مجازيًّا عجبًا، فزعموا حتى المراد بالشمس محمد ، وبالقمر علي بن أبي طالب، وبالنهار الحسن والحسين رضي الله عنهما، وبالليل الأمويون.

إلى غير ذلك نجد الغالين من هاتين الفرقتين قد بالغوا في التأويل، فحمَّلوا القرآن كثيرًا من المعاني والآراء التي لا يُقرُّها بحقٍّ أهلُ السنة، وجعلوا للآية الواحدة معاني باطنية مُتدرجة في صعوبة معهدتها والإحاطة بها، وفي هذا يقول جلال الدين الرومي الشاعر الصوفي المعروف، وهوما يُوافقه عليه الشيعة الباطنية الإسماعيلية: «افهم أنَّ آيات الكتاب سهلة يسيرة، ولكنها على سهولتها تخفي وراءها معنى خفيًّا مستترًا. ويتصل بهذا المعنى الخفي معنى ثالث يُحَيِّر ذوي الأفهام الثاقبة ويعييها، والمعنى الرابع ما من أحد يحيط به سوى الله واسع الكفاية، من لا شبيه له، إلى غير ذلك نصل إلى معاني سبعة الواحد تلوالآخر. ولذلك لا تتقيد يا بني بالمعنى الظاهري، كما لم يرَ إبليس في آدم إلا أنه مخلوق من الطين.»

التأويل لدى الغزّالي وابن تيمية

إذا هجرنا المعتزلة والشيعة والمتصوفة، نرى معضلة التأويل تعرض لأهل السنة من رجال فهم الكلام، فيتعرض لها كلٌّ من الغزالي وابن تيمية، ويقف جميع منهما منها موقفًا خاصًّا يتعارض وموقف الآخر.

تعرَّض الغزالي لهذه المُشكلة ولا عجب في هذا، فهومُتحدث ومُتصوف وفيلسوف معًا! فهل نراه يُسرف في تأويل القرآن والحديث كالمعتزلة والمتصوفة ومن إليهم،يا ترى؟ أونراه يسير فيه بحذر وعلى بيِّنة كابن رشد مثلًا؟

حجة الإسلام يرى أنَّ في القرآن والحديث نصوصًا تفيد غير معانيها الظاهرية؛ ولهذا يُجيز تأويلها؛ ولهذا أيضًا عُني بوضع رسالة في ذلك تسمى «قانون التأويل»، كما تناول هذه المشكلة بالبحث في رسالة أخرى هي «إلجام العوام عن فهم الكلام». ومن تلك النصوص مثلًا ما يُشير بظاهره إلى التجسيم أوالتشبيه في ذات الله تعالى أوصفاته.

وذلك مثل الآيات التي تُوهم بظاهرها أنَّ له تعالى بعضَ ما للإنسان من الأعضاء والحواس، وأنَّه يتحرك وينتقل ويجلس على العرش، وأنه فوقنا، ومثل ما اتى في بعض الأحاديث من أنه ينزل في جميع ليلة إلى السماء الدنيا. فهذه النصوص القرآنية والحديثية يرى الغزالي أنَّ لها معاني خفية لا يصل إليها أهل الفهم، وأنَّ موقف العامي منها هوالتصديق بها مع الاعتراف بالعجز عن فهمها، والتسليم فيها لأهل الفهم القادرين على إدراك المراد منها. وينبغي حتى نُلاحظ أنَّ «العامَّة» هنا يدخل فيهم الأديب والنحوي والمُفسر والمُحدث والفقيه والمُتحدث، بل جميع عالم سوى «المتجردين لفهم السباحة في بحار الفهم»، أي: المتصوفة. إذن، لم يخرج من العامة إلا المتصوفة، كما لم يخرج ابن رشد من العامة إلا الفلاسفة على ما تقدم ذكره.

وهؤلاء المتصوفة أي: «أهل الغوص في بحر الفهم» لا يصل إلا واحد من جميع عشرة منهم — في رأي الغزالي — إلى فهم «الدر المكنون والسر المخزون». وبعبارة أُخرى: إنَّ أسرار هذه النصوص ومعانيها الخفية ليست خفية بالنسبة للرسول وأكابر الصحابة، كأبي بكر وعمر وعلي، ويلحق بهم الأولياء والفهماء الراسخون. وإذا كانت هذه المعاني الخفية يصل إلى إدراكها «أهل الفهم»، فهل لهم حتى يُذيعوها بين الناس، أي: هل لهم حتى يظهروا للناس جميعًا ما يدركونه من التأويلات؟

يجيبُ الغزالي عن هذا إجابة تجعلنا نلمح فيه المتصوف الذي لا يرى حتى يطلع على الأسرار إلا المُريدون، إنَّه يرى حتى لمن عهد التأويل حتى يحدِّث به من هومثله في الاستبصار، أومَنْ هومستعدٌّ للفهم وطالبٌ لها ومقبل عليها بكله، ثم يختم ذلك بقوله في شبه قاعدة عامة: «فإن مَنْع الفهم أهلَه ظلم، كبثِّه لغير أهله.» وما ينبغي لنا حتى نفهم من إجازة الغزالي التأويلَ لأهله، وإجازته إظهارَ التأويلات لمن هوأهل لمعهدتها، أنَّه في هذا أوذاك كابن رشد الذي رأينا فيما تجاوز عنه أنه يُجيز إذاعته في هاتين الحالتين، كما أجاز ابن ميمون من بعده، ليس لنا حتى نفهم هذا، فإنَّ أهل التأويل وأهل الفهم في رأي «حجة الإسلام» هم المُتصوفة كما عهدنا، على حين أنَّهم الفلاسفة عند فيلسوف الأندلس وبلديِّه الحبر اليهودي، وشتان بين أولئك وهؤلاء.

ومهما يكن من شيء، فإنَّ الغزالي بما وضع من قانون للتأويل، جعل الذين يبحثون فيما بين المعقول والمنقول من «تصادم في أول النظر وظاهر الفكر» خمسَ فرق، وجعل الفرقة الخامسة هي المُحِقَّة، وهي التي وقفت موقفًا وسطًا بين المعقول والمنقول؛ إذ جعلت كلًّا منهما أصلًا وسبيلًا إلى الفهم، وأنكرت حتىقد يكون بينهما تعارض حقيقي، وعملت على التوفيق والجمع بينهما، على ما في هذا من مشقة وعسر في أكثر الأحيان. ولهذه المشقة والعسر يجب أحيانًا الكف عن التأويل، وعدم تعيين المعنى الخفي المراد ما دام لا يوجد الدليل القاطع على تعيين هذا المعنى الذي يقصده الله أوالرَّسول عليه الصلاة والسلام.

مثلًا اتى في القرآن والحديث أنَّ أعمال الإنسان تُوزن يوم القيامة، والعقل يبتر بلا شك أنَّ المعنى الظاهر الحرفي غير مقصود؛ لأنه غير معقول، وإذن لا بدَّ من تأويل لفظ «الوزن» تأويلًا مجازيًّا بإرادة نتيجته وهي تعريف مقدار العمل، أوتأويل لفظ «العمل» بإرادة الصحيفة التي كان مكتوبًا فيها، وليس لدينا ما يدلُّ دلالة قاطعة على أنَّ هذا التأويل أوذاك هوالمراد، والنتيجة أنه يجب الكف عن تعيين المعنى المجازي المراد؛ لأنه لا يجوز الحكم على مراد الله أورسوله بالظن والتخمين.

من هذا كله نرى الإمام الغزالي مع مشاركته للصوفية في أنه يوجد «مريدون» يصحُّ حتى تُذَاع لهم التأويلات الحقيقية والمعاني الخفية لبعض النصوص المُقَدَّسة، لم يُفْرط كما أفرطوا في التأويل، بل إنه رأى التوقف فيه في حالات كثيرة عندما لا يوجد مرشد قاطع على تعيين المعنى المجازي المراد. أمَّا الإمام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم المعروف بابن تيمية والمتوفى عام 728ه، فإنه قد وقف بالنسبة لمشكلة التأويل موقفًا معارضًا كما رأينا عند من تجاوز من أولئك الفلاسفة والمفكرين. إنه يرى حتى يفرق بين لفظ «التأويل» في عهد السلف، وبينه عند المُتحدثين — وبخاصة المعتزلة — والمتصوفة والفلاسفة من رجال الدين.

التأويل في رأي رجال السلف الإسلامي هوالتفسير وبيان المراد من النص القرآني أوالحديثي، وبهذا المعنى ورد كثير في القرآن نفسه، وهوالتأويل المقبول، ويُنطق على هذا المعنى إذا الصحابة والتابعين كانوا يعهدون تأويل القرآن الذي فسروه كله، ومن ثم نطق الحسن البصري من التابعين: ما أنزل الله آية إلا وهويحب حتى يُفهم ما أراد بها. ولذلك لا يجوز التوقف وهجر بيان معنى الآية من آيات القرآن؛ لأن الله أَمَرَنا حتى نَتَدَبَّر القرآن وأن نفهمه، والرَّسُول لم يهجر هذا من غير بيان للصحابة، اللهم إلا حتى يُنطق إذا الرسول كان لا يفهم معاني القرآن الذي أُنْزِل عليه، أوكان يفهمها ولم يبلغها كلها للناس مع أنه مأمور من الله بالتبليغ، وكل ذلك غير مقبول ولا معقول.

ونرى حتى ابن تيمية غير مفهوم تمامًا هنا، فإنه يرى، مع تأكيده أنَّ الصحابة والتابعين كانوا يفهمون القرآن كله، أنَّ ما اتى فيه عن الله وصفاته واليوم الآخر، وما يجري فيه من أُمور غيبية كان أولئك الصحابة والتابعون يفهمون تأويله وتفسيره، وإن لم يعهدوا كيفية ما أبلغ به الله من ذلك كله هذا؛ وأمَّا النوع الآخر من التأويل الذي يتحدث عنه كثيرًا من الفلاسفة والمتصوفة، وبعض رجال فهم الكلام، فهوأمرٌ آخر غير النوع الأول، إنَّه في اصطلاحهم الخاص «صرف اللفظ عن المعنى المدلول عليه المفهوم منه إلى معنى آخر يُخالف ذلك.» أي: صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى آخر خفي. وهذا ضرب من التأويل لم يغب عن الرَّسول الذي بيَّن بنفسه، في جميع موضع يجبُ فيه هجر المعنى الظاهري، المعنى الآخرَ المراد بهذا اللفظ؛ وذلك لأنه «لا يجوز عليه حتى يتحدث بالكلام الذي مفهومه ومدلوله باطل ويسكت عن بيان المراد الحق، ولا يجوز حتى يريد من الخلق حتى يفهموا من كلامه ما لم يبيِّنه لهم.» وما دام الأمر كذلك؛ فلا تعارُض إذن بين المَعقول الصريح والمنقول السليم، أي: لا تعارُض بين ما يؤدي إليه العقل السليم وبين ما ثبت نقله عن الرسول. هكذا يرى ابن تيمية، وهويُؤكده بأنَّه قد تحقق ذلك بنفسه؛ إذ تبين له بعد تفكير طويل اتفاق ما وصل إليه العقل السليم النظر في المسائل الكلامية الكبرى، كمسائل التوحيد والصفات والقَدَر والنبوات والمعاد، مع ما اتى عن ذلك في الشريعة تمامًا.

ولنا حتى نأخذ بحق مما تقدم أنَّ مُشكلة التأويل لم توضع أمام ابن تيمية، بمعنى أنه لم يرها معضلة تتطلب حلًّا لها، وذلك بأنَّ هذه المشكلة لم تعرض للمفكرين من رجال الدين إلا لما رأوه من وجود تعارض بين ما ثبت بالعقل وما ورد به الشرع، فاضطروا لتأويل ما لا يتفق والعقلَ من النصوص الدينية الوحيية. ولكن ابن تيمية لا يرى وجود تعارض مُطلقًا، والمنقول الذي يُنطق إنه يُخالف العقل لاقد يكون إلا حديثًا موضوعًا، أونصًّا آخر لا يدلُّ دلالة قاطعة على ما يُراد الاستدلال به عليه، وعلى فرض وجود تعارض بين العقل والنص يجب ترجيح الأخذ بالنص الثابت عن الأنبياء على ما يؤدي إليه العقل واستدلاله. ومن الحق أنه ذكر في بعض ما خطه في هذا الشأن أنَّه عند تعارض العقل والسمع يجبُ تقديم ما تكون دلالته بترية منهما، سواء أكان هوالدليل العقلي أم الدليل السمعي، ولكنَّه نطق بعد هذا بقليل: «ولكن كون السمعي لاقد يكون بتريًّا دونه خَرْط القَتَاد.» أي إنَّ الدليل السمعي متى ثبت صحة النقل يُقدَّم دائمًا على العقل وما يؤدي إليه، وكل ذلك يؤدي بنا إلى النتيجة التي استخلصناها، وهي أنَّ مسألة التأويل لم توضع أمام ابن تيمية؛ إذ لم يكن لديه أسبابها.

ومن أجل هذا نرى الإمام تقي الدين ينقد بشدةٍ ابن سينا والغزالي وابن رشد وابن ميمون، وغيرهم من المتصوفة والملاحدة الذين اصطنعوا كيفية التأويل لِبَثِّ آرائهم في القرآن والحديث، وبذلك مزجوا هذين المصدرين المقدسين بالآراء الفلسفية التي جعلوها أصلًا يُؤوِّلون النصوص الدينية بحسبها لتتفق معها؛ ولذلك أيضًا قد يضطُرون عندما يجدون النص لا يُوافق ما زعموه حقًّا بعقولهم، إلى حتى يقولوا إنَّ الرسل تحدثوا على سبيل التمثيل والتخييل للحاجة إلى إفهام العامة وأمثالهم.

خاتمة

والآن وقد رأينا معضلة التأويل في النصوص المقدسة توضع قبل ابن رشد في اليهودية والمسيحية والإسلام، أمام الفلاسفة والمفكرين من رجال هذه الديانات، علينا حتى نقارن موقف ابن رشد فيها بموقف غيره ممن تناولناهم. لم يُحاول ابن رشد حتى يَجعل من القرآن أوالحديث كتابًا فلسفيًّا، أولم يُحاول — بتعبير آخر — حتى يَجِدَ فلسفة أرسطوالذي عُرف بأنَّه شَارِحه الأوَّل في القرآن والحديث، ليكون هذا توفيقًا بين الوحي والفلسفة، كما حاوله تقريبًا، وعمل له كلٌّ من فيلون وموسى بن ميمون في اليهودية، وكليمنت الإسكندري وأوريجانوس وأبيلارد في المسيحية، وكذلك لم يسِر مع خياله في تآويله كما عمل فيلون، وذلك حين جعل الأشخاص التي اتىت في تاريخ الخليقة وتاريخ اليهود في التوراة رموزًا لحالات النفس.

ولم يغلُ غُلوَّ المعتزلة أحيانًا في إكراههم النَّص القرآني على حتى يتفق وممضىهم في فهم الكلام بتأويله كما يرون، ولم يُسرف أخيرًا إسراف المتصوفة والشيعة الذين تعسَّفوا إلى أقصى الحدود أحيانًا في تأويل القرآن والحديث. إنَّ فيلسوف الأندلس حين نُريد حتى نُقارنه بهؤلاء وأولئك، نراه كما تقدم قد عثر في القرآن والحديث ما لا يقدر العامَّة على فهمه، وما له تأويلات عقلية لا يصل إليها إلا أهل الفهم وهم الفلاسفة في رأيه؛ فأوجب على الأولين أخْذَ هذه النصوص حسب معانيها الظاهرة، وأوجب على الآخرين تأويلها وفهم المعاني الخفية التي لها.

كما حاول حتى يجد لآرائه الكلامية سندًا من القرآن لإقناع العامَّة ومن إليهم، وهذا ما عمل غيره من رجال المسيحية كما رأينا، وإن كان لم يجعل مثلهم الغرض من تفسير القرآن هوالاستدلالَ على اللاهوت الذي أخذ حظًّا غير قليل من الفلسفة، بل جعل عمدته في الاستدلال لآرائه الفلسفية — حتى ما يتصل منها بالدين — هوالدليل المنطقي. وفيما يختصُّ بالمُقارنة بينه وبين الغزالي أشد المفكرين معارضة لممضى أسلافه فلاسفة الإسلام، نجد أنَّ كلًّا منهما يرى وجود عامَّة وخاصة بين الناس، وإن كانا كما عهدنا يختلفان في تحديد الطبقة الخاصة. كما يتفقان على أنَّه ليس للعامي حتى يؤوِّل ما يحتاج لتأويل من النصوص، ولا لمن هومن الخاصَّة حتى يكشف له التأويل الذي يصل إليه، وإن كان ابن رُشد يُوجب في بعض الحالات التيقد يكون التأويل فيها واضحًا حتى يُصَرَّح بالتأويل ويُذاع للجميع لا فرق بين الخاصة والعامة. وبعد هذا وذاك نجد إيمان ابن رشد بقدرة العقل أقوى من إيمان الغزالي، وهذا ما يجعله لا يوجب التوقف أحيانًا عن التأويل مع البتر بنفي المعنى الظاهر من النص، كما رأينا من الغزالي.

هوامش

  1. ^ دلالة الحائرين، ج1،عشرة من المقدمة، وانظر أيضًا ص17، ففيها استشهاد من المؤلف ببعض آيات من التوراة على تحدث الأنبياء بالمجاز.
  2. ^ راجع كتاب دلائل الحائرين ج1، 19، 57 وما بعدها، فضلًا عن مواضع أخرى، وج2، 121 وما بعدها وما بعدها، فضلًا عن مواضع أخرى أيضًا
  3. ^ في هذه المسألة يرى ابن ميمون حتى حجج القائلين بقِدم العالم ليست قاطعة، وأن حدوثه ليس محالًا، وأنه لهذا يقبل فيها الحل الذي اتى به الوحي على لسان الأنبياء، الحل الذي يشرح أمورًا لا تصل القوة العاقلة النظرية إلى معهدتها، دلالة الحائرين ج2، 128-129، وانظر أيضًا ص198.
  4. ^ راجع مثلًا تفسير مجاهد المحدث المعروف لقوله تعالى:وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (سورة القيامة: 22، 23)، وقد ذكره الطبري في تفسيره ج2، 104.
  5. ^ راجع مثلًا استعانة الزمخشري بآية: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ (سورة الأنعام: 103) على نفي رؤية الله التي تشير إليها حرفيًّا آيتا سورة القيامة اللتان ذكرناهما في الهامش السابق.
  6. ^ يراجع مثلًا تفسير المرتضى لآية: وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (سورة النساء: 125)، ومناقشة ابن قتيبة لهذا التأويل الاعتزالي في كتابه «تأويل مختلف الحديث» ص83، ومناقشته لتآويل اعتزالية أخرى متوسلين باللغة كذلك ص80 وما بعدها.
  7. ^ ومن باب التمثيل، يراجع تأويله للآية 29 من سورة التكوير: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، والآية ٢٤ من سورة الأنفال: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، ليتفق المعنى مع ممضىه، مع حتى كلًّا منهما تدل بظاهرها على نفس حرية الإرادة.

المراجع

  1. ^ إغناتس; جولد تسيهر (1964). (الطبعة الثانية). مصر: دار الخط الحديثة. صفحات 139–140. مؤرشف من الأصل في 11 أبريل 2020.
  2. ^ موسى; بن ميمون (1205). حسين أتاي (المحرر). . القاهرة: مخطة الثقافة الدينية. صفحات 1-10-12. مؤرشف من الأصل في 11 أبريل 2020.
  3. ^ إميل; برييه (1954). . مصر: شركة مخطة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده. صفحة 40. مؤرشف من الأصل في 11 أبريل 2020. اطلع عليه بتاريخ 11 أبريل 2020.
  4. ^ كروازيه (1904), p. 11.
  5. ^ كروازيه (1904), p. 152، 7.
  6. ^ كروازيه (1904), p. 428.
  7. ^ برييه (1954), pp. 36-37.
  8. ^ برييه (1954), pp. 36-37.
  9. ^ مارتن (1907), p. 34.
  10. ^ مارتن (1907), p. 31.
  11. ^ برييه (1954), p. 57.
  12. ^ برييه (1954), p. 35.
  13. ^ سفر الخروج الأصحاح الثاني والعشرين (25،27).
  14. ^ مارتن (1907), pp. 29،30.
  15. مارتن (1907), pp. 33-32.
  16. ^ برييه (1954), pp. 63-64.
  17. ^ برييه (1954), p. 34.
  18. ^ برييه (1954), p. 64.
  19. ^ برييه (1954), pp. 58-59.
  20. ^ برييه (1954), p. 41.
  21. ^ برييه (1954), pp. 45،46،47.
  22. ^ برييه (1954), p. 315.
  23. ^ بن ميمون (1190), pp. 1،17.
  24. ^ بن ميمون (1190), p. 19.
  25. ^ بن ميمون (1190), p. 19،57.
  26. ^ بن ميمون (1190), p. 128،129، 2.
  27. ^ بن ميمون (1190), p. 10، 1.
  28. ^ برييه (1949), p. 245.
  29. ^ سبينوزا (1677), p. 177.
  30. ^ جيلسون (1933), pp. 22-28.
  31. ^ مارتن (1907), pp. 38-39.
  32. ^ مارتن (1907), p. 38.
  33. ^ برييه (1949), pp. 158-160.
  34. ^ بارينت (1939), p. 20.
  35. ^ برييه (1949), p. 158.
  36. ^ الأكويني (1485), p. 61.
  37. ^ البغدادي (844), pp. 139،148.
  38. ^ رضا (1338), pp. 651.
  39. ^ البغدادي (845), pp. 47،64.
  40. ^ الطبري (883), p. 104.
  41. ^ الدينوري (), pp. 80-83.
  42. ^ البغدادي (843), p. 114.
  43. ^ الشهرستاني (), p. 120.
  44. ^ المضىي (), p. 69.
  45. ^ جولد تسيهر (1964), p. 131.
  46. ^ جولد تسيهر (1964), pp. 140،141.
  47. ^ الغزالي (1351), pp. 31،38.
  48. ^ جولد تسيهر (1964), p. 140.
  49. ^ جولد تسيهر (1964), pp. 175-167.
  50. ^ جولد تسيهر (1964), p. 230.
  51. ^ جولد تسيهر (1964), pp. 139-140.
  52. ^ الغزالي (1351), p. 60.
  53. الغزالي (1351), p. 16.
  54. ^ الغزالي (1351), p. 19.
  55. ^ المعافري الإشبيلي (), p. 6.
  56. ^ بن تيمية (), pp. 115-120.
  57. ^ بن تيمية (), pp. 116-118.
  58. ^ بن تيمية (), pp. 119-120.
  59. ^ بن تيمية (), p. 119.
  60. ^ بن تيمية (), p. 10.
  61. ^ بن تيمية (), p. 83.
  62. ^ بن تيمية (), p. 42.
  63. ^ بن تيمية (), p. 73.
  64. ^ بن تيمية (), p. 117.

المصادر

  • جولد تسيهر, إغناتس (1964). . القاهرة: دار المحرر المصري.
  • بن ميمون, موسى (1205). . 14ميدان العتبة: مخطة الثقافة الدينية. CS1 maint: location (link)
  • برييه, إميل (1954). . مصر: شركة مخطة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده. مؤرشف من الأصل في 18 مارس 2020.
  • كروازيه, ألفريد (1904). . لندن: شركة ماكميلان. اطلع عليه بتاريخ 18 مارس 2020.
  • مارتن, جوليس (1907). . باريس. LCCN 39006136. OCLC 1662926. مؤرشف من الأصل في 18 مارس 2020. اطلع عليه بتاريخ 18 مارس 2020.
  • . مؤرشف من الأصل في 18 مارس 2020. اطلع عليه بتاريخ 18 مارس 2020.
  • بن ميمون, موسى (1190). . مؤرشف من الأصل في 17 أبريل 2017. اطلع عليه بتاريخ 21 مارس 2020.
  • سبينوزا, باروخ (1677). . مؤرشف من الأصل في 30 ديسمبر 2012. اطلع عليه بتاريخ 21 مارس 2020.
  • جيلسون, إتين (1933). . مؤرشف من الأصل في 21 مارس 2020. اطلع عليه بتاريخ 21 مارس 2020.
  • برييه, إميل (1949). . باريس. مؤرشف من الأصل في 21 مارس 2020.
  • بارينت, جوزيف ماري (1939). . باريس: معهد أوتاوا لدراسات العصور الوسطى. مؤرشف من الأصل في 21 مارس 2020. اطلع عليه بتاريخ 21 آذار/مارس 2020.
  • الأكويني, توماس (1485). . مؤرشف من الأصل في 21 مارس 2020. اطلع عليه بتاريخ 21 آذار/مارس 2020.
  • البغدادي, محمد بن سعد (844). . 5. اطلع عليه بتاريخ 21 آذار/مارس 2020.
  • رضا, محمد رشيد (1338). . 8. مؤرشف من الأصل في 21 مارس 2020. اطلع عليه بتاريخ 21 آذار/مارس 2020.
  • البغدادي, محمد بن سعد (845). . 6. اطلع عليه بتاريخ 21 آذار/مارس 2020.
  • البغدادي, محمد بن سعد (843). . 2. اطلع عليه بتاريخ 21 آذار/مارس 2020.
  • الطبري, محمد بن جرير (883). . 2. مؤرشف من الأصل في 21 مارس 2020. اطلع عليه بتاريخ 21 آذار/مارس 2020.
  • الدينوري, محمد ابن قتيبة. . مؤرشف من الأصل في 21 مارس 2020. اطلع عليه بتاريخ 21 آذار/مارس 2020.
  • الشهرستاني, محمد بن عبد الكريم. . مؤرشف من الأصل في 04 يوليو2017. اطلع عليه بتاريخ 21 آذار/مارس 2020.
  • المضىي, شمس الدين. . مؤرشف من الأصل في 21 مارس 2020. اطلع عليه بتاريخ 21 آذار/مارس 2020.
  • الغزالي, أبوحامد (1351). . مؤرشف من الأصل في 07 فبراير 2017. اطلع عليه بتاريخ 22 آذار/مارس 2020.
  • المعافري الإشبيلي, محمد بن عبد الله بن العربي. . مؤرشف من الأصل في 21 مارس 2020. اطلع عليه بتاريخ 22 آذار/مارس 2020.
  • بن تيمية, أحمد بن عبد الحليم. . مؤرشف من الأصل في 21 مارس 2020. اطلع عليه بتاريخ 22 آذار/مارس 2020.
تاريخ النشر: 2020-06-01 20:48:33
التصنيفات: إسلام, فلسفة إسلامية, فلسفة إغريقية قديمة, فلسفة دينية, فلسفة مسيحية, فلسفة يهودية, مسيحية, يهودية, الصفحات بعناوين عرض تم تجاهلها, مقالات يتيمة منذ مارس 2020, جميع المقالات اليتيمة, جميع المقالات التي بحاجة لصيانة, صفحات بها وصلات إنترويكي, CS1 maint: location, بوابة الأديان/مقالات متعلقة, بوابة فلسفة/مقالات متعلقة, بوابة الإسلام/مقالات متعلقة, بوابة المسيحية/مقالات متعلقة, بوابة اليهودية/مقالات متعلقة, جميع المقالات التي تستخدم شريط بوابات, صفحات بها شريط بوابات بأكثر من 10 بوابات, صفحات بها شريط بوابات بأكثر من 15 بوابات

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

قمة دولية.. نزار بركة يدعو إلى الحفاظ على موارد المياه الجوفية

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-09 12:22:28
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 55%

رئيس بيلاروسيا: استكمال المفاوضات لإنشاء منطقة التجارة مع مصر

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-09 12:21:50
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 61%

بمشاركة قادة الخليج ..انطلاق أعمال القمة الخليجية الـ43

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-09 12:22:32
مستوى الصحة: 44% الأهمية: 49%

التفاصيل الكاملة لخامس فعاليات «حياة كريمة» الثقافية بالدقهلية

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-09 12:21:56
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 53%

المغرب – البرتغال: ثلاثة أسئلة قبل ربع النهائي

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-09 12:22:06
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 57%

إغلاق جزئى لنفق أحمد عرابى السبت المقبل للقادم من الدائرى لمدة 15 يوما

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-09 12:22:42
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 36%

الصحة: حالة المصاب بجدرى القرود مستقرة وتتلقى العلاج

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-09 12:22:40
مستوى الصحة: 32% الأهمية: 49%

حصة تدريبية أخيرة قبل مواجهة البرتغال للحسم في جاهزية المصابين

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-09 12:22:28
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 61%

«رابيو» : فرنسا لا تعتمد فقط على «مبابي»

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-09 12:22:07
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 50%

الرئيس السيسي يلتقي بالرئيس التونسي بالعاصمة الرياض

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-09 12:22:08
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 61%

«ليس لها جذور».. موقف يحيى حقى من الكتابة بالفصحى والعامية

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-09 12:21:55
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 54%

البرازيل تسعى لعبور كرواتيا و قمة بين الطواحين و التانجو

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-09 12:22:10
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 66%

إضافة المواليد على بطاقة التموين.. اعرف الفئات المسموح لها

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-09 12:22:34
مستوى الصحة: 40% الأهمية: 36%

البيئة تعلن حالة جودة الهواء اليوم و غدا

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-09 12:22:11
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 50%

هيئة الدواء تكشف طرق الاستخدام الآمن لتناول الدواء.. اعرف تفاصيل

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-09 12:22:31
مستوى الصحة: 35% الأهمية: 38%

الدفاع ورقة المغرب الرابحة لـ عبور البرتغال في ربع النهائي

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-09 12:22:10
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 51%

«كايل ووكر»: سأعطي «مبابي» الاحترام الذي يستحقه

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-09 12:22:06
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 50%

ولي العهد السعودي: نؤكد ضرورة وجود حل عادل للقضية الفلسطينية

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-09 12:21:49
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 62%

تحميل تطبيق المنصة العربية