القاضي أبوبكر الباقلاني (338 هـ - 402 هـ / 950م - 1013م) هو: محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم القاضي أبوبكر الباقلاني البصري، الملقب بشيخ السنة، ولسان الأمة، المتحدث على ممضى أهل السنة والجماعة، وأهل الحديث وطريقة أبي الحسن الأشعري، أحد كبار فهماء عصره انتهت إليه رئاسة الممضى الأشعري، وإليه انتهت رئاسة المالكية في وقته، ويُعد من أكابر أئمة الأشاعرة بعد مؤسسها أبي الحسن الأشعري، كما يعد من مجددي المائة الرابعة.

شيوخه

من شيوخ الباقلاني من تلقى الفهم عن الإمام أبي الحسن الأشعري، وبذلك يمكن اعتباره ضمن الطبقة الثانية من طبقات الأشاعرة. ومن هؤلاء الشيوخ:

1. الدارقطني.
2. ابن مجاهد الطائي.
3. أبوالحسن الباهلي.
4. أحمد بن جعفر القطيعي.
5. أبوأحمد العسكري.
6. أبوسهل الصعلوكي.
7. أبوبكر الأبهري.
8. أبوعبد الله محمد بن خفيف الشيرازي.
9. ابن أبي زيد القيرواني، وغيرهم.

تلاميذه

تكاد تُجمع المصادر التي ترجمت للقاضي الباقلاني على حتى من تتلمذوا على يديه وسمعوا عنه عدد كبير جداً. معظمهم بالعراق، ومنهم من انتشر في النواحي الشرقية القريبة منها والبعيدة عنها، ومنهم من انتقل جنوبا نحوبلاد الشام والحجاز، ومنهم من نقل ممضىه إلى بلاد المغرب بإفريقية وبالأندلس وسواهما. ومن هؤلاء التلاميذ:

1. أبوذر عبد بن أحمد الهروي المالكي الأشعري، أخذ طريقة الباقلاني وأدخلها إلى الحرم، وعنه أخذ أهل المغرب.
2. القاضي أبومحمد عبد الوهاب بن نصر البغدادي المالكي.
3. أبوعبد الله الأزدي، الذي يرجع إليه الفضل في انتشار ممضى الباقلاني في المغرب.
4. أبوالطاهر الواعظ محمد بن علي المعروف بابن الأنباري، والذي يعد كذلك ممن يعود الفضل إليه في نشر ممضى الباقلاني بالمغرب.
5. أبوعمران الفاسي.
6. أبوالقاسم الأزهري الصيرفي.
7. أبوالفضل عبيد الله بن أحمد المقري، وغيرهم.

مكانته الفهمية

• نطق عنه ابن العماد في شذرات المضى: «القاضى أبوبكر ابن الباقلانى محمد بن الطيب بن محمد بن محمد بن جعفر، البصري، المالكي الأصولي المتحدث، صاحب المصنفات، وأوحد وقته في فنه... وكانت له بجامع المنصور حلقة عظيمة... ونطق ابن الأهدل: سيف السنة: القاضى أبوبكر بن الباقلاني الأصولي الأشعري المالكي، مجدد الدين على رأس المائة الرابعة على السليم وقيل جدد بأبي سهل الصعلوكي صنف ابن الباقلاني تصانيف واسعة في الرد على الفرق الضالة... وكان ورعا لم تحفظ عنه زلة ولا نقيصة وكان باطنه معمورا بالعبادة والديانة والصيانة.»
• ونطق عنه ابن تيمية: «القاضى أبوبكر: محمد بن الطيب الباقلانى المتحدث - وهوأفضل المتحدثين المنتسبين إلى الأشعري، ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده.»
• ونطق عنه ابن خلكان: «القاضي أبوبكر: محمد بن الطيب ابن محمد بن جعفر بن القاسم، المعروف بالباقلاني، البصري، المتلكم المشهور، كان على ممضى أبي الحسن الاشعري، ومؤيدا اعتقاده، وناصرا طريقته، وصنف التصانيف الكثيرة المشهورة في فهم الكلام وغيره، وكان أوحد زمانه، وانتهت إليه الرياسة في ممضىه: وكان موصوفا بجودة الاستنباط، وسرعة الجواب وسمع الحديث. وكان كثير التطويل في المناظرة، مشهورا بذلك عند الجماعة.»
• ونطق عنه صلاح الدين الصفدي في الوافي بالوفيات: «القاضي أبوبكر الباقلاني البصري صاحب التصانيف في فهم الكلام، سكن بغداد وكان في فنه أوحد زمانه، سمع أبا بكر القطيعي وغيره وكان ثقة عارفاً بالكلام، صنف "الرد على الرافضة والمعتزلة، والخوارج والجهمية"...»
• ونطق عنه المضىي في سير أعلام النبلاء: «الإمام العلامة، أوحد المتحدثين، مقدم الأصوليين، القاضي أبوبكر، محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن قاسم، البصري، ثم البغدادي، ابن الباقلاني، صاحب التصانيف، وكان يضرب المثل بفهمه وذكائه... وكان ثقة إماما بارعا، صنف في الرد على الرافضة والمعتزلة، والخوارج والجهمية والكرامية، وانتصر لطريقة أبي الحسن الأشعري، وقد يخالفه في مضائق، فإنه من نظرائه، وقد أخذ فهم النظر عن أصحابه. وقد ذكره القاضي عياض في "طبقات المالكية" فنطق: هوالملقب بسيف السنة، ولسان الأمة، المتحدث على لسان أهل الحديث ، وطريق أبي الحسن، وإليه انتهت رئاسة المالكية في وقته، وكان له بجامع البصرة حلقة عظيمة. وقع عنه: الحافظ أبوذر الهروي ، وأبوجعفر محمد بن أحمد السمناني ، وقاضي الموصل ، والحسين بن حاتم الأصولي.

نطق أبوبكر الخطيب كان ورده في جميع ليلة عشرين ترويحة في الحضر والسفر ، فإذا فرغ منها، خط خمسا وثلاثين ورقة من تصنيفه. سمعت أبا الفرج محمد بن عمران يقول ذلك. وسمعت علي بن محمد الحربي يقول: جميع ما كان يذكر أبوبكر بن الباقلاني من الخلاف بين الناس صنفه من حفظه، وما صنف أحد خلافا إلا احتاج حتى يطالع خط المخالفين، سوى ابن الباقلاني. قلت: أخذ القاضي أبوبكر المعقول عن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن مجاهد الطائي صاحب أبي الحسن الأشعري. وقد سار القاضي رسولا عن أمير المؤمنين إلى طاغية الروم، وجرت له أمور، منها حتى الملك أدخله عليه من باب خوخة ليدخل راكعا للملك ، ففطن لها القاضي، ودخل بظهره. ومنها أنه نطق لراهبهم: كيف من الممكن أن الأهل والأولاد،يا ترى؟ فنطق الملك: مه! أما فهمت حتى الراهب يتنزه عن هذا،يا ترى؟ فنطق: تنزهونه عن هذا، ولا تنزهون رب العالمين عن الصاحبة والولد! وقيل: إذا الطاغية سأله: كيف من الممكن أن جرى لزوجة نبيكم،يا ترى؟ -يقصد توبيخا- فنطق: كما جرى لمريم بنت عمران، وبرأهما الله، لكن عائشة لم تأت بولد. فأفحمه.

نطق الخطيب سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: جميع مصنف ببغداد إنما ينقل من خط الناس سوى القاضي أبي بكر، فإنما صدره يحوي فهمه وفهم الناس. ونطق أبومحمد البافي: لوأوصى رجل بثلث ماله لأفصح الناس لوجب حتى يدفع إلى أبي بكر الأشعري. نطق أبوحاتم محمود بن الحسين القزويني: كان ما يضمره القاضي أبوبكر الأشعري من الورع والدين أضعاف ما كان يظهره، فقيل له في ذلك، فنطق: إنما أظهر ما أظهره غيظا لليهود والنصارى، والمعتزلة والرافضة، لئلا يستحقروا فهماء الحق.

وعمل بعضهم في موت القاضي:

مات في ذي القعدة، سنة ثلاث وأربعمائة، وصلى عليه ابنه حسن، وكانت جنازته مشهودة، وكان سيفا على المعتزلة والرافضة والمشبهة، وغالب قواعده على السنة، وقد أمر شيخ الحنابلة أبوالفضل التميمي مناديا يقول بين يدي جنازته: هذا ناصر السنة والدين، والذاب عن الشريعة، هذا الذي صنف سبعين ألف ورقة. ثم كان يزور قبره جميع جمعة. قيل: ناظر أبوبكر أبا سعيد الهاروني، فأسهب، ووسع العبارة، ثم نطق للجماعة: إذا أعاد ما قلت، قنعت به عن الجواب. فنطق الهاروني: بل إذا أعاد ما نطقه، سلمت له.»

• ونطق عنه القاضي عياض في ترتيب المدارك وتقريب المسالك: «أبوبكر بن محمد بن الطيب بن محمد القاضي المعروف بابن الباقلاني. الملقب بشيخ السنة، ولسان الأمة، المتحدث على ممضى المثبتة، وأهل الحديث، وطريقة أبي الحسن الأشعري خرّج له ابن أبي الفوارس. نطق الخطيب أبوبكر في تاريخ البغداديين: تفهم على أبي بكر ابن مجاهد الأصول، وعلى أبي بكر الأبهري الفقه. نطق أبوبكر: وكان ثقة. حدثنا عنه السمناني، نطق: وكان أبوالحسن بن جهضم الهمداني، وذكره في كتابه، فنطق: كان شيخ وقته، وعالم عصره، الرجوع إليه فيما أشكل على غيره. نطق غيره: وإليه انتهت رئاسة المالكيين في وقته. وكان حسن الفقه، عظيم الجدل، وكانت له بجامع المنصور ببغداد حلقة عظيمة. وكان ينزل الكرخ. ذكر أبوعبد الله بن سعدون الفقيه، حتى سائر الفرق رضيت بالقاضي أبي بكر في الحكم بين المتناظرين. نطق ابن عمار الميورقي: كان ابن الطيب مالكياً، فاضلاً متورعاً، ممن لم تحفظ له قط زلة. ولا نسبت إليه نقيصة. وكان يلقب بشيخ السنة. ولسان الأمة، وكان فارس هذا الفهم مباركاً على هذه الأمة. نطق: وكان حصناً من حصون المسلمين، وما سرّ أهل البدع بشيء كسرورهم بموته. وليَ القضاء بالثغر. وذكره أبوعمران الفاسي فنطق: سيف أهل السنة في زمانه، وإمام متحدثي أهل الحق في وقتنا.

نطق القاضي أبوالوليد: كان أبوبكر مالكياً، وحدث عن أبي ذر الهروي. نطق: كان سبب أخذي عن القاضي أبي بكر، ومعهدتي بقدره، أني كنت مرة ماشياً ببغداد، مع أبي الحسن الدارقطني، إذ لقيت شاباً فأقبل أبوالحسن عليه، وعظمه، ونادى له. فقلت للشيخ: من هذا الذي تصنع به هذا،يا ترى؟ فنطق لي: هذا أبوبكر ابن الطيب، نصر السنّة، وقمع المعتزلة. وأثنى علي. نطق أبوذر: فاختلفت إليه، وأخذت عنه من يومئذ. وأخذ عنه جماعة لا تعد، ودرسوا عليه أصول الفقه والدين. وخرج منهم من الأئمة أبومحمد عبد الوهاب بن نصر المالكي، وعلي بن محمد الحربي، وأبوجعفر السماني، وأبوعبد الله الأدري وأبوالطاهر الواعظ، رحمهم الله. ومن أهل المغرب: أبوعمر بن سعد، وأبوعمران الفاسي. رحل إليه، وأخذ عنه. نطق أبوعمران: رحلت إلى بغداد وكنت قد تفقهت بالمغرب، والأندلس عند أبي الحسن القابسي، وأبي محمد الأصيلي، وكانا عالمين بالأصول. فلما حضرت مجلس القاضي أبي بكر ورأيت كلامه في الأصول والفقه، والمؤالف والمخالف، حقرت نفسي وقلت: لا أفهم من الفهم شيئاً. ورجعت عنده كالمبتدئ. وتفقه عنده القاضي أبومحمد بن نصر، وعلق عنه، وحكى في خطه ما شاهد من مناظرته في الفقه بين يدي ولي العهد ببغداد، للمتخالفين. نطق أبوبكر الخطيب: كان أعهد الناس بفهم الكلام، وأحسنهم فيه خاطراً، وأجودهم لساناً، وأوضهم بياناً، وأصحهم عبارة. وحكى حتى أبا بكر الخوارزمي كان يقول: جميع مصنف ببغداد إنما ينقل من خط الناس، إلا القاضي أبا بكر فإن صدره يحوي فهمه، وفهم الناس. ونطق علي بن محمد الحربي: كان القاضي أبوبكر يهم بأن يختصر ما يصنعه، فلا يقدر لسعة فهمه وحفظه. وما صنف أحد كلاماً إلا احتاج حتى يطالع خط المخالفين، غير أبي بكر فإن جميع ما يذكر من حفظه. وكان أبومحمد الشافعي يقول: لوأوصى رجل بثلث ماله لأفصح الناس، لوجب حتى يدفع إلى أبي بكر الأشعري. وكان بعضهم يقول: اتى في الأثر حتى الله تعالى، كان يتعاهد عباده بأنبيائه ورسله، فلما ختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم، تعاهد أمته في رأس جميع مائة عام برباني من فهمائها، يحيي لها دينها، ويجدد شريعتها، فكان إمام رأس أربعماية: أبوبكر بن الطيب تعالى.»

• ونطق عنه اليافعي في مرآة الجنان: «سيف السنة وناصر الملة الإمام الكبير الحبر الشهير، لسان المتحدثين ومشروح البراهين، وقامع المبتدعين وقاطع المبطلين، القاضي أبوبكر محمد بن الطيب المشهور بابن الباقلاني الأصولي المتحدث المالكي الأشعري المجدد به دين الأمة على رأس المائة الرابعة على القول السليم. وقد أوضحت ذلك، وذكرت طرفاً من مناقبه في الشاش المفهم شاؤش كتاب المرهم ومناقب مائة إمام من أعيان أئمة الأشعرية، وإنه كانت محاسن القاضي أبي بكر المذكور الباطنة أكثر من محاسنه الظاهرة، وكان جميع ليلة إذا قضى ورده خط خمساً وثلاثين ورقة تصنيفاً من حفظه. وكان فريد عصره في فنه. وله التصانيف الكبيرة المسندة الشهيرة، وإليه انتهت الرئاسة في هذا الفهم، وكان ذا باع طويل في بسط العبارة، مشهوراً بذلك، حتى إنه جرى بينه وبين أبي سعيد الهاروني مناظرة يوماً، فأطال قاضي أبوبكر فيها الكلام، ووسع في العبارة، وزاد في الإسهاب، وبالغ في الإيضاح الإطناب، ثم التفت إلى الحاضرين ونطق: اشهدوا على أنه إذا أعاد ما قلت لأغير الايضاح، ولم أطالب بالجواب، فنطق الهاروني: اشهدوا على أنه إذا أعاد كلام نفسه سلمت له ما نطق.

ونطق الحافظ أحمد بن علي الخطيب البغدادي: محمد بن الطيب أبوبكر القاضي معروف بابن الباقلاني، المتحدث على ممضى الأشعري، وكان ثقة، أعهد الناس بفهم الكلام وأحسهم خاطراً وأجودهم لساناً، وأصحهم عبارة، وله التصانيف الكثيرة في الرد على المخالذين من الرافضة والمعتزلة والجهمية والخوارج وغيرهم، ونطق: حدثت حتى ابن المفهم شيخ الرافضة ومتحدثها جاء بعض مجالس النظر مع أصحابه، فأقبل القاضي أبوبكر الأشعري، فالتفت ابن المفهم إلى أصحابه ونطق: قد اتىكم الشيطان، فسمع القاضي كلامه وكان بعيداً فلما جلس أقبل على ابن المفهم وأصحابه، ونطق: نطق الله تعالى {أنا أوفدنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا [مريم: 83].

ونطق أبوالقاسم بن برهان النحوي: من سمع مناظرة القاضي أبي بكر لم يستلذ بعدها لسماع كلام أحد من المتحدثين والفقهاء والخطباء والمترسلين، ولا الأغاني أيضاً لطيب كلامه وفصاحته وحسن نظامه وإشارته. وله التصانيف الكثيرة في الرد على المخالذين من المعتزلة والرافضة والخوارج والمرجئة والمشبهة والحشوية. وحكى الحافظ ابن عساكر عن أهل الفهم أنه نطق: كان القاضي أبوبكر فارس هذا الفهم مباركاً علي هذه الأمة، يلقب سيف السنة ولسان الأمة، وكان مالكياً فاضلاً متورعاً ممن لم يحفظ عليه زلة قط، ولا تنسب إليه نقيصة. وذكر الإمام القاضي أبوالمعالي بن عبد الملك، عن الإمام أبي الحاكم القزويني نطق: كان الإمام أبوبكر الأشعري يضمر من الورع والديانة والزهد والصيانة أضعاف ما كان يظهره، فقيل له في ذلك فنطق: إنما ظهر ما أظهره غيظاً لليهود والنصارى والمبتدعين المخالذين، لئلا يستحقروا فهماء الحق والدين. ونطق الحافظ ابن عساكر: كان الانتساب إلى الاعتزال فاشياً منتشراً، وكل من كان متسنناً مستخفياً مستتراً إلى حتى قام القاضي أبوبكر بنصرة الممضى، واشتهر في المشرق والمغرب. وكان مظهره بدار السلام التي هي قبة الإسلام، فلم يظهر لذلك تغيير من الأنام، ولا نكرة من الفهماء والعوام بل كان الكل يتقلدون منه المنة من العوام، والأئمة يلقبونه بأجمعهم سيف السنة ولسان الأمة. وكان بينه وبين جماعة من الحنابلة مخالطة ومؤانسة واجتماع ومجالسة. ونقل الحافظ ابن عساكر بسنده إلى أبي بكر الخوارزمي نطق: جميع مصنف ببغداد، إنما ينقل من خط الناس إلى تصانيفه، سوى القاضي أبي بكر، فإن صدره يحوي فهمه وفهم الناس. وروى الحافظ الخطيب أنه كان القاضي أبوبكر يهم حتى يختصر ما يصنفه، فلا يقدرعلى ذلك لسعة فهمه وكثرة حفظه. ولما توفي جاء أبوالفضل التميمي الحنبلي حافياً مع إخوانه وأصحابه، وأمر حتى ينادي بين يدي جنازته: هذا ناصر السنة والدين، هذا إمام المسلمين، هذا الذي كان يذب عن سنة الشريعة المخالذين، هذا الذي صنف سبعين ألف ورقة ردا على الملحدين. وروى الحافظ أبوالقاسم بسنده إلى القاضي أبي الفخر نطق: سمعت الطائي يقول: كنت أشتهي حتى أرى القاضي الإمام أبا بكر في النوم، فلم يتفق لي، فنمت ليلة، وصليت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألف مرة، وسألت الله تعالى ونمت، فلما كان وقت السحر، رأيت جماعة حسنة ثيابهم، بيضاء وجوههم، طيبة روائحهم، ضاحكة أسنانهم، فقلت لهم: من أين جئتم،يا ترى؟ فنطقوا: من الجنة. فقلت: ما عملتم،يا ترى؟ فنطقوا: زرنا القاضي الإمام أبا بكر الأشعري، فقلت: وما عمل الله به،يا ترى؟ فنطقوا: غفر له، وحمل له في الدرجات. نطق: ففارقتهم، ومشيت، وكأني رأيت القاضي أبا بكر، وعليه ثياب حسنة، وهوجالس في رياض خضرة نضرة، فهممت حتى أساله عن حاله، وسمعته يقرأ {أفهوفي عيشة راضية في جنة عالية - [الحاقة: 21-22] - فهالني ذلك فرحاً، وانتبهت. ولما توقني رثاه بعضهم في هذين البيتين:»

قلت: لقد ضمن هذين البيتين مدحاً عظيماً يليق بجلالة الإمام المذكور، ويناسب حاله المشهور، ولكن لوأبدل لفظين من بيته كان أحسن وأنسب - فيما أرى - أحدهما قوله ما يحوي من السلف لونطق: من الشرف، والثاني قوله درة الإسلام لونطق: درة التوحيد، لتغاير بين اللفظين، فإنه قد نطق في هذا البيت: صارم الإسلام والتوحيد. وإن كان الإسلام داخلاً فيه، فالمغايرة بين الألفاظ وإن اتحدت معانيها أحسن وأبعد من كراهة التكرير ومن قصيدة مدحه بها أبوالحسن السكري، نطق بعد ذكر الغزل:

• وقد اعتبره جلال الدين السيوطي أحد مجددى القرن الرابع الهجري، فنطق في قصيدته (تحفة المهتدين بأخبار المجددين):

مكانته في فهم أصول الفقه

يلخص مكانة الباقلاني في الأصول قول الزركشي في مقدمة البحر المحيط في أصول الفقه، أثناء بيانه للمراحل التي مر منها فهم أصول الفقه: «واتى من بعده [أي الإمام الشافعي] فبينوا وأوضحوا وبسطوا وشرحوا، حتى اتى القاضيان: قاضي السنة أبوبكر بن الطيب وقاضي المعتزلة عبد الجبار، فوسعا العبارات، وفكا الإشارات، وبينا الإجمال، وحملا الإشكال، واقتفى الناس بآثارهم، وساروا على لاحب نارهم، فحرروا وقرروا، وصوروا.»

ونطق القاضي عياض في ترتيب المدارك: «نطق أبوعمران: رحلت إلى بغداد وكنت قد تفقهت بالمغرب، والأندلس عند أبي الحسن القابسي، وأبي محمد الأصيلي، وكانا عالمين بالأصول. فلما حضرت مجلس القاضي أبي بكر ورأيت كلامه في الأصول والفقه، والمؤالف والمخالف، حقرت نفسي وقلت: لا أفهم من الفهم شيئاً. ورجعت عنده كالمبتدئ.» وقد لقبه الإمام المازري في إيضاح المحصول من برهان الأصول أيضا بـ: «إمام الأصوليين.»

عقيدته

لما كان متحدثًا أشعريًا، فهمنا أنه كان يدافع عن عقيدة تنزيه الله عن المكان والحد أي الحجم والتشبيه، بدليل ما اتى في كتاب "الإنصاف" تحت عنوان "مسألة في إحالة اتصاف الباري بسمات النقص في حقه جلت صفاته"، فقد نطق ما نصه: "ويجب حتى يُفهم حتى جميع ما يشير على الحدوث أوعلى سمة النقص فالرب تعالى يتقدس عنه، فمن ذلك أنه تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات والتصاف بصفات المحدثات، وكذلك لا يوصف بالتحول والانتنطق، ولا القيام ولا القعود، لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء [سورة الشورى/ءاية:11]".

ويقول في شأن الاستواء: "ويقول استواؤه لا يشبه استواء الخلق، ولا نقول إذا العرش له قرار ولا مكان، لأن الله كان ولا مكان، فلما خلق المكان لم يتغير عما كان".   ونطق أيضا في الإنصاف ص64: "ويجب حتى يفهم حتى جميع ما يشير على الحدوث أوعلى سمة النقص فالرب تعالى يتقدس عنه، فمن ذلك: أنه تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات، والاتصاف بصفات  المحدثات، وكذلك لا يوصف بالتحول والانتنطق، ولا القيام ولا القعود، ولأن هذه الصفات تدل على الحدوث، والله تعالى يتقدس عن ذلك" اهـ.

ونطق الحافظ المؤرخ ابن عساكر كتاب تبيين كذب المفتري (ص/221) نقلاً عن أبي عبد الله الحسين بن محمد الدامغاني: (وكان أبوالحسن التميمي الحنبلي يقول لأصحابه: تمسكوا بهذا الرجل- أي بالباقلاني- فليس للسنة عنه غنى أبدا. نطق: وسمعت أبا الفضل التميمي الحنبلي وهوعبد الواحد بن أبي الحسن بن عبد العزيز بن الحارث يقول: اجتمع رأسي ورأس القاضي أبي بكر محمد بن الطيب- يعني الباقلاني- على مخدة واحدة سبع سنين. نطق أبوعبد الله: وحضر أبوالفضل التميمي يوم وفاته العزاء حافيا مع إخوته وأصحابه وأمر حتى ينادي بين يدي جنازته: "هذا ناصر السنة والدين، هذا إمام المسلمين، هذا الذي كان يذب عن الشريعة ألسنة المخالفين، هذا الذي صنف سبعين ألف ورقة ردا على الملحدين "، سقطد للعزاء مع أصحابه ثلاثة ايام فلم يبرح، وكان يزور تربته جميع يوم جمعة في الدار" اهـ.

ومن كلامه في تنزيه الله عن الجوارح قوله في الصحيفة سبع وثلاثين من "الإنصاف": "وأن يفهم مع كونه تعالى سميعًا بصيرًا، أنه مدرك لجميع المدركات" إلى حتى يقول: "وأنه مع ذلك ليس بذي جوارح وحواس توجد بها هذه الإدراكات، فتعالى الله عن الجوارح والآلات".

ومن كتاب "تمهيد الأوائل" يقول القاضي: "فإن نطق قائل: أين هوقيل له: الأين سؤال عن المكان، وليس هوممن يجوز حتى يحويه مكان ولا تحيط به أقطار".

نطق: ولوكان في جميع مكان، لكان في بطن الإنسان وفمه، والحشوش، والمواضع التي يرغب عن ذكرها، ولوجب حتى يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن، وينقص بنقصها إذا بطل منها ما كان، ولصح حتى يرغب إليه إلى نحوالأرض، وإلى خلفنا وإلى يميننا وإلى شمالنا، وقد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله.

ونطق القاضي أبوبكر الباقلاني في كتابه "الانصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به" ما نصه:" ويجب حتى يفهم: حتى جميع ما يشير على الحدوث أوعلى سمة النقص فالرب تعالى يتقدس عنه. فمن ذلك: أنه تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات، والاتصاف بصفات المحدثات، وكذلك لا يوصف بالتحول، والانتنطق، ولا القيام، ولا القعود؛ لقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شئٌ {وقوله: وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ{ولأن هذه الصفات تدل على الحدوث، والله تعالى يتقدس عن ذلك، فإن قيل أليس قد نطق: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى قلنا: بلى. قد نطق ذلك، ونحن نطلق ذلك وأمثاله على ما اتى في الكتاب والسنة، لكن ننفي عنه أمارة الحدوث، ونقول: استواؤه لا يشبه استواء الخلق، ولا نقول إذا العرش له قرار، ولا مكان، لأن الله تعالى كان ولا مكان، فلما خلق المكان لم يتغير عما كان".اهـ

أما كتاب (الإبانة عن إبطال ممضى أهل الكفر والضلالة) فهومن خط الباقلاني المشهورة، ولا يزل مفقوداً، وقد ذكره القاضي عياض في (ترتيب المدارك) 2/601، ابن تيميه في (درء تعارض العقل والنقل) 3/382، 3/206، وفي (نقض التأسيس) 2/34، وابن القيم في (اجتماع الجيوش الإسلامية) ص303، وابن كثير في (البداية والنهاية) 11/350 باسم شرح الإبانة، والمضىي في العلوص173، وأشار سزكين إلى هذا الكتاب ضمن مؤلفات الباقلاني 4/51.

مؤلفاته

عُرف القاضي أبي بكر الباقلاني باشتغاله بالدفاع عن العقيدة الإسلامية ضد الطاعنين، والمنحرفين من الحشوية والرافضة والمبتدعة، وأصحاب الملل والنحل المخالفة، وقد وقف حياته على أمرين ملكا عليه جميع اهتمامه وعنايته، وهما: التدريس والتأليف. وبالنسبة للتدريس فقد كان له تلاميذ كثيرون. وأما التأليف فقد كان له فيه نصيب موفور إلى جانب اهتمامه بالمناظرات، ومما يُروى أنه كان من عادته أنه إذا صلى العشاء وقضى ورده، وضع أدواته بين يديه، وخط خمساً وثلاثين ورقة من تصنيفه، فإذا صلى الفجر دفع إلى بعض أصحابه ما صنفه في ليلته، وأمره بقراءته عليه، وأملى عليه من الزيادات ما يلوح له فيه.

له مؤلفات كثيرة في علوم شتى، ولا سيما في رده على الجهمية، والخوارج، والكرامية، وغيرهم من أهل البدع والتحريف. وقد تسنى له حتى يؤلف ما يزيد على خمسين كتاباً، وقد ضاع أكثرها، ولم يصل لنا منها إلا عدد يسير، ومن أبرز مؤلفاته:

1. الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به.
2. تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل.
3. التقريب والإرشاد.
4. إعجاز القرآن.
5. كيفية الاستشهاد في الرد على أهل الجحد والعناد.
6. شرح اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع.
7. الفرق بين معجزات الأنبياء وكرامات الصالحين.
8. الإبانة عن إبطال ممضى أهل الكفر والضلالة.
9. كيفية الاستشهاد، في الرد على أهل الجحد والعناد.
10. الرد على المعتزلة فيما اشتبه عليهم من تأويل القرآن.
11. الرد على الرافضة والمعتزلة والخوارج والجهمية.
12. المقدمات في أصول الديانات.
13. الإنصاف في مسببات الخلاف.
14. هداية المسترشدين.
15. التعديل والتجوير.
16. الإمامة الكبيرة.
17. شرح أدب الجدل.
18. مسائل الأصول.
19. دقائق الكلام.
20. مناقب الأئمة.
21. الإيجاز.
22. الكسب.

وفاته

نطق صاحب الوفيات ما نصه: توفي القاضي أبوبكر المذكور ءاخر يوم السبت ودفن يوم الأحد لسبع بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة ببغداد، وصلى عليه ابنه الحسن ودفنه في داره بدرب المجوس، ثم نقل بعد ذلك فدفن في مقبرة باب حرب" ورثاه بعض شعراء عصره بقوله:

ونطق ابن عساكر ما نصه:"نُقل إلى باب حرب ودفن في تربة بقرب قبر الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل وأرضاه، ومنقوش على فهم عند رأس تربته ما هذه نسخته: هذا قبر القاضي الإمام السعيد فخر الأمة ولسان الملة وسيف السنة عماد الدين ناصر الإسلام أبي بكر محمد بن الطيب البصري قدس الله روحه وألحقه بنبيه محمد صلوات الله عليه وسلامه، ويزار ويُستسقى ويُتبرك به".

وفي الكتاب عينه يروي ابن عساكر حتى أبا الفضل التميمي جاء يوم وفاته العزاء مع إخوته واصحابه وأمر حتى ينادى بين يدي جنازته: هذا ناصر السنة والدين، هذا إمام المسلمين، هذا الذي كان يذب عن الشريعة ألسنة المخالفين، هذا الذي صنف سبعين ورقة ردًا على الملحدين. سقطد للعزاء مع أصحابه ثلاثة أيام فلم يبرح، وكان يزور تربته جميع يوم جمعة في الدار.

مصادر

وصلات خارجية

• القاضي أبوبكر الباقلاني
• أبوبكر ابن الطيب الباقلاني
• أبوبكر الباقلاني الفقيه البارع والقاضي العادل