أدب الرحلات

عودة للموسوعة

أدب الرحلات

يعهد أدب الرحلات باعتباره مجموعة الآثار الأدبية التي تتناول انطباعات المؤلف عن رحلاته في بلاد مختلفة يقصدها لغايات شتى, ويصف ما يراه من عادات البشر وسلوكهم وأخلاقهم. كما يعتني بذكر الأحوال الاجتماعية والاقتصادية. ويعتبر أدب الرحلات مصدراً مهماً للدراسات التاريخية المقارنة, وخصوصاً بالنسبة الى العصور الوسطى.

وفي وعينا الثقافي باتت صورة ابن بطوطة رمزاً مؤشراً لأدب الرحلات الذي أسس لانطلاقة الفرد العربي لارتياد أقطار جديدة واكتشاف أحوال الأمم والتعهد الى الآخر المختلف.

لعب ابن بطوطة (1304 - 1377), الرحالة العربي الكبير دوراً ملحوظاً في تاريخ البشرية. إذ تجاوزت المسافات التي بترها خلال رحلاته الخمس, والتي استغرقت ثلاثين عاماً, 120 ألف كيلومتر, أي ما يعادل ثلاث مرات محيط كوكب الأرض. ولكنه لم يكن نسيج وحده بين فهماء الأرض, فإلى جانب الرحالة الأبرز في التاريخ العربي الإسلامي, ثمة أسماء مبرزة لفهماء مثل الشريف الإدريسي (1100 - 1165) الذي أدخل الى أوروبا فهم الجغرافيا ووضع كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق", وابن ماجد (... - 1498) أو"أسد البحر", البحار لعربي الرائد الذي اعتبر أمهر الملاحين العرب قاطبة ممن ألفوا في علوم البحار. ومن عشرات الأسماء نذكر أبا حامد الغرناطي وابن حوقل وابن ماسويه والاصطخري والبيروني والمسعودي والمقدسي وياقوت الحموي وغيرهم.

يبرز ابن جبير كرحالة رائد تجاوز ابن بطوطة في ارتياد أقطار ووصف مجتمعات ووضع مؤلفات. فلثمانية قرون خلت, ركب هذا الرحالة الأندلسي البحر وطاف يجول أمصار العالم المعروف, يصور ملامح المدن, ويرسم أحوال البشر ويدون مشاهداته ويهجرها للسلف معطيات موثقة تنبئ بحراك المجتمع البشري في تنوعه وخصبه على حدٍ سواء.

ولد محمد بن أحمد بن جبير (540 - 614هـ/ 1145 - 1217م) في بلنسية (الأندلس), وتوفي في الاسكندرية. جغرافي وأديب ورحالة تفهم الفقه والحديث في شاطبة. زار في رحلاته كلاً من الاسكندرية والقاهرة ومكة المكرمة والمدينة المنورة والكوفة والموصل وحلب ودمشق وعكا وصقلية. رحلته الأولى قصد فيها الديار الحجازية. وينطق انه استهلك الخمرة صدفة فحج تكفيراً.

العالم الأندلسي المبحر لم يدع تفصيلاً بسيطاً يغيب عنه, ولم يغفل ما يستملح أويستغرب. فمنذ رحلته الأولى, وهي الأهم, حرص ابن جبير, الذي كان قد بلغ الأربعين من العمر, على تسجيل يومياته بدءاً من اليوم الأول لركوبه متن البحر, من مدينة سبتة, على ظهر سفينة رومية كانت في طريقها الى مدينة الاسكندرية. ويذكر بعض الدارسين أنه اهتم بتسجيل خط سير الرحلة وأحداثها البرية والبحرية ومشاهداته الجغرافية وما يصل اليه من معلومات تاريخية عن المدن والجزر والطرق البرية والبحرية والموانئ التي ينزل بها أويبحر منها مما وسم رحلته, التي استغرقت عامين, بالدقة والفهمية. وانسحب هذا الأمر وجهة وزمناً على رحلته الثانية (585هـ/ 1189م) حين بلغه نبأ فتح صلاح الدين لبيت المقدس. ثم قام برحلة ثالثة وأخيرة الى المشرق بدأها عام 601هـ/ 1204م. وقد أمضى فيها أكثر من عشرة أعوام صرفها في التدريس والأدب ومراجعة ما خطه من أخبار رحلته الأولى.

وصف في مجمل رحلاته جميع ما مر به من مدن وما شاهد من عجائب البلدان وغرائب المشاهد وبدائع المصانع والصنائع, والأحوال السياسية والاجتماعية والأخلاقية, وصور ما قابله من ألوان العدل والظلم. وقد عَنَى عناية خاصة بوصف النواحي الدينية والمساجد والشواهد وقبور الصحابة ومناسك الحج ومجالس الوعظ والمستشفيات ووصف كذلك الكنائس والمعابد والقلاع. انتقد نظام الجمارك في الاسكندرية. ولم يفته التشهير والسخرية من النزعة الاحتفالية عند فهماء المشرق والعجب الذين يظهرونه في أثوابهم وفي ألقاب العظمة الطنانة التي ينتحلونها (الحضارة العربية في الأندلس 2/1260). كما ذكر الحروب التي كانت دائرة بين المقاتلين في سبيل الله: الصليبيين والمسلمين في الشام. وقد حظي السلطان صلاح الدين الأيوبي بتبجيل عظيم من مدوناته باعتباره أنموذجاً للبطولة. واللافت ان مدوناته عن المدن حفلت بالأدعية الدينية مثل: يحرسها الله, وعمرها الله, وحماها الله, أو: باعدها الله إذا كانت من المدن التي خرجت من يد المسلمين الى يد الفرنجة, ومنها ما يدعوعليها: يدمرها الله إذا كانت تحت سلطان الفرنجة.

اهتم المستشرقون في الغرب بترجمة وطباعة "رحلة ابن جبير" لأنها شكلت مرجعاً موثوقاً لا غنى عنه للمؤرخين الجغرافيين ولكل من يريد الاطلاع على أحوال الحياة الاجتماعية في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي. طبع الكتاب لأول مرة في مدينة ليدن سنة 1852م مع مقدمة للمستشرق رايت الأستاذ بجامعة كمبردج, وأعيد طبعه مرة أخرى بليدن في 1907م وصدّر بترجمة لحياة ابن جبير, وراجع هذه الطبعة المستشرق دي خويه وقام بترجمتها الى الانكليزية, كما تُرجم القسم المختص من هذه الرحلة عن صقلية الى الفرنسية وطبع سنة 1846م. كما صدرت طبعة محققة عن دار التراث عام 1968م, وأخرى مصورة من دون تاريخ عن دار صادر في بيروت.

يعتبر كتاب رحلة ابن جبير "تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار" من أبرز خط الرحلات الإسلامية. ويلي في الأهمية كتاب رحلة ابن بطوطة الذي كُتبَ بعده واستند اليه في بعض المعلومات في الجغرافيا البشرية. ويعتبر بعض الدارسين ان لا مثيل في أدب الرحلات الإسلامية لأسلوب ابن جبير في رحلته. إذ أنه اعتمد أسلوباً مرناً أثبت فيه تمكنه من آليات الرصد والتوصيف. فقد أوجز في وصف المدن والآثار, واكتفى بإعطاء اللمحات العامة عن الأنطقيم, في حين أنه أسهب في وصف السكان في البلاد التي أقام بها. ليس مستغرباً حتى تبادر منظمة اليونيسكوالى تكريس سنة 2004 سنة دولية للاحتفاء بالرحالة العربي ابن بطولة. فهذه البادرة هي اعتراف بأهمية أدب الرحلات في الثقافة العربية. وهذا التكريم يضم في الحقيقة جميع فهماء الأرض المسلمين, كما اصطلح على تسميتهم, الذين لم يغيبوا عن سجل الأحداث والوقائع التاريخية التي خلدتهم عبر رحلاتهم الاستكشافية ومؤلفاتهم الجغرافية.


مركزية المسقط

احتل الرحالة العرب, في مجال التعهد إلى العالم, مسقطاً مركزياً داخل أروقة الثقافة العربية, وحفلت مدوناتهم بالصور الحية عن الشعوب التي زاروها في أوروبا, وشرق آسيا, وفي عمق أفريقيا السوداء, عكسوا فيها طريقة نظر الثقافة العربية تجاه الآخر, ودرجة اعترافها به كشريك في عمارة العالم, وفي عروج طريق (التقوى), حيث مزجوا بين ما شاهدوه واختبروه في ترحالهم وبين معاييرهم الثقافية في الحكم على الآخر. لقد حفزهم الإسلام على الترحال, لعمارة الدنيا (جعل لكم الأرض ذلولاً), وللتأمل في خلق الله, وفي آثار الأمم الباقية, (قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف من الممكن أن عاقبة المكذبين), وحفزتهم أيضاً الرغبة في الفهم, والثراء التجاري, إلا حتى العامل الحاسم, هوتحول العرب المسلمين الى حضارة كونية في قلب العالم القديم, تمسك بمعظم الخطوط التجارية الدولية, ومداخل بحاره, والى دولة شاسعة تمتد من قلب أوروبا الى قلب الهند وبحارها, فغدت فهم الآخر المجاور والبعيد من ضرورات السيادة, قبل حتى تغدوشغفاً معهدياً, وبحثاً عن التجارة, فوقفت الدولة وراء الكثير من الرحلات فضلاً عن السفارات وهيأت لها الرباطات ذات الوظائف العسكرية لخدمة الرحالة, والمسافرين. فتحولت رحلات (عبادة بن الصامت) في عهد أبوبكر, وعمارة بن حمزة, في عهد المنصور, ونصر بن الأزهر في عهد المتوكل الى محادثة كثيف بين حضارتين, عندما امتد لقاء هؤلاء (بملك الروم) وحوارهم معه.

وانضم مع توطد البحث الفهمي, رجال جدد جمعوا بين فهمهم الجغرافي وبين كونهم رحالة جوابي آفاق, استخدموا مشاهداتهم في تصانيفهم الفهمية الجغرافية, مثل المسعودي, والمقدسي, واليعقوبي, وابن حوقل, والإدريسي, والغرناطي, وابن سعيد المغربي.

دخل الرحالة العرب مغامرة اكتشاف العالم القديم, وتأثرت مقاصدهم, وموضوعاتهم الأثيرة, بطبيعة علاقاتهم بالحضارات التي زاروها, لهذا طغى على مدوناتهم عن أوروبا مزيج من العداء والتنافس, وأحياناً الإعجاب والاهتمام بالجوانب العسكرية والسياسية والدينية, لا سيما بيزنطة المنافس الخطير لهم, بعدها تأتي دراستهم لحياة الأوروبيين الثقافية, ولسلوكهم, ولعاداتهم, ولتجاراتهم, وتنقلب أولويات أبحاثهم عند دراستهم حضارات الشرق الأقصى, الهند والصين, جزر المحيط الهندي, والشعوب السود الأفريقية حيث الغلبة هنا للعلاقات السلمية, فأينما مضى الرحالة في مدن أفريقيا جنوب الصحراء, وفي مدن الهند والصين, عثر أمامه جالية مسلمة, تحتضنه وتأويه.

قدّم لنا عن أوروبا, الأسيران (مسلم الجرمي), وبعده بخمسين سنة يحيى بن هارون في القرن الثالث الهجري, صورة أخاذة عن بيزنطة, فوصفا أبهة الملك وعظمته, وتراتبية وظائفه, وبنية الحاشية والجيش والتنظيم الإداري الامبراطوري, إضافة الى اهتمامهما بالكنيسة وتراتبية سلكها, ووصفا العاصمة القسطنطينية: أبنيتها, حصونها, مرفأها, تماثيلها, وثروتها, وطبقا الطريقة ذاتها على وصفهما لروما وأهلها. وتأتي رحلة ابن فضلان في القرن نفسه, ليتقدم بدراسة اثنوغرافية عن حياة بلغار الفولغا, من جميع جوانبها, وشعوب الروسية والاسكندنافية قبل حتى تدخلها المسيحية وعن شعب الخزر عندما كان على اليهودية, مقدمة معلومات نادرة عنهم في فترة غامضة من تاريخهم, ديانتهم وطقوسهم وأساليب حكمهم, الجيش والحرب, مالية الدولة, عادات الزواج والطعام وزراعتهم وتجارتهم وطرائق الدفن, ومحاكماتهم ومدونتهم القانونية. كما هجر أبودلف أثراً فريداً عن رحلته الى أرمينيا, والشيء نفسه عمله الغرناطي في القرن الثاني عشر عند وصفه لوقائع رحلته الى بلاد المجر/ الهنغار.

وكانت أبرز الرحلات الأندلسية, تلك التي قام بها الغزال يحيى بن الحكم (ت 864) الى بلاد النورمانديين في جتلاند, عندما كانوا على الوثنية, وزيارة يعقوب الطرطوشي الى المانيا ولقاءته الامبراطور أوتوالأكبر رسولاً لأمير قرطبة, ووصفه لمبتر من الحياة الثقافية لبوهيميا والمانيا, والفرنجة (فرنسا), وانطباعات ابن جبير عن التعايش المسيحي والإسلامي في صقلية تحت حكم النورمانديين, ومدونة ابن بطوطة عن زيارته للقسطنطينية, والبلقان في القرن الرابع عشر. ولم تكن مغامرات سندباد (في ألف ليلة وليلة) سوى حكاية خيالية للرحلات الواقعية الكثيفة التي جال بها الرحالة العرب في الصين والهند, وجزر المحيط الهندي, حيث خلت الصورة هنا من احتدام المجابهة, لمصلحة الشغف المعهدي والتجاري والمغامر. وتأتي في مقدمة تلك الرحلات رحلة سليمان التاجر في القرن التاسع الى الهند والصين وبحارها, والتي دوّنها السيرافي, ورحلة بزرك بن شهريار في جزر المحيط الهادي, ثم رحلة المسعودي الى بلاد الهند, وأبودلف الى الصين, وكذلك رحلات ابن حوقل والاصطخري والمقدسي واليعقوبي, وأيضاً البيروني الذي دوّن خبرته المعهدية في موسوعته عن أديان الهند ومذاهبها. وأيضاً رحلة أبوعبدالله اسحاق الى جزيرة خمير (كمبوديا), وتبلغ الرحلات الآسيوية ذروتها مع ابن بطوطة, أعظم الرحالة في جميع العصور, تاركاً وراءه تقريراً اثنوغرافياً عن الهند وسيلان وجزر الماليبار, وأندونيسيا والصين, هذا إضافة الى آثار الرحالة والمعجمي ياقوت الحموي.

وتعرّف رحالتنا أيضاً إلى الشعوب السود, فدوّن لنا السيرافي, وبزرك بن شهريار, مشاهداتهما عن شرق أفريقيا حول ساحل زنجبار وموزمبيق, وحفظ المقريزي وقائع رحلة الأسواني (ت 963) الى بلاد النوبة واليمن والحبشة. كما حفظ البكري وقائع رحلة الوراق (ت 973م) الى غانا وبلاد السنغال, والصحراء الكبرى. وهجر اليعقوبي في كتابيه: التاريخي والبلداني معلومات جغرافية واثنوغرافية عن شعوب الصحراء الكبرى وجنوبها, وشذرات عن مالي والشعوب المجاورة لها. ووصف ابن حوقل بطريقة نفاذة حال قبائل البرزخ الصحراوي, ومدنه الصحراوية التجارية سجلماسه وأدغشت, وأدوارهما التجارية مع الشعوب السود, وتجارة المضى مع غانا, إضافة الى ما قدمه عن بلاد الحبشة واليمن وإريتريا والخطوط التجارية المارة بها. فمع ابن حوقل خرجت بلاد السودان من الظل. وتحدث الاصطخري عن منابع النيل, رافضاً الخرافات القائلة إنها تنبع من الجنة. وتصور الإدريسي, متأثراً ببطليموس, حتى الحدود الجنوبية للقارة السوداء تمتد شرقاً لتحاذي سواحل الهند والصين. ولعل المسعودي أبرز الرحالة الجغرافيين الذين دونوا مشاهداتهم, وما كسبه من خبرة ثقافية, عن ساحل أفريقيا الشرقية, ومدنها الساحلية.

وحفظ لنا ابن سعيد المغربي, وقائع رحلة ابن فاطمة, في القرن الحادي عشر الى الساحل الغربي لأفريقيا حتى مصب نهر السنغال, وفي الشرق حتى سفالة الزنج, فعهد جزيرة مدغشقر (جزيرة القمر) وأكمل ابن سعيد الصورة فتحدث عن ممالك السودان الغربية والشرقية, وقد اشهجر مع البيروني, ومن قبل المسعودي في الافتراض بأن المحيطين الأطلسي والهندي متصلان في جنوب القارة السوداء, سابقين بذلك بارتلوميودياز بقرون.

ثم تأتي سيرة الرحالة العظام في القرنين الرابع عشر والخامس عشر, وأولهما ابن بطوطة الذي زار سلطنة مالي عبر الطريق التجاري الصحراوي, فوصف حياة الشعوب السود, في غرب أفريقيا. كما زار شرق أفريقيا وهجر وصفاً أخاذاً لحياة الناس في مقديشوومدن ساحلية أخرى. وثانيهما حسن الوزان "ليون الأفريقي", الذي دوّن مشاهداته في "وصف أفريقيا" الذي غدا حتى نهاية القرن التاسع عشر أفضل المصادر عن أفريقيا, في أوروبا.

كثافة الرحلات العربية في جميع اتجاه, دفعت كراتشكوفسكي الى ملاحظة: "الاتساع الضخم في معلومات العرب عن العالم بالمقارنة مع ما عهدته أوروبا, فقد عهدوا أوروبا بأجمعها باستثناء أقصى الشمال, وعهدوا النصف الجنوبي من آسيا, كما عهدوا أفريقيا الى خط العرض عشرة, وساحل أفريقيا الشرقي", كانت الرحلة هي الحافز الرئيسي في هذه الفهم, وقوتها الدافعة, التي اخترقت الصورة النمطية الضيقة عن العالم التي اقتبسها الجغرافيون الفلكيون العرب وعلى رأسهم الخوارزمي وسهراب ويعقوب الكندي والبتاني, عن نظرية بطليموس في تقسيمها للعالم المعمور الى أنطقيم سبعة حول خط الاستواء وعن نظرية الكيوف الطبيعية لجالينوس, التي أرجعت خصائص الأنطقيم الى تأثير البروج والأفلاك, وتحولت تلك الصور الى سلطة ثقافية راسخة, والى عائق معهدي أمام تقدم الخبرة العربية, الى حتى اخترقتها الرحلة.

فقد لعبت الرحلة, والرحالة الجغرافيون, وأصحاب التأليف "البلداني" و"المسالك والممالك" دورهم الكبير في النيل من هذه السلطة الثقافية لبطليموس وجالينوس, بالرجوع الى "الخبرة" والمشاهدة, حيث قادت مؤلفات "البلدانيين" و"فضائل المدن" الباحثة عن خصائص المدن والأنطقيم: فضائلها ومثاليتها, وإدراك التنوع داخل وحدة "الإسلام" الى تطبيق هذه المنهجية ذاتها على دراسة الرحالة, والرحالة الجغرافيين لخصائص الأمم والحضارات الأخرى المحيطة بهم, أوالأبعدين عنهم. بإدراك خصائصها: فضائلها ومثالبها داخل دائرة الوحدة البشرية. مطبقين القاعدة المضى التي توصل اليها المفكرون العرب, والتي عبر عنها التوحيدي بقوله: "ان الخيرات والفضائل, والشرور والنقائض مفاضلة على جميع الخلق, مفضوضة بين كلهم". وطبق الرحالة هذه المنهجية في سردهم لخبراتهم, وبنقلهم لمشاهداتهم, فأبرزوا صورة أثنوغرافية للشعوب التي عهدوها, وتعايشوا مع أهلها, فقاربت نصوصهم في بعض جوانبها من انشغالات النص الانثروبرلوجي, بما احتوته من كشف لطباع تلك الشعوب, في أفريقيا, وآسيا وأوروبا, في تنوعها الثقافي, وذلك في دراستهم لطرائق معيشتهم, وعاداتهم في الزواج والأعراس, والمطبخ وتنوع الطعام والشراب والتربية وبناء المنزل وترتيب المدن وطقوس الدفن, وأساليب حصولهم على معاشهم في الزراعة والتجارة والصيد, وفي اعتقادهم الديني والطقوس المصاحبة له, وأشكال بناء السلطة والملك, ومدونتهم القانونية, ولم ينسوا المدهش والعجيب على صعيد السلوك.

هذا ما عمله ابن فضلان في مدونته عن شعوب بلغار الفولغا, والروس والخزر, والفايكنغ, ونجده أيضاً في وصف الطرطوشي, كما نقله البكري, عن مدن أوروبا الألمانية والبولونية والافرنجية, ونصادفه مع ابن بطوطة في تدوينه لحياة الشعوب السود, وأوروبا الشرقــية, ولـــشعوب الشرق الأقصى, ومع سليمان التاجر, والمسعودي وابن حوقل, وغيرهم كثير.

يكفي حتى نذكر الرحالة ياقوت الحموي, في معجمه, الذي يستحق الكثير من رسائل الدكتوراه, لكشف جوانب رؤيته للعالم, ولكيفية تناوله للثقافات المتنوعة, فقد حرص في تطرقه لمئات المدن, في العالم القديم, على حتى يعهدنا إلى الجوانب المتنوعة لحياتها الثقافية والبيئية.


المستشرقون

عالج المستشرقون الأدب الجغرافي العربي بمنهاجٍ تاريخاني, يهتم للمصادر والمعلومات ولتناسل الخرائط وترتيبات الفلك, وصورة الأرض وأقسامها لدى اليونان والفرس والهنود, وماذا أضاف العرب, وكيف طوَّروا. وقد برز في هذا المجال فيستنفلد ودي غويه وكراتشكوفسكي. فيستنفلد نشر "معجم البلدان" لياقوت الحموي, ودي غويه نشر "المخطة الجغرافية العربية" التي ضمت عشرة نصوصٍ جغرافيةٍ شديدة الأهمية, وتنتمي جميعاً الى القرنين الرابع والخامس للهجرة/ العاشر والحادي عشر للميلاد. ثم اتى كراتشكوفسكي ليستند الى نشرات السابقين للنصوص وملاحظاتهم, فيخط كتابه المهم بعنوان: "تاريخ الأدب الجغرافي العربي".

وعندما تقدمت الدراسات والمناهج بعد الحرب العالمية الثانية, بدأ الاهتمام بقراءةٍ أُخرى للجغرافيين العرب والمسلمين. كما تصاعد الاهتمام برحلات الرحّالة في البر والبحر, والنصوص التي سجلوها عن أنفسهم, ودلالات تلك النصوص على رؤى الذات والآخَر, وكيف فهم الرحّالة العرب, والبحّارة العرب مسقط دار الإسلام في "العالم المعمور" ثم كيف من الممكن أن فهموا العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية بين "الممالك" الإسلامية, والممالك الأخرى الدانية والنائية.

الانطباع الذي ساد لدى الدارسين حتى الرحالة الأوائل مثل أبي دلف وأبي مِثمنَ وابن فضلان كانوا مبعوثين رسميين, باعتبار ان الرحلة البعيدة كانت تتطلب نفقاتٍ لا يستطيعها المسافر العادي, مهما بلغ حبه للترحل والاطلاع على أحوال الناس والحيوان والنبات والطبيعة. لكن اليعقوبي والمسعودي يحدثاننا عن رحلاتٍ لهما أفادا منها في كتابة خطهما من دون حتى تكون لهما علاقة أواهتمام بالتواصل مع الدوائر الرسمية. ثم ان التجارة البعيدة المدى تواصلت منذ القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي, وقصص السندباد البحري لا بد من أنها نشأت إبان ازدهار ميناء البصرة, قبل دمار المدينة في ثورة الزنج بعد أواسط القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي. وهذا كله مع التجاهل والتجاوز للرحلة في طلب الفهم, والتي بدأت مطلع القرن الثامن الميلادي" وان لم تكن لها الأهداف والشروط التي لرحلات الفضول والاستشكاف والتواصل مع الآخر المختلف ديناً وخَلْقاً وخُلُقاً وتبعيةً سياسية.

وإذا كانت الرحلات تجارب ومغامرات وروىً للآخر" فهي أيضاً وصف توثيقي, وأنثروبولوجيا, وإثنولوجيا وسعة أفق, وإيمان بوحدة بني البشر. وقد اهتم بنصوص الرحلات في التراث العربي أخيراً نُقاد الأدب, والمهتمون بالعلاقات بين الثقافات والحضارات, والمتتبعون للعجيب والغريب وابداعياتهما.

ويجرى منذ العام 2000 نشر خط الرحلات العربية قديماً وحديثاً, بحلةٍ قشيبة, في مشروعٍ لدار السويدي للنشر والتوزيع في أبوظبي, والمؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت. وقد نُشر من تلك الرسائل والخط زُهاء العشرين, في أقلَّ من خمس سنواتٍ, وبتحقيقاتٍ ومقدماتٍ لا بأس بها.


المصادر

  1. ^ مسقط منتديات مرمريتا marmarita.com الإلكتروني، [www.marmarita.com/vb/showthread.php?t=4479 أدب الرحلة والرحالة في التراث العربي] الصفحة شوهدت في 12 مايو2007. خطأ استشهاد: وسم <ref> غير صالح؛ الاسم "marmarita" معهد أكثر من مرة بمحتويات مختلفة. خطأ استشهاد: وسم <ref> غير صالح؛ الاسم "marmarita" معهد أكثر من مرة بمحتويات مختلفة.
تاريخ النشر: 2020-06-04 04:13:36
التصنيفات: صفحات بأخطاء في المراجع, أدب الرحلات

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

طوابير السائحين لزيارة معابد أبوسمبل وسط طقس مشمس.. صور

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2021-12-30 12:40:44
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 49%

سكيكدة: هــــزّة أرضيـــــة تتسبّـــب في تضـرّر سكنـــــات

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-30 12:39:29
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 66%

أنا يقظ تطالب الحكومة بتفعيل خطّة عمل واضحة لمرافقة مسار اللامركزية

المصدر: راديو موزاييك - تونس التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2021-12-30 12:38:29
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 65%

«مصر للطيران» تطرح 25 % تخفيضًا على رحلاتها لأمريكا وكندا

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-30 12:40:56
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 60%

اعرف مواعيد غلق المحال فى ليلة رأس السنة.. إنفوجراف

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2021-12-30 12:41:16
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 40%

عرفت استكمالا بتجديد المؤسسات: جزائر2021 تطوي صفحة العهد القديم

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-30 12:40:49
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 61%

الأعلى للمهندسين: النقابة شهدت خلال المجلس الحالي نجاحات غير مسبوقة

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-30 12:39:53
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 59%

الصحة تكشف عن 3 أماكن للتسجيل للقاح كورونا خلال دقائق.. اعرف التفاصيل

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2021-12-30 12:40:53
مستوى الصحة: 44% الأهمية: 45%

وزارة العدل: 200 ناجح في المسابقة الوطنية لتوظيف الطلبة القضاة

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-30 12:41:10
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 62%

شيخ الأزهر يهنئ المسيحيين بأعياد الميلاد

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-30 12:39:45
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 55%

6 توجيهات هامة من «التنمية المحلية» للتعامل مع الطقس السيئ

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-30 12:41:19
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 51%

بسبب قانون المالية.. ''مواطنون ضدّ الانقلاب'' يقاضون نجلاء بودن

المصدر: راديو موزاييك - تونس التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2021-12-30 12:38:59
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 53%

شارع بورقيبة يستقبل العام الجديد بالموسيقى..وهؤلاء النجوم في الموعد

المصدر: راديو موزاييك - تونس التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2021-12-30 12:39:12
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 63%

محافظة القاهرة ترفع مخلفات هدم بمدينة نصر

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-30 12:40:01
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 63%

الرعاية الصحية: 2.150 مليون خدمة طبية تم تقديمها لأهالي الأقصر في 2021

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-30 12:40:22
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 55%

«طقس اليوم» بارد نهارا قارس البرد ليلا ورياح مثيرة للرمال والأتربة

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-30 12:40:46
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 53%

اليوم.. أمطار ورعد وبرق على 17 محافظة

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-30 12:40:35
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 67%

محافظ القاهرة يشهد نهائي مسابقة أوائل الطلاب

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-30 12:39:35
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 60%

بوعسكر: لا تطور في حجوزات النزل وجواز التلقيح زاد الوضع تأزُّما

المصدر: راديو موزاييك - تونس التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2021-12-30 12:38:32
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 67%

بن مبارك: يوم 14 جانفي ستكون مظاهرة حاشدة لإسقاط سلطة الانقلاب

المصدر: راديو موزاييك - تونس التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2021-12-30 12:38:55
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 68%

تحميل تطبيق المنصة العربية