الفلسفة في مصر القديمة

الفلسفة في عصر مصر القديمة لها قوانين وتعاليم مختلفة لنا بعض الشئ عن ما نعهده في العصر الحالي ولكنها تدور بالتقريب حول تعاليم بتاح حوتب ، وتنقلنا لتحذيرات إبوور ثم تدعونا لننصت لمحاورات كاره المجتمع ، ثم أسفار الحكمة المصرية.

ولقد إعتاد مؤرخوالفلسفة حتى يبدأوا قصتهم باليونان ، وأن الهنود الذين يعتقدون أنهم مخترعوالفلسفة، والصينيين الذين يعتقدون أنهم بلغوا بها حد الكما ، وأن هؤلاء وأولئك يسخرون من ضيق عقولنا وتعصبنا. ولعلنا كلنا مخطئون في ظننا، لأننا نجد بين أقدم البتر المتناثرة التي خلفها لنا المصريون الأقدمون كتابات تمت بصلة بعيدة إلى الفلسفة الأخلاقية. ولقد كانت حكمة المصريين مضرب المثل عند اليونان الذين كانوا يعتقدون أنهم أطفال بالقياس إلى هذا الشعب القديم. وأقدم ما لدينا من المؤلفات الفلسفية "تعاليم بتاح حوتب" وتاريخه يرجع على ما يظهر لنا إلى عام 2800 ق.م أي إلى ما قبل كنفوشيوس وسقراط وبوذا بألفي عام وثلاثمائة. وكان بتاح حوتب هذا حاكماً على منف وكبير وزراء الملك في أيام الأسرة الخامسة. فلما اعتزل منصبه قرر حتى يهجر لولده كتاباً يحتوي على الحكمة الخالدة. ثم نقل بعض الفهماء المصريين قبل عهد الأسرة الثامنة عشرة هذا الكتاب بإعتباره من أمهات خط القدماء. ويقول الوزير في كتابه : "أي مولاي الأمير ، إذا الحياة تقترب من آخرها، ولقد حل بي الضعف وعدت إلى فترة الطفولة الثانية؛ والمسن يلاقي البؤس في جميع يوم من أيامه. فعيناه صغيرتان ، وأذناه لا تستمعان؛ ونشاطه يقل ، وقلبه لا يعهد الراحة... فمر خادمك إذن حتى يخلع سلطاني الواسع على ولدي. وإسمح لي حتى أحدثه بألفاظ الذين يستمعون إلى رجال الأيام الغابرة ، أولئك الذين ستمعوا إلى الآلهة في يوم من الأيام. أتوسل إليك حتى تسمح بأن يعمل هذا". ويتفضل جلالة الملك فيأذن له ولكنه مع ذلك ينصحه بأن "يتحدث دون حتى يبعث الملل" في نفس سامعيه، وهي نصيحة ليست إلى الآن عديمة النفع للفلاسفة. فلما أذن له أخذ بتاح حوتب ينصح ولده بقوله:

"لا تَزهُ بنفسك لأنك عالم ، بل تحدث إلى الجاهل كما تتحدث إلى الحكيم ؛ لأن الحذق لا حد ل ه، كما حتى الصانع لا يبلغ حد الكمال في حذق صناعته؛ والكلام الجميل أندر من الزمرد الذي تعثر عليه بين الحصى ... فعش إذا في بيت ألطف يقبل عليك الناس طائعين يقدمون إليك الهدايا... وإحذر حتى تخلق لنفسك الأعداء بأقوالك ... ولا تتخطى الحق ، ولا تكرر ما نطقه إنسان غيرك ، أميراً كان أوفلاحاً ليفتح به قلوب الناس ، لأن ذلك بغيض إلى النفس... " وإذا أردت حتى تكون حكيما فليولد لك ولد لتسر بذلك الآلهة... فإذا سار في سبيله مقتديا بك ، وإذا نظم أمورك على أحسن وج ه، فقدم له جميع الخير... أما إذا كان عديم المبالاة، وخالف قواعد السلوك الطيب ، وكان عنيفاً ؛ وإذا كان جميع ما يخرج من فيه هوفحش القول، فإضربه، حتىقد يكون حديثه صالحاً ... وفضيلة الإبن من أثمن الأمور للأب ، وحسن الأخلاق شيء لا ينسى قط... " ، وإذا كنت ذا سلطان فاسع لأن تنال الشرف عن طريق الفهم ورقة الطباع ... وإحذر حتى تقاطع الناس ، وأن تجيب عن الأقوال بحرارة، أبعد ذلك عنك ، وسيطر على نفسك".

ويختم بتاح حوتب نصائحه بهذه العبارة المليئة بالفخر والإعجاب: "لن يمحى من هذه البلاد إلى أبد الدهر لفظ من الألفاظ المدونة هنا، ولكنها ستتخذ نماذج وسيتحدث عنها الأمراء أحسن الحديث... إذا حدثاتي ستفهم الرجل كيف من الممكن أن يتحدث ؛... أجل إنه سيصبح إنساناً حاذقاً في الطاعة بارعاً في الحديث ؛ سيصيبه الحظ الحسن؛... وسيكون ظريفاً إلى آخر أيام حياته ، وسيكون راضياً على الدوام". ولكن هذه النغمة السارة المستبشرة لا تدوم في التفكير المصري ؛ بل تسرع إليها الشيخوخة فتداهمها وتحيلها إلى نكد وكآبة. ويأتي حكيم أخر هوإبوور فيندب ما في البلاد من خلل وإضطراب وعنف وقحط وانحلال يكتنف أخريات أيام الدولة القديمة، ويتحدث عن المتشككين الذين "يقربون القرابين إذا عهدوا مكان الإله"، ويعلق على ازدياد حوادث الانتحار ويقول كما نطق شوبنهور من بعده : "ألا ليت الناس يقضى عليهم حتى لاقد يكون في الأرض حمل ولا ولادة ؛ ألا ليت الأرض ينبتر منها الضجيج ويبطل منها النزاع"- وواضح من هذه الأقوال حتى إبوور كان قد شاخ ومل الحياة، وهويحلم في آخر أيامه بملك- فيلسوف ينجي الناس من الفوضى والظلم:

" يُبَرَّد لهيب (الحريق الإجتماعي؟) وينطق إنه راعى الناس جميعاً. قلبه خال من الشر فإذا كانت بترانه قليلة العدد قضى يومه في جمعها ، لأن قلوبها محمومة. ألا ليته قد تبين أخلاقهم منذ الجيل الأول. إذن لقضى على الشر، ولمد ذراعه لمقاومته ولسحق بذرته وما يخرج منها... أين هواليوم،يا ترى؟ هل هونائم بالصدفة،يا ترى؟ إنظروا إذا قوته لا ترى". هذه هي أصوات الأنبياء في العهد القديم ؛ وقد صيغت سطورها صياغة الأمثال والحكم ككتابات أنبياء اليهود ؛ ويقول برستد وقوله الحق "إن هذه التحذيرات هي أقدم ما ظهر في العالم من المثل العليا الاجتماعية التي يطلق عليها عند العبرانيين أمم المسيحية" . وثمة ملف من أيام الدولة الوسطى يندد بما في ذلك العهد من فساد بعبارات يكاد الإنسان يسمعها في جميع جيل:

لمن أتحدث اليوم،يا ترى؟

الأخوة أشرار

وأصدقاء اليوم ليسوا أصدقاء حب.

لمن أتحدث اليوم،يا ترى؟

القلوب قلوب اللصوص

وكل رجل يغتصب ما عند جاره.

لمن أتحدث اليوم،يا ترى؟

إن الرجل اللطيف يهلك

والصفيق الوجه يسير في جميع مكان...

لمن أتحدث اليوم،يا ترى؟

إذا ما أثار الإنسان الغضب بسوء مسلكه

فإنه يدفع جميع الناس إلى الضحك، وإن كان إثمه خبيثاً...

ثم ينطق هذا الشاعر المصري الشبيه بالشاعر سونبرن الإنجليزي في مدح الموت فيقول :

الموت أمامي اليوم

كشفاء الرجل المريض،

كالخروج إلى حديقة بعد السقم.

الموت أمامي اليوم

كشذا المر؛

أوكالجلوس تحت الشراع في يوم عاصف.

الموت أمامي اليوم

كرائحة أزهار الأزورد

كالجلوس على شواطئ السُّكْر.

الموت أمامي اليوم

كتدفق السيل الجارف،

كرجوع الرجل من سفينة حربية إلى بيته...

الموت أمامي اليوم

كاشتياق الرجل إلى رؤية موطنه

بعد حتى قضى السنين في الأسر.

وأشد من هذا كآبة قصيدة منقوشة على لوحة محفوظة في متحف ليدن يرجع تاريخها إلى 2200 ق.م، وهي تضرب على النغمة المألوفة نغمة تمتع بيومك :

لقد سمعت ألفاظ أمحوتب وهارديف

وهي ألفاظ ذائعة الصيت نطقا بها.

أنظر إلى مكانيهما

إن جدرانهما قد جردت

ومواضعهما قد اندثرت

كأن لم تغن بالأمس.

إن أحداً لا يأتي من هناك

ليحدثنا عما حل بهما...

حتى يرضي قلوبنا،

إلى حتى يحين وقت ارتحالنا

إلى المكان الذي مضىا إليه .

شجع قلبك على نسيانه

واجعل من مسببات سرورك حتى تسير وراء رغباتك

ما دمت حيا ترزق.

وضع المر على رأسك،

والبس على جسمك نسج التيل اللطيف،

وانعم بوسائل الترف العجيبة

أشياء الآلهة الحقة.

وزد في مباهجك أكثر من ذي قبل،

ولا تهجر قلبك يذبل،

وسر وراء رغباتك وما فيه الخير لك ،

وهيئ أمورك على ظهر الأرض

حسبما يأمر به قلبك أنت ،

حتى يأتيك يوم النحيب.

حين لا يسمع ذووالقلوب الساكنة (الموتى) نحيبهم ،

وحين لا يصغي من في القبور إلى حزنهم

واحتفل بيوم السرور

ولا تمل منه.

أنظر؛ ليس ثمة من يأخذ أمتعته معه.

أجل ، ولا من يعود ممن مضىوا إلى هناك.

ولعل هذا التشاؤم وهذا التشكك كانا نتيجة لتحطيم روح أمة أخضعها الغزاة الهكسوس وأذلوها، وشأنهما في مصر كشأن الرواقية والأبيقورية عند اليونان المهزومين المستبعدين. وهذه الكتابات تمثل فيما تمثل إحدى الفترات التي يغلب فيها التفكير زمناً ما على العقيدة ، والتي لا يعهد فيها الناس كيف من الممكن أن يعيشون ولم يعيشون ، وهي فترات تتوسط عندنا اليوم عهدين تسود كليهما مبادئ خليقة غير التي تسود العهد الآخر. وتلك الفترات الوسطى لا تدوم ، لأن الأمل سرعان ما يتغلب على التفكير ، فتنحط القوة المفكرة إلى مكانها الوضيع المألوف ، ويرتفع منار الدين فيوحي إلى الناس بذلك الباعث الخيالي الذي لا غنى لهم عنه في حياتهم وأعمالهم. وليس لنا حتى نظن حتى هذه القصائد تعبر عن آراء طائفة كبيرة من المصريين بل ينبغي حتى نعتقد أنه كان من وراء الأقلية الصغيرة النشيطة الحية التي كانت تفكر في مسائل الموت والحياة بعبارة دنيوية طبيعية، نقول أنه من وراء هذه الأقلية ملايين من السذج ، رجالا كانوا أونساءً، ظلوا أوفياء مخلصين لآلهتهم لا يشكون قط في حتى الحق يفترض أن يسود ، وأن ما يقاسونه على الأرض من الآم وأحزان يفترض أن يعوضون عنه بسخاء يوم يستقرون في دار النعيم والسلام.