إلقاء الضوء على حقيقة جمال الدين الأفغاني
ما هي حقيقة دعوته وعـقـيـدتــه
من هوالأفغاني،يا ترى؟ وما هي حقيقة دعوته؟
أولاً- الاختلاف الكبير في اسمه ونسبه:
اختلف في نسبه اختلافاً كبيراً؛ لأنه كان يَظْهَر في جميع أرض باسم جديد، وينتحل شخصيات مختلفة، ويتخذ أسماء شتى، ومنها:
1- جمال الدين الاستانبولي.
2- جمال الدين الأسدأباذي.
3 - جمال الدين الحسيني.
4- جمال الدين الحسيني عبد الله بن عبدالله.
5- جمال الدين الاستانبولي عبد الله.
6- جمال الدين الأفغاني الكابلي.
7- جمال الدين الحسيني الأفغاني.
8- جمال الدين الرومي.
9- جمال الدين الطوسي.
10- جمال الدين الكابلي.
«وقد اعتاد الأفغاني حتى يغير لقبه حدثا انتقل من بلد إلى آخر؛ فقد رأيناه في مصر
وهجريا يلقب نفسه بـ (الأفغاني)، بينما هوفي إيران يلقب نفسه بـ (الحسيني)(!)
ويتضح من أوراقه المحفوظة أنه كان يتخذ ألقاباً أخرى؛ مثل:
(الإستانبولي) و(الكابلي) و(الروسي) و(الطوسي)، و(الأسدأباذي)!
وكان الأفغاني يغير زيَّه ولباس رأسه مثلما كان يغير لقبه؛ فهوفي إيران يلبس العمامة السوداء التي هي شعار الشيعة، فإذا مضى إلى هجريا ومصر؛ لبس العمامة البيضاء فوق طربوش تارة، وبغير طربوش تارة أخرى، وقد لبس الطربوش مجرداً في أوروبا أحياناً، أما في الحجاز؛ فقد لبس العنطق والكوفية، وقيل: إنه في بعض جولاته لبس العمامة الخضراء، ومن يدري؟! فربما لبس القبعة أحياناً»( 1).
«فهذا يشير على حتى له مهمة خفية يسعى لتطبيقها، وأنه يوجد وراءه من يخطط له، ويطلب منه التلون بهذه الألوان، والتسمي بتلك الأسماء»( 2).
ثانياً- شيوخه وممضىه وعقيدته:
كانت حياته شيعية كلها، فقد تنقل من مدرسة إلى أخرى، ومن بلدة إلى أخرى، ومن شيخ إلى آخر، وفي جميع ذلك يتقلب من مجالات شيعية بحتة.
فهوتفهم في قزوين -وهي مدينة إيرانية-دراسته الابتدائية، وينطق: إنه سجن فيها مع البابي قاتل الشاه ناصر الدين.
ثم انتقل إلى طهران؛ ليدرس العلوم الشرعية، وتابع دراسته.
ثم انتقل إلى العراق؛ ليدرس الدراسات العليا في العتبات المقدسة التي إليها يحج طلاب الفهم الشيعي من جميع أنحاء العالم..
وقد أثبت تشيعه علي الوردي في كتابه «لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث»وذلك عندما ذكر سعي جمال الدين في محاولة التقريب بين الشيعة والسنة، فذكر رسائله إلى فهماء الشيعة.
نطق الوردي: «وصلت رسائل الأفغاني إلى فهماء الشيعة، والظاهر أنه عهد كيف من الممكن أن يخاطبهم ويؤثر في عقولهم؛ لأنه كان واحداً منهم في سالف الأيام... وحتى مشايخه جميعهم من الشيعة، فقد عدّ المترجمون من مشايخه آغاخان صادق، وهوشيعي، والشيخ مرتضى شيعي. ويذكر أبورية بعضاً من المشايخ في كتابه «جمال الدين الأفغاني»، ويقول: «ولقد سمعت أن السيد تتلمذ على القاضي بشر والحافظ دراز وحبيب الله القندهاري».
وهؤلاء من الشيعة -أيضاً-.
فبعد هذا؛يتضح كونه شيعيا جعفريا اثنا عشري.
ويؤيد هذا الرأي الدكتور عبد المنعم محمد حسنين في كتاب «جمال الدين الأسدأباذي» (ص9) حيث نطق: «وكان شيعياً جعفري الممضى».
ولم يصدر هذا الحكم إلا بعد حتى قرأ رسائل الأفغاني التي نشرت بعد وفاته؛ لذا يقول في (ص10-11): «وإن الأدلة التي تثبت حتى جمال الدين إيراني شيعي الممضى كثيرة وقاطعة».
ثم لم يكتف الدكتور عبد المنعم حسنين بإثبات شيعيته، بل يؤكد أنه متعصب لممضىه في (ص35-36): «بل لقد كان جمال الدين متعصباً لبلاده وممضىه الشيعي، حتى في اتخاذ من يقوم بخدمته ويعنى بمصالحه الخاصة، فقد اتخذ خادماً له يدعى أبا تراب، وكان هذا الخادم ملازماً له أينما مضى؛ كما كان أميناً على أسراره الخاصة، واسم أبي تراب من الألقاب الخاصة بعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، ويشبه هذا حرصه على حتى يسقط باسم جمال الدين الحسيني؛ فإنه يرجح أنه شيعي إيراني؛ لأن لقب الحسيني له معنى خاص عند الشيعة الإيرانيين؛ لشدة تعلقهم بآل البيت، ولا سيما الحسين بن علي»( 3).
نطق مرزا لطف الله خان -وهوابن خالة الأفغاني-:
«وكان كشف حقيقة جمال الدين أمام السلطان عبد الحميد ضربة قاضية وجهها مظفر الدين شاه إلى جمال الدين بوثيقة سلمها علاء الملك سفير إيران في هجريا إلى الحكومة الهجرية تثبت بالأدلة القاطعة حتى جمال الدين إيراني شيعي يختفي في ثياب الأفغاني، ويتخذ الممضى السني ستاراً يحتمي به»(4 ).
ويظهر حتى الأفغاني كان على صلة قوية بالبابية؛ فما هي البابية؟
نطق علي عبد الحليم محمود في تعريف البابية:
«البابية من المذاهب الخطرة والفلسفات المعادية للإسلام، ولليهود فيها يد طولى. وفي مؤتمر برشت (1264هـ/1843م) أعرب البابيون انسلاخهم عن الإسلام، وحاربوا الإسلام واللغة العربية، ودخلوا مع الحكومة في فارس في حروب ومنازعات أدَّت في النهاية إلى إصدار الحكم بإعدام الميرزا (النقطة)، وخبا صوت هذه الفلسفة الضالة حيناً غير طويل من الزمان، ثم أخذ أتباعه يعملون في الخفاء والسرية، ودخل فيه عدد من اليهود. وفي عام (1285هـ/1868م) خرجت البابية من عكا باسم حديث هو(البهائية)؛ نسبة إلى زعيمها الجديد: ميرزا حسين علي المازندراني، الذي يلقب (بهاء الله)، ومن المقرر أن البهائية أصبحت وجهاً آخر لليهود»(5 ).
ولقد أثبت كثير من المحققين انتساب جمال الدين الأفغاني إلى هذه النحلة الباطنية الخبيثة.
ويقول الدكتور محمد عمارة: «خط أبوالهدى الصيادي إلى الشيخ رشيد رضا مهاجماً ترديد المنار لأفكار الأفغاني، ونطق: «إني أرى جريدتك طافحة بشقائق المتأفغن جمال الدين الملفقة، وقد ثبت في دوائر الدولة رسمياً أنه مازندراني (أي: بابي) من أجلاف الشيعة، وهومارق من الدين كما يمرق السهم من الرّمية».
وفي «مجلة الزهراء»( 10): «نطق شاعر الهجر عبد الحق حامد بك في مذكراته: إذا السيد نطق له: إذا سبب متاعبه هوقوله بأن النبوة من الصناعات».
وكان يدين بوحدة الوجود ونادى باشتراكية الإسلام.
نطق الدكتور موفق بني المرجه: «وقد خط تلميذه سليم عنجوري في كتابه «سحر هاروت» مدعياً: حتى الأفغاني برز في فهم الأديان حتى أفضى به إلى الإلحاد والقول بقدم العالم، وأن القول بوجود محرك أول وهم نشأ عن ترقي الإنسان في تعظيم المعبود.
وحكى عنه الشيخ محمد عبده وبعض خاصته: أنه كان متصوفاً يدين بعقيدة مبهمة وغامضة تنتهي بوحدة الوجود، والتعبير عنها يلتبس إلا على الخاصة مما يؤدي إلى رميه بالإلحاد.
ثالثاً: الماسونية العالمية:
من الأمور التي لم يختلف فيها المؤرخون المحققون حتى الأفغاني كان رأساً كبيراً في الماسونية العالمية، فقد انضم إلى المحفل الماسوني البريطاني، وهجره بعد حدثة ألقاها في المحفل عاب فيها عليهم عدم التدخل في السياسة، ونطق فيها: «دعوني أكون عاملاً ماسونياً نزيهاً متجنباً للرذائل، إذا لم يكن حرصاً على شرف شخصي؛ تخوفاً من أن تعاب الماسونية بي، فيتخذني الأغيار سهماً للطعن بها وهي براء منه، وما ذنب الماسونية إلا أنها قبلتني بين أفرادها دون اختيار سليم، وأبقت عليّ من غير تبصُّر؟!»( 12).
وبعد ثلاث سنوات أصبح من أبرز رجال المحفل الماسوني، بل تم اختياره رئيساً له؛ كما اتى في رسالة المحفل إلى جمال الدين،
رابعاً: نشاطات الأفغاني:
1- اتخذ الأفغاني من بار «ماتنيا» في العتبة الخضراء بالقاهرة، أوفي «قهوة البوسطة» قرب ملهى الأزبكية منتدى لسهره وسمره مع أصدقائه وتلامذته في مصر.
2- اتخذ الأعوان والمساعدين من اليهود والنصارى، فقد جعل من معاونيه يعقوب صنوع اليهودي صاحب الأموال، وأبونظارة النصراني والذي رثاه في «العروة الوثقى»، وسليم عنجوري النصراني الذي تسلم صحيفة «مرآة الشرق».
3- نشاطه كان سرياً؛ ولذلك أنشأ الجمعيات السرية:
نطق محمد محمد حسين: «ومما يريب الباحث في أمر جمال الدين وأهدافه
-أيضاً- حتى أكثر نشاطه كان سرياً؛ فقد كان أول من أدخل نظام الجمعيات السرية في العصر الحديث في مصر، وكان حيثما حل يؤسس الجمعيات السرية وينشرها..»( 16).
نقلا من كتاب صحوة الرجل المريض
ومن هذه الجمعيات السرية:
أ- الحزب الوطني الحر.
ب- جمعية مصر الفتاة.
ت- جمعية العروة الوثقى.
4- كان يهتم بالسياسة، ويؤثر بالأحداث السياسية في جميع بلد يدخلها؛ كالهند، وأفغانستان، وإيران، ومصر، وهجريا.
وسعى في جميع بلد إلى إسقاط حاكمها وإثارة الشغب ضده.
خامساً- تأثر حركة الإخوان المسلمين بدعوة الأفغاني:
1- السرية في العمل التنظيمي، ومن ذلك: حتى حسن البنا أقام الجهاز السري، الذي تفرعت منه خلايا ذات بلايا، طمت وعمت جميع الأنحاء والزوايا( 17).
2- الاهتمام بالسياسة( 18).
3- الدعوة إلى التقريب مع الشيعة الروافض والطوائف الضالة.
4- الدعوة إلى موادة اليهود والنصارى وحوار الأديان:
أ- دعوة قساوسة النصارى وأعيانهم لمشاركة الإخوان احتفالاتهم( 19).
ب- إشراك النصارى في كثير من اللجان(20 ).
ت- الدين لله والوطن للجميع.
أجرت مجلة «المجلة»( 21) حواراً مع المرشد الثالث عمر التلمساني، وفيه:
س- الدين لله، والوطن للجميع. هذا هوأحد الشعارات التاريخية للوفد، إلى أي مدى تتفق مع هذا الشعار؟
ج - أليس هذا هوالواقع،يا ترى؟ ألم تكن المدينة المنورة(22 ) وطناً للمسلمين واليهود على عهد رسول الله × مع بقاء جميع مواطن على دينه دون تعرض له في معتقداته؟
إن في جميع دولة في العالم أقليات لها معتقدات دينية تخاف الأكثرية، فالكل يتولون الوظائف العامة، ويجندون للدفاع عن وطنهم كتفاً إلى كتف، لما يعتبر هذا المعنى شعاراً أوشيئاً غير مقبول،يا ترى؟ إذا الإسلام يسع جميع الديانات بعد حتى نطق الله
-تبارك وتعالى-: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر [الكهف: 29]، ثم الحساب عند الله، وليس في الإسلام إكراه على دين بذاته».
ولذلك؛ فالدكتور القرضاوي يرى حتى كفار أهل الكتاب إخوان لهم! نطق: «إن بعض ما تراه من التعصب لدى بعض المسلمين، قد يحدث رد عمل لتعصب آخر من إخوانهم ومواطنيهم من غير المسلمين»( 23).
ونطق -أيضاً-: «إذا كان الإخوة المسيحيون يتأذون من هذا المصطلح؛ فليغير أويحذف» .
ويقول: «ومما لا أنساه في هذا المؤتمر: حتى أحد إخواننا الأقباط تحدث...»(24 ).
ولذلك تراه يجوب الآفاق داعياً إلى محادثة الأديان .
نطق: «لقد دعوت شخصياً إلى هذا الحوار في كتابي «أولويات الحركة الإسلامية»، دعوت إلى الحوار مع الغرب، والحوار على المستوى الديني مع رجال الدين من الكرادلة والأساقفة والقسس... محاولة اللقاء بهؤلاء والاتصال بهم كما حاول هذا الدكتور حسن الترابي...»(25 ).
ونطق: «حضرت هذا العام شهر مايوالماضي مؤتمراً في موسكو، وكان حول الإسلام والتفاهم بين الديانات والشعوب الأخرى، وشارك فيه مسيحيون ويهود وغيرهم من أرباب الديانات الأخرى، وفي آخر الصيف حضرت حفلاً تكريمياً للقاء المسيحيين وبعض المسلمين نظمه مجلس الكنائس للشرق الأوسط»( 26).
ودونك أقوال قادة الإخوان المسلمين في الثناء على الأفغاني واعترافهم أنهم امتداد لدعوته .
لقد أثنى حسن البنا على الأفغاني فنطق: «بنى مصطفى تام وفريد وجدي، ومن قبلهما جمال الدين ومحمد عبده نهضة مصر، ولوسارت في طريقها ولم تنحرف عنه؛ لوصلت إلى بغيتها، أوعلى الأقل لتقدمت ولم تتقهقر، وكسبت ولم تخسر»( 27).
وبين كثير من كُتّاب الإخوان المسلمين، ومثقفيهم: حتى دعوة الإخوان المسلمين تسير على منهج الأفغاني ومدرسته.
نطق محمد ضياء الدين الريس: «فإنها كانت الوطن -أي: مصر- الذي اختاره جمال الدين لنشر رسالته لإعادة قوة الإسلام، فتلاه محمد عبده الذي أوجد النهضة في دراسة العلوم الإسلامية، وواصل جهوده محمد رشيد رضا وطنطاوي جوهري وفريد وجدي وغيرهم... ثم ظهرت جماعة الإخوان المسلمين: لتسير على نهج المصلحين السابقين»( 28).
ونطق صالح عشماوي تحت عنوان (حسن البنا فترة في تاريخ الكفاح الإسلامي): «حسن البنا في حربه للاستعمار وثورته للحرية ودعوته للوحدة الإسلامية؛ إنما كان يضع حلقة جديدة في الكفاح الإسلامي بجانب الحلقة التي وضعها جمال الدين الأفغاني.
ولقد جمع حسن البنا بين طريقة السيد جمال الدين الثائر للحرية... وبين طريقة محمد عبده...»( 29).
ومن أغرب ما نطقه الإخوان المسلمون في الثناء على الأفغاني والدفاع عنه ما خطه محمود عبد الحليم بيمينه تحت عنوان (حدثة أخيرة عن جمال الدين الأفغاني):
«لوكان الخديوي توفيق حياً؛ لقر عيناً بما خطه الأستاذ الدكتور لويس عوض من منطقات عن الأفغاني.. ولوكانت اللجنة المغرضة التي خطت مسببات نفي الأفغاني من مصر قائمة وموجودة؛ لقرت عيناً هي الأخرى بما خطه الدكتور لويس عوض عن الأفغاني.
إنه يبرر لها قرار الطرد بعد مئة سنة من صدوره، لقد حملت هذه اللجنة قراراً رسمياً لمجلس الوزراء المصري حينئذ، نطقت فيه مبررات طرد الأفغاني: إنه رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش، مجتمعة على فساد الدين والدنيا.
إن الشيخ الإمام محمد عبده تلميذ الأفغاني يفسر لنا اختلاف الناس فيه بحدثة دقيقة تعبر بإيجاز عن حقيقة الأفغاني:
نطق الشيخ محمد عبده: إذا الناس قد اختلفوا في الأفغاني، حتى لكأنه حقيقة كلية تجلت في جميع ذهن بما يلائمه، أوقوة روحية قامت لكل نظر بشكل يشاكله.
أشيع عنه في حياته قوله: إذا الشرق يحتاج إلى مستبد عادل.. وكان الذين أشاعوا هذه المقولة عن الأفغاني يحاولون تبرير الاستبداد بإضافة العدل إليه، ونسبة العبارة كلها إلى السيد جمال الدين الأفغاني-سأل محمد باشا المخزومي السيد جمال الدين يوماً: إن المتداول بين الناس على لسانك قولك: يحتاج الشرق إلى مستبد عادل ... نطق الأفغاني: هذا من قبيل جمع الأضداد؛ كيف من الممكن أن يجتمع العدل والاستبداد،يا ترى؟ - إلى غير ذلك نفى الأفغاني ما نشره أعداؤه عنه زوراً.. ومثلما لم تسلم أفكاره لم يسلم شخصه.
كان من الصعب على العملاء والجواسيس والبصاصين الذي يقتفون أثره، ويرصدون تحركاته؛ أن يفسروا النبل والإيثار اللذين يصدران عنه بشكل طبيعي، كما يصدر الدفء عن الشمس... ومن هنا كان تفسير جميع شيء بعكس الواقع: إذا رفض الأفغاني الجاه؛ فإنما يرفضه كخطة لا تعففاً، وإذا عرض عليه الملك ورفضه؛ فإنما يعمل ذلك لأنه يريد الخلافة، وإذا أفطر في رمضان بعد المغرب؛ نطق البصاص الذي يتبعه كظله: إنه رآه يفطر قبل المغرب.. إلى غير ذلك تمضي الحلقة.
ولقد كان الرجل يدرك أنه يحمل دعوة لها أعداء كثيرون.. وكان يعهد حتى الابتلاء قدر مقدور على حملة الدعوات العظيمة... ومن ثم مضى في طريقه غير عابىء بما تثيره أفكاره أوتصرفاته؛ كان وجه الله هوغايته.. ومن كانت هذه غايته؛ لم يلتفت إلى حملة الأحجار والغوغاء والكائدين.
وحين اتى الأفغاني إلى مصر أقام فيها أباً روحياً وموقظاً لحركة البعث والإحياء
والثورة ..كانت الثورة العربية شرارة من شرارات فكره ..كانت ثورة (1919م) نتيجة من
نتائج أفكاره..كان جميع رجالات مصر من المثقفين والمتفهمين والصحفيين والنادىة في عصره
من أصدقائه وجلسائه وتلاميذه.
وحين خشي البعض في مصر من غضب الخديوي توفيق وآثر السلامة وتنكب طريق النضال؛ نطق الأفغاني حدثته عن توفيق: توفيق في غضبه ورضاه تابع لما يلقى إليه.
وبهذه الجملة لخص الأفغاني حقيقة الموقف السياسي في مصر، وكشف عن تبعيته للاستعمار الغربي.. ولقد كان هذا كله يبلغ توفيق بشكل أوبآخر، ومن هنا أصدرت اللجنة قرارها الشهير بزعامته لطائفة من الشبان هدفهم فساد الدين والدنيا.
وطرد الأفغاني من مصر.. وحين مضى إلى إيران وأبصر المظالم التي يجترحها الشاه ناصر في شعبه؛ قاد ضده حركة شجاعة، ووقف بالإسلام ضد احتكار الإنجليز أصدقاء الشاه «للدخان»، وأوحى الأفغاني إلى الشيرازي وكان مفتياً: حتى يصدر فتوى يحرم فيها على المسلمين شرب «الدخان»، إلى غير ذلك تراجعت شركة الدخان عن مشروعاتها الضارة بالبلاد، واضطر الشاه إلى تعويضها عن الامتياز..وبعث الشاه بخمس مئة من فرسانه؛ ليقتحموا فراش جمال الدين وهو مريض يشكومن الحمى، وقاده الفرسان وهومريض إلى حدود إيران، وأمروه حتى يمضي، ولا يلتفت أبداً لإيران.
ويمضى الأفغاني إلى هجريا؛ فيخوض معركته الشهيرة ضد الجمود، ويستمر في خوض معاركه ضد الاستعمار، ويمضى إلى باريس ويصدر هناك جريدة «العروة الوثقى»؛ وهي جريدة تجاوزت أن تكون عملاً صحفياً تجارياً إلى صيرورتها مشروعاً دينياً سياسياً ثورياً .. وتقض الجريدة مضجع الاستعمار، ويصدر نوبار باشا -رئيس نظارة النظار في مصر- قراراً بتغريم جميع من يقرأ «العروة الوثقى» (25) جنيهاً، واعتبار قراءتها جنحة.
ولقد تغير فكر الأفغاني؛ كما كشفت الدراسة المتأنية التي قام بها الدكتور محمد عمارة خلال تحقيقه لأعمال الأفغاني .. تغير فكره في نهاية حياته عن فكره في بدايتها.. كان التغيير نحوالنضج والثورة والتقدم، لقد وقف الرجل مع العدالة الاجتماعية، وقف مع التعليم الوطني، وقف مع الجامعة الإسلامية، وقف مع الشورى، وقف ضد الاستبداد.
تغيرت بعض مواقفه؛ كموقفه من النشوء والارتقاء، والقومية، والاشتراكية ..في بداية حياته كان ينظر إليها بارتياب، فلما تقدمت به السن وزادت خبرته أعاد النظر في مواقفه السابقة، وصححها بما تراءى له من قراءة وسياحة وحكمة.
كانت هناك متغيرات وثوابت في حياته.. كان الأمر الثابت: أنه يتحرك كفارس من فرسان الدعوة الإسلامية ..وثائر عظيم من ثوار الحياة.. إذا هدفه هوالعدل، والرحمة، والحق، والخير، والجمال ..لقد أيقظ الشرق من سباته.
ولقد لبس البحث الجريء الذي خطه الدكتور لويس عوض عن الأفغاني ثوب البحث، ولكنه لم يكن بحثاً.. إلا حتىقد يكون بحثاً من قبيل أبحاث المباحث العثمانية أوالخديوية أو الإيرانية أوالإنجليزية.
إن مصادر درس الدكتور تكشف عن تهافتها، ومعظم ما يبنيه الدكتور حول الأفغاني -رغم فخامته- مزور ولا أظن حتى أحداً ممن اشهجروا في الرد على الدكتور لويس كان يريد تفنيد أقواله عن الأفغاني؛ لأن أقواله في جملتها لا تستحق هذا العناء.
إنما تصدينا بالرد حتى ننبه إلى محاولة تجريح التاريخ الإسلامي وتحطيم النماذج الرفيعة الثائرة فيه..حتى إذا تلوث تاريخنا وصار أبطاله عملاء وثواره جواسيس، ونماذجه الرفيعة أقزاماً ومسوخاً ..حتى إذا سقط؛ تحولنا إلى الغرب وطرحنا ماضينا، وبترنا الصلة ببذورنا وتاريخنا.. وصرنا رجالاً جوفاً لا ماضي لهم ولا وجدان ولا عقيدة.
عندئذ ترضى عنا مراجع أبحاث الدكتور لويس عوض، ويرضى هوعنا ...لقد تصدى «الأهرام» بجملة من الأساتذة المتخصصين البارزين للرد؛ تسليماً لهذه الفكرة، انبعاثاً من الأمانة الدينية والموضوعية الفهمية.
هذه الحقائق التي تليت تدل على تأثر حركة الإخوان المسلمين بفكر الأفغاني، وأنها تعد نفسها ثمرة طبيعية لمدرسته.
