التعليم في الإسلام

تدل الأحاديث النبوية على حتى النبي كان يحث على طلب الفهم ويعجب بهِ، فهومن هذهِ الناحية يختلف عن معظم المصلحين الدينيين فيقول: "مَن سلك طريقاً يطلب فهماً سهل الله لهُ طريقاً إلى الجنة" "يوزن مداد الفهماء بدم الشهداء فيرجح مداد الفهماء بدم الشهداء"(1). ولقد كان اتصال العرب بالثقافة اليونانية في بلاد الشام مما أيقظ فيهم روح المنافسة الفهمية القوية لليونان، ولم يمضِ إلا زمناً قليل حتى أصبح العالم والشاعر من أصحاب المكانة العليا في الإسلام.

وكان تعليم الأطفال يبدأ منذ اقتدارهم على الكلام. فكانوا من هذه اللحظة يفهمون النطق بالشهادتين " أشهد حتى لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" فإذا بلغ الأطفال السادسة من العمر ألحق بعض أبناء الأرقاء، وبعض البنات، وجميع الأولاد، عدا أبناء الأغنياء (الذين كانوا لهم مدرسون خصوصيون) بمدرسة أولية ملحقة في العادة بأحد المساجد، وفي بعض الأحيان بجوار عين ماء عامة في الخلاء. وكان التعليم في هذه المدارس عادة بالمجان، فإن لم يكن فقد كان أجره تافهاً يستطيع أداءه جميع الناس، فقد كان المفهم يتناول من والد الطفل ما لا يزيد على مليمين في الأسبوع، أما باقي النفقات فكان يؤديها المحسنون الخيرون. وكان منهاج التعليم من هذا النوع في المدارس غاية في البساطة يضم ما يكفي لأداء الصلاة، ويمكن الطفل من قراءة القرآن، ثم حفظ القرآن نفسه وفهم ما فيه من أحكام الدين، والقصص، ومبادئ الأخلاق، والشريعة الإسلامية. وهجرت الكتابة والحساب للتعليم الأعلى من هذه الدرجة، وربما كان سبب هجر الكتابة أنها في الشرق فن يحتاج إلى تدريب خاص، فضلاً عن حتى الخطة، كما يقول المسلمون، يستطيع جميع من يطلبهم حتى يجدهم(3) وكان جزء صغير من القرآن يحفظ جميع يوم عن ظهر قلب، ثم يتلى بصوتٍ عالٍ، وكان الهدف الذي يبغيه جميع متفهم حتى يحفظ القرآن كله عن ظهر قلب؛ والذين يصلون إلى هذا الهدف يُسَمّونَ بالحفّاظ وتكون لهم في البلاد مكانة عالية. وكان من يتفهم الكتابة؛ والرمي بالقوس، والسباحة هوعندهم "الرجل الكامل". وكانت كيفية التعليم هي المذاكرة، وأداته هي العصا، وكان العقاب المعتاد هوالضرب بعصا من جريد على باطن القدم. ومن أقوال هارون الرشيد لمفهم ولده الأمين:"ولا تمر بكَ ساعة إلا وأنتَ مغتنم فائدة تفيده إياه من غير حتى تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه: وقوَّمه ما استطعت بالقرب والملاينة فإذا أباهما عمليك بالشدة والغلظة"(4).

وكان التعليم الأولي يهدف إلى تقويم الأخلاق، والثانوي إلى فهم الفهم. وكان المفهم يجلس مستنداً إلى عمود أوجدار في مسجد، ويلقي دروساً في التفسير والحديث، والفقه، والشريعة. وحدث في وقت غير معروف حتى وضعت الحكومة هذه "المدارس الثانوية" تحت إشرافها وتكلفت بالإنفاق عليها. وأضيف إلى المنهاج الديني الأساسي فهم النحو، وفقه اللغة، والبلاغة، والأدب، والمنطق، والعلوم الرياضية، والفلك. وكان فهم النحويلقى اهتماماً خاصاً لأن اللغة العربية كانت تعد أقرب اللغات إلى الكمال، وكان استعمالها سليمة أبرز ما يمتاز به الرجل المثقف المهذب. وكان التعليم في هذه المدارس بالمجان. وكان المفهمون والطلاب يتناولون مرتباتهم ونفقاتهم في بعض الأحيان من الحكومة أومن أموال البر والصدقات(5) وكان شأن المفهم في هذه المدارس أعلى من شأن النصوص التي يفهمها ما عدا نصوص القرآن، فكان التلاميذ يدرسون الناس أكثر مما يدرسون الخط، وكان الطلاب يجوبون أطراف البلاد الإسلامية ليقابلوا مفهماً مشهوراً. وكان على جميع طالب فهم يريد حتى تعلومكانته في بلده حتى يسافر إلى مكة، أوبغداد، أودمشق، أوالقاهرة، ليستمع في واحدة منها أوأكثر من واحدة إلى كبار الفهماء. وكان من الأسباب التي يسرت انتشار الأدب العربي في بلاد الإسلام المتنوعة وجعلته أدباً دولياً واحداً حتى لغة التعليم والأدب في جميع البلاد الإسلامية-مهما اختلفت أجناس أهلها-هي اللغة العربية، التي بلغت من سعة الانتشار ما لم تبلغه اللغة اليونانية. فلم يكن الزائر إذا ولج مدينة في أي بلد من بلاد الإسلام يخالجه شك في أنه يستطيع الاستماع إلى محاضرة فهمية في مسجد المدينة الأكبر في أية ساعة من ساعات النهار تقريباً. وكان الطالب الجائل في كثير من الأحيان يجد في المدرسة المأوى والطعام مدة من الزمان، فضلاً عن التعليم المجاني(6). ولم تكن المدرسة تمنح درجات فهمية، وكل ما كان يبتغيه الطالب حتى يحصل على شهادة فردية من الأستاذ الذي جاء عليه تثبت كفايته فيما درسه. وكان الهدف الأعلى للطالب هوتحصيل الأدب بأوسع معانيه-العادات الحسنة، وسموالذوق؛ وسرعة البديهة، والكياسة والظرف، والمعارف السهلة التي تكون في مجموعها صفات الرجل الكامل المهذب.

ولما فتح المسلمون سمرقند (712) أخذوا عن المسيحيين صناعة استخراج عجينة من الكتان وغيرها من النباتات ذات الألياف، ثم تجفيف هذه العجينة بعد صنعها رقائق رفيعة. ودخلت هذه الصناعة في بلاد الشرق الأدنى واستخدمت فيه بدل رقائق الجلد في وقت لم يكن نبات البردي قد نسي فيه بعد. وافتتح أول مصنع للورق في بلاد الإسلام في بغداد عام 794 على يد الفضل بن يحيى وزير هارون الرشيد. ونقل العرب هذه الصناعة إلى صقلية وأسبانيا ومنهما انتقلت إلى إيطاليا وفرنسا. وقبل هذا نجد الورق مستخدماً في بلاد الصين منذ عام 105م، ثم نجده في مكة سنة 707، وفي مصر سنة 800، وفي أسبانيا سنة 950، وفي القسطنطينية سنة 1100، وفي صقلية سنة 1102، وفي إيطاليا سنة 1154، وفي ألمانيا سنة 1228، وفي إنجلترا سنة 1309(7). ويسّرَ هذا الاختراع تأليف الخط في جميع بلد انتقل إليه، ويقول اليعقوبي إنه كان في بغداد على أيامه (891) أكثر من مائة بائع للخط، كانت حوانيتهم تستخدم، فضلاً عن بيع الخط، لنسخها، وكتابة الخط المزخرف، كما كانت ندوات أدبية. وكان كثير من الطلاب يحصلون على أرزاقهم بنسخ المخطوطات، وبيعها لتجار الخط، ونسمع في القرن العاشر الميلادي عن أناس يجمعون توقيعات العظماء وخطوطهم، وعن غواة للخط يسعون لجمعها ويعرضون أثماناً عالية للمخطوطات النادرة(8). ولم يكن المؤلفون يحصلون على شيء من خطهم؛ وكانوا يعتمدون في معاشهم على وسائل للرزق أثبت من هذه وأقوى أساساً، أوعلى هبات الأمراء أوالأثرياء. ذلك حتى الأدب والفن كان يُقصد بهما إشباع ذوق طبقة الأشراف من ذوي المال أوالحسب والنسب.

وكانت في معظم المساجد مخطات، كما كان في معظم المدن دور عامة للخط تضم عدداً كبيراً منها، وكانت مفتحة الأبواب لطلاب الفهم. وكان في مدينة الموصل عام 950 مخطة عامة أنشأها بعض المحسنين، يجد فيها من يؤمونها حاجتهم من الخط والورق، وبلغت فهارس الخط التي اشتملت عليها مخطة الري العامة عشر مجلدات. وكانت مخطة البصرة تعطي رواتب وإعانات لمن يشتغلون فيها من الطلاب، وقضى ياقوت الجغرافي في مخطتي مرووخوارزم ثلاث سنين يجمع المعلومات التي يتطلبها كتابة معجم البلدان. ولما حتى دمر المغول بغداد كان فيها ست وثلاثون مخطة عامة(9)، فضلاً عن عدد لا يحصى من المخطات الخاصة، ذلك أنه كان من العادات المألوفة عند الأغنياء حتى يقتني الواحد منهم مجموعة كبيرة من الخط. ونادى سلطان بخارى طبيباً مشهوراً ليقيم في بلاطه فأبى محتجاً بأنه يحتاج إلى أربعمائة جمل لينقل عليها خطه(10). ولما توفي الواقدي هجر وراءه ستمائة صندوق مملوءة بالخط، يحتاج جميع صندوق منها رجلين لينقلاه. "وكان عند بعض الأمراء كالصاحب بن عباد من الخط بقدر ما في دور الخط الأوربية مجتمعة"(12). ولم يبلغ الشغف باقتناء الخط في بلد آخر من بلاد العالم-اللهم إلا في بلاد الصين في عهد منج هوانج-ما بلغه في بلاد الإسلام في القرون الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر. ففي هذه القرون الأربعة بلغ الإسلام ذروة حياته الثقافية. ولم يكن الفهماء في آلاف المساجد المنتشرة في البلاد الإسلامية من قرطبة إلى سمرقند يقلون عن عدد ما فيها من الأعمدة، وكانت إيواناتها تردد أصداء فهمهم وفصاحتهم، وكانت طرقات الدولة لا تخلومن الجغرافيين، والمؤرخين، وفهماء الدين، يسعون كلهم إلى طلب الفهم والحكمة؛ وكان بلاط مئات الأمراء يرددون أصداء قصائد الشعراء والمناقشات الفلسفية، ولم يكن أحد يجرؤ على جمع المال دون حتى يعين بماله الآداب والفنون. وسرعان ما استوعب العرب ذووالبديهة الوقادة ثقافة الأمم التي فتحوا بلادها، وبلغ من تسامح المغلوبين حتى أصبحت منهم الكثرة الغالبة من الشعراء، والفهماء، والفلاسفة الذين جعلوا اللغة العربية أغنى لغات العالم في العلوم والآداب. وإن كان العرب الأصليون أقلية صغيرة بين هؤلاء الفلاسفة، والفهماء، والشعراء.

وقد قوى فهماء الإسلام في ذلك العهد نادىئم الأدب العربي الممتاز بدراساتهم الواسعة للنحوالذي جعل اللغة العربية لغة النطق والقياس، وبما وضعوه من المعاجم التي جمعوا فيها ثروة هذه اللغة من المفردات في دقة ونظام، وبموسوعاتهم ومختصراتهم، وخطهم الجامعة، والتي جمعت كثيراً من أشتات الآداب والعلوم لولاها لخسرها العالم، وبمؤلفاتهم في النصوص، والأدب، والنقد التاريخي. ولا حاجة بنا إلى ذكر أسماء هؤلاء الفهماء الأعلام، وحسبنا حتى نعترف بفضلهم ونمجد أعمالهم.

وأكثر من تحتفظ الذاكرة بأسمائهم من بين أولئك الفهماء هم المؤرخون، لأننا مدينون لهم بما نعهده عن تلك الحضارة التي لولاها لظلت غامضة غموض حضارة مصر الفرعونية قبل شمبليون. ومن هؤلاء المؤرخين محمد ابن إسحق (المتوفى عام 767) محرر سيرة النبي؛ وقد راجعها وزاد عليها ابن هشام (763) فكانت أقدم كتاب عربي منثور ذا شأن عظيم وصل إلى أيدينا-إذا استثنينا من ذلك القرآن (الكريم) نفسه. وقد خط الفهماء الباحثون المجدون خطاً جامعة في سيرة الأولياء الصالحين، والفلاسفة، والوزراء، والمشترعين، والأطباء، والخطاطين، وكبار الحكام، والعشاق، والفهماء. وكان ابن قتيبة أحد فهماء الإسلام الكثيرين الذين حاولوا كتابة تاريخ العالم، ولقد بلغ من الشجاعة درجة أوحت إليه حتى يجعل نصيب الدين الذي ينتمي إليه لا يشغل من الكتاب إلا ذلك الحيز المتواضع الذي يجب ألا يزيد عليه تاريخ أية أمة أوأي دين في كتاب تاريخ جماع لأحداث الدهر الكثيرة. واخرج محمد بن النديم عام 987كتابه "فهرست العلوم" أرخ فيه لكل كتاب ظهر في اللغة العربية، مؤلفاً كان أومترجماً، في جميع فرع من فروع الفهم، وأضاف إلى أسماء الخط ترجمة نقدية لمؤلفيها، ذكر فيها فضائل جميع مؤلف وعيوبهَُ. وفي وسع القارئ حتى يحكم على ثراء الأدب الإسلامي أيامه إذا عهد أ، الخط التي ذكرها-على ما نفهم-لم يبقَ منها الآن واحد في الألف(13).

وشبيه بليفي في الغرب أبوجعفر محمد الطبري (838-923) عند المسلمين(14). وكان أبوجعفر من أصل فارسي كما كان كثيرون من المؤلفين المسلمين، ولد في طبارستان الواقعة في جنوب بحر قزوين. وبعد حتى ظل عدة سنين يطوف في بلاد العرب والشام ومصر، كما يطوف الفقراء من الفهماء من أهل زمانه، استقر في بغداد واشتغل بالفضاء. ووهب أربعين عاماً من حياته لكتابة تاريخ عام سماه كتاب أخبار الأمم والملوك قص فيه تاريخ العالم من بدأ الخليقة إلى عام 913. والجزء الباقي إلى الآن من هذا الكتاب يضم خمسة عشر مجلداً كبيراً، ويقول المؤرخون حتى ما فقد منه يبلغ عشرة أمثال هذا الجزء الباقي. ويرى الطبري، كما يرى بوسويه Boussuet، يد الله في جميع حادثة تقع في العالم، وقد ملأ الفصول الأولى من كتابه بعبارات تشهد له بالتقوى ولكنها خالية من المعنى كقولهِ "في امتحان الله تعالى أبانا آدم عليه السلام وابتلائه إياه بما امتحنه به من طاعته" وبأن الله أنزل على الأرض بيتاً مشيداً من الياقوت ليسكنه آدم، فلما حتى عصى آدم ربه عاد فحمله عن الأرض(16). ونهج الطبري نهج التوراة فيما خطه عن تاريخ اليهود، ونطق إذا مريم العذراء ولدت المسيح (وإنها حملت به لأن جبريل نفخ في كمها)(17). وختم الجزء الأول من كتابه بصعود المسيح إلى السماء. أما الجزء الثاني فهوأقرب إلى العقل من الجزء الأول، وفيه يقص تاريخ فارس في عهد الساسانيين قصصاً مقبولا حياً، ذا روعة في بعض المواضع. ويتبع في طريقة إيراد الحوادث مرتبة حسب تواريخ وقوعها عاماً بعد عام، وهي في العادة مصنفة منقولة من راوٍ عن راوٍ قبله حتى يصل بها إلى من شاهدها بعينه، أوسقطت في أيامهِ. وفضل هذه الطريقة أنها تعنى بذكر المصادر؛ ولكن الطبري لا يحاول تنسيق الروايات المتنوعة ليكون منها سيرة موحدة متصلة، ولهذا فإن تاريخه يبقي أكداساً من ثمار الجهد المضني لا عملاً من أعمال الفن.

ويرى المسعودي، وهوأعظم من اتى بعد الطبري من المؤرخين، حتى الطبري أعظم من سبقه منهم. كان أبوالحسن علي المسعودي من أصل عربي في بغداد، وجاب بلاد سوريا، وفلسطين، وبلاد العرب، وزنجبار، وفارس وأواسط آسية، والهند، وسرنديب (سيلان)، بل يقول هوإنه وصل إلى بحر الصين. وقد جمع ثمار رحلاته هذه في موسوعة تضم على ثلاثين مجلداً، رآها فهماء الإسلام أنفسهم، وهم المعروفون بغزارة مادتهم، أطول مما يطيقون؛ ثم نشر موجزاً لها كان هوالآخر أطول مما يجب، ولعله رأى آخر الأمر حتى قراءه لا يجدون من الوقت الذي يصرفونه في القراءة مثل ما يجد هومنه ليصرفه في الكتابة، فاختصر كتابه مرة أخرى إلى الحد الذي نعهده الآن وسماه بذلك الاسم الغريب "مروج المضى ومعادن الجوهر". ودرس المسعودي جميع أحوال البلاد الممتدة من الصين إلى فرنسا من النواحي الجغرافية والنباتية، والحيوانية، والتاريخية، كما تفهم عادات أهلها، وأديانهم، وعلومهم، وفلسفتهم، وآدابهم، فكان في العالم الإسلامي كما كان بلني وهيرودوت في العالم الغربي. ولم يوجز المسعودي في كتابته إلى الحد الذي يجعلها عقيمة جافة، بل كان في بعض الأحيان يتبسط فيها، وينطلق على سجيتهِ، فلا يحاجز نفسه عن حتى يروي بين الفينة والفينة سيرة ممتعة مسلية. وكان متشككاً في بعض الشيء في الدين، ولكنه لم يفرض قط تشككه على قرائهِ. وقد لخص في آخر سنة من حياتهِ آراءه في الفهم، والتاريخ، والفلسفة في كتاب الاستذكار لما مر في سائر الأعمار، وكتاب ذخائر العلوم وما في سائر الدهور. وقد أشار إلى تطور الكائنات من الجماد إلى النبات، ومن النبات إلى الحيوان، ومن الحيوان إلى الإنسان(18). ولعل هذه الآراء قد جرته إلى المشاكل مع المحافظين من أهل بغداد، فاضطر على حد قوله إلى مغادرة المدينة التي ولد فيها وشبّ وترعرع، واتى إلى القاهرة وهوآسف على فراق موطنه. ونطق في هذا إذا من طبيعة ذلك الزمان حتى يفرق الناس جميعاً ويباعد بينهم... وإن الله يبارك للأمم إذا أحب أبناؤها مواطنهم، وإن من أمارات التقى والاستقامة حتى يحن الإنسان إلى مسقط رأسهِ، ومن علامات النبل وكرم المحتد حتى يبغض الانفصال عن داره وموطنه(19).

ووافته المنية في القاهرة بعد عشر سنين قضاها بعيداً عن بلدهِ.

وخير ما ينطق عن هؤلاء المؤرخين أنهم يفوقون غيرهم في اتساع دائرة جهودهم، ونواحي نشاطهم، واهتمامهم، وأنهم يربطون الجغرافية بالتاريخ ربطاً موفقاً سليماً، وأنهم لا يفوتهم شيء مما يتصل ببني الإنسان، وأنهم يعلون علواً كبيراً على معاصريهم في العالم المسيحي. ولكنهم مع هذا كله كثيراً يضلون في دياجير السياسة، والحرب، والبلاغة اللفظية؛ وقلما يعنون ببحث العلل الاقتصادية، والاجتماعية، والنفسانية التي تتحكم في الحوادث، وإن مجلداتهم الضخمة لتعزوها الطريقة البنائية المنتظمة، فلسنا نجد فيها إلا أكداساً من حقائق غير مرتبطة ولا متناسقة-عن الأمم، والحادثات، والشخصيات، وهم لا يرقون إلى مستوى درس المصادر بحثاً دقيقاً نزيهاً، ولشدة تقواهم وتمسكهم بالدين كانوا يعتمدون اعتماداً كبيراً على الإجماع وتسلسل الروايات تسلسلاً قد تكون مصدره حلقة من حلقاته خاطئة أومخادعة. ومن أجل هذا تهبط قصتهم في بعض الأحيان إلى مستوى أقاصيص الأطفال، وتمتلئ بالنذر، وأخبار المعجزات، وبالأساطير. وكما حتى في وسع كثيرين من المؤرخين المسيحيين (مع استثناء جبن Gibbon على الدوام) حتى يخطوا تاريخ العصور الوسطى، بحيث يجعلون الحضارة الإسلامية كلها ذيلاً موجزاً للحروب الصليبية، كذلك اقتضب كثيرون من المؤرخين المسلمين تاريخ العالم قبل الإسلام فجعلوه كله يدور حول الاستعداد لرسالة النبي محمد. على أننا نعود فنسأل أنفسنا كيف من الممكن أن يستطيع العقل الغربي حتى يصدر على الشرق حكماً سليماً نزيهاً،يا ترى؟ إذا اللغة العربية تفقد جمالها في الترجمة كما تفقد الزهرة جمالها إذا انتزعت من شجرتها، وإن الموضوعات التي تمتلئ بها صحائف المؤرخين المسلمين، وهي التي تبدوذات روعة وجمال لبني أوطانهم، لتبدومملة خالية من المتعة الطبيعية للقراء من أهل الغرب الذين لم يدركوا حتى الآن حتى الصلات الاقتصادية بين الشعوب واعتماد بعضها على بعض يتطلبان حتى يفهم كلاهما الآخر ويفهمه حق الفهم.