پورتريه الأب تانگي

عودة للموسوعة

پورتريه الأب تانگي

ابراهيم العريس
ساهم بشكل رئيسي في تحرير هذا الموضوع

پورتريه الأب تانگي Père Tanguy (سنة 1887) أحد أعمال الفنان الرسام الهولندي ڤينسنت ڤان گوخ وتعتبر رسومه الكثيرة من الأكثر شعبية في العالم والأكثر غلاءً. تميزت حياته القصيرة بالمأساوية.

أشهر أعماله

ذات يوم كان على ڤينسنت ڤان گوخ ان يختتم الفترة الباريسية في مساره الفني، تماماً كما كان قبل ذلك قد أنهى الفترة الهولندية. ففي ذلك الحين كان فان غوغ في طريقه لكي يستقر في الجنوب الفرنسي... كان يسعى، من خلال ذلك، الى شيء من النور يضفي صفاء على لوحاته المقبلة، وإلى شيء من الحرية يعطيه بعض مبرر للعيش، كان افتقده في جميع مكان حل فيه حتى ذلك الحين، بما في ذلك باريس التي كانت حلمه فإذا بها تصبح كابوسه. ولما كان من الطبيعي بالنسبة الى فنان رهيف الحس، لا يعيش الا بفنه ومن أجل فنه، ان يجعل من لوحة ما، أومن مجموعة من اللوحات، علامة على ذلك الانتنطق، من فترة الى فترة، ومن حيزّ جغرافي الى آخر، ها نحن نجده يجسد ذلك كله في لوحة «الأب تانغي» التي رسمها في العام 1887. والحال انه إذ يمكننا ان نقول هنا حتى فان غوغ رسم هذه اللوحة في فترة عمرية متوسطة من حياته، أي وهوفي الرابعة والثلاثين، فإن التالي من احداث حياة الرجل سيفيدنا انه رسمها، كذلك، في فترة «متأخرة»، إذ انه لن يعيش بعدها سوى أربع سنوات، ستكون على أي حال سنوات خصبة، كمّاً ونوعاً، اذ خلالها سيرسم عدداً كبيراً جداً من اللوحات، ومن بينها اعماله الكبيرة التي خلّدت اسمه. من هنا يمكن القول ان لوحة «الأب تانغي» حملت في آن معاً، خلاصة فن فان غوغ للزمن السابق عليها، والتمهيد اللوني لمرحلته الأخيرة المقبلة. والغريب ان هذا التفاوت بين التعبير عن زمنين في لوحة واحدة يأتي هنا شديد الوضوح، في الفارق بين الجسم الرئيسي للوحة وخلفيتها، كما سنرى.

أما هنا فحسبنا ان نشير، على سبيل رسم خلفية تاريخية مختصرة، الى ان فان غوغ كان التقى تاجر اللوحات الفنية الأب تانغي في ضاحية آنيار شمال باريس، حيث كانا يعيشان. وكان تانغي في ذلك الحين معروفاً بمساعدته للفنانين الجدد، وإقراضهم من ماله على حساب متاجرته بلوحاتهم المقبلة. وفي مجال التعبير الفني كان فان غوغ في ذلك الحين (1887) يخوض نقاشات، صاخبة مع برنار وغوغان، يعبّر فيها عن رفضه لمبدأ ان الانطباعية كانت هي ذروة التعبير الفني وفن الحاضر والمستقبل. وهومن خلال اكتشافه لأعمال الفن الياباني وملصقاته، كان قد بدأ يرى للفن آفاقاً جديدة، ترتبط، مثلاً، بالتعبير الياباني وألوانه وأشكاله، في الوقت نفسه الذي بدأ يطور فيه تقنية «التنقيطية»... ولا يزال غير قادر على الخروج من رسم الكتلة الجسدية كما كان يرسمها في مرحلته الريفية الهولندية.

واليوم، اذا تأملنا لوحة «الأب تانغي» التي كانت واحدة من اللوحات الكثيرة التي رسمها فان غوغ في ذلك الحين، سنكتشف كم ان هذه اللوحة تمكنت من التعبير عن ذلك كله، أي عن المخاض الذي كان فن فان غوغ يعيش فيه، ساعياً الى الانطلاق في أبعاد جديدة لم يكن، بعد، قادراً على تلمّسها كلها بوضوح، وإن كان في عفوية فنية واضحة، عبرّ عنها في مختلف جزئيات هذه اللوحة.

بالنسبة الى الأحجام التي اختارها فان غوغ للوحاته، تعتبر لوحة «الأب تانغي» كبيرة نسبياً، اذ ان ارتفاعها يصل الى 65 سم، فيما يصل عرضها الى 51 سم. أما الأب تانغي فإنه، كما نلاحظ، يشغل قابلة اللوحة كلها مهيمناً مباشرة على عين الناظر اليها. ولئن كان فان غوغ قد لوّن جسد تانغي وثيابه في كتلة، بنية وكحلية غامقة تذكّر مباشرة، من حيث ضخامتها وافتقارها الى التناسق ببعض لوحاته الريفية الهولندية من امثال «آكلوالبطاطا»، فإنه، حين رسم وجه صاحبه وقبعته انتقل الى أسلوب آخر تماماً، هوبالتحديد الإرهاص بأسلوب التنقيط الذي ستحمله لوحاته خلال السنوات التالية، بما في ذلك لوحاته الذاتية، وكذلك المشاهد الطبيعية التي ستأتي مكوّنة من نقاط لونية مدهشة. في هذه اللوحة «المبكرة» اذاً، اكتفى فان غوغ بتطبيق هذا الأسلوب في جزء من اللوحة، ما أقام تفاوتاً بين وجه الأب تانغي وجسده (أوبالأحرى كتلة ثيابه مضمومة اليها يداه الملونتان مثل بنطاله في شكل يختلف عن تلوين الوجه والرأس). غير ان هذا التفاوت يظل بسيطاً وثانوياً، مقارنة بالتفاوت بين جسم اللوحة الأساسي (صورة الأب تانغي في جلسته الفخمة اللقاءة ذات النظرة المحايدة في تناقض مع احتفالية اللوحة ككل) والخلفية، ذلك ان خلفية اللوحة تتألف من جدار غطّي كله بلوحات يابانية. من الواضح هنا اننا في صدد لوحات وملصقات نقلها فان غوغ بنفسه عن لوحات الفن الياباني، حيث من الممكن على الفور التعهد في تلك اللوحات المعلقة - في متجر الأب تانغي، أومن الممكن في استوديوفان غوغ - على أعمال منقولة ومقتبسة تحمل توقيع هذا الأخير، ولسوف تعتبر لاحقاً مجرد تمارين خاضها الفنان سعياً للوصول الى أسلوب فني جديد، استفاد كثيراً من «الملوّنة» اليابانية، ومن هجريبات المشهد الطبيعي الياباني الكاشف غالباً عن علاقة حميمة بين الإنسان والطبيعة. ولعل من المفيد ان نلاحظ هنا كيف من الممكن أن ان فان غوغ، عن تعمّد اوفي شكل عفوي، جعل للوحتين، ( وهما بورتريهات لشخصيتين يابانيتين، احداهما عند كتف الأب تانغي اليمنى، والثانية من اسفل اللوحة عند فخذه اليسرى)، مكانة مندفعة الى الأمام، وكأن الشخصيتين تنافسان الشخص المرسوم على اثارة اهتمام المتفرج. هنا، حتى من دون ان يقصد بالأحرى، تمكن فان غوغ من ان يرسم صورة للصراع بين أسلوبه المستقبلي وأسلوبه الماضي في الرسم والتلوين... غير انه لم يكتف بهذا، بحسب رأي بعض المتخصصين في فنه والدارسين لحياته، بل انه، اذ رسم بركاناً متفجراً في لوحة تعلورأس الأب تانغي، كان يبتغي على الأرجح ان يعلق - بطريقته الخاصة - على حياة صديقه تاجر اللوحات، الزوجية المتفجرة... اذ كان معروفاً ان زوجة الأب تانغي لم تكن تنظر في عين الرضى الى زوجها وهوينفق أمواله على رسامين ناشئين لم يكن في إمكان أحد ان يتنبأ بأي مستقبل فني اومادي لهم. وكل هذا طبعاً في هذه اللوحة «التزيينية» التي من الواضح ان فن فان غوغ خلال ما سيتبقى من سنوات حياته، سينطلق منها في تعبيرات هي التي جعلت منه، منذ ذلك الحين واحداً من كبار المجددين في فن الرسم. والأهم من هذا جعلت فنه عصياً على التصنيف. اذ يلفت في هذا المجال ان يطلق الفنانون على أسلوب فان غوغ اسم «ما بعد الانطباعية»، وهوكلام لا يعني اي شيء غير تحرر فان غوغ من جميع أسلوب.

وهذا التحرر في فن ڤينسنت ڤان گوخ (1853-1891) سيمكن تلمسه بكل سهولة، انطلاقاً من هذه اللوحة، وبعض لوحات اخرى مشابهة، رسمها الفنان خلال تلك الفترة من حياته. حيث كان يستعير هنا، الألوان اليابانية، والنور الذي ينبعث من فن اليابان المشمس، قبل ان ينتقل هونفسه الى الجنوب الفرنسي، فتطالعه ألوان ويجد شمساً، تغنيه جميعاً عن تلمس ما يريد في الفنون، طالما انه واجده في الحياة وفي الطبيعة. وهوما عبّر عنه في لوحاته المقبلة، وإن في شكل يذكر في جميع مرة بهذه اللوحة التي تعتبر مفصلية في حياة وفن هذا المبدع الغريب الذي بدأ حياته ابن قسيس في هولندا، وأنهاها، معبراً عن الطبيعة وفرح الألوان، هوالذي عاش آخر سنوات حياته في كآبة وجنون لم يمنعاه من مواصلة عمله الفني حتى اللحظات الأخيرة من تلك الحياة.


المصادر

  • ابراهيم العريس (2010-10-21). "«الأب تانغي» لفان غوغ: الشرق نبع للألوان قبل الشمس أحياناً". جريدة الحياة اللبنانية.
تاريخ النشر: 2020-06-04 09:31:07
التصنيفات: ڤان گوخ

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

فرنسا: المزارعون ينوون مواصلة احتجاجاتهم المستمرة منذ يناير

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-03 21:06:47
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 96%

إيران تُعدم متهمًا بالتجسس لحساب إسرائيل

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-03 21:06:50
مستوى الصحة: 90% الأهمية: 97%

الجزائر وإيران توقعان 6 اتفاقيات تعاون مشترك

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-03 21:07:15
مستوى الصحة: 77% الأهمية: 88%

بطولة فرنسا: بريست يواصل موسمه التاريخي ونيس نزيف النقاط

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-03 21:06:49
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 94%

باقات الزهر تغطي ضريح نافالني في موسكو

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-03 21:06:48
مستوى الصحة: 82% الأهمية: 99%

دول الخليج توجه رسالة لإيران بشأن الصواريخ والمنشآت النفطية

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-03 21:07:03
مستوى الصحة: 79% الأهمية: 97%

بوليانسكي: توسع الناتو دليل على أن الغرب ليس أهلا للثقة

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-03 21:07:07
مستوى الصحة: 93% الأهمية: 92%

مواطن جزائري يتجاوز الحرس ويوجه كلمات للرئيس الإيراني (فيديو)

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-03 21:07:04
مستوى الصحة: 89% الأهمية: 97%

تحميل تطبيق المنصة العربية