الحياة الثقافية في بابل

عودة للموسوعة

الحياة الثقافية في بابل

ترى هل خلدت هذه الحياة، حياة الشهوات والتقوى والتجارة، في الأدب أوالفن ، تخليداً رائعاً نبيلاً،يا ترى؟ لعل هذا قد كان لأننا لا نستطيع حتى نحكم على مدينة ما من شذرات متفرقة من حطام بابل قذف بها بحر الزمان. إذا هذه الشذرات تتصل معظمها بشئون الصلات والسحر والتجار؛ وليس ما خلفته من تراث أدبي بالشيء الكثير إذا قيس إلى ما هجرته مصر وفلسطين، كانت هذه القلة شبيهة بأشور وفارس، ولسنا ندري أكان هذا من أثر الظروف والمصادفات أم كان من أثر فقرها الثقافي. أما فضلها على العالم في ميدان التجارة وفي القانون.

الخطة البابليون

لكن الخطة رغم هذا كانوا في مدينة بابل التي كان يسكنها خليط من جميع الأجناس لا يقلون عنهم في منف أوطيبة. ذلك حتى فن الكتابة كان لا يزال في بداية عهده فناً ينال به من يجيده مركزاً عظيماً في المجتمع ، فقد كان الطريق الموصل إلى المناصب الحكومية والكهنوتية؛ ولم يكن صاحبه يغفل قط عن الإشادة بفضله فيما يرويه من أعماله، وكان من عادة المحرر حتى ينقش ما يفيد هذا على خاتمه الأسطواني ، كما كان الفهماء والمتفهمون في العالم المسيحي من وقت قريب يذكرون مؤهلاتهم الفهمية على بطاقاتهم. وكان البابليون يخطون بالخط المسماري على ألواح من الطين الرطب بقلم ذي طرف شبيه بالمنشور الثلاثي أوالإسفين. فإذا إمتلأ اللوح كتابة جففوه أوحرقوه ، فكان بذلك مخطوطاً غريباً طويل البقاء. وإذا كان المكتوب رسالة نثر عليها التراب الناعم، ووضعت في مظروف من الطين ، وبصمت بخاتم مرسلها الأسطواني ، وكانت الألواح الطينية المحفوظة في جرار مصنفة ومرتبة على رفوف تملأ عدداً كبيراً من المخطات في هياكل الدولة البابلية وقصورها. وقد ضاعت هذه المخطات ، ولكن واحدة من أعظمها وهي مخطة بورسبا قد نسخت وحفظت في مخطة أشور بانيبال. كان ألواحها البالغ عددها 30 ألف لوح أبرز مصدر استقينا منه معلوماتنا عن الحياة البابلية.


فك رموز اللغة

ولقد حيرت الكتابة البابلية الفهماء فضلوا مئات السنين عاجزين عن حل رموزها، وكان نجاحهم في حلها آخر الأمر عملا من أجلّ الأعمال في تاريخ الفهم. وتفصيل ذلك حتى جورج جروتفند أستاذ اللغة اليونانية في جامعة جوتنجن أبلغ المجمع الفهمي في تلك المدينة عام 1802م أنه ظل عدة سنين يواصل البحث في بعض مخطوطات مسمارية وصلت إليه من بلاد الفرس القديمة، وأنه استطاع آخر الأمر حتى يتعهد على ثمانية من الاثنين والأربعين حرفاً المستعملة في هذه النقوش، وأنه ميز ثلاثة من أسماء الملوك المدونة فيها. وبقيت الحال كذلك ، أوما يقارب من ذلك ، حتى عام 1835 حين إستطاع هنري رولنسن أحد موظفي السلك السياسي البريطاني في إيران، على غير فهم منه بما توصل إليه جروتفند، حتى يقرأ ثلاثة أسماء هي هستسبس، ودارا، وخشيارشاي (إكزركس) في نقش مكتوب بالخط الفارسي القديم وهوخط مسماري مشتق من الكتابة البابلية، وأمكنه بفضل هذه الأسماء حتى يقرأ الوثيقة كلها في آخر الأمر. ولكن هذه الكتابة وان كانت مشتقة من الكتابة البابلية لم تكن هي البابلية نفسها، وقد بقى على رولنسن حتى يعثر على حجر رشيد بابلي كما عثر شامبليون على حجر رشيد مصر ، أي على نص واحد باللغتين الفارسية القديمة والبابلية. وهذا ما عثر عليه في مكان يعلوعن سطح الأرض نحوثلاثمائة قدم. وكان هذا النقش على صخرة يتعذر الوصول إليها عند بهستون في جبال ميديا ، حيث أمر دارا الأول الحفارين حتى يسجلوا حروبه وإنتصاراته بثلاث لغات: الفارسية القديمة، والآشورية، والبابلية. وظل رولنسن يوماً بعد يوم يرقى هذه الصخرة معرضاً بذلك حياته لأشد الأخطار ، وكثيراً ما كان يشد نفسه بحبل وهوينسخ جميع حرف من حروفها بعناية بالغة ، حتى لقد كان أحيانا يطبع النقش كله على عجينة لينة. وبعد جهد دام إثنتي عشرة سنة كاملة نجح في ترجمة النصين البابلي والآشوري (1847م). وأرادت الجمعية الآسيوية الملكية حتى تتثبت مما وصل إليه رولنسن وغيره من الفهماء في هذه الوثيقة وفي غيرها من الوثائق فأوفدت إلى أربعة من فهماء الآثار الآشورية أربعة صور من وثيقة مسمارية لم تكن قد نشرت وقتذاك وطلبت إلى جميع منهم على إنفراد حتى يترجمها مستقلا عن الثلاثة الآخرين دون حتى يتصل بهم أويراسلهم. فلما اتىت الردود وجدت كلها متفقة بعضها مع بعض اتفاقا يكادقد يكون تاماً. وبفضل هذا الكفاح الفهمي المنبتر النظير اتسعت دائرة البحوث التاريخية بما ولج فيها من فهم بهذه الحضارة الجديدة.

اللغة البابلية

واللغة البابلية القديمة لغة سامية نشأت من تطور لغتي سومر وأكد. وكانت تخط بحروف سومرية الأصل ، ولكن مفرداتها إختلفت عنها على مر الأيام (كما إختلفت اللغة الفرنسية عن اللاتينية)، حتى إستلزم هذا الإختلاف بين اللغتين السومرية والبابلية وضع معاجم وقواعد في النحووالصرف يستعين بها الفهماء والكهنة من الشبان على تفهم اللغة السومرية "الفصحى" والكتابات السومرية الكهنوتية. ومن أجل هذا نرى نحوربع الألواح التي عثر عليها المنقبون في المخطة الملكية بنينوى معاجم في اللغات السومرية والبابلية والآشورية وخطاً في نحوها وصرفها. وتقول الروايات التاريخية إذا هذه المعاجم قد وضعت من عهد موغل في القدم وهوعهد سرجون ملك أكد. ألا ما أقدم عهد الدراسات الفهمية! والعلامات في اللغة البابلية كعلامات في اللغة السومرية لا تدل على حروف وإنما تدل على مقاطع. ذلك حتى البابليين لم يضعوا لهم حروفاً هجائية مستقلة بل ظلوا طول عهدهم قانعين بطائفة من المقاطع يرمزون لها بنحوثلاثمائة علامة من العلامات. وقد كان حفظ هذه الرموز المبترية عن ظهر قلب ودراسة قواعد الحساب والتعاليم الدينية المنهج المقرر في مدارس الهياكل ، حيث كان الكهنة يلقنون الشبان ما خليق بالدرس والفهم. وقد كشفت بعض أعمال الحفر عن حجرة دراسية قديمة وجدت على أرضها ألواح طينية لبنين وبنات خطت فيها حكم أخلاقية تحث على الفضيلة قبل مولد المسيح بنحوألفي عام ، كانت كارثة مفاجئة نكاد نحن حتى نحمد الله على وقوعها دهمت التلاميذ ، فبترت عليهم درسهم وحفظت لنا ألواحهم ، ومصائب قوم عند قوم فوائد. وكان البابليون كالفينيقيين ، ينظرون إلى الكتابة على أنها مجرد وسيلة لتيسير بعض الأعمال التجارية ، ولذا لم يضيعوا كثيراً من طينهم في كتابة الأدب. ونجد في ألواحهم قصصاً منظومة على لسان الحيوان- وهي نوع من أنواع لا حصر لها من القصص الخرافية- كما نجد فيها ترانيم دقيقة الوزن ، مقسمة إلى سطور وإلى مقطوعات مفصولة بعضها عن بعض ؛ لكن لا نجد من الشعر غير الديني الذي يصف شئون الناس العادية إلا القليل الذي لا يستحق الذكر ؛ ونرى في المراسم الدينية ما يبشر بنشأة المسرحيات ، وان لم تصل إلى مسرحيات بالعمل، ونجد عندهم قناطير مقنطرة من خط التاريخ. ذلك حتى المؤرخين الرسميين كانوا يسجلون تقى الملوك وفتوحهم، وما يصيب جميع هيكل من الهياكل من عوادي الدهر، وما يقع في جميع مدينة من أحداث هامة. ويقص علينا بروسس أشهر المؤرخين البابليين وأنبههم ذكراً في اطمئنان العالم الواثق من فهمه، تفاصيل وافية عن خلق العالم وتاريخ الإنسان في عهده الأول. ويقول إذا الله قد إختار أول ملك من ملوك بابل ليتولى حكمها، وأنه حكمها ستة وثلاثين ألف عام، كما يقدر في الدقة، جديرة في حد ذاتها بالثناء، وباعتدال ليس فيه ما في تقدير غيره من إسراف الزمن الذي مضى من خلق الأرض إلى أيام الطوفان الأعظم بستمائة وواحد وتسعين ألفاً ومائتين من السنين. ومن أروع الآثار الأدبية التي خلفتها أرض الجزيرة اثنا عشر لوحاً محطماً وجدت في مخطة أشور بانيبال ، وهي الآن في المتحف البريطاني. وقد خطت على هذه الألواح ملحمة جلجميش الذائعة الصيت، وتتألف من طائفة من القصص غير الوثيقة الاتصال ضمت بعضها إلى بعض في عهود مختلفة يرجع بعضها إلى أيام السومريين أي إلى ما قبل المسيح بثلاثة آلاف عام. ومن هذه القصص النص البابلي لسيرة الطوفان. وكان جلجميش بطل السيرة السالفة الذكر حاكماً أسطورياً لأروك أوإرك وهومن نسل شمش - نيشتين الذي نجا من الطوفان ولم يمت قط. ويدخل جلجميش في السيرة في صورة مركبة من صورتي أونيس وشمشون ، فهوطويل القامة ضخم الجسم، ومفتول العضلات ، جرئ مقدام ، جميل يفتن الناس بجماله. ثلثاه إله، وثلثه آدمي ، لا يماثله أحد في صورة جسمه...، يرى جميع الأمور ، ولوكانت في أطراف العالم ، كابد جميع شيء، وعهد جميع شيء، وإطلع على جميع الأسرار ، وإخترق ستار الحكمة الذي يحجب جميع شيء، ورأى ما كان خافياً ، وكشف الغطاء عما كان مغطى ، واتى بأخبار الأيام التي كانت قبل الطوفان ، وسار في طريق بعيد طويل ، كابد فيه المشاق والآلام ، ثم خط على لوح حجري جميع ما قام به من الأعمال.

ويشكوه الآباء إلى إشتار قائلين إنه يخرج أبنائهم من دورهم ليكدحوا في "بناء الأسوار بالنهار وبالليل"؛ ويقول الأزواج إنه "لا يهجر زوجة لزوجها ولا عذراء واحدة لأمها" وتمضى إشتار إلى أروروعَرَّابة جلجميش ترجوها حتى تخلق ابناً آخر مساوياً لجلجميش وقادراً على حتى يشغله في نزاع بينهما، حتى يستريح بال الأزواج في أروك ويأمنون شره. وتعجن أروروبترة من الطين ، وتبصق عليها ، وتصور منها إنجيدو، وهورجل له بأس الخنزير، ولبدة الأسد ، وسرعة الطير. ولا يعبأ إنجيدوهذا بصحبة الآدميين ، بل يعتزلهم ويعيش مع الحيوانات، "يرعى الأعشاب مع الظباء، ويلعب مع مخلوقات البحار، ويروي ظمأه مع وحوش الحقول". ويحاول أحد الصيادين حتى يقتنصه بالشباك والفخاخ ولكنه يعجز عن اقتناصه، فيمضى الصياد إلى جلجميش ويرجوه حتى يعيره كاهنة تسقط إنجيدوفي شراك حبها. فيقول له جلجميش: "امضى أيها الصياد، وخذ لك كاهنة، فإذا اتىت الوحوش إلى مورد الماء لتستقي فلتكشف عن جمالها، فإذا رآها انفضّت من حوله الوحوش". وينطلق الصياد والكاهنة ويلتقيان بإنجيدو:


هاهوذا أيتها المرأة!


فحلي أزرارك ،

أسفري عن مفاتنك ،

حتى ينال كفايته منك!

ولا تحجمي ، وأجيبيه إلى ما يشتهي!

فإذا رآك فسوف يقترب منك.

وإفتحي ثوبك ، حتى يرقد عليك!

وأثيري شهوته، كما تعمل النساء،

وإذن سيصبح غريباً عن وحوشه البرية،

هي التي درجت معه فوق السهوب ،

وسيلتصق صدره بصدرك.

وحلت الكاهنة أزرارها،

وكشفت عن مفاتنها،

حتى ينال كفايته منها،

ولم تحجم، وأخذت شهوته،

وفتحت ثوبها لكي يرقد عليها،


وأثارت نشوته كما تعمل النساء،

وإلتصق صدره بصدرها.


فنسى إنجيدوأين ولد.


ويبقى إنجيدومع الكاهنة ستة أيام وسبع ليال ، يعب فيها السعادة حتى إذا مل هذه اللذة إستيقظ فرأى أصدقائه من الحيوانات قد فارقته فيغشى عليه من شدة الحزن ، فتزجره الكاهنة بقولها: "أنت يا من بلغت عظمة الآلهة، كيف من الممكن أن يطيب لك العيش بين وحوش الحقول،يا ترى؟ تعال آخذك إلى أروك ، حيث يعيش جلجميش الذي لا يدينه أحد في جبروته". وسقط إنجيدوفي شرك الكاهنة التي خدعته بثنائها عليه، فسار ورائها إلى أروك وهويقول: "أريني المكان الذي فيه جلجميش ، أقاتله وأظهر له قوتي" ، فتسر بذلك الآلهة والأزواج؛ ولكن جلجميش ينتصر عليه بقوته أول الأمر ثم بعطفه وشفقته عليه بعد ذاك، ويصبح الاثنان صديقين وفيين؛ ويسيران جنبا إلى جنب يحميان أروك من عيلام، ويعودان ظافرين بعد حتى يقوما بأجل الأعمال. "وخلع جلجميش عدته الحربية، ولبس ثيابه البيض، وزين نفسه بالشارة الملكية ولبس التاج". وسرعان ما تقع إشتار الشرهة في حبه وترنوإليه بعينيها الكبيرتين، وتقول:

"تعال يا جلجميش ، وكن لي زوجاً! وقدم لي حبك هدية ، ستكون أنت ، زوجي ، وأكون زوجتك ، وسأضعك في عربة من اللازورد والمضى ، لها دواليب مضىية مطعمة بالعقيق؛ وستجرها لك آساد عظيمة، وستدخل بيتنا ومن حولك البخور المنطلق من خشب السدر... وستحتضن قدميك كلُّ الأراضي المجاورة للبحر ، وسيخر الملوك كلهم سجداً لك ، ويأتون بثمرات الجبال والسهول جزية يؤدونها لك عن يد". ويرفض جلجميش طلبها ويذكرها بما جنته على عشاقها الكثيرين ومنهم تموز ، ومنهم باشق ، وحصان ، وبستاني ، وأسد ، ويناديها قائلا: "إنك تحبينني الآن ، ولكنك ستضربينني بعد كما ضربت هؤلاء جميعاً". وتطلب إشتار وهي غضبى إلى أنوالإله الأعظم حتى يخلق ريماً مفترساً يقتل جلجميش. ويرفض أنوطلبها ويزجرها بقوله: "ألا تستطيعين السكوت وقد ذكرك جلجميش بغدرك وفضائحك؟" وتنذره بأنها يفترض أن تعطل جميع ما في الكون من غرائز الحب والشهوة، حتى يهلك جميع شيء حي. ويخضع أنولإرادتها، ويخلق الريم المفترس ، ولكن جلجميش يتغلب على هذا الوحش بمعونة إنجيدو، وتصب إشتار على البطل لعنتها فيلقى إنجيدوبأحد أطراف الريم في وجهها. ويبتهج لذلك جلجميش ويتيه عجباً، ولكن إشتار تصرعه وهوفي عنفوان مجده، وذلك بأن تصيب إنجيدوبداء عضال. ويحزن جلجميش ويبكي صديقه الذي كان أحب إليه من النساء، ويفكر في أسرار الموت، وهل ثمة وسيلة للفرار من هذا المصير المحتوم. إذا رجلا واحداً قد نجا منه وهوشمش- نيشتيم فهوإذن يعهد سر الخلود. ويقرر جلجميش حتى يمضى للبحث عن شمش- نيشتيم، ولواضطره هذا البحث إلى الطواف في العالم كله. ويجتاز الطريق الموصل إليه جبلاً يحرسه ماردان جباران يلمس رأساهما قبة السماء ويصل ثدياهما إلى الجحيم. ولكنهما يأذنان له بالمرور، ويسير اثني عشر ميلاً في نفق مظلم، ويخرج بعده إلى شاطئ بحر عظيم، ويرى من وراء مائه عرش سبيتوالعذراء إلهة البحار. ويناديها تعينه على اجتياز الماء ويقول: "إذا لم أفلح في هذا، فسألقي بنفسي على الأرض وأقضي نحبي". وتشفق عليه سبيتووتسمح له حتى يجتاز البحر في أربعين يوماً كلها عواصف وزعازع حتى يصل إلى الجزيرة السعيدة التي يسكن فيها شمش- نيشتيم المخلد أبد الدهر. ويتوسل إليه جلجميش حتى يفضي إليه بسر الخلود ويرد عليه شمش- نيشتيم بأن يقص عليه سيرة الطوفان، وكيف ندمت الآلهة على ما سببته في ثورة جنونها من دمار، وكيف أبقت عليه هووزوجته فخلدتهما لأنهما أنجيا النوع الإنساني من الفناء ويقدم إلى جلجميش نبتة تجدد ثمارها شباب من يأكلها؛ ويبدأ جلجميش رحلته الطويلة إلى بلده مغتبطاً سعيداً ولكنه يقف في طريقه ليستحم، وبينا هويعمل هذا إذ تخرج إليه أفعى وتسرق النبتة . ويصل جلجميش إلى أروك يائساً حزيناً، ويطوف بالهياكل هيكلاً بعد هيكل يصلي ويدعوالآلهة حتى ترد الحياة إلى إنجيدوولولم تطل حياته إلا ريثما يحدثه حدثة واحدة. ويظهر إنجيدوويسأله جلجميش عن حال الموتى، فيرد عليه إنجيدوبقوله: "لا أستطيع حتى أجيبك لأني لوفتحت الأرض أمامك، ولوأبلغتكما بما رأيت، لقضيت من شدة الهول، ولغشي عليك". ولكن جلجميش رمز الفلسفة، وهي تلك البلاهة الجريئة، يصر على طلب الحقيقة ويقول: "سيقضى عليّ الرعب، ويغشى عليّ، ولكن خبرني عنه". ويصف له إنجيدوأهوال الجحيم، وبهذه النغمة الحزينة تختتم الملحمة الناسيرة.

تكاد تكون سيرة جلجميش المثل الوحيد الذي نستطيع حتى نحكم به على أدب البابليين. أما الفنون الصغرى فإن ما أبقت عليه المصادفات من آثارها يشير على أنهم قد أوتوا قسطاً موفوراً من الإحساس بالجمال، وإن لم يؤتوا روح الإبداع العميقة، وعلى حتى هذا الإحساس لم يقض عليه كله انهماكُهم في الأعمال التجارية ، وفي الملاذ الجسمية، وفي تقواهم التي أرادوا حتى يعرضوا بها هذه الناحية من حياتهم. وإن بتر القرميد التي طليت وصقلت بأعظم عناية، والحجارة البراقة، وأدوات البرنز الدقيقة الصنع، والحديد والفضة، والمضى، والتطريز الجميل، والسجاجيد الوثيرة، والثياب ذات الصبغات الجميلة، والأقمشة المزركشة المعلقة على الجدران، والمناضد المرتكزة على القواعد والسرر والكراسي ، إذا هذه المخلفات كلها لتخلع على الحضارة البابلية ثوباً قشيباً من الجمال والرونق وإن لم تخلع عليها كثيراً من القيمة أوالجلال. والحلي التي عثر عليها كثيرة، ولكنها تنقصها الدقة الفنية التي نشاهدها في حلي المصريين الأقدمين؛ وكان أكبر ما يقصد بها حتى تعرض المعدن الأصفر أكثر مما تعرض الفن الجميل، ويظن صانعوها حتى من جمال الفن حتى تصنع تماثيل كاملة من المضى. وكان لدى البابليين آلات طرب كثيرة- نادى ، وقانون، وقيثار ، ومزامير القرب ، وطبول وقرون ، ومزامير من الغاب ، وأبواق ، وصنوج ، ودفوف. وكان لهم فرق موسيقية ومغنون يعزفون ويغنون فرادى ومجتمعين في الهياكل والقصور وفي حفلات الأثرياء.

وكان التصوير بالألوان من الفنون الثانوية عند البابليين ، يستخدمونه في تزيين الجدران والتماثيل ، ولم يحاولوا قط حتى يجعلوا منه فناً مستقلاً بذاته. ولسنا نجد في خرائب البابليين تلك النقوش الملونة التي تزدان بها قبور المصريين ، أوتلك المظلات التي تجمل قصور كريت. كذلك لم يرق فن النحت عند البابليين ، ويلوح حتى هذا الفن قد جمد وقضي عليه قبل حتى يكتمل نموما ورثته بابل من القواعد التي جرى بها العهد عند السومريين ، وأرغمها الكهنة على اتباعها والجري على سننها: فكل الوجوه المرسومة وجه واحد، ولكل الملوك أجسام ممتلئة قوية العضلات ، والأسرى كلهم كأن تماثيلهم صبت في نطقب واحد. ولم يبق من تماثيل البابليين إلا القليل ، ولم يكن ثمة ما يوجب هذه القلة. والنقوش الغائرة أحسن حالاً من التماثيل ولكنها هي الأخرى فجة خشنة يتحكم فيها العهد والتنطقيد؛ وثمة فارق كبير بينها وبين نقوش المصريين القوية التي حفروها من قبلهم بألف عام. ولا تصل هذه النقوش إلى غايتها إلا حين تمثل الحيوانات وهي هادئة ساكنة مهيبة في أرباضها الطبيعية، أومهتاجة أثارتها قسوة الإنسان. وليس في وسعنا الآن حتى نحكم حكماً عادلاً على فن العمارة البابلي لأننا لا نكاد نجد شيئاً من مخلفات هذا الفن يرتفع فوق الرمال أكثر من بضع أقدام ، وليس بين آثارهم صور لعمائرهم منحوتة أومرسومة، يستدل منها بوضوح على أشكال القصور والهياكل وهندسة بنائها. وكانت البيوت تبنى من الطين ، أومن الآجر إذا كانت للأغنياء منهم، وقلما كانت لها نوافذ، ولم تكن أبوابها تفتح على الشوارع الضيقة بل كانت تفتح على فناء داخلي مظلل من الشمس. وتصف الأخبار المتواترة بيوت الطبقات الراقية بأنها مكونة من ثلاث طبقات أوأربع. أما الهياكل فكانت تقوم على قواعد في مستوى سقف البيوت التي كانت تلك الهياكل تسيطر على حياة أهلها. وكان الهيكل في الغالب بناء ضخماً من القرميد مشيداً كالبيوت حول فناء تقام فيه معظم الحفلات الدينية.

ويقوم إلى جوار المعبد في أغلب الحالات برج عال يسمى بلغتهم زاجورات (ومعناها "مكان عال") يتكون من طبقات مكعبة الشكل بعضها فوق بعض، وتتناقص حدثا علت، ويحيط بها سلم من خارجها. وكانت تستخدم إما في الأغراض الدينية- فقد كان مزاراً عالياً للإله صاحب الهيكل- وإما في أغراض فلكية بأن تكون مرصداً يرقب منه الكهنة الكواكب التي تكشف عن جميع شيء في حياة الناس. وكان الزاجورات العظيم الذي في برسبا يسمى "مراحل الأفلاك السبع"، وكانت جميع طبقة من طبقاته مخصصة لكوكب من الكواكب السبعة المعروفة عند البابليين، وملونة بلون يرمز إلى هذا الكوكب. فكانت الطبقة السفلى سوداء اللون كلون زحل، والتي تليها بيضاء كلون الزهرة، والتي فوقها أرجوانية للمشتري؛ والرابعة زرقاء لعطارد؛ والخامسة قرمزية للمريخ؛ والسادسة فضية للقمر؛ والسابعة مضىية للشمس. وكانت هذه الأفلاك والكواكب تشير إلى أيام الأسبوع السبعة مبتدئة من أعلاها. ولم يكن في هذه المباني- على قدر ما نستطيع حتى نتبين من منظرها- شيء كثير من الذوق الفني، فقد كانت كلها كتلاً ضخمة من خطوط مستقيمة لا تتطاول إلى شيء أكثر من مجد الضخامة، وقد نجد في بقاع متفرقة بين الخرائب القديمة عقوداً وأقواساً، وهي أشكال أخذت عن سومر واستخدمت في غير عناية ومن غير فهم بمصيرها. وكان ما في المباني من زينات في داخلها وخارجها يكاد يقتصر على طلاء بعض أوجه الآجر، بعد صقلها، بالألوان الصفراء ، والزرقاء ، والبيضاء، والحمراء، وإقامة صور من القرميد للحيوان والنبات في مواضع قليلة من الجدران. وهذا "التزجيج" ، الذي لم يكن يقصد به تجميل البناء فحسب بل كان يقصد به أيضاً وقاية المباني من الشمس والمطر ، قديم يرجع على الأقل إلى عهد نارام- سِن، وقد ظل شائعاً في أرض النهرين إلى أيام الفتح الإسلامي. ولهذا السبب أضحت صناعة الخزف أخص فنون الشرق الأدنى القديم، وإن لم تنتج من الأواني الخزفية ما جدير بالذكر. لكن فن العمارة البابلي ظل على الرغم من هذا العون فناً ثقيلاً خالياً من الجمال والأناقة، قضت عليه المواد التي استخدمت فيه ألا يرقى إلى ما فوق الدرجة الوسطى. وما أسرع ما كانت الهياكل تقوم من الطين الذي حوَّله العمال المسخرون إلى لبنات وملاط، ولم تكن ثمة حاجة إلى قرون طوال جميع تمتلئ بها البلاد كما اجتاحت المباني الكبيرة الباقية في مصر وفي أوربا العصور الوسطى، ولكنها تهدمت بنفس السرعة التي شيدت بها أوبما يقرب منها، ولم يمض عليها إلا خمسون عاماً حتى عادت كما بدأت ترابا. وكان رخص اللبن والآجر في حد ذاته سبباً في فساد الهندسة البابلية. لقد كان يسهل حتى تقام من هذه المواد المباني الضخمة، أما الجمال فكان من الصعب حتى ُينال باستخدامها. ذلك حتى الآجر لا يعين على السمووالجلال ، والسمووالجلال هما روح العمارة.


انظر أيضاً

  • الحياة الاجتماعية في بابل وآشور

المصادر

ول ديورانت. سيرة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود. Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)

تاريخ النشر: 2020-06-04 09:44:38
التصنيفات: Pages with citations using unsupported parameters, الحضارة البابلية

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

بوتين وزيلينسكي مدعوّان إلى قمة مجموعة العشرين

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-04-30 00:16:04
مستوى الصحة: 87% الأهمية: 89%

البنتاغون يؤكد بدء تدريب العسكريين الأوكرانيين في ألمانيا

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-04-30 00:16:13
مستوى الصحة: 88% الأهمية: 89%

إشبيلية يخصِّص تكريما لياسين بونو بعد خوضه 100 مباراة بقميص الفريق

المصدر: البطولة - المغرب التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-04-30 00:15:53
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 56%

كندا.. أربعة قتلى في حادث بكلية عسكرية ملكية

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-04-30 00:16:08
مستوى الصحة: 75% الأهمية: 100%

غلق تطبيق "نبض" في مصر بعد تعرضه للاختراق ونشر أخبار كاذبة

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-04-30 00:16:12
مستوى الصحة: 85% الأهمية: 94%

مقتل صحافية في ضربة روسية على مبنى قريب من موقع عسكري في كييف

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-04-30 00:16:05
مستوى الصحة: 92% الأهمية: 92%

تشكيلة الجيش الرسمية لمباراة الوداد.. حضور رسمي للشيبي وسليم وفاتي

المصدر: البطولة - المغرب التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-04-30 00:15:53
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 54%

تركيا.. توقيف شخصين يشتبه بانتمائهما لـ"داعش"

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-04-30 00:16:11
مستوى الصحة: 83% الأهمية: 100%

الصين توقف حركة قطارات الشحن مع كوريا الشمالية

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-04-30 00:16:08
مستوى الصحة: 76% الأهمية: 100%

أجاكس طنجة يحجز بطاقة الصعود للقسم الوطني الأول هواة

المصدر: البطولة - المغرب التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-04-30 00:15:55
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 61%

أنقرة تستدعي السفير الألماني بعد خطوة مماثلة من قبل برلين

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-04-30 00:16:13
مستوى الصحة: 92% الأهمية: 86%

بطولة فرنسا: ستراسبورغ يفرض تعادلاً قاتلاً على البطل

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-04-30 00:16:04
مستوى الصحة: 87% الأهمية: 85%

النصيري "يتصالح" مع الشباك بعد "صيامه" عن التهديف لـ 7 أشهر

المصدر: البطولة - المغرب التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-04-30 00:15:52
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 69%

تحميل تطبيق المنصة العربية