كتاب البيان والتبيين من أعظم مؤلفات الجاحظ، وهويلي كتاب الحيوان من حيث الحجم ويربوعلى سائر خطه. وإذا كان كتاب الحيوان يعالج موضوعاً فهمياً فإن كتاب البيان والتبيين ينصب على معالجة موضوع أدبي. ولكن الجاحظ في هذين الكتابين، شأنه في جميع خطه، ينحومنحى فلسفياً. فهولا يقتصر في كتاب الحيوان على أخبار الحيوانات وخصالها وطباعها، بل يتطرق إلى موضوعات فلسفية كالكمون والتولد، والجواهر والأعراض، والجزء الذي لا يتجزأ، والمجوسية والدهرية الخ. وفي كتاب البيان والتبيين لا يكتفي بعرض منتخبات أدبية من خطب ورسائل وأحاديث وأشعار، بل يحاول وضع أسس فهم البيان وفلسفة اللغة.

ويعني الجاحظ بالبيان الدلالة على المعنى، وبالتبيين الإيضاح، وقد عهد الكتاب خير تعريف بقوله الوارد في مطلع الجزء الثالث: "هذا أبقاك الله الجزء الثالث من القول في البيان والتبيين، وما شابه ذلك من غرر الأحاديث، وشاكله من عيون الخطب، ومن الفقر المستحسنة، والنتف المستخرجة، والمبترات المتخيرة، وبعض ما يجوز في ذلك من أشعار المذاكرة والجوابات المنتخبة".

بعض اقوال القدماء فيه

فيه يقول أبوهلال الحسن بن عبد الله العسكري في الصناعتين، عند الكلام على خط البلاغة: ((وكان أكبرها واشهرها كتاب البيان والتبيين، لابي عثمان عمروبن بحر الجاحظ. وهولعمري كثير الفوائد، جم المنافع، لما اشتمل عليه من الفصول الشريفة، والفقر اللطيفة، والخطب الرائعة، والأخبار البارعة، وما حواه من أسماء الخطباء والبلغاء، وما نبه عليه من مقاديرهم في البلاغة والخطابة وغير ذلك من فنونه المختارة، ونعوته المستحسنة. إلا حتى الابانة عن حدود البلاغة واقسام البيان والفصاحة، مبثوثة في تضاعيفه، ومتثرة في اثنائه، فهي ضالة بين الامثلة، لا توجد الا بالتأمل الطويل، والتصفح الكثير)).

ويقول ابن رشيق القيرواني (390هـ - 463هـ) في العمدة: ((وقد استفرغ أبوعثمان الجاحظ—وهوعلامة وقته - الجهد، وصنع كتابا لا يبلغ جودة وفضلا، ثم ما ادعى احاطته بهذا الفن، لكثرته، وان كلام الناس لا يحيط به الا الله عز وجل)).

اما ابن خلدون المغربي (732هـ - 808هـ)فيسجل لنا رأي قدماء الفهماء في هذا الكتاب، إذ يقول عند الكلام على فهم الأدب: ((وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم حتى أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين: وهي أدب المحرر لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب الأمالي لأبي علي النطقي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها)).

ونلفي في جميع جزء من أجزاء الكتاب الثلاثة بحثاً في البيان والتبيين، ومجموعات من الأحاديث والخطب والمبترات والجوابات والأشعار. ولقد التزم الجاحظ هذا التصميم وقصد إليه قصداً ليجنب القارئ الملل أوالسأم بتنويع الموضوعات. وقد عبر عن ذلك بقوله: "وجه التدبير في الكتاب إذا طال حتى يداوي مؤلفه نشاط القارئ له، ويسوقه إلى حظه بالاحتيال له، فمن ذلك حتى يخرجه من شيء إلى شيء، ومن باب إلى باب، بعد حتى لا يخرجه من ذلك الفن، ومن جمهور ذلك الفهم".

بهذا برر الجاحظ طرقه الموضوعات ذاتها في جميع جزء من أجزاء الكتاب. فموضوع فهم البيان وفلسفة اللغة توزع على الأجزاء الثلاثة: في الجزء الأول تحدث عن مفهوم البيان وأنواعه، وآفات اللسان، والبلاغة والفصاحة. وفي الجزء الثاني تحدث عن الخطابة وطبقات الشعراء, وفي الجزء الثالث تحدث على أصل اللغة وقيمة الشعر. وفي جميع جزء من الأجزاء الثلاثة أورد أبوعثمان منتخبات من كلام الأنبياء، خطباً ومبترات وأحاديث ورسائل وأشعاراً، نسبها إلى مختلف طبقات الناس: عقلاء وحمقى، نساك ومتهتكين، أعراب ومتحضرين، رؤساء وسوقة.

بعض ماورد في الكتاب

35ـ الخروج مما بُني عليه أول الكلام إِسهاب.

44ـ وأجرأ من رأيت بظهر عيب.......على عيب الرجال ذووالعيوب

58ـ القلم أحد اللسانين، والقلم أبقى أثراً، واللسان أكثر هذراً.

66ـ إذا كان الحب يعمي عن المساوي فالبغض يعمي عن المحاسن.

74ـ حدِّث الناس ما حرجوك بأبصارهم وأذنوا لك بأسماعهم، فإن رأيت منهم فترة فأمسك.

81ـ كان السلف يخافون من فتنة القول أكثر مما يخافون من فتنة السكوت.

85ـ كانوا يمدحون جهور الصوت، ومدحوا سعة الفم.

94ـ قيل لعبد الملك بن مروان: عجل لك الشيب فنطق : وكيف لا يعجل علي، وأنا أعرض عقلي على الناس في جميع جمعة مرة أومرتين.

110ـ مذاكرة الرجال تلقيح لألبابها.

119ـ نطق الحسن : لسان العاقل وراء قلبه فإذا أراد الكلام تفكر، فإن كان له نطق، وإن كان عليه سكت.

131ـ دع الاعتذار، فإنه يخالطه الكذب.

ـ يهلك الناس في فضول الكلام وفضول المال.

141ـ يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق.

144ـ إذا لم يكن ما ترغب فأرد ماقد يكون.

164ـ كان عمر بن الخطاب لا يعرض له أمراً إلا أنشد فيه شعراً.

173ـ عليك بأوساط الأمور فإنها.....نجاة ولا هجرب ذلولاً ولا صعبا

183ـ السكوت عن قول الحق هوفي معنى النطق بالباطل.

200ـ نطق عمر : استغزروا الدموع بالتذكر.

38ـ خطب أحدهم.. ثم نطق أحد السامعين هذا خطيب العرب، لوكان في خطبته شيء من القران.

40ـ طبقات الشعراء : شاعر، شويعر، شعرور.

58ـ نشاط القائل على قدر فهم السامع.

59ـ سوء الاستماع نفاق.

ـ التثبت نصف العفو.

80ـ إنما الناس أحاديث فإن استطعت حتى تكون أحسنهم حديثاً فاعمل.

81ـ من لم يصبر على حدثة سمع حدثات.

84ـ اصحب من يتناسى معهد لديك ويتذكر إحسانك إليه، وحقوقك عليه.

89ـ لكل داخل دهشته فآنسوه بالتحية.

92ـ ما قرأتُ كتاب رجل قط إلا عهدت فيه عقله.

93ـ نطق حذيفة : كن في الفتنة كابن لبون لا ظهر فيركب ولا لبن فيُحلب.

96ـ ثلاثة أشياء تدل على عقل صاحبها : الكتاب، الرسول، الهدية.

100ـ قيل لبعض الفهماء : أي الأمور أمتع ،يا ترى؟ نطق : مجالسة الحكماء، ومذاكرة الفهماء.

167ـ لا تسم غلامك إلا باسم يخف على لسانك.

171ـ نطق عمر : تفهموا اللحن كما تفهمون السنن والفرائض.

173ـ قيل لأعرابي : ألقي عليك بيتاً نطق : على نفسك فألقه.

213ـ كن إلى الاستماع أسرع منك إلى القول.

ـ الفهم مثل السراج من مر به اقتبس منه.

5ـ نطق عمر : من خير صناعات العرب الأبيات يقدمها الرجل بين يدي حاجته، يستنزل بها الكريم، ويستعطف بها اللئيم.

9ـ قيل لعمر : فلان لا يعهد الشر، نطق : ذلك أجدر حتى يقع فيه.

26ـ نطق أيوب : في أصحابي من أرجودعوته ولا أقبل شهادته.

27ـ وإن سيادة الأقوام فافهم لها صعداء مطلعها طويل

71ـ نطق أحد الفهماء : اقصد من أصناف الفهم إلى ما أشهى إلى نفسك وأخف على قلبك فإن نفاذك فيه على حسب شهوتك له، وسهولته عليك.

117ـ سئل عمر بن عبد العزيز عن قتلة عثمان، فنطق : تلك دماء كف الله يدي عنها، فأنا لا أحب حتى أغمس لساني فيها.

163ـ نطق ابن واسع : الإبقاء على العمل أشد من العمل.

165ـ رأيت صلاح المرء يصلح أهله..........ويعديهم داء الفساد إذا فسد

يُعظم في الدنيا بفضل صلاحه.......ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد

تسليم عنوان الكتاب

وُجّه سؤال لفضيلة العلامة المحقق عبد السلام هارون: (سمعتكم تقولون... «البيان والتبَيُّن»، وقد كان المتداول في اسم الكتاب هو«البيان والتبيين» ما تفسيركم لذلك ؟

هذه ملاحظة وجيهة بلا ريب، وأنا معك في أنّ المعروف المتداول في اسم الكتاب هو«البيان والتبيين» – بياءين – ولكن طبيعة الأمور ترى أنّ هذه التسمية لا تتسار مع المنطق، فإنّ البيان هوالتبيين بعينه، ونحن نربأ بالجاحظ حتى يقع في مثل هذا العيب في تسمية أشهر خطه وأسيرها. والدارس لهذا الكتاب يرى أنه ذوشقين متداخلين:

الشق الأول: هوما اختاره الجاحظ من النصوص والأخبار والأحاديث والخطب والوصايا، وكلام الأعراب والزهّاد ونحوذلك، وهويعنيه الجاحظ بحدثة «البيان».

والشق الثاني: هوالنقد الأدبي في صورته المبكرة، فللجاحظ في هذا الكتاب نظرات فاحصة في نصوصه، وفي الكلام بصفة عامة، تسمى بعد ذلك بفن «النقد»، فهذه النظرات والقواعد التي ساقها الجاحظ هوما عناه بحدثة «التبيُّن».

هذا من ناحية، وهناك ناحية أخرى تاريخية وثائقية فإنّ النسخ العتيقة من هذا الكتاب – وقد أثبتُّ صورتها في تقديمي للكتاب – تبتر بأنّ عنوانه هو«البيان والتبيُّن» وهذا ما يجده القاريء بوضوح في مصورة مخطوطة كوبريلي المحفوظة بدار الخط المصرية تحت رقم (4370 أدب)، وتاريخ كتابتها هوسنة 684، وكذلك نقرأ هذا العنوان بوضوح في مصورة مخطوطة مخطة فيض الله، وهي في معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية تحت رقم (887) وهناك بحمد الله صورة منها، وهذه النسخة مكتوبة بخط أبي عمرومحمد بن يوسف بن حجاج اللخمي. وقد قرأها على الإمام أبي ذر ابن محمد بن مسعود الخشني في سنة 587 هج، وخط هذا الناسخ أنه عثر في آخر السِّفرالذي نسخ منه الثلث الثالث من هذا الكتاب ما نصه:

«خط هذا السفر، وهومشتمل على كتاب البيان والتبيُّن نسخة أبي جعفر البغدادي، وهي النسخة الكاملة، فتم بعون الله وتأييده في غرة ربيع الآخر من سنة سبع وأربعين وثلثمئة». أي بعد وفاة الجاحظ بمدة لا تزيد على 92 سنة.

وسأُعيد هذه التسمية السليمة إلى نصابها في الطبعة الخامسة إذا شاء الله تعالى.) انتهى. «قطوف أدبية» (ص: 97 – 98).

الهوامش

وصلات خارجية

• كتاب البيان والتبيين

• نقاش حول عنوان الكتاب