ثلاثية الإسكندر
ثلاثيةالإسكندر لماري رينولت: حياته وبطولاته وأشباحه
من بين القادة العسكريين الذين مروا عبر تاريخ البشرية، واشتهر الواحد منهم بتطلعات تتجاوز بلده أوحتى منطقته أوالقارة التي ينتمي إليها، قد يحدث الفرنسي نابوليون بونابرت الأكثر حظوة لدى الرسامين ثم لدى السينمائيين من بعدهم. وفي اللقاء من المؤكد حتى سلفه الكبير الإسكندر المقدوني لم يرسم كثيراً، كما حتى عدد الأفلام التي حققت عنه يظل محدوداً... حتى وإن كان من حظه حتى التفت إليه، أخيراً، المخرج الأميركي الكبير اوليڤر ستون فحقق عنه ملحمة سينمائية. ملحمة ستون عن الإسكندر لم تحظ، كما نعهد، بنجاح فوري... ولكن من الواضح حتى هذه الملحمة السينمائية ستعيش طويلاً. ليس لأنها من إخراج أوليفر ستون، ولا لأنها تتحدث عن الفاتح المقدوني الكبير، بل تحديداً، لأن فيها معنى ومبنى، ما يتجاوز البعد السينمائي أوبعد السيرة الذاتية. هي عمل فلسفي عن البطولة وعزلة البطل في لحظاته الصعبة. ففي هذا العمل تمكّن أوليفر ستون من التقاط جوهر شخصية البطل، وطرح تساؤلاته حول جدوى ما يعمل، وكذلك حول مقدار فهم تصرفاته وأفعاله من الآخرين. بالنسبة إلى أوليفر ستون، البطل - حتى ولوكان عسكرياً غازياً - هوشاعر طفل في نهاية الأمر. والطفل/ الشاعر هنا يظهر الكون كله لعبته و... قصيدته.
شيء مثل هذا نجده في واحد من الخط الكثيرة التي وضعها مؤلفون عن الإسكندر الكبير خلال القرن التاسع عشر والقرن الذي يليه. إذ، لئن كان نابوليون حظي بالقسط الأوفر من الأفلام والرسوم، فإن الإسكندر كان صاحب النصيب الأكبر من الخط والدراسات. ويمكن التوقف هنا عند كتاب غني صدر عن الإسكندر في العام 1970 للمحررة الإنكليزية ماري رينولت. ولعل أهمية هذا الكتاب تكمن في حتى صدروه اتى في وقت كانت انقضت فيه فترة طويلة جداً، منذ وضعت آخر الخط السابقة له عن الفاتح القديم. ومن هنا اتى كتاب ماري رينو، ليعيد إحياء الأسطورة من جديد، بعد حتى مرّ زمن بدا خلاله حتى قسوة الواقع رمت الأساطير إلى مواقع ثانوية من الاهتمام... وخصوصاً حتى آخر كتاب كان قد صدر عن الإسكندر قبيل الحرب العالمية الثانية كان رواية عن غرامياته وضعها كلاوس مان، ابن المحرر الألماني الكبير توماس مان. إذاً، حين أصدرت ماري رينوكتابها، كان قد بات من الضروري العودة إلى الإسكندر، ليس كعاشق، وليس كفاتح، بل كأسطورة... وكبطل غربي حقيقي. في ذلك الزمن كانت أوروبا - وعالم الغرب عموماً - قد بدآ يخلوان من الأبطال والأساطير... اللهم، لا إذا تحدثنا عن الأبطال المضادين، والأساطير السوداء... المرتبطة بعدد من طغاة القرن العشرين.
ملخص
الكتاب الروائي الذي وضعته ماري رينولت عن الإسكندر أتى ضخماً في ثلاثة أجزاء يقع جميع منها في نحو400 صفحة من البتر الكبير. ولقد جعلت المحررة عملها على شكل ثلاث روايات لكل منها نوع من الاستقلال، عنونت الرواية الأولى «نار من السماء» Fire from Heaven والثانية «الطفل الفارسي» The Persian Boy والثالثة «مباريات جنائزية» Funeral Games.
الرواية الأولى: نار من السماء
في الرواية الأولى، التي يراها بعض الدارسين الأكثر غنى وقوة من بين الروايات الثلاث، تشتغل المحررة على العشرين سنة الأولى من حياة الإسكندر، أي السنوات التي تمتد من مولده في العام 356 ق.م. حتى وفاة والده فيليب في العام 336 ق.م. في اغتيال تسبب فيه كما يظهر ما قام به من تطويع لبلاد اليونان كلها، وتحضير للحرب ضد الفرس. تلك السنوات كانت في حياة الإسكندر سنوات التأسيس. من هنا تصفها لنا المحررة بكل تفاصيلها وجنون صاحبها... ولعل أبرز ما تصفه لنا هنا هوالتأثير الذي كان على الطفل من جرّاء المشكلات العنيفة بين أبيه وأمه أوليمبيا، ثم لقاؤه الأول بحصانه الحبيب الذي سيرافقه طويلاً ويصبح جزءاً من شخصيته، ناهيك بلقائه الأول مع أول عشيق له، ما سيحدد حياته الجنسية اللاحقة كمثلي الجنس. لكن الأهم من هذا حتى المحررة تصف لنا هنا، لقاء من نوع آخر جرى بين الإسكندر و... إلياذة هوميروس، ذلك الكتاب الذي قرأه باكراً وشغف به، وصار لا يكف عن قراءته مرة أثر مرة. وفي هذا الإطار تحدثنا ماري رينو، عن تماهي الإسكندر المبكر مع آستيل، إحدى الشخصيات الرئيسة في الملحمة. وقراره المبكر بأنه حين يكبر سيقدم على ما هم آستيل بعمله لكنه لم يعمله: غزوالعالم. ولما كان مثل هذا الغزوليس - بالنسبة إلى البطل الصغير - عملاً عسكرياً وحسب، بل فكرياً أيضاً، سيكون للقاء آخر مع الفيلسوف أرسطوطاليس، دور كبير في حياته. إلى غير ذلك، حين يرث الإسكندر عرش أبيه المغدور، سيكون في العشرين من عمره، لكن طموحه سيكون من دون حدود، ولكن كذلك مقدرته العقلية وثقافته: سيكون بطلاً مكتملاً... في طريقه لأن يتحول إلى أسطورة.
الرواية الثانية: الطفل الفارسي
في الرواية الثانية «الطفل الفارسي» ستكون الأسطورة قد بدأت في التكوّن. لكن الحكاية تروى لنا هذه المرة على لسان فتى فارسي من الخصيان، كان جزءاً من حاشية الملك داريوس، وتحوّل ليصبح فرداً من حاشية الإسكندر. وما يرويه لنا هذا الخصيّ الفاتن هنا، إنما هوغزوات الإسكندر منذ مبارحته مناطق مقدونيا واليونان، حتى موته في بابل، مروراً بوصوله، غازياً، إلى وسط آسيا والهند، والصعوبات التي اعترضت طريقه، ولحظات السعادة والإحباط التي عاشها، ولحظات المجد والخوف التي اختبرها. ولأن الأساطير لا تكون من دون محن، ها هي المحن تتتابع على الإسكندر في الأصقاع الآسيوية. ها هويتأرجح أمام الهوّة التي تفرق بين طموحاته وبين إمكانيات رجاله. ها هي آسيا أمامه فاغرة فاها لابتلاعه. ولكن ها هوأمامنا بطل حقيقي يقاوم ويقاوم، حتى يحقق جزءاً كبيراً مما كان يريد في الأصل تحقيقه. وها هوأخيراً، يعود ليحتل بابل، جوهرة العالم في ذلك الحين، ما أشعره بالرضا وجعله يحسّ أنه، مهما كان من أمر الجغرافيا، فإنه لعب مع التاريخ لعبته، ويمكنه إذ يموت الآن شاباً...يمكنه حتى يموت وباله مرتاح.
الرواية الثالثة: مباريات جنائزية
في الرواية الثالثة،قد يكون الإسكندر قد مات... ومن هنا فإن هذه الرواية - وهي الأضعف بين المجموعة - تتحدث عن الصراعات التي دارت من بعده. إنه حاضر هنا كظل... كشبح، كذكرى... ولكن ليس كبطل ولا كأسطورة. ناهيك بأنه ليس حاضراً جسدياً، هونفسه... ومن هنا يصبح مناخ هذه الرواية الأخيرة ميكانيكياً، خالياً من الروح، حتى وإن كانت نهايتها تعيدنا إلى الإسكندر من جديد.
المؤلف
تتميز روايات ماري رينولت الثلاث هذه - وفق رأي الدارسين - بوضوح يضيء عملاً، وبأفضل ما يمكن، على حياة ذلك البطل الذي لا يتوقف تاريخه عن مساءلتنا حول البطولة والدور الذي يمكن للناس/ الأساطير حتى يلعبوه في هذا الكون. وإضافة إلى هذا فإن المحررة، حتى وإن كانت شغّلت خيالها كثيراً، فإنها لم تخرج، في الروايات الثلاث، عن السياق التاريخي، هي التي اعتمدت بالنسبة إلى الوقائع التاريخية على خط الأقدمين ولا سيما پلوتارخ وكونت كورتشي.
ماري رينولت Mary Renault (عاشت 1905 - 1983) التي ولدت في لندن وعاشت معظم سنوات حياتها في جنوب أفريقيا، لم تكن، حين خطت ثلاثية الإسكندر هذه، دخيلة على الرواية التاريخية، فهي تجاوز لها حتى خطت رواية عن سقراط، وأخرى عن»قناع أبولون». وتتحدث فيها عن ممثل عاش في زمن أفلاطون، لتقدم من خلاله حكاية ذلك التاريخ اليوناني المؤسس للفكر البشري. أما ثلاثية الإسكندر فإنها هي نفسها نطقت إذا غايتها منها إنما كانت تصوير بطل متحضّر محدّث وهويقابل همجيات العالم القديم.
المصادر
- دار الحياة - ابراهيم العريس