نظرية الفهم أوالإبستمولوجيا Epistemology حدثة مؤلفة من جمع حدثتين يونانيتين : episteme بمعنى فهم وlogos بمعنى : حديث ، فهم ، نقد ، دراسة فهي اذا دراسة العلوم النقدية . تعتبر نظرية الفهم أحد فروع الفلسفة الذي يفهم طبيعة ومنظور الفهم ، المصطلح بحد ذاته (إبستمولوجيا) يعتقد حتى من صاغه هوالفيلسوف الاسكتلندي جيمس فريدريك فيرير(1808 - 1864) حين ألف كتابه مبادئ الميتافيزيقا. إذ قسم الفلسفة فيه إلى قسمين: أنطولوجيا وإبستيمولوجية.

أما المعنى المعاصر لمصطلح إبستيمولوجية في الفلسفة العربية والفرنسية فهو: الدراسة النقدية للفهم الفهمية.

يعهدها لالاند في معجمه الفلسفي بأنها فلسفة العلوم، وهي تختلف بهذا عن فهم مناهج العلوم ( ميثودولوجيا ) لأن الايبستمولوجيا تدرس بشكل نقدي مبادئ كافة أنواع العلوم وفروضها ونتائجها لتحديد أصلها المنطقي وبيان قيمتها .

معظم الجدل والنقاش في هذا الفرع الفلسفي يدور حول تحليل طبيعة الفهم وارتباطها بالترميزات والمصطلحات مثل الحقيقة، الاعتقاد، والتعليل (التبرير). تدرس الإبستمولوجيا أيضا وسائل إنتاج الفهم ، كما تهتم بالشكوك حول غنادىءات الفهم المتنوعة . بحدثات اخرى تحاول الإبستمولوجيا حتى تجيب عن الأسئلة : "ماهي الفهم؟" "كيف يتم الحصول على الفهم؟". ومع حتى طرق الإجابة عن هذه الأسئلة يتم باستخدام نظريات مترابطة فإنه يمكن عمليا فحص جميع من هذه النظريات على حدة.

مدارس الابستمولوجيا مختلفة, فالتجريبيون يردون الفهم إلى الحواس, والعقليون يؤكدون حتى بعض المبادىء مصدرها العقل لا الخبرة الحسية, وعن طبيعة الفهم, يقول الواقعيون ان موضوعها مستقل عن الذات العارفة, ويؤكد المثاليون حتى ذلك الموضوع عقلى في طبيعته لأن الذات لا تدرك إلا الأفكار. وكذلك تختلف المذاهب في مدى الفهم: فمنها ما يقول حتى العقل يدرك الفهم اليقينية, ومنها ما يجعل الفهم كلها احتمالية, ومنها ما يجعل فهم العالم محالة.

النشأة

ومع حتى مفهوم «الفهم» حاضر في تاريخ الفلسفة، ولاسيما عند أفلاطون وأرسطووديكارت ولوك وليبتنز فإن الإبستيمولوجية بوصفها مبحثاً مستقلاً موضوعه الفهم الفهمية، لم تنشأ إلا في مطلع القرن العشرين حين اتجهت إلى تحديد الأسس التي يرتكز عليها الفهم، والمراحل التي يتألف منها، وإلى نقد العلوم والعودة إلى مبادئها العميقة. وذلك بتأثير التقدم السريع للفهم، والاتجاه نحوالمجال المتزايد، وما ولدّه ذلك من تغيّر في بنية منظومة العلوم، ومن صعوبات وإشكالات ذات طبيعة نظرية.

الإختلاف بين الإبتسيمولوجيا ونظرية الفهم

والإبستيمولوجية بوصفها الدراسة النقدية للفهم تختلف عن نظرية الفهم.

ففي حين تتناول نظرية الفهم théorie de la connaissance عملية تكون الفهم الإنسانية من حيث طبيعتها وقيمتها وحدودها وعلاقتها بالواقع، وتبرز - بنتيجة هذا التناول - اتجاهات اختبارية وعقلانية ومادية ومثالية، فإن موضوع الإبستيمولوجية ينحصر في دراسة الفهم الفهمية فقط.

وإذا كانت الإجابات التي تقدمها نظرية الفهم «إطلاقية» وعامة وشاملة، فإن الإبستيمولوجية تدرس الفهم الفهمية في وضع محدد تاريخياً، من دون حتى تنزع نحوإجابات مطلقة.

بل ترى الإبستيمولوجية في التعميمات الفلسفية لنظرية الفهم عائقاً أمام تطور الفهم الفهمية. ذلك حتى التصورات الزائفة عن الفهم تؤثر سلبياً في مجال الفهم الفهمية، وخاصة حين تضع حدوداً للفهم.

فالإبستيمولوجية ليست استمراراً لنظرية الفهم في الفلسفة بل هي تغير كيفي في النظر إلى علاقة الفلسفة بالفهم، وتجاوز للتناقض بين نظرية الفهم والفهم.

وليس هذا فحسب، بل إذا الإبستيمولوجية أتت على ما كان يعهد بفلسفة الفهم philosophy of science التي تولدت من علاقة الفلسفة بالفهم وتناولت جملة موضوعات أهمها علاقة الفهم بالمجتمع وتأثيره في تكوّن النظرة الفلسفية إلى الطبيعة والكون.

الإختلاف بين الإبستيمولوجيا ومنطق الفهم

أما من حيث الاختلاف بين الإبستيمولوجية ومنطق الفهم logic of science، فإن منطق الفهم أقرب المباحث إلى الإبستيمولوجية. ذلك لأنه يحلل لغة الفهم تحليلاً منطقياً. ويبحث في مناهج الكشف الفهمي ومنطقه، لكن أنصاره يبترون جميع صلة بينه وبين الفلسفة.

المشكلات التي تتطلب التدخل الإبستيمولوجي

وإذا كانت الإبستيمولوجية مبحثاً موضوعه الفهم الفهمية، وهدفه التحليل النقدي لها، فما هي مشكلات الفهم التي تتطلب تدخلاً إبستيمولوجياً؟

تعد معضلة المسار الذي تسلكه الفهم الفهمية واحدة من أبرز مشكلات الإبستيمولوجية.

ولقد انقسم الإبستيمولوجيون - في النظر إلى هذه المشكلة - إلى فريقين: فريق نظر إلى مسار الفهم على أنه سيرورة متصلة مستمرة لا انقطاع فيها ولا انفصال.

وفريق آخر رأى حتى مسار الفهم مسار انقطاع واضطرابات وأزمات وثورات. ويعد إميل ميرسون Emil Meyerson وليون برنشفيك Léon Brunschvicg أبرز نادىة الاتجاه الذي يقول بالاستمرارية. والفهم الفهمية - من وجهة نظر هذا الاتجاه - استمرار وتطور للفهم العادية. كما حتى جميع فهم فهمية جديدة هي استمرار للفهم الفهمية السابقة فتاريخ الفهم سلسلة يتولد بعضها من بعض. وما التغير الذي يحدث في الفهم إلا تغير تدريجي. ويدللون على صحة رأيهم بالتطور التدريجي للمنهج الفهمي وطريقة انتشاره.

أنماط نظريةالفهم

المنهج الفهمي الاستمراري

فالمنهج الفهمي الاستقرائي الحديث تمتد جذوره في الماضي، وقد تمَّ انتشاره واستيعابه شيئاً فشيئاً عن طريق فهماء متخصصين في العلوم الطبيعية ولاسيما في فهم الفيزياء.

أما من حيث لغة الفهم، فيرى أنصار الاستمرارية أنها استمرار للغة العامة، مع تميز لغة الفهم من هذه الأخيرة بطابعها الرمزي.

المنهج الفهمي اللااستمراري

أما الاتجاه الثاني الذي يقول باللااستمرارية وأهم ممثليه غاستون باشلار وتوماس كوهن Th. Cohn ولوي ألتوسير Louis Althusser وميشيل فوكوFoucault فإنه ينطلق - على العكس من الاتجاه السابق - من حتى تاريخ الفهم تاريخ قطْعٍ بين المعارف الفهمية البالية والمعارف الباقية.

مفهوم القطيعة الإبستيمولوجية

والذي يفصل بين هذين النمطين من الفهم الفهمية هومفهوم القطيعة الإبستيمولوجية. ليست الفهم الفهمية امتداداً للفهم العامية، بل هي انتنطق من التجربة إلى «العقلنة» rationalization ومن الملاحظة المضطربة إلى الفهم الموضوعية.

ولوصح حتى الفهم الفهمية هي استمرار للفهم العامية لصح حتىقد يكون اختراع المصباح الكهربائي استمراراً للمصباح العادي.

ولكن الأمر ليس على هذا النحو، فاختراع المصباح الكهربائي ثمرة فهم فهمية بالعلاقات بين الظواهر، ودراسة وصلت فترة التعبير عن هذه العلاقات بصيغ رياضية.

كما حتى المنهج الفهمي ذاته لايقوم على الاستمرارية، فكتاب ديكارت «منطق في المنهج» لاينطوي اليوم على أي فائدة تذكر في البحث الفهمي، كما حتى منهج بيكون الاستقرائي لم يعد صالحاً في تحصيل الفهم الفهمية.

ولغة الفهم - هي الأخرى - تختلف اختلافاً كلياً عن اللغة العادية، فاللغة التي تستخدمها الفيزياء ذات دلالة مختلفة عن اللغة العادية. حتى لواستعارت الفيزياء لغتها من هذه الأخيرة فلحدثة ذرّة في الفيزياء معنى مختلف عن حدثة ذرّة في اللغة العادية.

معايير لغة الفهم في القطيعة الإبستيمولوجية

لغة الفهم ومناهجه معياران أساسيان في حدوث القطيعة الإبستيمولوجية.

فلغة الفهم لغة متجددة دائماً والفهم صوغ مستمر للمفاهيم والمصطلحات، إلى حد تغدومعه لغة الفهم الجديدة مختلفة عن لغة الفهم القديمة.

فلغة المنطق الرمزية عند رَسِلْ مختلفة كلياً عن لغة منطق أرسطو، لأن لغة المنطق الرمزية لاتحتمل أكثر من معنى واحد.

وقد توصل مؤسسوفهم الفيزياء الحديث إلى حتى المنهج الاستقرائي أصبح عاجزاً عن قراءة كتاب الطبيعة، ولهذا عولوا على المنهج الاستنباطي الرياضي . ولقد توصل نيوتن إلى نظريته في الميكانيك وقانون الجاذبية عن طريق المنهج الاستنباطي وليس عن طريق الاستقراء.

تصنيف العلوم

وإلى جانب مسألة تاريخ الفهم تبحث الإبستيمولوجية في مسألة تصنيف العلوم. وهي مسألة عالجتها الفلسفة من قبل، غير حتى الإبستيمولوجية رفضت التصنيف السكوني للعلوم الذي يقوم على أساس تصنيف الملكات الذي يعود إلى أرسطو. إذ صنّفت العلوم وفقاً للملكات عل النحوالآتي:

1. ملكة العقـل: وتضم الرياضيات والفيزياء والفلسفة.
2. ملكة الذاكرة: وتضم التاريخ والتاريخ الطبيعي.
3. ملكة الخيال: وتضم الشعر.

تصنيف أوغست كونت

كما تجاوزت الإبستيمولوجية تصنيف العلوم على أساس الانتنطق من أكثر العلوم عمومية وبساطة إلى أكثرها خصوصية وتعقيداً، وهوتصنيف يعود إلى أوغست كونت .

تصنيف ب. كيدروف

مع ذلك يتفق الإبستيمولوجيون على تصنيف موحد للعلوم فهناك التصنيف الجدلي للعلوم الذي قدمه الإبستيمولوجي السوفييتي ب. كيدروف الذي يرى حتى العلوم ثلاثة أنواع:

العلوم الطبيعية، والعلوم الاجتماعية، والعلوم الفلسفية، مقتفياً في ذلك أثر أنغلز . ولكنه رأى حتى هناك علوماً متوسطة بين العلوم السابقة، فالعلوم التطبيقية: كالزراعة والطب، تقع بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية. والرياضيات تقع بين العلوم الطبيعية والعلوم الفلسفية. ويرتبط فهم النفس بجميع العلوم الأخرى إذ يرتبط بالعلوم الطبيعية من طريق نظرية النشاط العصبي ويرتبط بالعلوم الاجتماعية عن طريق فهم اللغة ويرتبط بالعلوم الفلسفية عن طريق المنطق ونظرية الفهم. أما الفلسفة فإنها تنفذ إلى جميع العلوم لأنها تمدها بالمنهج العام.

تصنيف جان بياجيه

أما جان بياجيه فيقسم العلوم إلى مجموعات أربع: العلوم المنطقية الرياضية والعلوم الفيزيائية والعلوم البيولوجية والعلوم النفسية - الاجتماعية ومنها الألسنية وفهم الاقتصاد. وبين هذه العلوم علاقة متبادلة.

تصنيف فوكو

ويقترح فوكوتصنيفاً آخر للعلوم مؤسساً على مجال الفهم العام ذي الأبعاد الثلاثة:

البعد الأول: هوالعلوم الرياضية والفيزيائية، وهي العلوم التي يقوم نظامها على تسلسل استنباطي للحقائق البدهية أوالتي يتم التدليل عليها بالبرهان.

والبعد الثاني: هوعلوم الحياة والاقتصاد واللغة. وهي علوم تدرس ظواهر مستقلة لكنها ترتبط بروابط كليّة، وما يربط بين البعد الأول والثاني هواستخدام الرياضيات.

البعد الثالث: الفلسفة، يرتبط هذا البعد بالبعد الثاني بتشابه الموضوعات. «الحياة والإنسان والرموز» كما يرتبط بالبعد الأول بإضفاء صفة الصورية على الفكر.

أما العلوم الإنسانية فلامكان لها في تصنيف كهذا وهذا لايعني أنه لا وجود لها، بل هي موجودة على تخوم العلوم السابقة. عملم النفس يعتمد على النموذج البيولوجي. ذلك لأنه يفهم جميع ما امتداد للوظائف البيولوجية، وما يؤدي إلى قيام تمثل لدى الإنسان.

ويعتمد فهم الاجتماع على فهم الاقتصاد، لأن موضوعه الإنسان الذي ينتج ويستهلك ويقيم علاقات مع المجتمع الذي يعيش فيه.

وفهم الآداب والأساطير يجد نموذجه في فهم اللغة، ومهما يكن من اختلاف في تصنيف العلوم، فإن هذا التصنيف يهدف إلى تحديد العلاقة المتبادلة بين العلوم، من حيث موضوعاتها ومناهجها. وتحديد أوجه التشابه والاختلاف بين أشكال الفهم الفهمية ومن الصعب تقديم تصنيف تام للعلوم ذلك لأن هناك علوماً جديدة دائماً وانقساماً مستمراً للعلوم القديمة. واكتشافاً لترابطات تنشئ علوماً متوسطة كالكيمياء الحيوية والفيزياء الحيوية والكيمياء الجيولوجية وغيرها.

إنتاج الفهمالفهمية

وإذا كانت مشكلتا سيرورة الفهم وتصنيفه تنتميان إلى تاريخية الفهم فإن بنية الفهم الفهمية تطرح - إبستيمولوجياً - مسألة إنتاجها والعلاقة التي تقوم بين الذات والموضوع وبين العقل العالم ومعطيات الواقع، ليصار إلى تحديد دقيق للواقعة الفهمية.

فالعلاقة التي تقوم بين الذات والموضوع في الفهم الفهمية علاقة مركبة، فلاوجود لواقعة فهمية تُسند إلى معطيات مباشرة فقط من دون مبادئ عقلية، كما أنه لاوجود لمبادئ عقلية من دون معطيات مباشرة.

ولما كان الفهم يهدف إلى تحقيق الفهم النظرية، فالفهم النظرية هي ثمرة العلاقة المركبة بين العقل والطبيعة. وإذا كانت العلاقة بين الذات والموضوع قد فهمت في المراحل المبكرة من تطور الفهم على أنها محادثة بين الذات، والموضوع المناقض لها، فإن الفهم المعاصر قد دلل على تعقيد هذه العلاقة، فالحوار بين الذات والموضوع يجري اليوم بين عقل مسلح بكل الفهم السابقة والموضوع الذي ركّبه نشاط العالم العقلي.

ففي الفيزياء والكيمياء المعاصرتين لم تعد ظواهر العالم الخارجي - بوصفها معطيات مباشرة - هي موضوع الفهم الفهمية، بل تلك الموضوعات المعقدة التي نشأت بعمل هجريب دقيق وعميق من قبل العالِم المسلح بتقنية عالية، من دون حتى تفقد هذه الموضوعات واقعيتها.

وقد أصبحت التجربة الفهمية، في ضوء ما تقدم صورة للنشاط الاختباري والمنطقي للذات. ولم يعد موضوعها صورة طبق الأصل عن الواقع الموضوعي. إنها ثمرة شروط هي ثمرة تدخل العالِم، وإن تدخل الذات - العالِمة قد طرح مسألة الدور الفاعل للذات في الفهم الفهمية. فالفهم - أساساً - يقوم بوصف علاقات بين متغيرات. والنظريات الفهمية لاتنطوي إلا على عدد محدود من المتغيرات، على النقيض من الواقع الذي يحتوي على عدد كبير منها. فالظاهرة يمكن حتى تتأثر بعوامل لاحصر لها. ويقتضي وصف الظاهرة ـ فهمياً ـ إزاحة جملة من الصفات السطحية غير المهمة. ووضع فرضيات فهمية عما هوأساسي وغير أساسي.

ونتيجة لذلك لم تعد الواقعة الفهمية مجرد ظاهرة خاصة، بل هي ثمرة تدخل نشط وفعّال لذات تتصف بالقدرة على التخيّل.

فكل كشف أوتوسع في الفهم الفهمية يبدأ، بوصفه تصوراً خيالياً قبْلياً لما يمكن حتى تكون عليه الحقيقة الفهمية. ولايمكن فهم عمل الخيال إلا من حيث هوإعمال العقل أواستخدام الحواس.

غير حتى العالِم لايستطيع حتى يحوّل حدسه أوخياله إلى إبداع فهمي من دون المثابرة الفهمية، فيوحد، على نحوأصيل، الحدس والاختبار والموضوعية وسعة الأفق.

الفهم الفهمية والأيدولوجية

إن الإبستيمولوجية لاتكتفي بتحديد الشروط الفهمية لإنتاج الفهم الفهمية. وإنما تسعى - أيضاً - لبحث شروط الفهم الفهمية الاجتماعية. وآلية ذلك حتى الاستقلال النسبي للفهم الفهمية لايفصلها إطلاقاً عن شروط تكونها التاريخية - الاجتماعية، وهذا ما يجعل من مبحث فهم اجتماع الفهم جزءاً لايتجزأ من البحث الإبستيمولوجي.

فلقد رأى جورج غورفيتش - مثلاً - حتى الداروينية تتبنى في فهم الحياة مبدأ التنافس في الحياة الرأسمالية.

كما حتى الأبحاث الفهمية - لاسيما في العلوم الدقيقة - تكون في ترابط مع الأيديولوجية وذلك بما بحاجة إليه تلك الأبحاث من مختبرات وأجهزة درس واختبارات واسعة النطاق، ومؤسسات خاضعة على نحوما لأهداف قومية.

ويظل الحكم بوجود اختلاف بين الفهم والأيديولوجية سليماً، فأحكام الفهم أحكام حول حقائق قابلة للإثبات أوالدحض، وذات طابع موضوعي، تحظى بالقبول من الفهماء، أما أحكام الأيديولوجية فهي أحكام قيمية، تتعلق بما يجب حتىقد يكون، مع اعتمادها في كثير من الأحيان على حقائق فهمية.

لكن المشكلة التي تطرحها الإبستيمولوجية هي التالية: هل تمثل الأيديولوجية عقبة أمام تطور الفهم الفهمية أم هي حافز من حوافز تطورها؟

إن الفهم ممتزج بالممارسة الأيديولوجية وذلك حين يستعير القول الأيديولوجي ضماناته من النظريات الفهمية. أوحين يتكون الفهم في حقل الممارسة الأيديولوجية.

وقد لاحظ كانغلم Canguilhem عندما تساءل عن انبعاث الممضى الحيوي Vitalism في البيولوجية، حتى تصور عودة الممضى الحيوي المتكررة الهجومية والدفاعية، بوصفها مرتبطة بأزمة ثقة المجتمع البرجوازي بنجوع مؤسساته الرأسمالية، ليس تصوراً عديم الجدوى ولا خطأً محضاً. وربما كان انبعاث الممضى الحيوي تعبيراً عن حذر الحياة الدائم تجاه مكننتها.

وهذا يعني حتى الأيديولوجية تقوم بتوجيه النظر الفهمي في اتجاه ما، فتتحول إلى محرض لحركة الفهم.

وليس هذا فحسب، فإن الأيديولوجية قد تقوم بدور الكابح لتطور بعض العلوم. إذا ما ناقضت نتائج هذه العلوم الترسيمات الأيديولوجية المغلقة. فتأخر فهم البيولوجية في الاتحاد السوفييتي سابقاً لم يكن إلا ثمرة التعارض بين القول الأيديولوجي بدور الحياة الاجتماعية والقول الفهمي بدور الوراثة.

ويبقى السؤال مطروحاً: هل يفقد الفهم موضوعيته مادام متسماً بسمة أيديولوجية، ومادامت الأيديولوجية عامل إفساد للموضوعية؟

أن يجد الفهم بدايته في وسط أوسع، أي في سياق اجتماعي وأيديولوجي، ووجود علوم سابقة عليه، فذلك لايحكم على شيء من حقيقته أوبطلانه حكماً مسبقاً. كما حتى استناد الفهم إلى إيحاءات أيديولوجية توجه مساره لايقود إلى عدم الثقة بحقيقته.

وهذا يعني أنه يجب التفريق بين شروط نشوء الفهم وتطوره، ومشكلة الحقيقة في العلوم.

إن المسائل التي ذكرت. والتي تعالجها الإبستيمولوجية، تجعل القول سليماً بأن هناك إبستيمولوجية عامة. موضوعها الفهم من دون تمييز العلوم الطبيعية من العلوم الإنسانية.

واستناداً إلى ذلك، فإن الإبستيمولوجية مع كونه مبحثاً حاز على استقلاله النسبي في السنوات الأخيرة، تظل مبحثاً فلسفياً. خاصة لأنها تسعى إلى صوغ نظرية عامة في الفهم الفهمية. ولا أدل على ذلك من محاولة جان بياجيه إشادة نظرية في التكوين النفسي للفهم.

ومما يؤكد انتماء الإبستيمولوجية إلى الفلسفة، تحولها إلى فهم معياري، وهي تعالج مسائل الفهم. لأن السؤال الأساسي الذيقد يكون خلف معالجاتها هو: ماذا يجب حتىقد يكون عليه الفهم؟

غير حتى الإبستيمولوجية العامة لاتنفي وجود مشكلات إبستيمولوجية لزمرة من العلوم أولفهم جزئي. ومن ثم فإن هناك إبستيمولوجية خاصة وإبستيمولوجية جزئية، إلى جانب الإبستيمولوجية العامة.

فإبستيمولوجية العلوم الطبيعية، تتساءل: ما طبيعة القانون في هذه العلوم،يا ترى؟ ما دور مقولات الحتمية والمصادفة والاحتمال والغائية؟

إبستيمولوجيا العلوم الإنسانية

كما حتى هناك مشكلات خاصة بالعلوم الإنسانية: كالموضوعية والفهم والتفسير والجانب الأيديولوجي لأحكامها. والعلاقة بين المنطقي والتاريخي في الفهم الإنسانية، وإمكانية قيام نظرية اجتماعية، وهل هناك ملامح قانونية عامة في السيرورة الاجتماعية أم حتى الواقعة الاجتماعية واقعة فذة؟

إن هذه المشكلات وغيرها هي موضع الإبستيمولوجية الخاصة بالعلوم الإنسانية.

لكن العلوم الجزئية تقابل هي الأخرى مشكلات خاصة بها، بسبب استقلالها النسبي.

إبستيمولوجيا العلوم الحيوية

فإبستيمولوجية العلوم الحيوية تطرح جملة مسائل إبستيمولوجية من قبيل: هل هناك غائية في التطور الحي،يا ترى؟ وما العلاقة بين مفهوم الطفرة والتطور التدريجي في العالم الحي،يا ترى؟ وما الدور الذي يقوم به، منهجياً، مفهوم البيئة في تفسير الظواهر الحية؟

إبستيمولوجيا فهم التاريخ

وهناك مشكلات إبستيمولوجية خاصة بفهم التاريخ : كتحديد معنى الواقعة التاريخية الموضوعية في فهم التاريخ، وهل التاريخ قابل للتفسير أوللفهم. هل هناك حتمية تاريخية؟

ولاشك في حتى الإبستيمولوجية العامة، وهي تسعى إلى صوغ نظرية عامة في الفهم الفهمية، تستفيد من الإبستيمولوجية الخاصة والإبستيمولوجية الجزئية. والعكس سليم أيضاً. انطلاقاً من واقعة انفصال العلوم وتكاملها في الوقت نفسه.

لكن السؤال الذي يطرحه العقل الناقد هو: إذا كانت الإبستيمولوجية فهماً للفهم ذاته ألا بحاجة الإبستيمولوجية نفسها إلى إبستيمولوجية تكشف عن مشكلاتها وعن الصعوبات التي تصادفها؟

والحق حتى الإبستيمولوجيين أنفسهم يمارسون هذا الدور حين يختلفون في تناول المشكلات الفهمية ويقدمون إجابات متعددة، ومتناقضة أحياناً منتقدين بعضهم بعضاً.

وقد برز مثل هذا الاختلاف في مسائل تاريخ الفهم وتصنيف العلوم. ومن ثم يصح القول: إذا الشروط الداخلية والخارجية التي يخضع لها الفهم هي ذاتها التي تخضع لها الإبستيمولوجية. كذلك فإن نزوعها الفهمي لن ينجيها من طابعها الأيديولوجي.

المصادر