تصوير العصر الذهبي الهولندي

عودة للموسوعة

تصوير العصر المضىي الهولندي

Johannes Vermeer, The Milkmaid (1658–1660)
الفن الهولندي
“زواج الفلاحين” (1567-1568)
بريشة پيتر بروگل الأكبر
عصر النهضة الهولندي
تاريخ الرسم
في هـولـنـدا
هولندا المبكرة  (1400-1500)
النهضة  (1500-84)
العصر المضىي الهولندي  (1584-1702)
الباروك الفلمنكي  (1585-1700)
الرسامون الهولنديون

ازدهار صور الحياة اليومية

كان العصر البطولي للتصوير الهولندي قد ولى. فالزبائن الجدد أكثر نفراً ولكنهم أقل مالاً، لذلك طلبوا صوراً صغيرة تتيح لهم حتى يشهدوا حياتهم اليومية في خلاصة مقطرة مهذبة، منفولة بواقعية تبعث لذة التعهد، أوملموسة بعاطفة رقيقة ولكنها مألوفة، أومغرية للنفس باستشراف مشهد محرر من مشاهد الطبيعة. وقد لبى المصورون الهولنديون هذا الطلب في رهافة خط وضوء ولون حشدت الصنعة الشديدة التدقيق في حيز صغير. وهؤلاء الفنانون معروفون في جميع أراتى أوربا وأمريكا، لأن التنافس اليائس فيما بينهم حملهم على حتى يطلقوا سيلاً متدفقاً سريعاً من الصور الصغيرة بثمن رخيص، وهي صور لا تخلوا اليوم منها جدران متحف. ونحن إذ نهجر الشهادة على وفرة هؤلاء الرسامين لهامش سريع ، نراه لزاماً حتى ننظر نظرة أكثر تريثاً إلى جان ستين، المرح رغم حظه العاثر، وإلى أعظم مصوري الحياة اليومية جان فرمير، وإلى أعظم مصوري الطبيعة الهولنديين، ياكوب فان رويسدان.

أما ستين فكان ابن صانع جعة في ليدن؛ واشتغل في لاهاي، ودلفت، وهارلم، وأصبح آخر المطاف صاحب حانة في ليدن، وخلال هذه الفترات استطاع حتى يجعل من نفسه أفضل مصور للأشخاص في الفن الهولندي باستثناء رمبرانت. وحين بلغ الثالثة والعشرين (1649) تزوج مارجريت ابنة المصور يان ڤان گوين؛ ولم تملك من المهر غير وجهها وقوامها، ولكنها أفاده بعض الوقت نموذجين ملهمين. وكان ينقد أجراً حقيراً على صوره حتى حتى صيدلياً حجز (1670) على جميع الصور التي استطاع حتى يجدها في بيت ستين وباعها في المزاد وفاء لدين قدره عشرة جولدينات. وصوره الأولى تسجل لذات السكر أوعقوباته. وصورته "الحياة المنحلة(17)"، وهي مثال ممتاز من صوره، فيها امرأة نعسانة وأخرى نائمة من الشراب، وطفل ينتهز الفرصة فيسرق من صوان، وكلب يأكل من المائدة، وراهبة تنطلق بعد دخولها الحانة في عظة عن خطيئة استهلك الروم، وكل شيء في الصورة مكون ومرسوم بنظام الفن وانسجامه رغم أنه يصور الفوضى. وموضوع أجمل من هذا يبعث الحياة في صورة أخرى أسيئت تسميتها بــ"معرض الوحوش(18)"، يرى فيها فتاة صغيرة تطعم حملاً باللبن، ودجاج الحديقة يثب هنا وهناك، وطاووس يدلي ذيله من شجرة ذابلة، والحمام يحط في أعلاها، ويمامة تحلق قادمة من الطريق. هذا كله لحن رعوي يجعل جميع معضلات الفلسفة تبدوتافهة لا معنى لها. أنه الحياة، وكل جزء له مبرره الكافي الذي يتجاهل المطلقات. وبعد حتى تجاوز ستين فترة الحانة رسم مشاهد مشرقة للحضارة الهولندية: باطن بيوت مبهجة، ودروس موسيقى، وحفلات موسيقى، ومهرجانات، وأسر سعيدة، وفنان نفسه، يدخن في "الصحبة المرحة(19)"، أويعزف على العود(20). فلما فتت في عضده الأجور البخسة التي نقدها على عمله، عاد إلى بيع الجعة، وراح يشرب لينسى، ثم توفي في الثالثة والخمسين مخلفاً أربعمائة صورة بائرة.


يان ڤرمير

ونظرة إلى صورة واحدة رسمها يان ڤرمير وسمها "رأس فتاة"(21) تكشف عن عالم وفن يكادان يناقضان عالم ستين وفنه. وهذه اللؤلؤة التي يفوق ثمنها اللآلئ بيعت في المزاد عام 1882 بجولدنين ونصف، ويقدر ناقد قدير في أيامنا هذه أنها "واحدة من اثنتي عشرة صورة هي أروع صور العالم(22)" وواضح حتى الفتاة من بيت طيب وأسرة كريمة، عيناها خاليتان من الخوف، لا يخشاهما حتى دهش الشباب الطبيعي، فهي سعيدة في هدوء، متيقظة لموسيقى الحياة؛ وقد قدمها الفنان لنا بصنعة دقيقة في اللون والخط والضوء تجعل من الفرشاة أداة مدهشة للفهم والتعاطف.

وقد ولد فرمير في دلفت عام 1632؛ وعاش هناك على قدر فهمنا طوال حياته ومات فيها (1675) بالغاً الثالثة والأربعين، وكادقد يكون معاصراً لسبينوزا تماماً (1632-77). تزوج في العشرين، وأنجب ثمانية أطفال، وكان يتقاضى ثمناً طيباً على صوره، ولكنه عكف عليها في عناية مستنفدة للوقت، وأنفق المال الكثير على شراء الصور، حتى أنه توفي مديناً، واضطرت أرملته إلى التماس المعونة من محكمة التفاليس. غير حتى الأربع والثلاثين صورة التي بقيت من صوره توحي بجومن رفاهية الطبقة الوسطى. وتظهره إحداها(23) في مرسمه لابساً طاقية رقيقة خفيفة، "وجركينة" متعددة الألوان، وجوارب طويلة متجعدة ولكنها حريرية، وقد انتفخ ردفاه من النعمة. ولا ريب في أنه سكن حياً راقياً في ديلفت، من الممكن في مشارفها حيث استطاع حتى يلقي "نظرة على ديلفت(24)" وفي هذه الصورة الشهيرة نحس بحبه الجم بموطنه. ويبدوأنه راض نفسه على البقاء في بيته بقناعة أكثر مما نلحظه في مصوري زماننا. فحب البيت يتجلى في أكثر التصوير الهولندي، ولكن البيت في فن فرمير يصبح معبداً صغيراً، والزوجة معتزة بالخدمات التي تؤديها. وفي لوحته "المسيح مع مريم ومرثا"(25) تشارك مرثا مريم في الجلوس على المنصة. ولم تعد نساؤه تلك الحزم الثقيلة من اللحم التي نراها أحياناً في الفن الهولندي، ففيهن شيء من التهذيب والحساسية. بل لقد تجدهن-كما ترى في السيدة الجالسة في صورة "السيدة والخادمة"(26)-غاليات اللباس، رقيقات القسمات، مصففات الشعر في عناية، أوغنيات بالحرير وآلات الموسيقى، كما في صورة "السيدة الجالسة إلى العذراوية"(27) (آلة موسيقية). إذا فرمير يصنع من الحياة العائلية ملحمة، أوقصيدة غنائية ذات لحظات عائلية بسيطة طبيعية؛ لا مشاهد جماعية ذات نشاط مختلط متعدد، بل-في أفضل ما رسم من لوحات-امرأة واحدة فقط، تقرأ رسالة في هدوء(28)، أوتكب على خياطتها(29) أوتتحلى بقلادة، أوتنام على خياطتها(30)، أومجرد صبية وابتسامتها(31). لقد سجل فرمير بفن تام شكرانه لامرأة طيبة وبيت سعيد. ولكنه أوشك حتىقد يكون نسياً منسياً في القرن الثامن عشر، ونسبت روائعه الصغير إلى دي هوخ، أوتير بورخ، أورمبرانت، ولم يبعث من مثواه إلا في 1858. واليوم لا يعلوعلى اسمه غير اسم رمبرانت وهالس في التصوير الهولندي.

بقي شيء واحد تفتقده في هؤلاء المصورين للحياة اليومية-هوحياة الطبيعة التي أحاطت بالمدن المتطفلة عليها. فإيطاليا، وبوسان في إيطاليا، كانا قد التقطا شيئاً من الهواء النقي والحقول الطلقة، وستكتشفها إنجلترا في القرن التالي، أما المصورون الهولنديون فقد هجروا الآن برهة بيوتهم وباطنها النظيف أوالمرح، ووضعوا حواملهم ليقتنصوا سحر الغدران المترقرقة، وطواحين الهواء الساكنة الوادعة، والمزارع المزهرة، والأشجار التي تخجل تعجلنا المحموم، والمراكب الغريبة تتهادى في الثغور المزدحمة، والسحب التي تلون السماء بشتى الأشكال. والعالم كله يعهد لوحة "طريق ميدلهارنس" التي رسمها ماينديرت هوبيما-وهي منظور يتلاشى في فضاء لا نهاية له، ولكن أجمل منها بكثير لوحته "طاحونة الماء ذات السقف الأحمر الكبير(32)". وقد عثر ألبرت كوين الإلهام في الأبقار السمينة تخوض المستنقعات الوافرة الخضرة(33)، والخيل تقف ظامئة عن خان، وقلوع المراكب تختفي فوق البحر(34). تعجب سليمان فان رويسدال من ارتعاش المياه التي تعكس وتقلب صورة الزائريق والأشجار (القناة والمعدية)(35)، وفهم ابن أخيه حتى يتفوق عليه.

ياكوب ڤان روسدال

أما ابن أخيه هذا، ومسماه يعقوب فان روسدال، فقد ترعرع في هارلم، وهجر لنا "منظر الهارلم(36)" لا يقل سقطاً في نفس الناظر عن لوحة فرمير "ديلفت"، ويفضلها نقلاً تعقد المدينة الكبيرة بما فيه من اتساع وزحمة. ثم انتقل إلى أمستردام وأصبح عضواً في الإخوان المينونيين، ولعل تصوفهم أعان فقره على إشعاره بالجانب المأساوي للطبيعة التي أحب حتى يفنى بها. وعهد حتى تلك الحقول والغابات، والسماوات التي تعد بالسلام، تستطيع كذلك حتى تدمر، وأن للطبيعة نزوات من الغضب قد تقلع فيها الرياح المجنونة حتى اعتى الأشجار وأصلبها وتمزقها من جذورها، وأن الشقوق المهلكة قد تتكون في الأرض الطيبة، وأن البرق قد ينفث ناره القتالة على جميع شكل من أشكال الحياة في لا مبالاة عابثة. فصورته "مسقط الماء على الجرف(37)" ليست أنشودة رعوية إنما هي ثورة البحر الغاضبة على صخور أقسم حتى يحطمها ويغرقها أويبر بها، ولوحة "العاصفة(38)" هي البحر يلطم عدوه اليابس في غضب، ولوحة "الشاطئ(39)" لا تصور شاطئاً للهوبل ساحلاً كدرته أمواج عالية تحت سماء مكفهرة، ولوحة "الشتاء(40)" لا تعرض مرح التزحلق، بل كوخاً حقيراً يرتجف تحت غيوم منذرة، وحفره الرائع "أشجار البلوط" يجردها من وقارها ليرى أغصانها شعثاء أوعارية وسيقانها وقد أتخنها الزمن القاسي بالجروح وشوه شكلها. ولوحة "جبانة اليهود(41)" هي ذاتها صورة للموت-أسوار متهدمة، وشجرة تموت، ومياه فيضان تجري فوق القبور. وليس مرد هذا كله حتى رويسدال كان دائماً مكتئباً، ففي لوحة "حقل القمح(42)" نقل بإحساس عميق هدوء طريق ريفي، وبركة المحاصيل الوفيرة، وفرحة الفضاء المترامي. ويبدوحتى الهولنديين أحسوا حتى أرضهم ومناخهم قد افترت عليهما صور رويسدال، فلم ينقدوه عليها إلا أجراً بخساً، وهجروا صاحبها يموت في ملجأ للفقراء. واليوم يضعه بعضهم في مكان لا يفضله فيه غير بوسان بين مصوري الطبيعة في جميع العصور(43).

ثروة لا حد لها في حجرة صغيرة-رمبرانت وهالس، فرمير ورويسدال، سپينوزا وهويگنز، ترومب ودرويتر، جالن دي ويت ووليم الثالث، كلهم في زمن واحد داخل حدود ضيقة، يكدحون غير آمنين خلف الكثبان، يصونون فنون السلم وسط نذر الحرب. تلك هي هولندا في القرن السابع عشر. و"ليست العبرة بكبر الحجم".

الهامش

ول ديورانت. سيرة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود. Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)


وصلات خارجية

  • A Brief Overview of the Dutch Art Market in the 17th c
تاريخ النشر: 2020-06-04 11:54:25
التصنيفات: Pages with citations using unsupported parameters, تاريخ هولندا, الثقافة الهولندية, تصوير العصر الذهبي الهولندي, فن غربي, العصر الذهبي الهولندي, رسم الباروك, رسامو العصر الذهبي الهولندي

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

دعاء الصباح اليوم الإثنين 22 أغسطس 2022

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-22 09:21:23
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 51%

الملك: الصحراء معيار العدو والصديق | جريدة الصباح

المصدر: جريدة الصباح - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-22 09:20:18
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 70%

| جريدة الصباح

المصدر: جريدة الصباح - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-22 09:20:15
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 61%

مصرع وإصابة 8 عناصر إجرامية عقب تبادل إطلاق النيران مع أمن الدقهلية

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-22 09:21:39
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 61%

“ولد الفشوش” يجر طبيبا وآخرين للسجن | جريدة الصباح

المصدر: جريدة الصباح - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-22 09:20:17
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 60%

سعر جرام الذهب فى مصر اليوم الإثنين 22-8-2022

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-22 09:21:25
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 63%

8 مصابين في انقلاب «ميكروباص» بالبحيرة

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-22 09:21:35
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 52%

تقرير دولى: إجراءات مكثفة لإعادة حجر رشيد من المتحف البريطانى

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-22 09:21:24
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 67%

تقرير دولي: تغيرات المناخ تؤدي إلى زيادة ربع مليون حالة وفاة سنوياً

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-22 09:21:49
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 62%

تحميل تطبيق المنصة العربية