الحضارة اليابانية

عودة للموسوعة

الحضارة اليابانية

تاريخ الحضارة اليابانية مسرحية لم تكمل بعد ، قد تم منها ثلاثة فصول: فصلها الأول- بغض النظر عن القرون البدائية الأسطورية- هواليابان البوذية الكلاسيكية (522- 1603 ميلادية) التي دخلتها المدنية فجأة على أيدي الصين وكوريا ، والتي هذبها الدين وصقلها ، فخلقت آيات الأدب الياباني والفن الياباني في العصر الذي يدونه التاريخ ؛ والفصل الثاني من المسرحية هواليابان الإقطاعية الآمنة التي تنسب إلى توكوجاوا شوجاتى (1603 - 1868) والتي اعتزلت العالم وحصرت نفسها في نفسها ، لا ترغب لنفسها شيئاً من اتساع الرقعة ولا تنشد تبادلاً تجارياً مع الخارج ، قانعة بالزراعة منصرفة إلى الفن والفلسفة ؛ أما الفصل الثالث فهواليابان الحديثة ، التي كشف عنها الستار أسطول أمريكي سنة 1853 ، والتي اضطرتها العوامل الداخلية والخارجية اضطراراً حتى تضرب بسهم في التجارة والصناعة ، وأن تبحث عن خامات من الخارج وأسواق في الخارج ، وتقاتل قتالاً مستميتاً في سبيل التوسع ، محاكية في ذلك بلاد الغرب في نزعتها الاستعمارية وطرائقها في هذا السبيل ، مهددة بذلك سيادة الجنس الأبيض وسلام العالم ؛ وإن سوابق التاريخ كلها لتدل على حتى الفصل التالي من المسرحية سيكون قتالاً. لقد تفهم اليابانيون مدنيتنا دراسة فاحصة لكي يتشربوا معاييرها ثم يفوقوها ، فقد يحدث من الحكمة حتى تدرس مدنيتهم في صبر يشبه صبرهم في دراسة مدنيتنا ، حتى إذا تأزم الأمر على نحويضطرنا إما إلى حرب أوتفاهم معهم ، كان في مقدورنا حتى نصل معهم إلى تفاهم.

تاريخ نشأة اليابان

في البداية كانت الآلهة ، هكذا يقول أقدم ما دُوّن عن اليابان من تاريخ وكانت الآلهة تولد ذكراً وأنثى ، ثم تموت ، حتى صدر الأمر في النهاية من شيوخ الآلهة إلى اثنين منها ، هما "إيزاناجى" و"إيزانامى". وهما أخ وأخت من الآلهة ، حتى يخلقا اليابان ، فوقفا على جسر السماء العائم ، وقذفا في المحيط برمح مرصع بالجوهر ، ثم حملاه إلى السماء فتقطرت من الرمح قطرات أصبحت هي "الجزر المقدسة" ؛ وشهدت الآلهة ما تصنعه الضفادع في الماء ، فتفهمت منها سر اتصال الذكر بالأنثى ، ومن ثم التقى "إيزاناجى" و"إيزانامى" التقاء الزوجين وأنسلا الجنس الياباني ، وولدت "أماتيراسو"- إلهة الشمس- من عين "إيزاناجى" اليسرى ، وكذلك من حفيدها "ننيجى" نشأت سلسلة متصلة مقدسة حلقاتها هم جميع أباطرة "داي نيبون" (أي اليابان العظمى) ، فمنذ ذلك اليوم حتى يومنا هذا لم تشهد اليابان إلا هذه الأسرة الحاكمة الإمبراطورية.

كان الرمح المرصع بالجوهر قد قطر أربعة آلاف ومائتين وثلاثاً وعشرين قطرة ، لأن هذا هوعدد الجزائر التي يتألف منها أرخبيل الجزر الذي هواليابان: من هذه الجزر ستمائة مـأهولة ، لكن ليس بينها إلا خمس لها حجم جدير بالاعتبار ؛ أما أكبرها فهي "هوندو" أو"هونشو" ويبلغ طولها 1130 ميلاً ومتوسط عرضها 73 ميلاً، ومساحتها واحد وثمانون ألف ميل مربع، وهي تعادل نصف مساحة الجزر كلها ، ويشبه مسقطها- كما يشبه تاريخها الحديث- مسقط إنجلترا وتاريخها: فقد حمتها البحار المحيطة بها من الغزوات ، وحملتها سواحلها الطويلة التي يبلغ مداها ثلاثة عشر ألف ميل على حتى تكون أمة بحرية ، فكأنما قضى عليها المؤثر الجغرافي والضرورة التجارية حتى تبسط لنفسها سيادة واسعة على البحار ؛ وتلتقي الرياح والتيارات البحرية الدافئة الآتية من الجنوب ، بالهواء البارد الهابط من قمم الجبال ، فينتج عن ذلك في اليابان مناخ إنجليزي تملؤه الأمطار ، وتكثر فيها الأيام الغائمة بالسحب ، ومن ثم تمتلئ أنهارها القصيرة السريعة الانحدار ، ويزدهر فيها النبات وتزدان المناظر ، فهناك- إذا ما بعدت عن المدن والمساكن العتيقة القذرة- ترى نصف البلاد جنة عدن في ازدهارها ، وليست جبالها أكداساً مركومة من الصخر والقذر ، بل هي ذوات أشكال فنية ، تكاد تبلغ في تخطيطها حد الكمال ، كما هي الحال في فيوجى.

ولاشك حتى هذه الجزر قد ولدتها الزلازل لا القطرات التي انتثرت من الرياح ؛ فليس على الأرض مكان- وربما جاز حتى نستثني أمريكا الجنوبية - قد عانى جميع ما عانته اليابان مـن اضطراب أرضها ، فحـدث سنة 599 حتى اهتزت الأرض وابتلعت قرى بأكملها في فمها الضاحك ، وهوت الشهب ولمعت المذنَّبات وابيضت الشوارع بالثلج في منتصف يوليو، وأعقب ذلك قحط ومجاعة ، وقضى من اليابانيين ألوف الألوف ؛ وكذلك وقع سنة 1703 حتى قضى زلزال على اثنين وثلاثين ألفاً في طوكيووحدها ، وعادت العاصمة سنة 1885 فتقوض بنيانها من حديث ، وانفرجت الأرض عن فجوات واسعة ابتلعت في جوفها ألوفاً ، وجعلوا يحملون جثث الموتى في عربات النقل ليقذفوا بها بعيداً جماعات جماعات ؛ وفي زلزال 1923 أتت موجة المد وألسنة النار على مائة ألف نفس في طوكيو، وسبعة وثلاثين ألف نفس في يوكاهاما وما يجاورها ، وأما كاماكورا- التي طالما أحسنت لبوذا - فكادت تندك من أساسها ، مع حتى التمثال النحيل الذي كان قائماً هناك للقديس الهندي (يقصد بوذا) قد لبث وسط هذا الخراب الكامل قائماً كما هو، لم يصبه سوى ارتجاج ، كأنما أراد بقيامه ذاك سليماً من الأذى حتى يضرب مثلاً يوضح للناس أبرز تفهم يلقيه التاريخ- وهوحتى الآلهة يمكن لها حتى تصمت في مختلف اللغات ؛ ولبث الناس في حيرة تملكتهم حيناً ، كيف من الممكن أن ينزل هذا الخراب كله بأرض خلقتها الآلهة وتحكمها الآلهة ؛ وأخيراً فسروا هذا الاضطراب بأن سمكة ضخمة تحت الأرض انزعجت في نعاسها فاهتزت ويظهر حتى لم يطرأ ببال أحد إذ ذاك حتى يغادر تلك المدينة التي تعرض ساكنيها لأكبر الخطر ؛ ففي اليوم التالي لاهتزاز الأرض بزلزالها العظيم الأخير ، استخدم صبية المدارس بتراً من مادة الطلاء المتناثرة أقلاماً ، والأحجار الارتوازية المنثورة من بيوتهم المحطمة ألواحاً واحتملت الأمة صابرة هذه الضربات من يد القدر وخرجت من هذا الدمار المتكرر نشيطة نشاطاً لا سبيل إلى الحد منه ، ومقدامة على نحوماقد يكون المتفائل إقداماً.


النمط السكاني

لقد ضاعت الأصول اليابانية- كما ضاع غيرها من أصول الأمم- في خليط عام من النظريات، فيظهر حتى الجنس الياباني مزيج من عناصر ثلاثة: عنصر بدائي أبيض اتى عن طريق "الأينويين" الذين وفدوا إلى اليابان من منطقة نهر أمور في العصر الحجري الأخير ؛ وعنصر أصفر مغولي اتى من كوريا أوعبرها في نحوالقرن السابع قبل المسيح ؛ وعنصر قاتم من الملايووأندونيسيا تسرب إلى البلاد من جزر الجنوب: ففي اليابان- كما في أي بلد آخر- شهدت البلاد خليطاً من عناصر مختلفة قبل حتى تشهد- بمئات السنين- قيام نمط جنسي حديث يتحدث بلغة جديدة وينشئ مدنية جديدة ، وكون عملية المزج بين هذه الأجناس لم تبلغ تمامها بعد ، تراه ظاهراً في الفوارق التي بين الأرستقراطي الطويل النحيل طويل الرأس ، وبين الرجال من الشعب في قصره وبدانته ورأسه العريض.

وتصف الروايات التاريخية الصينية التي ترجع إلى القرن الرابع ، تصف اليابانيين بأنهم "أقزام" ، ثم تضيف إلى ذلك أنهم "لا يعهدون الثيرة ولا الوحوش الكاسرة ؛ وهويَشِمُون وجوههم بزخارف تختلف شكلاً باختلاف المنزلة الاجتماعية ، ويلبسون رداء مصنوعاً من بترة واحدة ، ولديهم حراب وقِسِىٌّ ورماح في أطرافها حجر أوحديد ، وهم لا يلبسون أحذية ، ومن خصائصهم طاعة القانون وتعدد الزوجات ويدمنون الشراب وهم طوال الأعمار.

ونساؤهم يطلين أجسامهن بالأحمر والقرمزي". وتروى هذه المدَّونات عنهم "أن ليس يقع بينهم سرقة ، وقلما يشكوأحد منهم أحداً إلى القضاء" ، ولم تكد المدنية تبدأ عندهم ، وقد صور "لافكاديوهيرن"- مدفوعاً بصدق نظره وبحبه لذلك العصر القديم- صورها فردوساً لا يشوبها استغلال أوفقر ؛ ووصف "فنلوزا" طبقة الفلاحين إذ ذاك بأنها مكونة من سادة عسكريين مستقل بعضهم عن البعض ؛ واتىت الصناعات اليدوية إلى اليابان من كوريا في القرن الثالث الميلادي ، وسرعان ما انتظمتها نقابات ، ودون هؤلاء الصناع اليدويين ، كانت تقع طبقة كبيرة من العبيد ، جُمع أفرادها من المسجونين وأسرى الحروب ، وكان النظام الاجتماعي إقطاعياً إلى حد ما وقبلياً إلى حد ما ، فكان بعض الفلاحين يغرسون الأرض عبيداً للسادة أصحاب الأرض ، ولكل قبيلة رئيس يكادقد يكون ملكاً عليها ، وكانت الحكومة بدائية في تفككها وضعفها.


الحياة الإجتماعية

كانت العاطفة الدينية عند اليابانيين الأولين تجد ما يشبعها في العقيدة بأن لكل كائن روحاً ، وفي الطوطمية ، وفي عبادة الأسلاف وعبادة العلاقة الجنسية ؛ فعندهم حتى الأرواح سارية في جميع شيء- في كواكب السماء ونجومها ، في نباتات الحقل وحشراته ، والأشجار والحيوان والإنسان ، ويعتقدون حتى عدداً لا يحصى من الآلهة يحوم فوق الدار وساكنيها ويرقص مع ضوء المصباح ووهجه إذا رقص ، والاتصال بالآلهةقد يكون عندهم بإحراق عظام غزال أوقسقطة سلحفاة ، وبفحص العلامات والخطوط التي تحدثها النار ، فحصاً تستمد فيه المعونة من الخبراء ؛ وتذكر لنا المدونات القديمة الصينية أنه بهذه الطريقة "كان اليابانيون يستوثقون من طيب الحظوظ وخبيثها ، ومن ملاءمة الظروف لقيامهم برحلات برية وبحرية أوعدم ملاءمتها".

إن الشعب الذي يحتل أعلى مكانة في العالم السياسي المعاصر يتألف من أفراد قصار القامة ، إذ يبلغ متوسط قامة الرجل منهم خمسة أقدام وثلاث بوصات ونصف البوصة ، ويبلغ متوسط قامة المرأة أربعة أقدام وعشر بوصات ونصف البوصة ؛ وقد اتىنا وصف لرجل هومن أعظم جنودهم ، أعني "تامورامارو" ، بأنه رجل جميل القوام إلى حد بعيد. طوله خمسة أقدام وخمس بوصات" ويمضى بعض فهماء التغذية إلى حتى هذا القصر في القامة يرجع إلى قلة الجير في الغذاء الياباني ، وهذه القلة بدورها راجعة إلى قلة اللبن ؛ وقلة اللبن سببها ازدياد أثمان أراضي الرعي في مثل هذه البلاد الغاصة بأهليها ، لكننا لا ينبغي حتى نعد هذه النظرية أكثر من فرض بعيد الاحتمال- شأنها في ذلك شأن جميع ما ينطق في الفهم الذي يحلل غذاء الإنسان ؛ ويبدوعلى النساء هناك ضعف وهزال ، فالظاهر حتى ما لهن من نشاط- وهن في ذلك كالرجال في نشاطهم هناك- يرجع إلى قوة الجهاز العصبي أكثر مما يرجع إلى القوة البدنية ؛ ولست ترى علائم النشاط بادية إلا إذا دعت إليه ضرورات الحياة ؛ ولهن جمال هوجمال التعبير الذي تنطق به وجوههن ، وجمال المشية ، وجمال القسمات؛ فهذه الرشاقة اللطيفة التي تراها فيهن مَثَلٌ جميل لما قد أدى إليه الفن في بلادهن.

ومعاجين الزينة شائعة في اليابان وقديمة العهد فيها ؛ كما هي الحال في سائر الأقطار ؛ فترى الرجل منهم- حتى في العصر القديم الذي بسط فيه "كيوتو" زعامته على البلاد- ترى الرجل منهم إذا ما كان ذا منزلة اجتماعية ، يُحَمِّرُ وجنتيه ، ويضع المساحيق على وجهه ، ويعطر ثيابه ، ويحمل معه مرآة من مضى ؛ وكذلك لبث نساؤهم قروناً طوالاً لا ترى وجوههن إلا مغطاة بالمساحيق ؛ وفي ذلك تقول "السيدة سي شوناجون" في كتابها: "صور على الوسادة" (حوالي 994 ميلادية) مصطنعة الحشمة في قولها: "حَنَيْتُ رأسي فأخفيت وجهي بكمي ، مخاطرة في ذلك بما قد يحدثه الكم من إزالة المسحوق عن وجهي فيبدومُبَقَّعاً" ، فقد كان سيدات البدْع يحَمِّرْن خدودهن ويطلين أظفارهن ، ويُذَهِّبْنَ أحياناً سيقانهن السفلى ؛ فزينة المرأة في القرن السابع عشر لم تكمل بأقل من ستة عشر صنفاً ، وهي في القرن الثامن عشر قد بلغت العشرين صنفاً ، وعرَف النساء خمسة عشر طرازاً لتصفيف الشعر الأمامي ، واثنى عشر طرازاً للشعر الخلفي ، وكن يحلقن حواجبهن ، ويرسمن مكانها أهِلَّةً أوغيرها من الرسوم ؛ أوكن يضعن بدل الحواجب نقطتين سوداوين صغيرتين في أعلى الجبهة ، لكي يحدثن بهما تناسقاً مع الأسنان التي كن يُسَوِّدْنها صناعةً ؛ وكان تصفيف الشعر للمرأة عملاً يستغرق ساعتين إلى ست ساعات إذا كان القائم بالتصفيف خبيراً بفنه ؛ وكان معظم الرجال في عصر "هايي" يحلقون مقدمات رؤوسهم ، ويجمعون ما تظل من الشعر ضفيرة يمدونها وسط ذلك الجزء الأمامي الحليق ، ليقسموه بها نصفين ؛ وكانت اللحى ضرورة للرجال ، رغم قلة شعراتها ؛ ومن لم يكن لهم لحى بطبيعتهم ، كانوا يضعون على وجوههم لحى صناعية ؛ وكان يقدم للضيف في بيوت العلْية ملقط يسوّى به لحيته. كانت الثياب اليابانية فيعصر نارا تقتفي أثر الثياب الصينية ، فصدار وسراويل يغطيها ثوب محبوك على الجسم ؛ فلما اتى عصر كيوتووسع اليابانيون من ذلك الثوب بعض الشيء وزادوا من أجزائه ؛ فالرجال والنساء كانوا يلبسون أثواباً بعضها فوق بعض يتراوح عددها من ثوبين إلى عشرين. وتختلف ألوان تلك الثياب باختلاف مكانة الملابس ، وكانت تبدوأطرافها عند الكم متعددة الألوان كأنها الطيف في تداخل ألوانه ؛ واتى عهد كانت أكمام السيدة تتدلى إلى ما دون ركبتيها ، وفي طرفها جرس يُتَنْتِن وهي تسير ؛ وإذا كانت الطرقات مبتلة بالمطر أوبالثلج ، كن يمشين على قباقيب من الخشب محمولة على كعوب خشبية يرتفع حول بوصة عن الأرض ؛ وفي عصر "توكوجاورا" بلغ الإسراف في الثياب حداً جعل "السيافين" لا يعبئون بتنطقيد الناس ، ويحاولون الحد من هذا الإسراف بقوانين صارمة ، فحرمت السراويل المبطنة بالحرير والموشاة كما حرقت الجوارب التي كانت تزخرف على ذلك النحو؛ وحرمت اللحى ، وصنوف معينة من تصفيف الشعر ؛ اتىت أيام كان رجال الشرطة فيها يؤمرون بالقبض على جميع من يرونه في الطريق مرتدياً ثوباً فاخراً ؛ وكان الناس يطيعون هذه القوانين أحياناً ، لكنهم في معظم الأحيان كانوا يحتالون على التخلص منها بما عهد عن الإنسان من حماقة فطرية.

لكن هذا الشغف الشديد بتعدد الأردية قد خفت حدته على مر الزمن ؛ وأصبح اليابانيون من أكثر شعوب الأرض بساطة واحتشاماً وحسن ذوق. ولم يكن اليابانيون ليأخذوا عن سواهم من الشعوب شيئاً فيما يخص عادات النظافة ؛ فالثياب تغير ثلاث مرات في اليوم الواحد عند من يستطيع إلى ذلك سبيلا ؛ والناس جميعاً فقيرهم وغنيهم يستحمون جميع يوم وأما في القرى ، فكان الناس يستحمون في طسوت خارج منازلهم في الصيف ، ويثرثر الجار مع جاره إذ هما يستحمان ثرثرة لا تنبتر ؛ وكانوا يستحمون في الشتاء بماء ساخن مبلغ حرارته مائة وعشر درجات ، فيكون لهم ذلك وسيلة تدفئة من البرد ؛ وكان غذاؤهم بسيطاً وصحياً قبل حتى تطغى عليهم موجة الترف ؛ ووصف الصينيون اليابانيين في الزمن القديم فنطقوا عنهم إنهم "شعب طويل العمر ، حتى ليكثر فيه الأفراد الذين يبلغون في أعمارهم مائة عام".

وكان الطعام الرئيسي عند الشعب هوالأرز ، يضيفون إليه السمك والخضر ونبات البحر والفاكهة وا للحم ، جميع بنسبة ثرائه ؛ وكان اللحم لوناً من الطعام نادراً إلا بين الطبقة العالية وطبقة الجنود ؛ وكان العامل الياباني يفضل هذا الطعام الذي يتألف من أرز وسمك ولا لحم ، يتمتع برئتين سليمتين وعضلات قوية ، فيستطيع الجري من خمسين ميلاً إلى ثمانين في أربع وعشرين ساعة دون حتى يشكوإعياء. فإذا ما أضاف اللحم إلى غذائه ، فقد قدرته هذه على الجري السريع وحاول الأباطرة في عصر كيوتومحاولة دينية قصدوا بها حتى يؤيدوا قوانين التغذية كما تأخذ بها البوذية ؛ فحرموا ذبح الحيوان وأكله ؛ ولكن لما رأى الناس حتى الكهنة أنفسهم كانوا يخرجون على تلك القوانين خفية ، أخذوا يدخلون اللحم لوناً شهياً من الطعام ويسرفون في أكله حدثا مكنتهم من ذلك قدرتهم المالية. فاليابانيون كالصينيين والفرنسيين يعدون إجادة الطهي علامة جوهرية للحضارة ، حتى لقد أخذ الطهاة كأنهم في ذلك فنانون أوفلاسفة ينقسمون مدارس يناهض بعضها بعضاً بما تبدع جميع منها من "وصفات".

وأصبحت آداب المائدة عندهم من الأهمية بحيث عادلت أهمية الدين على أقل تقدير ؛ إذ كان لهم قواعد دقيقة تنظم ترتيب القضمات مقاديرها ، كما تنظم وضع الجسم في جميع فترة من مراحل الوجبة ، ولم يكن يجوز للسيدات حتى تحدثن صوتاً في الطعام أوالشراب ، أما الرجال فقد كانت تقتضيهم الأوضاع حتى يدلوا على تقديرهم لكرم المضيف بجشئات عدة يظهرون بها عهدانهم بالجميل ؛ وكان الآكلون يجلسون على عقب واحد أوعلى العقبين فوق حصير ، إزاء مائدة لا تعلوعن الأرض أكثر من بضع بوصات ، أوقد يوضع الطعام على الحصير بغير حاجة إلى مائدة على الإطلاق ، والعادة حتى تبدأ الوجبة بشراب ساخن من عصير الأرز ؛ ألم يعلن الشاعر "تاهيتو" في زمن بالغ في القدم مبلغ القرن السابع ، بأن شراب "الساكي" هوالحل الوحيد الذي تفض به مشكلات الحياة جميعاً،يا ترى؟


إن ما كان ينشده السبعة الحكماء

لأولئك الرجال الذين قدم بهم الزمان

هو- بغير شك- شراب "الساكي"

فبدل حتى تجلس ساكناً

مفكراً ، جاداً رصيناً

فخير ألف مرة حتى تشرب "الساكي"

وأن تسكر به حتى تصيح صياحاً عالياً

فما دام الواقع الحق

هوحتى الموت لاحق بنا جميعاً

فلنمرح

مادمنا على قيد الحياة

إن اللؤلؤة التي تتألق بريقها في الليل

أقل قيمة للإنسان من نشوة قلبه

التي تأتيه إذا ما استهلك "الساكي".


لكن الشاي كان أكثر قدسية عند العلْية من "الساكي". فهذا النبات العجيب الذي نتغلب به على ما يفقده الماء من طعمه بعد الغلي ، اتى إلى اليابان قادماً من الصين سنة 805 ، لكنه إذ ذاك لم يصب نجاحاً ، ثم اتىها مرة أخرى سنة 1191 حيث استقر بها وأقام ، فقد اجتنبه الناس أول الأمر باعتباره سماً لا ينبغي حتى يقربوه ؛ ولكن لما تبين للرجل من طائفة "السيافين" حتى قليلاً من أقداح الشاي سرعان ما يرد إلى رأسه اتزانه بعد ما أصابه من دوار بسبب الإفراط في شراب "الساكي" ليلة البارحة ، أخذ أهل اليابان يتبينون فائدة الشاي ، ولقد أضاف ازدياد ثمنه إلى سحره سحراً جديداً ، فكان الناس يتهادون به ثمين الهدايا ، بأن يتبادلوا الآنية الخزفية المليئة به ؛ حتى لقد كان يُقَدَّمُ للمقاتلين جزاء ما أبلوا في أفعالهم الحربية الباسلة ، فكان الذي يجود من هؤلاء بحيث يظفر بمنحة من الشاي ، يجمع حوله الأصدقاء ليشاركوه هذا الشراب الملكي ، ولقد جعل اليابانيون من استهلك الشاي احتفالاً رشيقاً معقد الأوضاع ، إذ وضع "ركيو" لذلك ست قواعد لا يجوز الخروج عليها ، فارتفع استهلك الشاي بفضل هذه القواعد الست إلى منزلة الطقوس الدينية ، فمن قواعد "ركيو" هذا حتى الدعوة التي توجه إلى الأضياف ليدخلوا قاعة الشاي ، يجب حتى تكون بالتصفيق بخشبتين معينتين ؛ كما يجب حتى يظل إناء الوضوء مليئاً بالماء الصافي ، وإذا ما أحس ضيف من الأضياف بخطأ أوبنقص في أثاث المكان ، وجب عليه حتى يغادر من فوره دون حتى يحدث بذلك ضجة ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، ولا يجوز حتى يغوص الحاضرون في حديث تافه ، بل يجب عليهم ألا يطرقوا بالحديث إلا أموراً عالية جادة ؛ ولا يجوز لأحد حتى يفوه بحدثة واحدة مما يشير على غرور أورياء ، ثم لا يصح حتى يستغرق الأمر أكثر من أربع ساعات ، ولم يكن يستعمل إبريق للشاي في مثل هذه المحافل التي يطلق عليها "شا- نو- يو" (ومعناها ماء ساخن للشاي) ؛ بل كان يوضع مسحوق الشاي في فنجان ممتاز في نوعه ، ثم يصب فيه الماء الساخن ، ثم يدور الفنجان بين الأضياف واحداً بعد واحد ، جميع منهم يمسح حافته مسحاً رقيقاً بمنشفة صغيرة، حتى إذا ما استهلك آخر الشاربين آخر جرعة من الفنجان، أدير الفنجان بين الحاضرين من حديث ليفحصوه من الوجهة الفنية ، وعلى هذا النحوكان احتفال الشاي حافزاً للخزافين على إنتاج أقداح وآنية بالغة الجمال ، كما كان هذا الاحتفال عاملاً على صياغة آداب اليابانيين في صورتها الهادئة الفاتنة التي يراعى فيها تبادل الاحترام.

كذلك أصبحت الزهور موضع قدسية في اليابان ؛ فكانت موضع تقدير من "ركيو" هذا الذي صاغ طقوس محافل الشاي ، فكانت الزهور عنده تلقى من العناية ما تلقاه أقداح الشاي ، ولما سمع حتى "هيديوشي" آت لزيارته ليرى مجموعته المشهورة من زهور الأقحوان ، أتى "ركيو" على جميع الزهور في بستانه إلا واحدة ، لعل هذه الواحدة تسطع في عيني هذا "السياف" المخيف سطوعاً يدرك منه أنها فذة في عالم الزهور ؛ وأخذ فن تنسيق الزهور يتقدم خطوة بعد خطوة مع "سرعة الشاي" في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ، حتى إذا ما اتى القرن السابع عشر ، أصبح موضعاً للاهتمام في حد ذاته ، ونشأت طائفة "أساتذة الزهور" تفهم الرجال والنساء كيف من الممكن أن ينبتون الزهور في البستان وكيف ينسقونها في دورهم ، فكان هؤلاء الأساتذة يقولون إنه لا يكفي حتى تعجب بالزهور نفسها ، بل يجب حتى تدرب نفسك على رؤية الجمال في ورقة الزهور وفي غصنها وفي عودها كما ترى الجمال في الزهرة نفسها ، وأن تدرب نفسك على رؤية الجمال في زهرة واحدة كما تراه في ألف زهرة ، وأن ترص الزهر رصاً لا يقوم على أساس اللون وحده ، بل كذلك مع أساس طريقة ضمها في طاقات وصفها.

هكذا أصبح الشاي والزهور والشعر والرقص من لوازم الأنوثة بين بنات العلية في اليابان. الزهور عند اليابانيين بمثابة الدين ، فهم يعبدونها عبادة تشيع فيها روح التضحية بالقرابين ، ويلتقي فيها أفراد الشعب جميعاً ؛ وهم يرقبون في جميع فصل من فصول العام ما يلائمه من زهور ؛ فإذا ما أزهرت شجرة الكريز مدى أسبوع أوأسبوعين في أوائل شهر إبريل ، يخيل إليك حتى أهل اليابان جميعاً قد هجروا أعمالهم ليحدجوا فيها بأبصارهم ؛ بل إنهم ليحجون إلى الأماكن التي تزخر بهذه المعجزة ويكمل فيها إزهار هذا الضرب من الشجر ؛ فهم لا يغرسون شجرة الكريز لثمارها ، بل لأزهارها- وزهرتها رمز للمحارب المخلص الذي يستعد للموت في سبيل وطنه في اللحظة التي تصل فيها حياته أوج شبابها؛ وقد يحدث حتى يطلب المجرمون المساقون إلى الإعدام زهرة من زهرات الكريز وهم في طريقهم إلى الموت ، وتروي لنا "السيدة تشيو" في قصيدة لها مشهورة ، حتى فتاة قصدت بئراً تستخرج منه الماء ، فلما وجدت الدلووالحبل ملتفاً عليهما أغصان النبات اللبلابي ، قصدت مكاناً آخر تحصل منه على الماء ، مؤثرة ذلك على بتر أسلاك النبات ويقول "تسورايوكي" "إنه ليستحيل عليك حتى تفهم قلب الإنسان ، لكن الزهور في قريتي ما تزال كسابق عهدها تنفث عبقها ، هذه العبارة الساذجة هي من أعظم الشعر الياباني ، لأنها تعبر عن خصيصة عميقة لجنس بشري بأسره ، تعبر عنها تعبيراً كاملاً يتعذر حتى تحذف منه شيئاً ، كما تعبر عن نتيجة صادقة من نتائج الفلسفة ، إنك لن تجد بين أمم العالم أمة أحبت الطبيعة بمثل ما أحبها اليابانيون ولن تجد الناس في أي جزء من أجزاء الأرض غير اليابان يتقلبون راضين تقلبات الطبيعة كما تتبدى في الأرض والسماء والبحر ، ولن تجد بلداً آخر غير اليابان عني فيه الناس بزراعة البساتين ، أوبتغذية النبات إبان نموه ، أوخصوه برعايتهم في دورهم ، إذا اليابان لم تنتظر حتى يجيئها "روسو" أو"وردزورث" لينبئها حتى الجبال شوامخ أوحتى البحيرات قد يحدث لها روعة الجمال ، فتكاد لا تجد في اليابان منزلاً بغير أصيص للزهور ، كما توشك ألا تجد قصيدة واحدة في الأدب الياباني تخلومن وصف مشاهد الطبيعة في ثنايا سطورها ؛ فكما حتى "أوسكار وايلد" كان من رأيه حتى إنجلترا لا ينبغي لها حتى تحارب فرنسا لأن الفرنسيين يخطون نثراً بلغ في فنه حد الكمال ، فكذلك نقول حتى أمريكا يجب حتى تنشد السلام إلى آخر جهدها مع أمة تتعطش للجمال في عاطفة جارفة تكاد تبلغ في حدتها قوة نهمها إزاء السلطان.

إن فن غرس الحدائق قد اتىها من الصين جنباً إلى جنب مع البوذية والشاي ؛ لكن هاهنا ترى اليابانيين مرة أخرى يحولون بقوة إبداعهم ما قد تشربوه من غيرهم عن طريق المحاكاة ، فتراهم يستملحون جمال الشيء إذا خلا من الاتساق. ويستجملون الأشكال المبتكرة التي لم يقتلها التكرار ، فتجيء للرائي بمثابة المفاجأة ، وهم يقصرون الأشجار والشجيرات بأن يحصروا جذورها في أُصُص ، وتدفعهم في ذلك فكاهة شيطانية وصبٌّ عارم إلى حتى يروضوا تلك الأشجار بحيث يصوغونها في أشكال يجوز لنا ، إذا ما رأيناها تكوّن سور البستان حتى نقول عنها إنها تمثل أشجار اليابان التي عصفت بها عواصف تلك البلاد فلوت أفنانها ، وتراهم يبحثون في فوهات براكينهم وفي أوعر شطئانهم لعلهم واجدون صخوراً امتزجت بالمعادن بعمل النيران الداخلية ، أوصاغها حجّارون صابرون في أشكال غريبة ملتوية الأجزاء ، وهم يحتفرون البحيرات الصغيرة ، ويشقون النهيرات الفوارة بمائها ، ويصلون ضفافها بجسور تبدوللرائي كأنما اتىت نمواً طبيعياً في أشجار الغابات ، وهم يدقون خلال هذه التكوينات المتنوعة كلها مماش ينقشونها نقشاً دقيقاً ، فتؤدي بك تارة إلى حديث يفجؤك ، وطوراً إلى ركن هادي بليل الهواء.

وحيث تسعفهم فسحة الأرض وكثرة المال تراهم أميل إلى حتى يجعلوا بيوتهم جزءاً من حدائقهم ، منهم إلى حتى يجعلوا حدائقهم جزءاً من بيوتهم ، ومنازلهم هزيلة البنيان لكنها جميلة ؛ فلئن جعلت الزلازل الأبنية العالية خطراً داهماً ، فقد عهد النجار وقاطع الخشب كيف من الممكن أن يربط ألواح الخشب وشرائحه وعمده فيجعل منها مسكناً تبلغ بساطته حد التقشف. لكن يبلغ جماله حد الكمال ، بحيث تراه في فن عمارته نسيج وحده ، إنك لا ترى في مثل هذا المسكن ستائر أوأرائك أوأسرة أومناضد أومقاعد ، ولا ترى دلائل بارزة تدل على ثروة الساكن ورفاهيت ه، لا ترى متحفاً للصور ولا التماثيل ولا التحف ؛ لكنك ترى في ركن من الحديقة غصناً مزهراً ، وعلى الحائط صورة من الحرير أوالورق ، أوترى بترة من الخط الزخرفي ، وتجد على الأرض المغطاة بالحصير وسادة وضع أمامها كرسي مما تسند عليه الخط للقراءة ، وعلى أحد جانبيها خزانة خط وعلى جانبها الآخر مسندة ، وهم يخفون الحشايا والأغطية في خزانة خشبية ، ليخرجوها وينشروها على الأرض إذا حان وقت النوم ، ففي مثل هذه الأحياء المتواضعة ، أوفي كوخ الفلاح الهزيل كانت تسكن الأسرة اليابانية ، وتبقى على الحياة وعلى المدنية في "الجزر المقدسة" خلال ما تعاور البلاد من زعازع الحروب والثورات ومن فساد سياسي وكفاح في سبيل الدين.

الأسرة هي المصدر الحقيقي للنظام الاجتماعي ، ولئن كان هذا سليماً بالنسبة للغرب ، فهوأصح بالنسبة للشرق ، وجمع السلطة كلها في يد الأب في اليابان- كما هي الحال في سائر أنحاء الشرق- لا يشير على انحطاط في درجة الرقي الاجتماعي ، بل يشير على إيثارهم للحكومة الأسرية على الحكومة السياسية ؛ فليس للفرد من الأهمية في الشرق بمقدار ما له من الأهمية في الغرب ، وذلك لأن الدولة في الشرق كانت أضعف منها في الغرب. ولذا تطلبت الدولة حتىقد يكون إلى جانبها أسرة قوية النظام شديدة الطاعة لتقوم مقام السلطة المركزية التي تضم بسلطانها شتى نواحي الحياة كبيرها وصغيرها على السواء ؛ وقد فهمت الحرية في الشرق بالنسبة للأسرة لا بالنسبة للفرد ، ذلك لأنه لما كانت الأسرة هي وحدة الإنتاج في عالم الاقتصاد كما كانت وحدة النظام الاجتماعي ، كان النجاح أوالفشل ، بل الحياة أوالموت، لا يخص الفرد الواحد بل يصيب الأسرة كلها ؛ فكانت سلطة الوالد استبدادية ، لكنها رغم استبدادها كانت تشوبها الرأفة التي لا يعقبها شيء من الضرر ، وذلك بكونها تبدت للناس أمراً طبيعياً وضرورياً وإنسانياً ؛ فقد كان من حقه حتى يطرد من الأسرة زوج ابنته أوزوجة ابنه بينما يحتفظ بحفيدته في صحبته ؛ بل كان من حقه حتى يقتل ابنه أوابنته إذا اتهم أحدهما بالنادىرة أوغيرها من الجرائم الخطيرة ، وأن يبيع أبناءه أوبناته في سوق النخاسة أوسوق النادىرة ؛ وفي مستطاعه حتى يطلق زوجته بحدثة واحدة , فإذا ما كان الرجل من عامة الشعب ، كان الأغلب حتى يقتصر على زوجة واحدة ، أما إذا كان من أبناء الطبقة العليا فقد كان من حقه حتى يحيط نفسه بالخليلات ؛ ولم يكن أحد ليهتم بما يقترفه من خيانة زوجية آناً بعد آن ؛ ولما دخلت المسيحية بلاد اليابان ، شكا الكتاب من أهل البلاد مما أحدثته من اضطراب في هدوء الحياة العائلية ، بتعاليمها التي تجعل اتخاذ الخليلات واقتراف الزنا من الخطايا.

وكانت منزلة المرأة في اليابان- كما هي الحال في الصين- أعلى في مراحل المدنية الأولى منها في المراحل المتأخرة ، فترى ست نساء بين حكام البلاد إبان العهد الإمبراطوري ، ولعبت المرأة في كيوتودوراً هاماً ، بل لعبت الدور الأول في حياة الأمة الاجتماعية والأدبية ؛ وفي ذلك العهد المضىي للثقافة اليابانية- لوجاز لنا حتى نجازف بالرأي في مثل هذه النواحي الغامضة- تجاوز الزوجات أزقابلن في عالم الزنا ، بحيث كن يبعن العفة بقول جميل ينطق ، وتصف لنا "السيدة سي شوناجون" شاباً على وشك حتى يرسل رسالة غرامية لخليلته ، فبترها ليغازل فتاة عابرة ؛ ثم تضيف تلك المحررة المحبوبة البارعة في أدب الموضوعة ، قولها: "ولست أدري إذا كان الرسول الذي حمل رسالة هذا المحب معطرة بقطرات الندى انتثرت من الزهور العبقة ، قد تردد في تقديمها إلى الحبيبة ، إذ وجدها هي بدورها تستضيف عشيقاً" ؛ ثم انتشرت نظرية أهل الصين في إخضاع المرأة للرجل ، حين انتشر النظام الإقطاعي الحربي ، وحين تناوب البلاد تهاون وشدّة جعلا يتعاقبان على نحوطبيعي يسجله التاريخ ؛ فأصبح المجتمع يسوده الذكور ، وأذعن النساء "للطاعات الثلاث" الوالد والزوج والابن" ؛ وأوشك الناس ألا يضيعوا جهدهم في تعليم النساء ، اللهم إلا تعليمهن آداب الأوضاع الاجتماعية ؛ وطولب النساء بالأمانة الزوجية يتهددهن في ذلك عقاب الإعدام ؛ فإذا عثر الـزوج زوجته متلبسـة بجريمة الزنا ، كان من حقـه حتى يقتلهـا مـع عشيقها فوراً ؛ وقد أضاف "أيياسو" بدقته إلى هذا الحق شرطاً ، فنطق إذا الزوج إذا اغتال المرأة في مثل هذه الحال وأخلى سبيل الرجل ، حق عليه هونفسه عقاب الموت ؛ وقد نصح الفيلسوف "إكن" للزوج حتى يطلق زوجته إذا ما أسرفت في حديثها من حيث ازدياد الصوت ، أوطول الكلام ؛ أما إذا وقع حتى كان الزوج منحل الخلق وحشي الطبع ، فينبغي للزوجة في رأي "إكِن" حتى تضاعف له الرحمة والدعة ؛ وفي ظل هذا التدريب الشديد المتصل ، أصبحت المرأة اليابانية أنشط الزوجات وأخلصهن وأكثرهن طاعة ؛ وإن الرحالة الذين أخذهم العجب لهذا النظام الذي ابتكر مثل هذه النتائج الحميدة ، ليتساءلون إذا كان من الحكمة حتى ندخله في بلاد الغرب.

ولم تكن كثرة النسل تجد تشجيعاً في اليابان على خلاف ما نراه في أقدم عادات المجتمع الشرقي وأكثرها قدسية ؛ وذلك لأنه لما تكاثر السكان أحست الجزر الصغيرة أنها قد ازدحمت بأهليها ، وأصبح من عوامل السمعة الحسنة للرجل من طائفة "السيافين" ألا يتزوج قبل سن الثلاثين ، وألا ينجب من الأطفال أكثر من اثنين ؛ ومع ذلك فقد كان ينتظر من جميع رجل حتى يتزوج وأن ينسل الأبناء ، فإذا تبين العقم في زوجته ، كان من حقه طلاقها ؛ وإن نسلت له بنات ولا أبناء ، نصحوه بأن يتبنى ولداً حتى لا يضيع اسمه وتتبدد أملاكه ، لأن البنات ليس من حقهن حتى يرثن شيئاً ؛ وكان الأطفال يربون على أساس الفضائل الصينية ، وفي جومن الأدب الذي يبث إخلاص البنوة ، لأن انتظام الدولة وأمنها كانا يعتمدان على هذه الطاعة التي تُبعث في الأبناء والتي تكون معيناً للنظام في الأسرة ، وقد أمرت "الإمبراطورة كـوكن" فـي القرن الثامن جميع أسرة يابانية حتى تحصـل لنفسها على نسخة من متن الطاعة المفروضة على الأبناء للآباء" ؛ وكان يطلب إلى جميع تلميذ في مدارس الأنطقيم أوفي الجامعات حتى يتقن دراسة هذا الكتاب إتقاناً تاماً ؛ ولواستثنيت طائفة السيافين الذين كانت واجبات الطاعة عندهم مفروضة أولاً لسادتهم ؛ إذا استثنيت هؤلاء ، وجدت طاعة الأبناء لآبائهم هي الفضيلة الأساسية العليا عند اليابانيين ؛ بل إذا علاقة الياباني بالإمبراطور ، كانت علاقة الحب والطاعة من ولد إلى والده ؛ ولبثت هذه هي الفضيلة الرئيسية في التشريع الخلقي كله تقريباً عند عامة الناس في اليابان ، حتى اتىهم الغرب بأفكاره الثورية التي تنادي بحرية الأفراد ؛ وكان يستحيل على الجزر اليابانية حتى تتحول إلى المسيحية ، بسبب ما ورد في الإنجيل من أمر للرجل بأن يهجر أباه وأمه ليلصق بزوجته.

لم تكن الفضائل الأخرى- فيما عدا الطاعة والولاء- لتحتل بينهم مثل المكانة التي تحتلها في أوربا المعاصرة ؛ فالعفة كانت فضيلة مرغوباً فيها ، حتى لقد اغتال بعض نساء الطبقة العليا أنفسهن حين تعرضت بكارتهن للخطر ، لكن كبوة واحدة لم يكن معناها عندهم القضاء على المرأة قضاء كاملاً ؛ وأشهر القصص اليابانية ، وهي سيرة "جنجي مونوجاناري" هي تعبير عن ملحمة تروي سيرة غواية في الطبقة العليا ؛ وأشهر منطقات في الأدب الياباني ، وهي المجموعة في كتاب "صور على الوسادة" لمحررته "السيدة سي شوناجون" تراها في بعض المواضع كأنما أريد بها حتى تكون رسالة في الأوضاع السليمة التي ينبغي مراعاتها عند اقتراف الخطيئة ، فقد نظر القوم إلى شهوات الجسد نظرتهم إلى أمر طبيعي كما ينظرون إلى الجوع والظمأ ؛ فترى آلاف الرجال وكثير منهم أزواج محترمون يحتشدون ليلاً في "يوشي وارا" ، (أي حي الزهر) في طوكيو؛ ففي ذلك الحي منازل خرجت على النظام ، يسكنها خمسة عشر ألف زانية رخص لهن بالزنا ومهرن فيه ، تراهن في الليل جالسات وراء "شيش" نوافذهن ، فاخرات الثياب بيضاوات بما وضعته على أجسادهن من مساحيق ، مستعدات للغناء والرقص والنادىرة لمن ليس له امرأة عشيرة من الرجال ، أولمن ساءت عشيرته منهم.

وأعلى هؤلاء الزانيات ثقافة هن فتيات الجيشا الذي يشير اسمهن هذا على أنهن بارعات في فنهن (فحدثة جيشا مكونة من مبترين: "جي" ومعناها بارع في الأداء الفني ، و"شا" ومعناها شخص) وهن شبيهات بطائفة "الغواني" في اليونان ، في أنهن قد أثرن في الأدب كما أثرن في عالم الحب ، ومزجن فوضاهن الخلقية بالشعر ، لكن وقع حتى أمر الحاكم العسكري "أيناري" (1787-1836) عام 1791 بتحريم الاستحمام الذي يخلط الجنسين معاً ، لأنه أحياناً يؤدي إلى الخروج على قواعد الأخلاق ، ثم أصدر أمراً شديداً سنة 1822 يقاوم به فتيات الجيشا ، وقد وصف الواحدة منهن بأنها "مغنية تلبس فاخر الثياب، وتعرض نفسها مأجورة لتسلية رواد المطاعم ، بالرقص والغناء في ظاهر الأمر ، لكنها في الحقيقة تمارس شيئاً يختلف عن هذين جميع الاختلاف ؛ ومنذ ذلك التاريخ عُدّ هؤلاء النساء بين "الزانيات اللاتي لا يقعن تحت الحصر" بحيث كن في عهد "كيمفر" يملأن حوانيت الشاي في القرى ، كما يملأن الفنادق أينما وجدتها على طول الطريق ؛ ومع ذلك فقد لبثت الحفلات والعائلات تدعوفتيات "الجيشا" ليقمن بالتسلية في الاجتماعات ؛ وفتحت مدارس تتلقى فيها فتيات "الجيشا" الناشئات على أيدي "الجيشا" القديمات مختلف أوضاع الفن ؛ وكان يحدث أحياناً حتى يجتمع المفهمات والمتفهمات معاً في حفلات الشاي ، ليقمن بعرض الجانب المحتشم من ألوان ما يعهدونه من فنون ؛ والآباء الذين يتعذر عليهم أحياناً حتى يعولوا بناتهم ، كانوا يوافقون بمحض اختيارهم على تدريب بناتهم في فنون "الجيشا" لعل ذلكقد يكون مورد كسب لهن ؛ وما أكثر القصص اليابانية التي تروي عن بنات أسلمن أنفسهن لهذه الحرفة إنقاذاً لأسراتهن من أنياب الجوع.

إن هذه العادات مهما بلغت من غرابة نفزع لها فزعاً لا تختلف في جوهرها عن عادات الغرب ونظمه الاجتماعية ، اللهم إلا في الصراحة والتهذيب ولطف الأداء ؛ وإنه لينطق لنا على سبيل التأكيد حتى الأغلبية الكبرى من فتيات اليابان ، لم تزل عفيفة كعذراوات الغرب سواء بسواء ؛ عملى الرغم من هذه النظم الصريحة ، ترى اليابانيين يحيون حياة لا بأس بها من حيث النظام والاحتشام ؛ وعلى الرغم من أنهم كثيراً ما كانوا يأبون الجري مع دوافع الحب في عقد الزواج الدائم مدى الحياة ، فقد كان في وسعهم حتى يظهروا أرق العواطف نحوما يميلون إليه من أشياء ، فما أكثر الأمثلة التي نصادفها في حوادث التاريخ ، وفي الوقائع الخيالية التي وردت في الأدب الياباني ، التي تدل على حتى الشبان والشابات قد قتلوا أنفسهم آملين حتى يتمتعوا في الآخرة الأبدية بالاتصال الذي حرّمه عليهم آباؤهم على هذه الأرض ؛ وليس الحب هوالموضوع الرئيسي في الشعر الياباني ؛ لكنك مع ذلك تسمع نغماته هنا وهناك بسيطة مخلصة عميقة على نحولا يضارعها فيه أدب آخر:

آه، تحولت الأمواج البيض على مدى البصر،

مما أراه طافياً على بحر "أيسي"

زهراتٍ

أجمعها طاقةً

أقدمها هدية لحبيبّتي


ثم اسمع "تسورايوكي" العظيم يحكي سيرة حبه المرفوض في أربعة أسطر ، مزج فيها الطبيعة بشعوره مزجاً يميز الأدب الياباني:

أتقول ألا شيء وشيك الزوال

مثل زهرة الكريز؟.... لكني أذكر لحظة

ذبلت فيها زهرة الحياة بحدثة واحدة

ولم تعد تتحرك من الريح هَبّةٌ.


الحياة الإقتصادية

انقسمت الجماعة في العصر الإمبراطوري ثماني طبقات ، ثم زالت بعض الفوارق في العهد الإقطاعي بحيث أصبحت تلك الطبقات أربعاً: الساموراي (أي السيافون) والصناع والفلاحون والتجار- والطبقة الأخيرة هي كذلك أخيرة في الترتيب الاجتماعي ، ويأتي تحت هذه الطبقات جمع غفير من العبيد فتبلغ نسبتهم ما يقرب من خمسة في جميع مائة من السكان ، وقوامهم المجرمون وأسرى الحرب والأطفال المخطوفون الذين باعهم خاطفوهم ، وكذلك الأطفال الذين باعهم آباؤهم عبيداً في الأسواق ويأتي دون هؤلاء العبيد أنفسهم في المنزلة الاجتماعية ، طبقة من المنبوذين يسمونهم "إيتا" ، يعدهم بوذيواليابان منبوذين نجسين لأنهم يشتغلون بالحرارة أوبالدباغة أوبحمل القمامة. والأكثرية العظمى من السكان (الذين بلغ عددهم في أيام يوشيموني عدداً يقرب من ثلاثين مليوناً) كانت تتألف من صغار ملاك الأراضي الذين يغرسون أرضهم زراعة مركزة ، وهي مساحة تبلغ ثمن التربة اليابانية الجبلية التي تسمح للمحراث حتى يشق جوفها ، وحدث في عصر نارا حتى أممت الدولة الأراضي الزراعية ، وأجرتها للفلاحين مدى ست سنوات ، أومدى حياة الفلاح على أكثر تقدير ؛ لكن الحكومة سرعان ما تبينت حتى الناس لم يعنهم حتى يصلحوا الأرض أوحتى يحرصوا عليها حرصاً حقيقيـاً مادام من الجائز حتى تؤول إلى سواهم بعد حين قصير ، وانتهت التجربة بالعودة إلى الملكية الخاصة ، مع أعطى الحكومة الفلاحين بالمال في فصل الربيع ليتمكن الفلاحون من سد نفقات البذر والحصاد ، ومع هذه المعونة المالية لم تكن حياة الفلاح على درجة من اليسر تحلل قواه ، فلا تزيد مغرسته على شريحة ضئيلة من الأرض ، لأن الميل المربع- حتى في ذلك العهد الإقطاعي- كان مورد رزق لألفي رجل وكان على الفلاح حتى يسخر في عمل للدولة مدى ثلاثين يوماً جميع عام ، كان من الجائز خلالها حتى يلاقي حتفه بطعنة رمح عقاباً له على لحظة واحدة تراخى فيها عن العمل ، وكانت تقتضيه الحكومة ستة في المائة من محصوله ضريبة وغيرها من القروض ، كان ذلك في القرن السابع ، أما في القرن الثاني عشر ، فكانت تقتضيه سبعة في المائة ، وأربعين في المائة في القرن التاسع عشر ، وكانت آلاته الزراعية غاية في بساطتها ، وثيابه هلاهيل خفيفة في الشتاء ، وهوفي العادة لا يلبس شيئاً قط في الصيف ، وكل أساسه في المنزل قدر للأرز وقليل من الأقداح وبضعة ملاعق خشبية ، وداره من الضآلة بحيث يكفي نصف أسبوع لبنائها ذلك لأن الزلازل تحطم له كوخه حيناً بعد حين ، أوتقضي عليها المجاعة ، وإذا عمل أجيراً عند رجل آخر ، حددت له الحكومة- في عهد توكوجاوا- ما يستحق من أجر ، لكن تحديد الحكومة للأجور لم يمنع هبوطها هبوطاً فظيعـاً ؛ وتجـد فـي كتاب ل"هوكوكي"- وهـومن أشهر خط الأدب الياباني- وصفاً لطائفة من الكوارث اجتمعت كلها في الثمانية الأعوام- ما بين 1177 و1185- فزلزال ومجاعة وحريق كاد يأتي على كيوتوكلها ، ووصفه لما شاهده بعينه من مجاعة سنة 1181 يعد مثلاً من أجمل ما في النثر الياباني: "حدث في أراتى البلاد جميعاً حتى غادر الناس أراضيهم بحثاً عن سواها ، أونسوا ديارهم ومضىوا إلى التلال يتخذون في شعابها مسكناً ؛ ولهجت الألسنة بكل ضروب النادىء ، وأدى الناس جميع ألوان الشعائر الدينية التي لم تكن مألوفة في الأيام العادية ، إذ أعادوها من حديث ، جميع ذلك عملوه بغير ما جدوى. وأبدى سكان العاصمة استعدادهم لتضحية جميع ما يملكون من نفائس من شتى الضروب ، نفيساً في إثر نفيس (من أجل القوت) لكن لم يأبه لتلك النفائس أحد عندئذ. واحتشد السائلون الإحسان جماعات على جوانب الطريق ، وامتلأت آذاننا بأصوات أنينهم الباكي. كان الناس جميعاً يموتون من جوع ، وحدثا تقدمت بنا الأيام ، ازددنا يأساً حتى لقد أشبهنا ما تروى عنه السيرة من سملك البركة ؛ وانتهى الأمر حتى بأولئك الذين توحي سيماهم بالاحترام ، والذين يرتدون القبعات ويغطون الأقدام ، انتهى الأمر حتى بأولئك الناس إلى الإلحاف في سؤال الإحسان من باب إلى باب ، وكان يحدث أحياناً حتى يأخذك العجب كيف من الممكن أن يستطيع هؤلاء الذين بلغت بهم تعاسة الحال جميع هذا الحد حتى يمشوا على أقدامهم، وإذا بك تراهم يسقطون أمام عينيك إعياء ، فمات عدد لا يحصى من المجاعة ، وكانوا يلفظون أرواحهم بجوار أسوار الحدائق أوإلى جوانب الطرقات ؛ ولما كانت أجسادهم لا تجد من يزيلها من أماكنها ، فقد امتلأ الهواء بالرائحة النتنة ؛ حتى ما إذا أخذ التغير يطرأ على أجسادهم ، نشأت مشاهد لا تستطيع العين حتى تراها. ومن لم يكن له كسب يشتري به القوت ، هدم داره ليبيع أجزاءها في السوق ، وقيل إذا الحمل يحمله الرجل بكل طاقته ، لم يكن ثمنه ليكفي سد رمقه يوماً واحداً ، والعجب أنك كنت ترى في هذا الحطام من أخشاب المنازل ، الذي كانوا يبيعونه وقوداً للنار ، بتراً مزدانة في بعض أجزائها بالألوان أوبالفضة أوبطلاء المضى. وشيء آخر يستثير في النفس أشد أحزانها ، وهوأنه إذا كان ثمة رجل وامرأة يربط بينهما رباط الحب الشديد ، فالذي كان منهما أقوى حباً من الآخر ، وأعمق ولاء ، يموت قبل زميله ؛ وعلة ذلك حتى الواحد منهما يؤثر غيره على نفسه ، فالذي يشتد حبه يقدم لمحبوبه- رجلاً كان أوامرأة- أي شيء يطلبه منه ، فكان الوالدون بطبيعة الحال يموتون قبل أبنائهم ؛ كذلك كنت ترى الرضع أحياناً عالقين بأثداء أمهاتهم ، لا يعهدون حتى هؤلاء الأمهات قد فاضت أرواحهن.

وبلغ عدد الموتى في كيوتوالوسطى خلال الشهرين الرابع والخامس وحدهما 300ر42 من الأنفس البشرية. قارن هذه الفترة الفظيعة التي تخللت مجرى الزراعة ، بالصورة التي يقدمها لنا "كيمفر" ساطعة عن الصناعات اليدوية في اليابان كما رآها في كيوتوسنة 1691. "كيوتوهي المستودع العظيم الذي تخزن فيه جميع المنسوجات والسلع اليابانية ، وهي المركز التجاري الرئيسي في الإمبراطورية ؛ فتكاد لا تجد في هذه العاصمة الكبرى منزلاً واحداً لا يصنع فيه شيء أويباع شيء ؛ فالناس هاهنا يُصفّون النحاس ويسكون النقود ويطبعون الخط ويطرزون أفخر المنسوجات بزهور المضى والفضة.

وهاهنا كذلك تصنع أحسن صنوف الصبغة وأندرها ، وأروع النقوش فناً ، وكل ضروب الآلات الموسيقية والصور والخزانات اليابانية ، وشتى الأمور التي تصاغ من المضى وغيره من المعادن ، وخصوصاً الصلب ؛ مثال ذلك السيوف ذوات النصل القوي وغيرها من الأسلحة ؛ جميع ذلك يصنع هاهنا صناعة بلغت غاية الكمال ، كما تصنع أفخر الأردية على خير طراز ، وكل صنوف اللعب ونماذج الحيوان التي تحرك رؤوسها من تلقاء نفسها وأشياء أخرى أكثر عدداً من حتى يحصرها العدد في هذا المكان ؛ واختصاراً لست تستطيع حتى تفكر في شيء مما لا تراه يصنع في كيوتو- وليس هنالك شيء مما يستورد من خارج البلاد- مهما بلغت دقة صناعته- مما لا تجد بين صناع العاصمة من يأخذ على نفسه حتى يحاكيه.

إنه ليس في المنازل التي تقع في الشوارع الرئيسية إلا قلة لا تعرض شيئاً من أجل البيع ؛ ولم يسعني إلا العجب أنىَ لهؤلاء الناس الزبائن شراء هذه المقادير الهائلة من البضائع؟". لقد استوردت اليابان قبل ذلك بزمن طويل جميع فنون الصين وصناعاتها ؛ وكما ترى اليابان اليوم قد بدأت تفوق مفهميها من أهل الغرب في الاقتصاد والمقدرة على الإنتاج الآلي ، فكذلك وقع في أثناء حكومة توكوجاوا العسكرية ، إذ أخذ صناعها ينافسون ، بل وأحياناً يفوقون زملاءهم من أهل الصين وكورية الذين فهموهم الصناعة ؛ وكانت معظم الصناعة تقوم بها الأسرة في الدار- كما كانت الحال في أوربا في عصرها الوسيط- وكانت الأسرة تورث صناعتها ومهارتها من الوالد إلى ولده ، وكثيراً ما أطلق على الأسرة اسم الصناعة التي كانت تقوم بها ؛ وكذلك- كما كانت الحالة أيضاً في أوربا في عصرها الوسيط- تألفت نقابات كبرى ، لم يكن قوامها الصفوف الدنيا من الصناع بقدر ما كان قوامها السادة الذين كانوا يستغلون الصناع استغلالاً لا يعهد الرحمة ، وحددوا حق الالتحاق بهذه النقابات للأعضاء الجدد بقيود أسرفوا في ضيقها ؛ وكانت نقابة الصيارفة من أقوى النقابات ، الصيارفة الذين كانوا يقبلون الودائع والتحويلات المالية و"الكمبيالات" ويقرضون القائمين على التجارة والصناعة والحكومة ؛ وما اتىت سنة 1636 حتى كانوا يؤدون جميع العمليات المالية الكبرى.

وأصبح التجار الأغنياء والممولون من أعلام أهل المدن ، وأخذوا ينظرون بعين الحسد إلى السلطة السياسية التي كانت مقصورة على السادة الإقطاعيين الذين أثاروا في صدورهم الشحناء باحتقارهم السعي وراء المضى ؛ وأخذت الثروة التجارية تزداد شيئاً فشيئاً خلال عصر "توكوجاوا" حتى استطاعت آخر الأمر حتى تتآزر مع المواهب الأمريكية والمدافع الأوربية على تحطيم القشرة المتحجرة فوق اليابان القديمة.


الحياة الدينية

شنتو

كانوا يخافون الموتى ويعبدونهم ، لأن غضبهم قد ينزل بالعالم شراً مستطيراً ؛ فلكي يسترضوا هؤلاء الموتى ، كان لزاماً عليهم حتى يضعوا لهم النفائس في قبورهم- كأن يضعوا سيفاً إذا كان الميت رجلاً ، ومرآة إذا كانت امرأة ، وكانوا يؤدون الصلاة ويقدمون الطعام أمام صور أسلافهم في جميع يوم. وكانوا يلجأون إلى التضحية البشرية آناً بعد آن توسلاً لإيقاف مطر غزير ، أوضماناً لثبات بناء أوجدار ، وكان يحدث أحياناً حتى يدفن الأتباع مع سيدهم الذي توفي ليدافعوا عنه في أولى مراحل حياته الآخرة.

ومن عبادة الأسلاف نشأت أقدم ديانة قائمة في اليابان ، وهي "شنتو" أي "طريق الآلهة" ولها صور ثلاث ": العقيدة المنزلية التي تتجه بالعبادة إلى أسلاف القبيلة ، وعقيدة الدولة التي تتجه بالعبادة إلى الحاكمين الأسلاف وهم الآلهة الذين أسسوا للدولة بناءها ؛ فكانوا يخاطبون السلف المقدس الأول الذي عنه اتىت سلسلة الأباطرة ، ضارعين سبع مرات جميع عام ، فيتوجه إليه الإمبراطور نفسه بالنادىء ، أومن ينوب عن الإمبراطور ؛ ثم كانوا يؤدون له صلاة خاصة إذا ما همت الأمة بالاضطلاع بمشروع تراه استثنائياً في قداسته ، مثل الاستيلاء على شانتونج (سنة 1914) ؛ ولم تكن ديانة "شنتو" بحاجة إلى تفصيل ممضىي أوطقوس معقدة أوتشريع خلقي ، ولم تكن لها طبقة من الكهنة خاصة بها ، كلا ولا تمضى إلى ما يبعث العزاء في نفوس الناس من خلود الروح ونعيم الفردوس ؛ فكان جميع ما تطالب به معتنقيها حتى يحجوا آناً بعد آن لأسلافهم وأن يقدموا لهم ضراعة الخاشعين ، ويعملوا كذلك لإمبراطورهم ولماضي أمتهم ؛ وقد حلت عقيدة أخرى محل هذه العقيدة حيناً ، لأنها مسرفة التواضع في جزائها التي تعد به ، وفي أوامرها التي تلزم بها الناس.

البوذية

اتىت البوذية في سنة 522 - وكانت قد دخلت الصين قبل ذاك بخمسمائة عام- إلى اليابان خلال القارة الآسيوية ، فأخذت تغزوأراتىها غزواً سريعاً ؛ وقد تآمر عاملان فخطا لها النصر ، وهما: الحاجات الدينية عند الشعب ، والحاجات السياسية عند الدولة ، لأنه لم تكن بوذية بوذا هي التي اتىت إلى اليابان ، بما عهدت به تلك البوذية من لا أدرية وتشاؤم وتزمت وشوق إلى النعيم الناشئ عن انمحاء الفرد في الكل ، بل اتىتها بوذية "ماهايانا" بآلهتها الوديعة من أمثال "أميدا" و"كوانون" ، وباحتفالاتها الدينية البهيجة ، واعترافها ببوذيين منتظرين يخلصون البشر ، وبخلود الروح الإنسانية ، ثم ما خير من ذلك ، اتىت هذه البوذية تبث في النفوس بأسلوب لا يقاوم لفرط رقته ، جميع فضائل الورع والسلام والطاعة التي يمكن حتى تصوغ الناس صياغة تجعلهم أكثر انصياعاً للحكومة ، وراحت تفسح للمظلومين من الأمل والعزاء ما يجعلهم راضين قانعين بشظف عيشهم ؛ وتخفف من وطأة الحياة الكادحة وما فيها من برود يشبه برود النثر وفتور العمل المكرور المعاد ، بما تبثه في تلك الحياة من شعر متمثلة في الأساطير والصلاة ، ومن مسرحية تتمثل في الاحتفالات البهيجة ، وهيأت للناس سبيل الوحدة في الشعور والعقيدة ، وهما شيئان طالما رحب بهما الساسة ، لأنهما أصل النظام الاجتماعي ، ونادىمة القوة القومية.

ولسنا ندرى أكانت السياسة أم الورع هوالذي خط النصر للبوذية في اليابان ، فلما توفي الإمبراطور "يومى" سنة 586 ، تنازعت وراثة العرش من بعده أسرتان متنافستان ، تنازعاً استخدمت فيه السلاح ، واعتنقت كلتاهما العقيدة الدينية الجديدة اعتناقاً سياسياً ، واستطاع الأمير "شوتوكوتايشي"- الذي ينطق عنه إنه ولد وفي يده تميمة مقدسة- حتى ينتهي بالحزب البوذي إلى النصر ، ثم أقامت على العرش "الإمبراطورة سويكو". ولبث تسعة وعشرين عاماً (592-621) يحكم الجزر المقدسة أميراً إمبراطورياً ووصياً على العرش وراح يغدق العطاء لمعابد البوذيين ، ويشجع رجال الدين البوذي ويعينهم ،

ويدخل الأخلاق البوذية في صلب القوانين القومية ، حتى لقد أصبح بوجه عام للبوذية اليابانية ما كان "أشوكا" لها في الهند , وامتدت رعايته إلى الفنون والعلوم ، واستقدم الفنانين ومهرة الصناع من كوريا والصين ، وخط التاريخ ، ورسم التصاوير ، وأشرف على بناء معبد "هوريوجي" ، وهوأقدم آية بقيت لنا في تاريخ الفن الياباني.


الحياة السياسية

على الرغم من كافة الفضائل التي راحت البوذية تبثها في النفوس أوتبشر بها ، فقد طغت على اليابان أزمة أخرى عنيفة ، ولم يكن قد مضى على موت "شوتوكو" جيل واحد ؛ ذلك حتى أرستقراطياً طموحاً ، هو"كاماتاري" قد دبر مع "الأمير تاكا" ثورة في القصر ، كانت بداية واضحة لتغير مجرى التاريخ السياسي في "نيبون" (اليابان) حتى ليشير إليها المؤرخون من أبناء البلاد في حماسة وطنية فيصفونها بقولهم "الإصلاح العظيم" (سنة 645) ؛ فقد اغتال ولي العهد ، وأجلس على العرش ملك كهل لم يكن إلا صورة ، وكان الأمر في يد "كاماتاري" باعتباره رئيساً للوزراء ، فطفق بمعونة "الأمير تاكا"- حين كان لم يزل ولياً للعهد ، ثم حين أصبح هو"الإمبراطور تنشي"- يعيد بناء الحكومة اليابانية بحيث جعلها سلطة إمبراطورية أوتوقراطية ؛ وارتفع الحاكم من مجرد كونه زعيماً لكبرى القبائل ، إلى سلطة شاملة تسيطر على جميع موظف في اليابان ، فهوالذي يعين جميع الحكام ، وتدفع له الضرائب كلها مباشرة ، وأعرب حتى البلاد كلها ملك يمينه ؛ وبهذا سارت اليابان بخطوات سريعة من ارتباط بين القبائل مخلخل العرى ورؤساء قبائل يشبهون أشراف الإقطاع ، إلى دولة ملكية وثيقة العرى فيما يربط بين أجزائها.


العصر الإمبراطوري

جعل الإمبراطور ف اليابان يتمتع بألقاب ضخمة ، فكان يسمى أحياناً "تنشي" أو"شمس السماء" على حتى اسمه كان غالباً "تنو" أي "الملك السماوي" ونادراً ما كان يطلق عليه "ميكادو" أي "الباب المجيد" ؛ وكان من امتيازه حتى يطلق عليه اسم حديث بعد موته ، يعهد في التاريخ باسم خاص يختلف جميع الاختلاف عن الاسم الذي أطلق إبان الحياة ؛ ولكي يضمن اتصال النسل الإمبراطوري ، كان للإمبراطور الحق في أي عدد شاء من الزوجات أوالرفيقات ؛ ولم يكن حتماً حتى يهبط الملك إلى أكبر الأبناء ، بل تؤول ولاية العرش من بعده إلى من كان في رأيه هو، أوفي رأي أبطال العصر أقرب أبنائه إلى حتىقد يكون أقواهم ، أوأضعفهم على العرش [فيختار أقواهم إذا كان الذي يختار هوالملك ، ويختار أضعفهم إذا كان الذي يختار هم أعلام العصر ذووالمصالح الشخصية] وكان الأباطرة في بواكير العصر الكيوتي يميلون إلى الورع ، حتى لقد تنازل بعضهم عن العرش ليجعلوا من أنفسهم رهباناً بوذيين ، وحرَّم أحدهم السِّماكة على أنها إساءة إلى بوذا ؛ لكنك تجد بينهم "يوزي" يشذ عن هذا المجرى ، ويتعب الناس بنشاطه ، فاتى مثلاً يوضح كيف من الممكن أن تكون الأخطار التي يستهدف لها الملك إذا نشط ؛ فكان يأمر الناس حتى يصعدوا الأشجار ثم يرميهم بقوسه ونشابه ، ويمسك بالعذارى في الطرقات ، ويوثق قيدهن بأوتار قيثارة ويقذف بهن في البرك ، وكان مما يمتع جلالته حتى يركب جائساً خلال العاصمة فيلهب الناس بسوطه ليدفعهم إلى العمل ، لكن رعيته خلعته عن العرش آخر الأمر بثورة أعربت فيها العصيان السياسي الذي هوبمثابة الخروج على حدود التقوى وهوشيء نادر الوقوع في تاريخ اليابان.

وقد وقع سنة 794 حتى انتقلت مراكز الحكومة من "نارا" إلى "ناجاوكا" ثم لم تلبث بعدئذ حتى انتقلت إلى كيوتو(أي عاصمة السلام) فظلت هي العاصمة خلال الأربعة قرون (794-1192) التي يجمع معظم المؤرخين على أنها كانت في اليابان عصرها المضىي ، فلما حتى كانت سنة 1190 بلغ سكان كيوتونصف المليون ، وهوما لم تبلغه أية مدينة أوروبية في ذلك العصر ما عدا القسطنطينية وقرطبة ، وقد خصص جزء من المدينة لأكواخ الناس وحظائر لماشيتهم ، والظاهر حتى قد نعم هؤلاء الناس بعيشهم رغم فقرهم المدقع ؛ ثم خصص آخر- جعلوه معزولاً بما تقتضيه الحكمة لحدائق العلية والأسرة الإمبراطورية وقصورهم ؛ وكان يطلق على حاشية الإمبراطور بحق "سكان ما فوق السحب" لأن تقدم الحضارة وارتفاع الأساليب الفنية كان من نتائجها في اليابان- كما هي الحال في غيرها- ازدياد الفوارق الاجتماعية ؛ وبهذا زالت المساواة التقريبية التي كانت تسود الناس في باكورة الأيام ، وحل محلها تفاوت لا مندوحة عن وقوعه إذا ما قُسمِّت الثروة المتزايدة بين الناس على قدراتهم المتنوعة وشخصياتهم وامتيازاتهم المتباينة ؛ ونشأت أسرات كبيرة ، مثل الـ "فويجيوارا" والـ "تايْرا" والـ "ميناموتو" والـ "سوجاوارا" ، وهي أسرات كانت تقيم الأباطرة وتخلعهم ، ويحارب بعضها بعضاً على النحوالعنيف الذي شهدته أيام النهضة الإيطالية ؛ ولقد قرَّب "سوجاوارا متشيزاني" نفسه من قلوب اليابانيين لرعايته للأدب ، وهوالآن معبود لديهم بوصفه إلهاً للآداب ، وتعطل المدارس تكريماً له في الخامس والعشرين من جميع شهر ؛ وكذلك امتاز الشاب "ميناموتوسانيتومو" بإنشائه في الصباح السابق لاغتياله هذه المقطوعة الشعرية الساذجة ، التي تمثل الأسلوب الياباني في أنصع صوره:


إذا لم أعد إليك ثانياً

يا شجرة البرقوق التي تجاور داري

فلا تنسي أنت موعد الربيع

وازدهري ما وسعك الازدهار


ولبثت اليابان في عهد "دايجو" المتنوّر (898-930)- وهوأعظم الأباطرة الذين أقامتهم على الحكم قبيلة فوجيوارا ، لبثت في عهده تتشرب- بل بدأت تنافس- ثقافة الصين وأسباب ترفها ، التي كانت عندئذ في أعلى ذرى ازدهارها في عهد "تانج" ؛ ولما كانت اليابان قد استمدت عقيدتها الدينية من "المملكة الوسطى" فقد طفقت تستمد من المعين نفسه لباسها وألعابها وطهيها وكتابتها وشعرها وأساليب حكومتها وموسيقاها وفنونها وبساتينها وعمارتها ، بل خُطِّطت عاصمتاها الجميلتان "نارا" و"كيوتو" على غرار "شانجان" ؛ فقد استوردت اليابان ثقافة الصين منذ ألف عام ، كما تستورد ثقافة أوربا وأمريكا في عصرنا هذا ، وهي في هذا تتعجل أولاً ثم تتمهل لتنتقي وتختار ثانياً ؛ لكنها تحتفظ بروحها الخاصة وشخصيتها الخاصة غيرة عليهما ، ولا تدخر في وسعها جهداً في سبيل مداومة الأساليب الجديدة إلى الأغراض القومية القديمة.

ودخلت اليابان في عهدها الأنجي (901-922) الذي يعتبر ذروة العصر المضىي مدفوعة إلـى ذلك الصـعود بحافز مـن جارتها العظيمة ، وبوقاية حكومية مستتبـة ؛ فتراكـمت الثروة وأتجه إنفاقها نحومسببات حياة مترفة رقيقة تشيع فيها الثقافة بحيث لا يكاد يضارعها في ذلك مثيل حتى اتىت عصور أسرة مديتشي و"صالونات" "التنوير الفرنسي". وأصبحت "كيوتو" بمثابة باريس وفرساي في فرنسا ، رقيقة قي شعرها وثيابها ، رشيقة في أخلاقها وفنونها ، تضع للأمة كلها معايير الفهم والذوق ، وانفتحت "الشهية" عند الناس على اختلاف صورها وإلى آخر حدودها وآمادها ، فابتكر الطهاة صنوفاً جديدة من شهيّ الطعام ، وكدسوا الآكال تكديساً ليُشبعوا أصحاب النهم وأرباب الذوق في الطعام على حد سواء ، وغُض الطرف عن جرائم الزنا على أساس أنها من أتفه خطايا الإنسان ، وتزمَّل جميع سيد أوسيدة بالحرير ونفيس الثياب ، وكنت ترى مختلف الألوان متناسقة على جميع كم تلبسها ذراع ، وازدانت حياة المعابد والقصور بالموسيقى والرقص كما أشاع الرقص والموسيقى روح الرشاقة في بيوت العِلْية التي كانت تحاط بروائع المناظر الطبيعية من الخارج ، وتزدان صقلاً من الداخل بما فيها من آيات البرونز واللؤلؤ والعاج والمضى والخشب الذي حفر حفراً بلغ الغاية القصوى من دقة الحفر ؛ لقد ازدهر الأدب إذ ذاك وانحلَّت الأخلاق.

أمثال هذه العصور التي تتلألأ بجوانب الرقة ، يغلب ألا تدوم طويلاً ، لأنها ترتكز ارتكازاً مقلقلاً على ثروة متراكمة يمكن في أية لحظة حتى تذروها عوامل تذبذب التجارة ، وقلق الطبقات المستغَلَّة وتقلبات الحروب ؛ وقد أدى إسراف القصر آخر الأمر إلى إفلاس الدولة وارتفعت الثقافة بحيث رجحت كفتها بالقياس إلى القدرة الفهمية ، فانتهى ذلك إلى ملء المناصب الإدارية بمتشاعرين عاجزين ، وأخذ الفساد يتكاثر تحت أنوفهم المعطَّرة دون حتى يستوقف انتباههم ، ثم أصبحت المناصب آخر الأمر تباع لمن يدفع في شرائها أغلى ثمن وازدادت الجــرائم بين الفـقراء بقــدر ما ازدادت أسبـاب التـرف بين الأغنيـاء ، وانبث وبـاء اللصوص والقراصنة في الطرقات والبحار ، فكانوا ينقضون على جميع فريسة تقع في أيديهم ، لا فرق عندهم بين الإمبراطور والشعب ، ويسطون على جباة الضرائب فيسلبونهم ما كانوا يحملونه إلى القصر من أموال ، ونظمت عصابات من اللصوص في الأنطقيم ، بل وفي العاصمة نفسها ، وكان يتاح لأخطر مجرم في اليابان- كما هي الحال عندنا- حتى يعيش في رفاهية علنية ؛ لأنه كان من القوة بحيث يتعذر على أولى الأمر حتى يقبضوا عليه أويسيئوا إليه ، وأهمل الناس عاداتهم وفضائلهم الحربية ، وتراخوا في نظامهم العسكري والأهبة للدفاع ، بحيث باتت الحكومة مفتوحة الصدر لكل ضربة يسددها إليها من شاء من القراصنة القساة ؛ وراحت الأسر الكبيرة تجيَّش لنفسها جيوشها ، فبدأت بذلك عهداً من حروب أهلية ، ولبثت تناضل بعضها بعضاً نضالاً تسوده الفوضى ، جميع منها يحاول حتى يظفر لنفسه بحق تعيين الإمبراطور ، وأما الإمبراطور نفسه فكان يزداد جميع يوم ضعفاً على ضعف ، في الوقت الذي كان رؤساء القبائل فيه يوشكون حتى يعودوا إلى سابق عهدهم من حيث استقلال جميع منهم بسلطته ؛ إلى غير ذلك أخذ التاريخ مرة أخرى يتذبذب على نحوما كان يتذبذب قديماً ، بين حكومة قوية مركزية من ناحية ، ونظام إقطاعي لا مركزي من ناحية أخرى.

القانون

التشريع القانوني في اليابان مكملاً عنيفاً لما كان يتم بالاغتيال وبالثأر وقد استمد ذلك التشريع بعض أصوله من تنطقيد الشعب القديمة ، كما استمد بعضها الآخر من التشريعات الصينية في القرن السابع ، ذلك حتى القانون قد صحب الدين في هجرة الثقافة من الصين إلى اليابان ؛ وبدأ "تنشي تبنو" صياغة مجموعة من القوانين ، كملت وأذيعت في عهد الإمبراطور اليافع "مومو" عام 702 ؛ لكن هذا التشريع وغيره من تشريعات العصر الإمبراطوري ، أهملت في العصر الإقطاعي ، إذ جعل جميع حاكم إقطاعي يسن لنفسه ما شاء من تشريع مستقلاً عن سائر المقاطعات ، ولم يعترف الرجل من طبقة "السيافين" بقانون إلا ما يريده وما يأمر به مولاه. وكانت العادة في اليابان حتى سنة 1721 حتى تكون الأسرة كلها مسئولة عن جميع فرد من أفرادها ، فتضمن حسن سلوكه ؛ وكذلك كانت الأسرة الواحدة- في معظم الأنطقيم- توضع في مجموعة من خمس أسرات ، تكون جميع منها مسئولة عن سائر أفراد المجموعة ، فالرجل إذا حكم عليه بالصلب أوبالحرق ، قضي كذلك بالموت على أبنائه الكبار ، وبالنفي على أبنائه الصغار عندما يبلغون الرشد ، وكان نظام المحنة متبعاً في التحقيق على نحوما كان متبعاً في العصور الوسطى ، ولبث التعذيب شائعاً- في صوره الخفيفة- حتى هذا العصر الحديث واصطنع اليابانيون من وسائل التعذيب إزاء المسيحيين ، ناسجين على منوال محاكم التفتيش نسجاً فيه انتقام لما أنزله المسيحيون أنفسهم بأنفسهم في تلك المحاكم ، لكنهم كثيراً ما كانوا أدق في وسائلهم التعذيبية. فيربطون الرجل بحبال في وضع وثيق. يزيد المربوط ألماً حدثا مرت به لحظات الزمن لحظة بعد لحظة ، وكثيراً ما كانوا يلجئون إلى الضرب بالسياط لأتفه الأخطاء ، وكان الإعدام لديهم عقوبة على كثير جداً من أنواع الجرائم ، واتى الإمبراطور شومو(724- 56) فألغى عقوبة الإعدام وجعل الرحمة أساس حكمه ، لكن الإجرام زادت نسبته بعد موته ، حتى لم يقتصر الإمبراطور كوشين (770- 81) على إرجاع عقوبة الإعدام بل أضاف إلى ذلك أنه أمر بأن يضرب اللصوص بالسياط علناً حتى يلفظوا الروح ، وكانوا ينفذون الإعدام بالخنق وجز الرأس والصلب وبتر الجسد أربعة أرباع والحرق أوالغلي في الزيت ، وكان "أيياسو" قد ألغى العادة التي تقضي بأن يمزق المتهم نصفين بشده بين ثورين ، كما ألغى العادة التي تقضي بأن يربط المتهم في عمود وسط الملأ ، ثم يطلب من جميع مار حتى يأخذ نصيبه في تقطيع جسده بمنشار ينشره من كتفه فأسفل ، وكان من رأي "أيياسو" حتى كثرة الالتاتى إلى العقوبات الصارمة لا تدل على إجرام الشعب بمقدار ما تدل على فساد الموظفين وعجزهم ، وكم ساء "يوشيموني" حتى يجد سجون عصره بغير استعدادات صحية ، وأن بين المسجونين فئة بدأت محاكماتها منذ ست عشرة سنة ولم تنته بعد ، حتى لقد نسيت الاتهامات الموجهة إليهم ، توفي الشهود ، وأخذ هذا الحاكم العسكري الذي كان أكثر هذه الطائفة استنارة في إصلاح السجون ، وعمل على السرعة في الإجراءات القضائية ، وألغى المسئولية الأسرية ، وواصل العمل المضني بغية حتى يصوغ أول تشريع موحد للقانون الإقطاعي في اليابان (1729).


حكم الشواجنة

كان من شأن هذه الظروف القائمة حتى سنحت الفرصة لظهور فئة من الطغاة العسكريين الذين قبضوا بأيديهم على زمام الأمور كلها ، في كثير من أجزاء الجزر اليابانية ؛ ولم يعترفوا بالإمبراطور إلا على أنه ظاهرة مقدسة في اليابان يحتفظ بها بأقل ما يمكن من النفقات ؛ وجعل الفلاحون الذين لم تعد تحميهم من عصابات اللصوص جيوش الإمبراطور ولا رجال شرطته ، يدفعون الضرائب لهؤلاء "الشواجنة" أي القادة بدل دفعها للإمبراطور ، لأن "الشواجنة" وحدهم هم الذين كانوا يستطيعون حمايتهم من اعتداء اللصوص. إلى غير ذلك ساد النظام الإقطاعي في اليابان لنفس الأسباب التي كان قد ساد بسببها في أوربا، وأعني حتى مصادر السلطان في الإقطاعات ازدادت نفوذاً بمقدار ما فشلت الحكومة المركزية النائبة في حفظ الأمن والنظام. وحدث في سنة 1192 حتى جمع "يوريتومو"- وهوأحد رجال قبيلة ميناموتو- حوله جيشاً من الجند والعبيد ، وأقام لنفسه سلطة مستقلة ، اتخذت لنفسها اسماً هواسم المكان الذي قامت فيه ، وهو"باكوفوكاماكورد" وحدثة "باكوفو" معناها منصب عسكري ، وإذن فهي تدل صراحة على نوع الحكومة الجديدة ؛ ومات "يوريتومو" العظيم فجأة في عام 1198 أعقبه في الحكم أبناؤه الضعفاء ، وذلك- كما يقول المثل الياباني- لأن "الرجل العظيم لا ذرية له" فأقامت أسرة منافسة وصاية لنفسها على العرش عام 1199 ويسمى العهد باسم "وصاية هوجو" ، ولبثت تلك الأسرة مدى مائة وأربعة وثلاثين عاماً تحكم "الشواجنة" الذين كانوا بدورهم يحكمون الأباطرة ؛ فكانت هذه الحكومة الثلاثية فرصة سانحة لقبلاي خان يحاول فيها غزواليابان ؛ فقد وصفها له الكوريون الدُّهاة الذين كانوا يخشون بأسها ، فنطقوا إنها من الثراء بحيث تستحق الجهد ؛ فأمر قبلاي بناة سفنه حتى يشيدوا له أسطولاً بلغ من الضخامة حداً جعل شعراء الصين يصورون التلال باكية ترثى ما سُلِبَ من غاباتها ؛ ويقول اليابانيون- حين يروون حوادث الماضي رواية الفخور ببطولته- إذا النفس بلغت سبعين ألفاً ، لكن المؤرخين الذين لا يتأججون بمثل هذه الحاسة الوطنية يكفيهم من العدد ثلاثة آلاف وخمسمائة سفينة ومائة ألف محارب ؛ وتبدّى هذا الأسطول الجبار على مبعدة من شواطئ اليابان في أواخر سنة 1291 فخرج سكان الجزر الأبطال ليلاقوه في أسطول لهم بنوه على عجل ؛ وهوأسطول ضئيل بالقياس إلى الأسطول المهاجم؛ لكن وقع لهذه الأرمادا، ما وقع للأرمادا التي كانت أصغر منها ، وإن تكن أشهر ، وهوحتى هبت "ريح عظيمة" لا تزال مذكورة لما أسدته للناس من جميل ، هبت فحطمت سفائن "الخان" الجبار ، إذ رطمتها على جوانب الصخور ، وأغرقت من بحارته سبعين ألفاً ، وأبقت على بقيتهم ليعيشوا حياة الرقيق في بلاد اليابان.

ودارت الدوائر على أسرة "هوجو" عام 1333 ، إذ أصابتهم السيطرة هم أيضاً بسمومها ، وانتهى الأمر إلى انتنطق الحكم الوراثي من أيدي الأبالسة والعباقرة إلى أيدي الجبناء والحمقـى ؛ وكان آخـر هذه السلالة رجل يدعى "تاكا توكي" يحب الكلاب حباً شديداً ، فيقبلها بدل الضرائب ، حتى لقد جمع منها عدداً يتراوح بين أربعة وخمسة آلاف ، وأعد لها حظائر زينها بالمضى والفضة وأطعمها بالسمك والطيور ، وهيأ لها العربات المزخرفة تحملها للتنزه ؛ فوجد الإمبراطور القائم على العرش إذ ذاك ، وهو"جودايجو" حتى انحلال حماته فرصة سانحة يستعيد فيها سلطانه الإمبراطوري ، وأيدته قبيلتا "ميناموتو" و"أشيكاجا" وقادتا له جيوش حتى ظفرتا له بالنصر على "أسرة الوصاية" بعد سلسلة من هزائم ، ومن ثم أوى "تاكا توكي" ومعه ثمانمائة وسبعون من عبيده وقادته ، إلى معبد ، وجرع كأساً أخيرة من "الساقي" ثم أنزل بنفسه "الهاراكيري" (أي أنه أنتحر) ؛ ولقد أخرج أحد الحاضرين أمعاء المنتحر بيديه قائلاً: "إن هذه لتضفي على الخمر طعماً لذيذاً". وانقلب "أشيكاجاتا كاوجي" على الإمبراطور بعد حتى كان هوالذي أعانه على استعادة سلطته ؛ وقاتل الجيوش التي اتىت لإخضاعه قتالاً موفقاً من حيث خطته العسكرية ومؤامرات الخيانة ؛ وأزال "جودايجو" عن العرش ليضع مكانه إمبراطوراً صورياً هو"كوجون" ، وأقام في كيوتوتلك الحكومة العسكرية المعروفة باسمه "أشيكاجا" والتي ظلت تحكم اليابان مدى مائتين وخمسين عاماً سادتها الفوضى والحرب الأهلية التي لم تنبتر ؛ ولا بد لنا حتى نعترف هنا بأن جزءاً من تلك الفوضى كان يرجع إلى الجانب السامي من طغاة "أشيكاجا"- وهوحبهم للفن ورعايتهم له ؛ فهاهوذا "يوشيمتسو" قد مل الكفاح فلف يديه نحوالتصوير ، حتى أصبح يعد من مصوري عصره الأفذاذ ، وارتبط "يوشيمازا" بصلات الود مع كثير من المصورين ، وأعان بالمال كثيراً من الفنون ، وأصبح في عالم الفن ذواقة دقيقاً ، حتى ليعد هواة الآثار الفنية اليوم البتر التي كان قد اختارها هووأتباعه خير ما يستحق الاقتناء لكن مهام الحكم الإداري قد أهملت إذ ذاك ، ولم يعد حفظ الأمن والسلام في مقدور القادة العسكريين (أي الشواجنة) الأغنياء ، ولا في مقدور الأباطرة الذين حل بهم الإفلاس. فكان من شأن هذه الفوضى نفسها وما أصاب الحياة من انحلال ، ومطالبة الأمة بقادة يهيئون لها النظام ، حتى ظهر القراصنة الثلاثة المعروفون في التاريخ الياباني ؛ وتقول الرواية إذا هؤلاء الثلاثة- وهم "نوبوناجا" و"هيديوشي" و"أيياسو"- اعتزموا حتى يتعاونوا معاً في شبابهم على إعادة الوحدة لوطنهم ، وحلف جميع منهم يميناً على حتى يطيع طاعة الأتباع مَنْ يفوز من زميليه الآخرين بموافقة الإمبراطور على توليه حكومة اليابان ؛ وحاول "نوبوناجا" بادئ ذي بدء ، لكنه مُني بالفشل ، وحاول بعده "هيديوشي" لكنه توفي حين أوشك على النجاح ؛ وكان "أيياسو" يرقب فرصته ، فاتىته آخر الأمر وحاول بعد زميليه ، وأسس الحكومة العسكرية المعروفة باسم "توكوجاوا".وبهذا افتتح عهداً من أطول عهود السلام ، وعصراً هومن أخصب عصور الفن ، في تاريخ الإنسانية كلها.

الساموراي

يقوم على رأس الأمة- من الوجهة النظرية- الإمبراطور المقدس ، وكان البيت الحاكم حقيقة- وأعني به الحكم العسكري الوراثي- يسمح للإمبراطور وحاشيته بمبلغ يعادل خمسة وعشرين ألف ريال جميع عام ، لقاء الاحتفاظ بالأسطورة النافعة التي تؤثر في النفوس أثراً عميقاً ، أسطورة اطراد الحكم في بيت واحد ؛ وكان كثيرون من رجال الحاشية يزاولون حرفاً يدوية منزلية ليكسبوا نفقات عيشهم: فبعضهم يصنع المظلات ، وبعضهم يصنع الملاعق الخشبية أولاقطات الفضلات من بين الأسنان أوورق اللعب ؛ وجعل الحكام العسكريون من أسرة "توجوواكا" من مبادئهم ألا يهجروا للإمبراطور ذرة من السلطان ، وأن يعزلوه عن الشعب ، وأن يحيطوه بالنساء ويفتُّوا من عضده بالتخنث والتعطل ، ونزلت الأسرة الإمبراطورية عن سلطانها في كفاح ، وقنعت بأن ترسم للعلية ألوان البدع في الثياب. أما "الشوجن" (أي الحاكم العسكري) فقد كان حينئذ ينعم بثروة اليابان التي أخذت تتزايد ، واصطنع لنفسه امتيازات هي عادة من حق الإمبراطور فإذا سار في الطريق محمولاً في عربته التي يجرها ثور ، ومحمولاً في محفته ، أمرت الشرطة جميع المنازل على طول الطريق حتى تقفل أبوابها والمصاريع الخشبية في نوافذها العليا ، وأن تطفأ جميع النيران وأن تحبس الكلاب والقطط كلها داخل الدور ، وأن يسجد الناس على جانبي الطريق ، رؤوسهم على أيديهم وأيديهم على الأرض ؛ وكان "للشوجن" حاشية كبيرة ، منها أربعة مضحكين وثماني سيدات مثقفات واجبهن حتى يسلينه في غير التزام لقواعد الاحتشام ، وكان إلى جانبه مجلس وزراء استشاري قوامه اثنا عشر عضواً: كبير الوزراء ، وخمسة وزراء ، ثم ستة من الشيوخقد يكونون مجلساً أصغر ؛ وكان هناك- كما كان في الصين- مجلس للرقابة مهمته حتى يشرف على المناصب الإدارية كلها ، وأن يراقب أمراء الإقطاع ؛ مع حتى هؤلاء الأمراء- (أو"الدايميو" كما يسمونهم ومعناها "أصحاب الأسماء العظمى") لمقد يكونوا يعترفون من الوجهة الصورية إلا بالإمبراطور ، هوالذي يولونه ولاءهم ، بل استطاع بعضهم- مثل أسرة شيمادزوالتي كانت تحكم إقليم ساتسوما- حتى ينجحوا في الحد من سلطة الشوجن ، حتى انتهى بهم الأمر إلى طرده من الحكم.

وكان يتلوأمراء الإقطاع طبقة السادة (بارونات) ثم يتلوهؤلاء طبقة المشرفين على الأراضي: وكذلك كان يحيط بالأمراء ألوف من فئة "الساموراي"- والساموراي هم حراس يحملون السيف ؛ فالقاعدة الرئيسية في المجتمع الإقطاعي الياباني هي حتى جميع رجل من السادة هوجندي ، والعكس سليم ، أي حتى جميع جندي هوكذلك من السادة فها هنا يقع أكبر اختلاف بين اليابان وبين الصين المسالمة التي ظنت حتى شرط الرجل من السادة هوحتىقد يكون عالماً لا حتىقد يكون محارباً ؛ وعلى الرغم من حتى حملة السيف هؤلاء كانوا يحبون قراءة القصص التي تغذي فيهم انتفاخ الأوداج ، مثل السيرة الصينية التي عنوانها "سيرة المماليك الثلاثة" ، بل كانوا إلى حد ما يصوغون حياتهم على نموذج تلك القصص ، إلا أنهم كانوا يزدرون الفهم للفهم ، وكانوا يسمون ، العالم الأديب بالسكران الذي يفوح برائحة الخط ؛ وكان لهم امتيازات كثيرة ، فهم معفَون من الضرائب ، ولهم الحق في مقدار من الأرز يعطيهم إياه السيد الذي يخدمونه ، ولم يكن يطلب إليهم حتى يعملوا شيئاً إلا حتى يموتوا في سبيل وطنهم إذا ما دعت إلى ذلك الظروف ؛ وكانوا يحتقرون الحب ويعدونه لعبة رشيقة ، ويؤثرون علاقة الصداقة على نمط إغريقي: والميسر والعربدة كانا جزءاً متمماً لعيشهم ولكي يحافظوا على مران سيوفهم ، كانوا يدفعون المال للجلاد في لقاء حتى يسمح لهم بجز رقاب المحكوم عليهم بالإعدام ، فسيف رجل من فئة "الساموراي" هوبمثابة روحه- على حد تعبير "أيياسو" وكثيراً جداً ما كان يجد الفرصة التي تدعوه إلى استعمال سيفه ، على الرغم من المدة الطويلة التي نعمت فيها اليابان بالسلام ؛ فله الحق- إذا أخذنا بما يقوله "أيياسو" - حتى يقضي فوراً على أي إنسان من الطبقات الدنيا إذا ما أساء إليه ؛ وإذا كان سيفه جديداً وأراد حتى يجربه ، فيجوز حتى يجربه في سائل كما يجوز حتى يجربه في كلب. وفي ذلك يقول "لُنجفورد": "إن سيافاً مشهوراً قد اقتنى سيفاً جديداً ، فوقف إلى جانب "ينهون باشي" (وهذا اسم جسر في وسط مدينة ييدو) ينتظر فرصة لاختبار مضاء سيفه ، فاتى فلاح بدين ساعياً في الطريق ، مرحاً بعمل الخمر ، فقابله السياف بضربة يسمونها "ناشي واري" (ومعناها شق الكمثرى) وأصابت الضربة مرادها إذ شقت الرجل نصفين، من قمة رأسه إلى مفرق فخذيه ، فمضى الفلاح في طريقه غير عالم بما هبط به ، حتى اصطدم بحمال فسقط نصفين مشطورين على أدق صورة" فما أتفه الفرق بين "الواحد" و"الكثير" هذا الموضوع الذي دوخ الفلاسفة في فهمه.

لكن هؤلاء السيافين كانت لهم لطائف أخرى غير هذه المهمة المرحة التي كانوا يحولون بها الفناء إلى خلود ؛ فقد التزموا أوضاعاً صارمة اشترطوها للرجل الشريف- ويطلق على مجموعة هذه الأوضاع اسم "بوشيدو" - ومعناها "طرائق الفروسية" وجوهر فكرتها فيه تعريف لما ترمي إليه من فضيلة: "هي القدرة على اختبار سلوكك في الحياة وفق ما يمليه العقل دون تردد ، وأن تموت حين يجب عليك حتى تموت ، وأن تضرب حيث ينبغي لك حتى تضرب". وكانوا يحاكمون بمقتضى تشريعهم هذا ، وهوأقسى من القانون السائد بين عامة الناس وكانوا يزدرون جميع الأعمال والمكاسب المادية ، ويأبون حتى يقرضوا المال أويقترضوه أويحسبوه ، وقلما أخلفوا وعودهم ، وكانوا لا يترددون في المخاطرة بحياتهم عوناً لكل من استنجدهم المعونة ؛ وأخذوا على أنفسهم حتى يحيوا حياة خشنة مقترة فلا يأكلون في اليوم إلا وجبة واحدة ، وكانوا يروضون أنفسهم على أكل ما صادفهم من طعام كائناً ما كان ؛ وكانوا يحتملون الآلام على اختلافها صامتين ، ويكبحون في أنفسهم جميع ما قد يشير على انفعالاتهم الداخلية ، وفهموا نساءهم كيف من الممكن أن يتهللن بشراً إذا ما نمى إليهن حتى أزقابلن قد قضوا نحبهم في ساحات القتال.

ولمقد يكونوا يلتزمون طاعة إلا طاعة الولاء لرؤسائهم ، فطاعة الرؤساء جزء من تشريعهم الذي وضع تلك الطاعة فوق حب الآباء لأبنائهم أوالأبناء لآبائهم ، ومن مألوف الأمور عند "الساموراي" (أي هؤلاء السيافين) حتى يخرج الرجل منهم أمعاء نفسه إذا ما توفي سيده لكي يخدمه ويحميه في الحياة الآخرة ؛ فلما كان "الشوجن" (أي الحاكم العسكري) الذي يدعى "أيمتسو" يحتضر سنة 1651 ، ذكر كبير وزرائه "هتو" بواجبه في أداء ال"جَنْشي" (أي اللحاق بسيده بعد موته , فقتل "هتو" نفسه دون حتى ينبس ببنت شفة ، ونسج على منواله كثير من الأتباع. ولما صعد "الإمبراطور ميسوهيتو" إلى أسلافه سنة 1912 انتحر الجنرال "نوجي" وزوجته ولاء منهما للإمبراطور. فلست ترى من التنطقيد عند سائر الشعوب بما في ذلك تنطقيد روما التي كانت تخرج جنوداً من الطراز الأول ، ما بث شجاعة أبسل ، أوزهداً أصرم ، أوضبطاً للنفس أقوى مما كانت تقتضيه تنطقيد هؤلاء "السيافين" من أعضاء تلك الفئة التي تعهد عندهم باسم "ساموراي".

وآخر القوانين في تشريع "بوشيدو" (أي تشريع طائفة السيافين) هوقانون "هاراكيري"- ومعناها الانتحار بإخراج الأمعاء ؛ ولا تكاد الظروف التي تقتضي من السياف حتى ينتحر على هذا الوجه تقع تحت حصر فقد كان الأمر من كثرة الوقوع بحيث لا يكاد يستوقف النظر ؛ فإذا حكم بالموت على رجل من ذوي المكانة الاجتماعية ، جاز له- إذا أراد الإمبراطور حتى يشير على تقديره له- بأن يبقر بطنه بنفسه من اليسار إلى اليمين ، ثم يشقها إلى أسفل ، مستخدماً في ذلك سيفه الصغير الذي كان الواحد منهم لا ينفك مصطحباً له من أجل هذه الغاية ؛ وإذا هزم أحدهم في القتال ، أواضطر إلى الاستسلام لعدوه ، كان الاحتمال بأن يبقر بطنه بيده معادلاً تماماً لاحتمال حتى يأبى على نفسه ذلك (فحدثة "هاراكيري" معناها شق البطن ، وهي حدثة سوقية قلما ينطق بها الياباني ، إذ هم يفضلون حدثة "سِبْيوكو") فقد وقع حتى خضعت اليابان سنة 1895 لضغط الدول الأوربية في إخلاء "لياوتنج" فارتكب أربعون رجلاً من العسكريين "هاراكيري" احتجاجاً ؛ كذلك وقع في حرب سنة 1905 حتى أزهق عدد كبير من الضباط والجنود اليابانيين نفوسهم على هذا النحو، فذلك عندهم خير من الوقوع في أسر الروس ، وإذا ألقى الرجل من فئة "الساموراي" (السيافين) إساءة من سيده ، فإنه- إذا كان سيافاً أصيلاً- يهلك حياة نفسه عند باب ذلك السيد ؛ وكان فن "السبيوكو" (أي بقر البطن انتحاراً)- وهوذوأوضاع دقيقة بمثابة الطقوس الدينية. في طليعة ما يلقن للشاب من فئة "الساموراي" ، وآخر علامات المودة التي يبديها الصديق لصديقه حتى يقف إلى جانبه ليجز له رأسه فيفصلها عن جسده ، بعد حتىقد يكون ذلك الصديق قد بقر بطن نفسه بيده؛ من هذا التدريب وما أحاط به من تنطقيد نشأ ما يتصف به الجندي الياباني من عدم الخوف من الموت.

كذلك كان يسمح بالاغتيال- كما كان يسمح بالانتحار- في ظروف معينة حتى يحل محل القانون ، فاليابان في نظامها الإقطاعي كانت تقتر في الإنفاق على رجال الشرطة ، بوسائل كثيرة منها حتى تجيز لابن القتيل أوأخيه حتى يثأر لنفسه بدل الالتاتى إلى القانون ؛ ولقد أدى هذا الاعتراف بحق الثأر- إلى جانب إيحائه بنصف القصص والمسرحيات في الأدب الياباني- إلى الحيلولة دون كثير من الجرائم ؛ ومع ذلك فالرجل من فئة "الساموراي" (أي السيافين) كان يحس عادة حتى واجبه يقتضيه ارتكاب (الهاراكيري) بعد استخدامه لحقه في الثأر بنفسه من عدوه ؛ مثال ذلك ما عمله "الرونانات" الأربعون المشهورون وهم فئة من السيافين لمقد يكونوا أعضاء رسميين في تلك الطائفة (حين تأثروا من "كوتسوكي" لما ارتكبه من اغتال اغتيالي ، عملوا ذلك وهم يصطنعون له غاية الرقة ويقدمون له المعاذير ، ثم انسحبوا في وقار إلى ضيعات عينها لهم "الحاكم العسكري" وقتلوا أنفسهم قتلاً التزموا فيه غاية الثبات (كان ذلك سنة 1703) ، وأعاد الكهنة رأس "كوتسوكي" إلى رئيس حاشيته ، فأخذ منهم الرأس وأعطاهم هذا الإيصال البسيط:

مذكرة: 1. رأس واحد.

2. حزمة ورقية واحدة.

تسلمت الشيئين المذكورين أعلاه.

(توقيع) سايارا موجوباي سايتوكوناي.

ولعل هذه الحادثة حتى تكون أشهر حادثة في تاريخ اليابان كله وأصدقها تمثيلاً لليابانيين ، وهي من أدل الحادثات تصويراً للخلق الياباني إذا أردت حتى تفهمه ؛ والذين اقترفوا ذلك العمل ، ما يزالون- في أعين الشعب- أبطالاً وقديسين ؛ وإلى يومنا هذا ما يزال الأتقياء يزخرفون قبور أولئك النفر ، ولا ينبتر البخور عن مثواهم.

ولما دنا عهد وصاية "أيياسو" على العرش من ختامه ، نهض شقيقان ، هما "ساكون" و"نايكي" ، وعمر الأول منهما إذ ذاك أربعة وعشرون ، وعمر الثاني سبعة عشر ، وحاولا حتى يقتلاه لما أنزله بأبيهما من مظالم- في رأيهما- فسقطا في قبضة الحراس ساعة دخولهما في المعسكر ، وحكم عليهما بالموت ؛ لكن "أيياسو" تأثر بما أبدياه من شجاعة ، وخفف عنهما حكم الإعدام بحيث أصبح حتى يهجرا ليقتلا نفسيهما على الطريقة المألوفة في إخراج المرء لأمعاء نفسه ؛ ثم قضي كذلك- مراعاة لعادات عصره- حتى يضم هذا القرار الرحيم أخاهما الأصغر "هاشيمارو" وقد كان في الثامنة من عمره ؛ وقد خلف الطبيب الذي كلف بملاحظة هؤلاء الصبية في اغتال أنفسهم ، وصفاً لما رأى ، فيما يلي: لما أجلسوا جميعاً في صف ليرحلوا عن هذا العالم رحلة لا أوبة بعدها ، التفت "ساكون" إلى الأخ الأصغر قائلاً: "امضى أنت أولاً ، لأني أود حتى أستيقن من أنك تؤدي الأمر على وضعه السليم" فلما أجاب الصغير بأنه لم يشهد قط عملية ال"سِبُولكو" من قبل فإنه يجب حتى يرى أخويه وهما يؤديانها ، حتى يستطيع بعدئذ حتى يحذوحذوهما ، فابتسم أخواه الأكبران وعيناهما تدمعان ، ونطقا: "لقد أصبت أيها الأخ الصغير ، ويحق لك الآن حتى تفخر بأنك ابن أبيك" ؛ ولما وضعها بينهما ، طعن "ساكون" خنجره في الجانب الأيسر من بطنه ونطق: "انظر ، أخي ، أتفهم الآن،يا ترى؟ والذي ينبغي حتى تراعيه هوألا تضرب الخنجر عميقاً حتى لا يطرحك على الأرض ، بل كن أميل بجسدك إلى الأمام ، واجعل ركبتيك في وضع ثابت".

وعمل "نايكي" ما عمله "ساكون" ونطق للصبي: "افتح عينيك خشية حتى تبدوكالمرأة وهي تحتضر ، وإذا أحسست حتى شيئاً في جوفك يعوق إخراج خنجرك ، وأن قواك تخور ، فاجمع شجاعتك وضاعف جهدك في شد خنجرك جانباً لتبتر به البطن بتراً أفقياً" فنظر الصبي إلى أخيه عن يمينه وإلى أخيه عن يساره ، حتى إذا ما رآهما قد أسلما الروح ، خلع ثيابه هادئاً عن نصف جسده ، واحتذى حذوما يراه عن يمينه وعن يساره".


هيديوشي

كانت الملكة اليصابات و"أكبر" (في الهند) معاصرين ل"هيديوشي" العظيم- هكذا قد يحلولليابانيين حتى يذكروا هذه الحقيقة على سبيل التنويه بفضل عظيمهم- كان "هيديوشي" ابن فلاح ، يعهده أصدقاؤه ، وتعهده رعيته حين أصبح فيما بعد حاكماً ، باسم "سارومن كانجا"- ومعناها "وجه القردة" لأنه لم يكن ينافسه في دمامة الوجه أحد حتى ولا كونفوشيوس ؛ وكان والداه قد عجزا عن إخضاعه للنظام فبعثا به إلى مدرسة في دير ؛ لكن "هيديوشي" سخر من كهنة البوذية سخرية شديدة ، وأثار في الدير ضجة وثورة ، بحيث انتهى أمره إلى الطرد من مدرسته ، فألحق صبياً في كثير من الحرف ، وطرد من عمله سبعاً وثلاثين مرة ؛ وجعل من نفسه قاطعاً للطريق ، لكنه عاد فرأى أنه يستطيع حتى يسلب وهومع القانون أكثر مما يسلبه وهوخارج على القانون ؛ ثم التحق بخدمة "الساموراي" (أي حملة السيف) وأنقذ حياة مولاه ، وسمح له بعدئذ حتى يحمل سيفاً ؛ وانضم إلى أتباع "نوبوناجا" وعاونه بتفكيره وببسالته ، حتى إذا ما توفي "نوبوناجا" تولى هوقيادة الثائرين الخوارج على القانون ، الذين شنوا حملتهم ليغزوا أرض وطنهم ؛ فما انقضت ثلاثة أعوام حتى كان "هيديوشي" قد أصبح حاكماً على نصف الإمبراطورية وظفر بإعجاب الإمبراطور العاجز ، وأحس في نفسه من القوة ما يتيح له حتى يهضم في جوفه كوريا والصين ؛ وفي ذلك نطق متواضعاً يخاطب "ابن السماء": "لقد اعتزمت حتى أطوي الصين كلها تحت سلطاني ، بمعونة الجنود الكوريين وبتأييد من نفوذك الساطع ؛ فإذا ما تم لي ذلك ، ستصبح الأقطار الثلاثة (الصين وكوريا واليابان) قطراً واحداً ؛ وسيتم لي ذلك في يسر كأنما أطوي حصيرة لأحملها تحت ذراعي".

لكنه حاول جهده بغير جدوى ، لأن رجلاً شيطانياً من الكوريين اخترع قارباً حربياً من المعدن- ولولا سبقه في الزمن لقلنا إنه سرق منا الـ "مونتِور" والـ "مِرِماك"- وبهذا القارب راح يحطم سفن "هيديوشي" المثقلة بجنوده ؛ سفينة بعد سفينة ، وكان "هيديوشي" قد أنفذها بجنده إلى كوريا (1592) ، لقد أغرقت في يوم واحد اثنان وسبعون مركباً ، وانقلب البحر بحراً من دماء ، ورست أربع وثمانون سفينة أخرى على الشاطئ حيث فر منها اليابانيون وخلفوها وراءهم ، فأحرقها الظافرون حتى لم يذروا منها شيئاً ؛ وبعد حتى تبادل الفريقان نصراً وهزيمة دون حتىقد يكون فيها ما يفصل بالنصر ، أرجأ الفاتحون فتح كوريا والصين حتى القرن العشرين ؛ ونطق ملك كوريا عن "هيديوشي" إنه حاول "أن يعبر المحيط في صَدفَة من أصداف المحار". وإلى حتى يحين ذلك الحين ، استقر "هيديوشي" ليستمتع بهذه "الوصاية" التي أسسها لنفسه ، وليدير فيها عجلة الحكم ، وجمع لمتعته ثلاثمائة غانية ، لكنه وهب مبلغاً كبيراً من المال لزوجته الريفية التي كان قد طلَّقها منذ زمن طويل وبحث عن أحد سادته القدماء ؛ وأعاد له المال الذي كان قد سرقه منه أيام حتى كان يعمل معه صبياً ، وأضاف إلى المال قيمة الربح طوال هذه المدة ؛ ولم يجرؤ حتى يطلب من الإمبراطور حتى يوافق له على تلقيب نفسه بلقب "شوجن" (أي حاكم عسكري) لكن معاصريه عوضوه عن ذلك بلقب آخر أطلقوه عليه ، وهو"تايكو" أي "الحاكم العظيم"، وهي حدثة غامرت في رحلة من تلك الرحلات "الأوذيسِّيَّة" التي تتعقب آثارها في فهم اللغات ، حتى دخلت في ختام رحلتها إلى لغتنا نحن وأصبحت حدثة من حدثاتنا ، وهي حدثة Tycoon: ووصف مبشر ديني "هيديوشي" ، فنطق: "إنه ماكر ماهر إلى درجة تجاوز جميع معقول ، فقد نزع عن الشعب سلاحه بحيلة لطيفة ، وهي أنه أمر الناس حتى يجمعوا جميع ما عندهم من أسلحة معدنية ليصنع من مادتها تمثالاً ضخماً- وهوتمثال "دايبوتسو" أي "بوذا العظيم" الذي يقوم في كيوتو- والظاهر أنه لم يكن يعتنق عقيدة دينية ، لكنه لم يكن أسمى من حتى يستغل الدين من أجل غاياته في طموحه أوسياسته".

القديسون

إن شعور الولاء الذي يعلن عن نفسه في الوطنية وفي الحب وفي حب الوالدين وحب الأبناء وحب الخليل وحب الوطن ، هونفسه الشعور الذي لابد حتى يلتمس في الكون باعتباره كلاً واحداً، قوة رئيسية يتوجه إليها بالولاء ، ويستمد منها شيئاً من القيمة والمعنى اللذينقد يكونان أوسع نطاقاً من حدود الشخص الواحد ، وأدوم بقاء من حدود عمر واحد ؛ ولئن كان اليابانيون على درجة من الاعتدال في تدينهم- فهم ليسوا كالهندوس في عمق إيمانهم الديني وشدة انغماسهم في ذلك الدين ، كلا ولا هم يشبهون قديسي الكاثوليكية في العصور الوسطى في حدة عاطفتهم الدينية وتهوسهم في عقيدتهم حتى بلغوا في ذلك حد تعذيب أنفسهم ، وقل ذلك عن رجال الإصلاح الديني المتنازعين ، لم يكن اليابانيون مثل هؤلاء ولا هؤلاء ، ومع ذلك فقد أخلصوا إخلاصاً ظاهراً للتقوى وللصلاة وللفلسفة التي تنتهي بالتفاؤل ، حتى لقد تميزوا بذلك من بني عمومتهم المتشككين الذين كان يفصلهم عنهم البحر الأصفر.

لقد اتىت البوذية من لدن مؤسسها سحابة قائمة من التشاؤم ، تدعوالناس إلى الموت ، لكنها لم تلبث تحت سماء اليابان حتى تحولت إلى عقيدة قوامها آلهة وافية ، وإلى محافل دينية تبعث الغبطة في النفوس ، وأعياد مرحة وحجيج إلى روائع الطبيعة على غرار ما كان يتمناه روسو، وجنة موعودة تسري عن الصدور كروبها ؛ نعم إذا البوذية آمنت بالجحيم كما آمنت بالجنة- بل آمنت بوجود عدد من الجحيمات يبلغ مائة وثمانية وعشرين ، أعدت لشتى الغايات ومختلف الأعداء وآمنت بعالم للشياط ، كما آمنت بعالم للقديسين ، وكذلك آمنت بوجود شيطان مشخص (يسمونه أوني) له قرون وأنف أفطس ومخالب وأنياب ، ويسكن في مكان مظلم يقع في الشمال الشرقي ، وأنه آناً بعد آن يغري النساء بالذهاب إليه هناك ليمتعنه ، كما يغري الرجال ليستمد منهم في غذائه مادة البروتين ؛ ولكن إلى جانب هذا كله كانت عقيدة البوذية اليابانية حتى هناك "بوذين" كثيرين على استعداد حتى يخلعوا على بني الإنسان جزءاً من الرحمة التي جمعوها مقداراً على مقدار بسبب عودتهم إلى الحياة مرة بعد مرة ، وفي جميع مرة يقضون حياتهم في فضيلة ، وكانت هنالك كذلك عقيدة في آلهة رحيمة ؛ مثل "مولاتنا كوانون" ومثل "جيزو" الذي يشبه المسيح ؛ وفي أمثال هؤلاء تجد الرحمة الإلهية بأدق معانيها ؛ وكانت العبادة يؤدّى بعضها صلاةً عند مذابح المنازل أوعند أضرحة المعابد ، على حتى معظم عبادتهم كان يتخذ صورة المواكب المرحة ؛ كانت الديانة فيها تخلي المكان الأول لمظاهر الغبطة والفرح ، وكانت التقوى تتبدى علائمها في لبس النساء للأثواب الجميلة ، وفي انغماس الرجال في ألوان المتع ؛ ويستطيع العابد الجادّ في عبادته حتى يظهر روحه بالصلاة مدى ربع ساعة تحت شلال دافق في قلب الشتاء ، أوبالأخذ في رحلات ينتقل فيها من ضريح إلى ضريح من أضرحة ممضىة ليشبع روحه أثناء هذه الرحلات بجمال أرض الوطن ؛ ذلك لأن الياباني يستطيع حتى يختار لنفسه ممضىاً من عدة مذاهب في البوذية: فله حتى يحقق وجود نفسه وأن يلتمس سعادة نفسه عن طريق شعائر "زِنْ" (أي التأمل) الهادئة ؛ وله حتى يتبع "نيشيرين" المتأجج فيأخذ عنه ممضى اللوتس ويظل في صيام وصلاة حتى يظهر له بوذا بشخصه ؛ وله حتى يختار لطمأنينة نفسه ممضى الأرض الطاهرة ؛ بحيث لا يجد الخلاص إلا في الإيمان ؛ وله حتى يختار لنفسه سبيلها في حج صبور إلى حيث دير "كوباسان" وهناك يبلغ الجنة بأن يدفن في أرض تقدست بفضل ما فيها من عظيم "كوبودايشي"- ذلك العظيم في فهمه وفي تدينه وفي فنه ، وهوالذي أسس في القرن التاسع ممضى "شنجون" أي ممضى "الحدثة الصادقة".

وعلى وجه الجملة فالبوذية اليابانية هي من أمتع ما اعتقدت فيه الإنسانية من أساطير ، ولقد غزت اليابان مسُالمةً ، ولم يتعذر عليها وأن تخلي من نفسها مكاناً في لاهوتها وفي عداد آلهتها لمذاهب "شنتو" ولآلهتها ، فاندمج بوذا عندهم بـ "أماتيراسو" وخصص مكان متواضع في المعابد البوذية لضريح "شنتو" وكان الكهنة البوذيين الذين ظهروا في القرون الأولى رجالاً فيهم الولاء وفيهم الفهم وفيهم الرحمة ، وكان لهم أثر عميق في تقدم الآداب والفنون في اليابان ، حتى لقد كان بعضهم رسامين أونحاتين من الطراز الأول ، كما كان بعضهم فهماء ، أخذوا على أنفسهم ترجمة الأدب البوذي والصيني ، فكانت ترجماتهم تلك حافزاً قوياً على التقدم الثقافي في اليابان ، على حتى هذا النجاح كان سبباً في إفساد الكهنة في العصور المتأخرة ، إذ أصبح منهم كثيرون أميل إلى الكسل والجشع (لاحظ في هذا الصدد الصور الرمزية التي كثيراً ما يصورهم بها اليابانيون الذين يحترفون مهنة النقش على العاج أوالخشب) ؛ وبَعُدَ بعض أولئك الكهنة عن بوذا بعداً فسيحاً بحيث راحوا ينظمون لأنفسهم جيوشاً ينشئون بها سلطة سياسية أويحافظون بها على مثل هذه السلطة السياسية إذا كانت قائمة ؛ ولما كان الكهنة يهيئون للناس ضرورة هي أولى ضرورات الحياة- وأعني بها تهيئة الأمل الذي يسّري عن النفوس. فقد ازدهرت صناعتهم حتى في الوقت الذي تدهورت فيه صناعات الآخرين ؛ وأخذت ثروتهم تزداد قرناً بعد قرن ، بينما لبث الشعب فقيراً على حاله ؛ وقد أكد الكهنة للعباد المؤمنين بأن الرجل في سن الأربعين يمكنه حتى يشتري عقداً آخر من السنين يضيفه إلى حياته إذا هودفع رسوماً لأربعين معبداً تدعوله بذلك ، ويمكن للرجل في سن الخمسين حتى يشتري عشر سنين أخرى إذا دفع الرسوم لخمسين معبداً تدعوا له ، وفي سن الستين يستأجر ستين معبداً إلى غير ذلك حتى يموت بسبب ما قد يحدث في تقواه من نقص ، وكان الرهبان في عهد "توكوجاوا" يشربون الخمر إلى درجة الإسراف ويحيطون أنفسهم بالغانيات صراحة، ويمارسون اللواط ، ويبيعون أحسن مناصب الدين إلى من يدفع فيها أغلى الأثمان.

ويظهر حتى البوذية قد فقدت سلطانها على الأمة خلال القرن الثامن عشر ؛ واتجه الحكام العسكريون نحوالكونفوشية ، ونهض "مايوشي" و"موتوأوري" فتزعما حركة تدعوإلى إحياء عقيدة "شنتو" ؛ وحاول فهماء من أمثال "إشيكاوا" و"أراي هاكوسيكي" حتى ينقدوا الدين نقداً عقلياً ؛ فنطق "إشيكاوا" في جرأة بأن الأصول الدينية التي تتناقلها الأجيال عن طريق الرواية الشفوية يستحيل حتى تبلغ من اليقين مبلغ المدونّات المكتوبة ؛ وأن الكتابة لم تدخل اليابان إلا بعد ألف عام تقريباً من الأصل المزعوم للجزر اليابانية وأهليها من حتى هذه الجزر وهؤلاء الأهلين قد نشئوا من قطرات الرمح التي أمسك بها الآلهة ، أومن أصلاب هؤلاء الآلهة؛ وأن انادىء الأسرة الإمبراطورية بأنها من أصل إلهي ، إذا هوإلا حيلة سياسية ، وأنه إذا لم يكن أسلاف البشر بشراً مثلهم فالأرجح حتىقد يكونوا حيواناً ، فذلك أقرب إلى التصديق من حتىقد يكونوا آلهة ؛ إلى غير ذلك بدأت المدنية في اليابان القديمة- كما بدأت في بلاد كثيرة غيرها- بالدين، وهاهي ذي تدنومن ختامها بالفلسفة.


المفكرون

اتىت الفلسفة- كما اتى الدين- إلى اليابان قادمة من الصين ؛ وكما حتى البوذية قد انتهت إلى "نيبون" بعد دخولها في "مملكة الشعب الوسطى الزاهرة" بستمائة عام ؛ فكذلك بلغت الفلسفة مرحلتها الواعية في اليابان متخذة صورة الممضى الكنفوشيوسي بما يقارب من أربعمائة عام بعد حتى أفاضت الصين على الكونفوشيوسية حياة جديدة ؛ ففي نحومنتصف القرن السادس عشر ، ظهر رجل من سلالة الأسرة اليابانية المشهورة ، وهو: "فيوجيواراسيجوا" ولم يُرْضه الفهم الذي حصله باعتباره راهباً ؛ وكان قد سمع بحكماء عظماء في الصين ، فقرر حتى يرتحل إلى هناك طالباً للفهم ؛ ولما كان الاتصال بالصين محرماً في سنة 1552 ، فقد دبر الكاهن الشاب خطة يعبر بها مياه البحر في سفينة كانت تشتغل بالتهريب ؛ وحدث حتى كان يرقب هذه السفينة في نُزُل في الميناء ، فسمع إذ ذاك طالباً يقرأ بصوت عال باللغة اليابانية كتاباً صينياً عن كونفوشيوس ؛ فكم كانت غبطة "سِجوا" حين فهم حتى الكتاب من تأليف "شوهسي" تعليقاً على "الفهم الواسع" ؛ فهمس لنفسه قائلاً: "هذا هوما كنت أسعى إليه منذ طويل" ؛ ولبث يبحث بحثاً لا يفتر حتى حصل على نسخة من هذا الكتاب كما حصل على نسخ من سائر ما أنتجته الفلسفة الكونفوشيوسية ، وانغمس في تتبع ما في هذه الخط من مجادلات ، حتى نسي رحلته إلى الصين ؛ ولم تمض بضعة أعوام حتى جمع حوله طائفة من طلبة الفهم الناشئين ، الذين نظروا إلى فلاسفة الصين نظرتهم إلى وحي أوحى به إليهم عن عالم طريف يسوده الفكر الدنيوي ؛ وسمع "أيياسو" بما قد انتهت إليه تلك الدراسات ، فطلب من "سِجوا" حتى يأتيه ليعرض عليه مضمون هذه المؤلفات الخالدة التي تنسب إلى كونفوشيوس ؛ لكن الكاهن المعتمد بنفسه آثر البقاء في مكانه الهادئ الذي يفهم فيه ، وأوفد بدلاً عنه أحد تلاميذه النابهين ؛ ورغم عكوفه هذا ، أخذ الشباب الممتاز في عصره بفاعلية العقل ، يحج إليه ويطرق بابه ، واستوقفت محاضراته الأسماع إلى حد جعل الرهبان البوذيين في كيوتويحملون عقائرهم بالشكوى ، قائلين إنها لثورة حتى يقوم كاهن أصيل لم يزل في سلك الكهنوت ، فيلقي محاضرات عامة أويفهم الشعب ، غير حتى الأمر حُلَّتْ عقدته بموت "سجوا" موتاً مفاجئاً (سنة 1619).

وسرعان ما كسب تلميذه الذي أوفده إلى "أيياسو" شهرة فاقت شهرته ، وأصبح له من التأثير ما بزَّ به تأثير أستاذه ؛ وكان تلميذه هذا هو"هاياشي رازان" الذي مال إليه الحكام العسكريون الأولون من أسرة "توكوجاوا" ، فجعلوه مستشارهم وطلبوا إليه حتى يصوغ لهم الحدثات التي يتوجهون بها إلى الشعب ؛ وضرب "أيمتسو" مثلاً لطائفة النبلاء ، إذ جعل يختلف إلى محاضرات "هاياشي" في سنة 1630 ؛ وسرعان ما ملأ هذا الشاب الكونفوشيوسي صدور سامعيه حماسة للفلسفة الصينية ، حتى لم يعد عسيراً عليها حتى يجتذبهم من البوذية والمسيحية على السواء ، ويضمهم إلى العقيدة الخلقية البسيطة التي أشاعها حكيم "شانتونج" في أراتى الشرق الأقصى ؛ فقد أنبأهم حتى اللاهوت المسيحي خليط من أوهام خلقها الخيال ولا تعقلها العقول ، كما أنبأهم حتى البوذية ممضى يفت في عضد الأمة اليابانية ويتهدد نسيجها بالوهن وروحها المعنوية بالضعف ؛ يقول لهم "رازان": "إن كهنتكم يمضىون إلى حتى هذه الحياة الدنيا فانية زائلة ؛ ثم تعملون أنتم على حتى ينسى الناس علاقاتهم الاجتماعية ، وبهذا تقتلون في الناس روح الواجب والعمل الصواب ؛ ثم تقولون إذا طريق الإنسان محفوف بالخطايا ؛ فاهجر أباك وأمك وأبناءك ومولاك ، وابحث عن الخلاص ، وهاأنذا أقول لكم إني قد تعمقت الدراسة ، فلم أجد قط للإنسان طريقاً سوى ولائه لمولاه وطاعة الابن لآبائه.

وكان "هاياشي" ينعم في شيخوخته بشهرة هادئة ، حين شبت النار الكبرى في طوكيوسنة 1657 ، فضمته بين من قضت عليهم من أنفس بلغت مائة ألف ؛ وكان تلاميذه قد أسرعوا إليه ينذرونه بالخطر الداهم ، لكنه لم يعمل سوى حتى هز رأسه وعاد بنظره إلى الكتاب ؛ فلما دنت منه ألسنة اللهب ، أمر بمحفة يحمل فيها ، وحملوه وهولم يزل يقرأ في كتابه ؛ وقضى ليلته تلك- كما قضاها غيره ممن لا يحصيهم العدد- قضاها في العراء تحت نجوم السماء ؛ ومات بعد ذلك بثلاثة أيام متأثراً بالبرد الذي أصابه أثناء الحريق.

وعوضت الطبيعة اليابان عن موته، بأن هيأت لها في العام الثاني لموته رجلاً من أشد أنصار الكونفوشيوسية حماسة ؛ وذلك هو"موروكيوسو" الذي اختار لنفسه "إله الفهم" إلهاً يرعاه ؛ ففي صدر شبابه قضى ليلة بأسرها أمام ضريح "متشيزان" يؤدي الصلاة ، ثم وهب نفسه للفهم بعزم الشباب ، وكانت عزيمته شديدة الشبه بعزيمة معاصره سبينوزا.

سأنهض من نومي جميع صباح في الساعة السادسة ، وآوي إلى مخدعي جميع مساء في الساعة الثانية عشرة

ولن أجلس بغير عمل إلا إذا حال دون ذلك أضياف أوسقم أوغير ذلك من ظروف قاهرة....

لن أنطق بباطل


سأجتنب الألفاظ التي لا تعني شيئاً ، حتى إذا كنت أوجه الحديث إلى من هم دوني

سأكون معتدلاً في طعامي وشرابي

وإذا اشتعلتْ فيَّ الشهوات، سأقضي عليها فوراً ، دون حتى أعينها قط على التزايد

إن تشتت الفكر يفسد قيمة القراءة ، فسأقاوم جهدي جميع ما يصرفني عن حصر انتباهي ،

وسأقاوم في نفسي العجلة الزائدة.

سأسعى إلى تثقيف نفسي بنفسي ، ولن أسمح للرغبة في الشهرة أوفي الكسب حتى تحدث في عقلي اضطراباً.

إني سأنقش هذه القواعد في صفحة قلبي ، وسأحاول حتى أتبعها.

وإني لأشهد الآلهة على ما أقول.


ومع ذلك فلم يكن "كيوسو" ليدعوالناس إلى عزلة الفهماء التي نعهدها في رجال العصور الوسطى ، بل كان له من رحابة الأفق ما كان "لجيته" ؛ فوجَّه نفسه وجهة تساير العالم في مجراه: إذا اعتزال الناس أحد الطرق ، وإنه لطريقة جميلة ، لكن الرجل الأعلى يسره حتى يزور الأصدقاء ؛ إذا الرجل ليصقل نفسه صقلاً باتصاله بالناس ؛ وإن من أراد تحصيل الفهم ، لا مندوحة له عن الصقل عن هذا الطريق أما إذا اعتزل جميع شيء وكل إنسان ، فإنما هوبذلك يجاوز جادة الصواب.

إن طريق الحكماء ليس منفصلاً عن طريق الحياة اليومية. عملى الرغم من حتى البوذيين يسحبون أنفسهم من العلاقات الإنسانية ، فيبترون الرابطة بين المتبوع وتابعه ، وبين الوالد وولده ، فهم عاجزون عن بتر علاقة الحب من أنفسهم. إنها أنانية حتى تسعى وراء السعادة في العالم الآخر. لا تظنوا حتى الله بعيد عنكم ، بل ابحثوا عنه في قلوبكم ، لأن القلب هومقر الإله.

وأروع من يستوقف النظر من هؤلاء الكونفوشيوسيين اليابانيين القدامى رجل لا يسلكونه عادة في عداد الفلاسفة ، لأن مثل "جيته" ومثل "إمرسن" كانت له القدرة على صياغة حكمته في تعبير رشيقة ، فأحس الأدب غيرة عليه ، وطالب به عضواً في جماعة الأدباء ، وذلك هو"كايبارا إكِنْ" الذي كان ابن طبيب مثل أرسطو، ثم خرج عن دائرة الطب إلى فلسفة تجريبية تتصف بالدقة والحذر ، عملى الرغم من مشاركته في الحياة العامة بسيرة مليئة بالعمل ، بما في ذلك كثير من المناصب شغلها ، فقد عثر من وقته فراغاً يستعين به على حتىقد يكون أعظم فهماء عصره ؛ وبلغت خطه عدداً يربى على المائة ، فخطت له الشهرة في أراتى اليابان جميعاً ؛ وذلك لأنه لم يخط خطه تلك باللغة الصينية (كما كانت عادة زملائه الفلاسفة) بل خطها باليابانية السهلة التي يستطيع جميع من عهد القراءة حتى يفهمها ؛ وعلى الرغم من فهمه وشهرته ، فقد كان له- إلى جانب الغرور الذي تراه عند جميع محرر- تواضعٌ كالذي تراه عند جميع حكيم ، ويروي الرواة حتى مسافراً على سفينة كانت تشق طريقها بحذاء الساحل الياباني ، تعهد لزملائه في السفر حتى يحاضرهم في الأخلاق الكونفوشيوسية ؛ فأنصت له الجميع بادئ ذي بدء بما عهد عن اليابانيين من حب استطلاع وشغف بالزيادة من الفهم ؛ ولكن ما كاد يمضي المتحدث في حديثه قليلاً ، حتى عثر السامعون حتى كلامه يبعث الملل إذ لم يكن للرجل أنف حساسٌ يهديه إلى التمييز بين الحقيقة الحية والحقيقة الميتة ، فانصرفوا عنه بعد وقت وجيز ، ولم يبق منهم إلا سامع واحد ، راح هذا السامع الواحد يتتبع البحث بهجريز عجيب في انتباهه ، حتى سأله المحاضر حين فرغ من محاضرته ، ما اسمه ، فأجابه بصوت هادئ إذا اسمه "كايبارا إكن" ؛ فخجل الخطيب إذ فهم أنه لبث ساعة أويزيد ، يحاول حتى يلقن الكونفوشيوسية لرجل هوألمع أعلام الممضى الكونفوشيوسي في عصره. كانت فلسفة "إكن" خالية من اللاهوت خلوفلسفة "كأونج" منه إذ حصر نفسه في حدود هذه الدنيا مادام لا سبيل إلى فهم سواها ؛" إذا حمقى الناس يؤدون صلواتهم لآلهة مشكوك في وجودها ، طلباً لسعادة أنفسهم في الوقت الذي تراهم فيه يقترفون الموبقات" ؛ وحاول حتى تكون فلسفته عاملاً على توحيد خبرة الحياة وحكمة العقل ، وتوحيد الشهوات والخلق المستقيم ، فقد كان من رأيه حتى الأمر الأهم الذي يدعوقبل غيره إلى التفكير ؛ هوكيف من الممكن أن نجعل من الشخصية الإنسانية وحدة متكاملة ، فذلك أجدى علينا من التفكير في كيفية توحيد الفهم ، وتراه يتحدث بلسان يدهشك حتى تلمح فيه نغمة الزمن الذي نعيش فيه الآن.

"ليس الغرض من التفهم هومجرد التوسع في الفهم ، بل الغرض هوتكوين الشخصية ؛ غاية التفهم حتى نخلق من أنفسنا رجالاً صادقين قبل حتى نكون رجالاً عالمين. إذا دراسة الأخلاق التي كانت تُعَدُّ عماد التعليم في مدارس العهد القديم تكاد لا تجد مكاناً في مدارسنا اليوم ، لكثرة ما يطلب إلى التلاميذ دراسته من مواد ؛ لم يعد الناس يرون في صالحهم حتى ينفقوا مجهودهم في الإصغاء إلى تعاليم الأعلين من رجال الحكمة القدماء ، ونتج عن ذلك حتى ضحينا على المذبح الذي يسمونه "حق الفرد" بعلاقات الود بين السيد وخادمه ، والرئيس ومرؤوسيه ، والكبير والصغير.

السبب الحقيقي الذي حدا بالناس ألا يقدروا تعاليم الحكماء هوحتى الفهماء يحاولون حتى يتظاهروا بفهمهم فذلك عندهم أولى من حتى يعيشوا على غرار ما اتى في تعاليم الحكماء". ويظهر حتى شباب عصره قد توجه إليه باللوم على جموده ، لأننا نراه يلقي في وجوههم درساً لا بد لكل جيل قوي من الناس حتى يعود إلى دراسته: "قد تظنون يا أبنائي حتى حدثات رجل كهل تدعوإلى السأم ، ومع ذلك فإذا ما لقنكم أبوكم درساً ، فلا تزوروّا عنه ، بل أصغوا إلى ما يقول ؛ قد تظنون حتى تنطقيد أسرتكم أمر سخيف ، ومع ذلك فلا تحطموها ، لأنها تجسيد لحكمة آبائكم".

ولعله كان يستحق اللوم على أبرز خطه وعنوانه "أونا ديكاكو" ومعناه "الحكمة العظمى للنساء" لأن هذا الكتاب كان له تأثير رجعي قوي على مركز المرأة في اليابان ، لكنه لم يكن واعظاً متجهماً يحاول حتى يتلمس الخطيئة في جميع ما يجلب المتعة ، فقد استوعب حتى من مهام المربي حتى يفهمنا كيف من الممكن أن نستمتع بالبيئة التي نعيش فيها ، كما يفهمنا حتى نفهم تلك البيئة وأن نتحكم فيها (إذا استطعنا): "لا تدعوا يوماً واحداً يفر من أيديكم بغير متعة. لا تسمحوا لحماقة الآخرين حتى تنال من أنفسكم تعذيباً. تذكروا حتى الدنيا لم تخل من الحمق منذ أول خلقها. فلا ينبغي إذن حتى نغّم أنفسنا ، أوحتى نضيع مسببات متعتنا ، حتى إذا وقع لأبنائنا وأشقائنا وأقربائنا حتىقد يكونوا أثرين فيتجاهلوا خير مجهوداتنا في سبيل إسعادهم.

إن "ساكي" (نوع من الخمر) هوهبة السماء الرائعة ، فهي توسع القلب إذا ما شربناها بمقادير قليلة ، وهي كذلك تنعش الروح إذا ما ناله الهم ، وتفرق الهموم وتصلح الصحة ، وبذلك تعين الإنسان وأصدقاءه أيضاً على التمتع بأسباب اللذة ، غير حتى من يسرف في شرابها يفقد احترامه ، وينزلق لسانه بالثرثرة ، وينطق بحدثات مسيئة كأنه مجنون. اشربوا "الساكي" بالمقدار الكافي لإنعاش نفوسكم ثم لا زيادة ، وبذلك يمكنكم حتى تتمتعوا برؤية الزهر وهويتفتح من أكمامه ، إذا من الحمق حتى تسرف في الشراب فتفسد على نفسك هذه الهبة العظيمة التي وهبتها لك السماء".

ولقد وجد- كما عثر غيره من سائر الفلاسفة- حتى الطبيعة هي آخر موئل يلوذ به ليلتمس سعادته: "لوأننا جعلنا قلوبنا معين النعيم ، وأعيننا وآذاننا أبوابه ، ثم اجتنبنا سافل الشهوات إذن لتكاثر نعيمنا ، لأننا عندئذ نصبح سادة الجبال والماء والقمر والزهور ؛ ولاقد يكون بنا حاجة إلى سؤال أحد يهبنا هذه الأمور ؛ كلا ولا بنا حتى ندفع سناً (مليماً) واحداً لنظفر بها ، لأن هذه الأمور لا يملكها إنسان بعينه ، إذا أولئك الذين يستطيعون حتى يستمتعوا بجمال السماء من فوقهم ، وجمال الأرض من تحتهم ، ليس بهم حاجة إلى حتى يغبطوا الأغنياء على رفاهية عيشتهم ، لأنهم عندئذقد يكونون أغنى من أغنى الناس ؛ إذا مشاهد الطبيعة في تغير دائم ، فلست تجد صباحين أومساءين على أتم تشابه. ففي لحظة ما قد يحس الإنسان كأن جمال الدنيا بأسره قد انمحى ؛ لكن ما إلا حتى يأخذ الثلج في السقوط ، وينهض الإنسان من نومه في الصباح التالي ، ليجد القرية والجبال قد تحولت إلى فضة ، وتدب الحياة في الأشجار التي كانت عارية ، إذ يعود إليها بأزهارها. إذا الشتاء يشبه نعاس الليل ، الذي يجدد لنا القوة والنشاط.

إنني أحب الزهر ، فأنهض من نومي مبكراً

وأحب القمر ، فآوي إلى مخدعي متأخراً.

إن الناس يجيئون ويروحون كأنهم مجاري الماء العابرة

أما القمر فباق على طول العصور


لقد كان تأثير الكونفوشيوسية على التفكير الفلسفي في اليابان أشد منه في الصين نفسها ، لأنه قضى هناك على جميع مقاومة من فريق الثائرين من جهة ، كما قضى على المثاليين المتصوفين من جهة أخرى ؛ إذا مدرسة "شوشي" التي كان من رجالها "سيجوا" و"رازان" و"إكن" ، التي سميت بهذا الاسم نسبة إلى "شوهسي" لأنها اتبعت طريقته في تفسير الخط الصينية التي تحتوي على المتون ، تفسيراً توخى فيه التزام الأصل وعدم الحرية في التصرف ، ولقد نهضت مدرسة أخرى ظلت تقاومها حيناً ، هي مدرسة "أويومي" التي كان على رأسها "وانج يانج منج" الذي عهده "نيبون" باسم "أويومي"

ففلاسفة اليابان الذين كانوا ينتمون إلى مدرسة "أويومي" اقتفوا أثر "وانج" في استدلال الصواب والخطأ الأخلاقيين من ضمير الفرد ، أكثر مما عمدوا في ذلك إلى تنطقيد المجتمع وتعاليم الحكماء الأقدمين ، يقول "ناكايي توجو" (1608-48): "لقد لبثت أعواماً طوالاً أؤمن إيماناً قوياً في "شوشي" حتى شاءت رحمة الله حتى ترد إلى اليابان لأول مرة مؤلفات "أويومي" ، ولولا ما استقيته من تعاليمها ، لظلت حياتي فارغة جدباء" ، وعلى ذلك أخذ "ناكايي" على نفسه حتى يبشر بوحدانية مثالية ، تمضى إلى حتى العالم وحدة من "كي" و"ري"- أي وحدة من الأمور الجزئية (أوالأعراض) والعقل أوالقانون ؛ والله ، وهذه الوحدة شيء واحد ؛ فعالم الأمور جسده والقانون الكوني روحه ، فقد جرى "ناكايي" مجرى "سبينوزا" و"وانج يانج منج" و"الفلاسفة المدرسيين في أوربا" في قبوله لهذا القانون الكوني بشيء من الحب العقلي ، واعتبر الخير والشر لفظتين بشريتين ، ووجهة نظر ذاتية لا تعبر عن حقائق موضوعية ، وهوكذلك يشبه "سبينوزا" شبهاً عجيباً في أنه رأى معنى من معاني الخلود في الوحدة التأملية التي تدمج روح الفرد في قانون العالم ، أي عقل العالم الذي لا يخضع لقيود الزمان: "إن عقل الإنسان هوعقل العالم الذي يخضع في سيره لمنطق العقل ، لكن هناك عقلاً آخر يسمى بالضمير ، وهذا هوالجانب الذي لا ينتمي إلى عالم الأمور بل هولا نهائي وأبدي ، لأنه لما كان الضمير فينا هونفسه العقل الإلهي أوالكوني ، كان بغير بداية أونهاية ، فإذا ما سلكنا في أفعالنا مهتدين بهذا الجانب من العقل ، أي بالضمير كنا بمثابة التجسيد اللانهائي والأبدي ، وكانت لنا حياة خالدة إلى الأبد".

كان "ناكايي" رجلاً له إخلاص القديسين ، لكن فلسفته لم تصادف هوى لا عند الشعب ولا عند الحكومة ، فقد ارتعدت حكومة الحكام العسكريين للفكرة القائلة بأن جميع إنسان له حق الحكم بنفسه فيما يعتبر صواباً وما يعتبر خطأ ، فلما نهض رجل آخر ، هو"كومازاوا بانزن" يبشر بممضى "أويومي" ثم تجاوز حدود الميتافيزيقيا وأوغل في السياسة ، بحيث انتقد جهل "السيافين" وخواء حياتهم ، صدر أمر بالقبض عليه ، وكان "كومازاوا" يدرك أهمية العقبين في الإنسان ، باعتبارهما عضوين ينفعان الفلاسفة بصفة خاصة في الفرار ، فهرب إلى الجبال ، حيث قضى معظم ما بقي له من سنين في غمرة الغابات ، وفي سنة 1795 صدر مرسوم يحرم المضي في تعليم فلسفة "أويومي" ، وكان العقل الياباني من الاستسلام بحيث توارت تعاليم "أويومي" منذ ذلك الحين ، فاندست في عبارات كونفوشيوسية ، أودخلت عنصراً متواضعاً في القانون العسكري ، مما يشير على ما قد يبديه مجرى التاريخ من متناقضات ، إذ غيرت العقيدة البوذية المسالمة إلى تعاليم توحي للمقاتلين المتحمسين للوطن بالقتال.

ولما تقدم البحث الفهمي في اليابان ، بحيث صار في مقدور الفهماء حتى يتصلوا بكونفوشيوس في أصوله إلا في شروح الشارحين استطاع رجال من أمثال "إيتوجنسي" و"أوجيوسوراي" حتى يؤسسوا المدرسة الكلاسيكية للفكر الياباني ، التي أصرّت على حتى تتخطى الشارحين جميعاً ، فتصل بـ "ك أونج" العظيم اتصالاً مباشراً ، ولم تكن أسرة "إيتوجنسي" لتتفق معه في تقديره لكونفوشيوس ووصمته بأنه يسبح من دراساته في عالم نظري مجرد ، وتنبأت له بأنه سيموت فقيراً وأنبأته: "بأن البحث الفهمي من خصائص أهل الصين ، أما في اليابان فليس البحث الفهمي بذي غناء ، لأنك حتى إذا برعت فيه ، فلن تجد من تبيع له بضاعتك ، وخير لك ألف مرة حتى تكون طبيباً وتكسب المال" لكن الطالب الناشئ أصغى إلى قول أسرته دون حتى يستمع له ، ونسي منزلة أسرته وثراءها ، وأطرح جميع طموح مادي جانباً ، وتنازل عن بيته وأملاكه إلى أخيه الأصغر ، والتمس مكاناً معزولاً يعيش فيه ليتابع دراساته بغير اضطراب ، وكان وسيماً حتى لقد ظنه الناس أحياناً أميراً ، لكنه ارتدى ثوب فلاح وتوارى عن أعين الناس ، يقول مؤرخ ياباني: إذا "جنسي" كان فقيراً معدماً ، بلغ من الفقر حداً أعجزه في نهاية العام حتى يصنع كعك الأرز الذي يصنعه الناس في بداية العام الجديد ؛ لكنه كان ثابت الجنان إزاء فقره هذا ؛ ولقد اتىته زوجته وجثت تحت ركبتيها أمامه ونطقت: "سأودي واجبات الدار مهما تكن الظروف ، لكن ثمة شيئاً لا يحتمل ، ذلك حتى ولدنا "جنسو" لا يفهم معنى ما نحن فيه من فقر ، وهويغبط أبناء الجار على ما يأكلونه من كعك الأرز ، وإنني أؤنبه على ذلك ، لكن قلبي ينفطر له حتى ليكاد ينشق نصفين "لكن جنسي مضى منكباً على خطه دون حتى يجيبها بحدثة ، ثم خلع خاتمه العقيق وناولها إياه ، كأنما يقول لها: بيعي هذا واشتري بضعة كعكات من الأرز".

أنشأ "جنسي" في كيوتومدرسة خاصة ، وأخذ يحاضر هناك مدى أربعين عاماً ، وأهم ما قام به أنه درب عدداً يقرب من ثلاثة آلاف طالب في الفلسفة وكان يتحدث آناً بعد آن في الميتافيزيقيا ، ويصف الكون بأنه كائن عضوي حي ، تتغلب فيه الحياة على الموت دائماً ، لكنه كان مثل كونفوشيوس يتحيز تحيزاً شديداً لما هونافع على هذه الأرض. "إن ما لا ينفع في حكم الدولة ، أوفي تيسير العلاقات بين أفراد الإنسان ، لا غناء فيه. لابد للتفهم حتىقد يكون مصحوباً بالفاعلية والحياة ؛ ولا ينبغي حتى يقتصر على مجرد النظريات الميتة أوالتأمل. إذا من يعهد الطريق يلتمسها في حياته اليومية. إنك إذا حاولت حتى تلتمس الطريق بعيداً عن العلاقات الإنسانية ، فأنت بمثابة من يحاول حتى يمسك الريح. إذا الطريق المألوفة ممتازة بحسنها، ولن نجد في العالم ما يفوقها حسناً".

وبعد موت "جنسي" مضى ولده "إيتوتوجاي" في مواصلة مدرسته وعمله ؛ وكان "توجاي" يهزأ بالشهرة ويقول: "هل يسعك حتى تسمي من يُنسى اسمه بمجرد موته إلا بأحد اسمين ، فإما حيوان وإما رماد،يا ترى؟ ولكن ألا يخطئ الإنسان إذا ما اشتدت رغبته في تأليف الخط وإنشاء العبارات لكي يلقى اسمه إعجاباً ولا ينساه الناس؟" وهونفسه خط مائتين واثنين وأربعين كتاباً ، ومع ذلك عاش حياة متواضعة تملؤها الحكمة ؛ ويشكوالنقاد من حتى هذه الخط كانت كلها قوية فيما أسماه "موليير" بالفضائل التي تجلب النعاس ولكن تلاميذ "توجاي" يقولون إنه خط مائتين واثنين وأربعين كتاباً دون حتى يقول حدثة واحدة عن أي فيلسوف آخر ، ولما توفي وضعوا على قبره هذا "الشاهد" الذي نغبطه عليه:

إنه لم يتحدث في أخطاء الآخرين....

ولم يهتم بشيء إلا بالخط

وكانت حياته خلواً من الحوادث


على حتى أعظم رجل من أتباع كونفوشيوس المتأخرين ، هو"أوجيوسوراي" عملى حد قوله هو"منذ عهد جمو- أول أباطرة اليابان- لم يظهر من يوازيني إلا نفر قليل" وهوعلى نقيض "توجاي" في أنه كان يحب النقاش ، وكان يعبر عن رأيه بقوة عن الفلاسفة الأحياء منهم والأموات ؛ فلما سأله سائل شاب: "ماذا تحب غير القراءة؟" أجاب "ليس أحبِّ إليّ من أكل الفول المحروق ونقد عظماء اليابان" ويقول "ناميكاوا تنجين": "إن سوراي رجل جد عظيم ، لكنه يظن أنه يفهم جميع ما يمكن فهمه ، وهذه عادة سيئة" ، وكان في مستطاع "أوجيو" حتىقد يكون متواضعاً إذا ما أراد ذلك ، ومن رأيه حتى اليابانيين جميعاً- ويذكر نفسه بينهم صراحة- قوم همج ، وليس يعهد المدنية غير أهل الصين ، وأنه "إذا كان هناك شيء لا بد من قوله ، فقد نطقه بالعمل الملوك القدامى أوكونفوشيوس" ، وثارت في وجهه فئة "السيافين" وفئة الفهماء ، لكن الحاكم العسكري المصلح "يوشيموني" أعجبته فيه شجاعته ودافع عنه ضد السوقة العقلية ، وقد أقام "سوراي" منبره في "ييدو" وراح يضحك ويسخر من "إيتوجنسي" الذي كان قد أعرب حتى الإنسان خير بطبعه، فما أشبهه في ذلك ب"هسون تسي" حين عارض النزعة العاطفية في "موتي" أوبـ "هُبز" حين فند "روسو" قبل حتى يأتي "روسو" إلى عالم الوجود ، ونطق: "سوراي" إذا الإنسان على نقيض ما ظنه "إيتوجنسي" شرير بطبعه ، يختطف جميع ما تقع عليه يداه ، ولا يجعل منه مواطناً مقبولاً إلا الأخلاق والقوانين الموضوعتين ، والتربية التي لا تلين في معاملته: "تثور في الإنسان شهواته بمجرد ولادته ، فإذا عجزنا عن تحقيق تلك الشهوات في أنفسنا- وهي شهوات لا حد لها ينشأ النزاع ، فإذا ما نشأ نزاع أعقبته الفوضى ، ولما كان الملوك القدامى يكرهون الفوض ، فقد وضعوا أسس اللياقة والاستقامة في السلوك ، واستطاعوا بهما حتى يلجموا شهوات الناس. فليست الأخلاق سوى الوسائل الضرورية لضبط رعايا الإمبراطورية فهي لم تنشأ مع الفطرة ولا مع نزوات القلب الإنساني ، لكنها من تدبير طائفة معينة من الحكماء امتازت بذكائها ، ثم خلعت عليها الدولة مسحة السلطان.

وكأنما أرادت الأيام حتى تثبت تشاؤم "سوراي" ، فهبط الفكر الياباني في القرن الذي تلاه ، هبط حتى عن الحد المتواضع الذي كان قد ارتفع إليه بفضل محاكاته لكونفوشيوس ، وضاع أباديد في حرب أراقت المداد بين وثنيي الصين ومؤمني اليابان ، وفي هذه الحرب التي شنها الأقدمون على المحدثين ، خط النصر للمحدثين ، لأنهم جعلوا الأسلاف موضع إعجابهم ، فتفوقوا في ذلك على أعدائهم وكانت الطائفة التي تناصر الصين من الفهماء "واسمها كانجا كوشا" تسمى بلادهم اليابان- وهي وطنها -قطراً همجياً ، واحتجت بأن الحكمة جميع الحكمة مقرها في الصين ، وقنعت بترجمة الأدب والفلسفة الصينيين والتعليق عليهما ، أما الفهماء الذين يناصرون اليابان (واسم جماعتهم واجا كوشا) فقد هاجموا هذا الموقف من معارضيهم لأنه موقف يؤدي إلى إشاعة الجهل ونبذ الروح الوطنية ، ودعوا أمتهم حتى تستدبر الصين ، وأن تجدد قواها بالأخذ عن تراثها هي من شعر وتاريخ ، وهاجم "مايوشي" أهل الصين قائلاً إنهم قوم أشرار بفطرتهم ، ومجد اليابانيين لأنهم خيرون بطبعهم ، وعزا فقر اليابان القديمة في الأدب والفلسفة إلى حتى اليابانيين لمقد يكونوا بحاجة إلى إرشاد في الفضيلة ولا في العقل.

وحدث لطبيب شاب اسمه "موتوأوري نوريناجا" حتى زار "مايوشي" فتأثر به إلى حد جعله ينفق أربعة وثلاثين عاماً في كتابة أربعة وأربعين مجلداً ، يشرح فيها الـ "جوجيكي" ومعناها "مدونات الحوادث القديمة"- وهي المستودع الأصيل لأساطير اليابان ، وخصوصاً أساطير "شنتو"، فاتى هذا الشرح وعنوانه "كوجيكي دن" ، هجمة عنيفة على جميع ما صيني في اليابان أوخارج اليابان ، واستمسك استمساكاً شديداً بالصحة الحرفية لما ترويه القصص البدائية عن الأصل الإلهي الذي نشأت عنه الجزر اليابانية ، والأباطرة والشعب، وشجع هذا الكتاب طبقة المثقفين في اليابان- رغم أنف الأوصياء على العرش عندئذ من أفراد أسرة توكوجاوا- شجعهم على الرجوع إلى لغة بلادهم وطرائق العيش فيها وتنطقيدها ، ومعنى ذلك كله حتى يعيدوا عقيدة "شنتو" بدلاً من البوذية ، وأن يردوا للأباطرة سيادتهم على طبقة الحكام العسكريين ، فقد خط "موتوأوري" يقول: "كانت اليابان هي التي ولدت إلهة الشمس "أماتيراسو" ، وتدل هذه الحقيقة على سيادتها على سائر الأقطار جميعاً" ، واستأنف تلميذه "هيراتا"- بعد موت موتوأوري- سبيل الحاجة في الموضوع فنطق: "إنه لمما يدعوإلى الأسف الشديد ، حتى يسود جميع هذا الجهل بالشواهد التي تدل على الممضىين الأساسيين ، وهما حتى اليابان بلد الآلهة ، وأهلها سلالة الآلهة فبين الشعب الياباني وبين الصينيين والهنود والروس والهولنديين والساميين والكمبوديين وسائر أمم العالم ، خلاف في النوع ، ولا يقتصر الأمر على اختلاف في الدرجة ، فلم يكن مجرد الغرور بالنفس هوالذي جعل أهل هذه البلاد يسمونها أرض الآلهة ؛ فالآلهة الذين خلقوا جميع بلاد الدنيا ينتمون جميعاً بغير استثناء إلى العصر الإلهي ، وجميعهم ولدوا في اليابان ، فاليابان هي موطنهم الأول ، والعالم كله يعترف بصدق هذا النبأ ، فالكوريون هم أول من أتيح له حتى يعهد هذه الحقيقة ثم انتشرت منهم تدريجاً حتى عمَّت المعمورة بأسرها ، وآمن بها الناس أجمعون. فلئن كانت البلاد الأخرى قد نشأت طبعاً بعمل قوة الآلهة الخالقة ، إلا أنها لم تكن وليدة "إيزاناجي" و"إيزانامي" ، ولا كانت المنشأ الذي ولدت فيه إلهة الشمس ، وهذا هوعلة انحطاطهم عنا". هؤلاء هم الناس، وتلك هي الآراء ، التي كونت حركة "سونوجواي" ومرماها حتى "تسموبالإمبراطور ، وأن تطرد الأجانب الهمج" ؛ فمكنت هذه الحركة إبان القرن التاسع عشر للشعر الياباني حتى يطيح بسلطة الحكام العسكريين ؛ وأن يعيد السلطان والسيادة "للبيت الإلهي" ، ثم أخذت هذا الحركة تلعب دوراً نشيطاً في القرن العشرين ، إذ أخذت تغذي تلك الوطنية المستقلة التي لن تطمئن وترضى إلا إذا بسط "ابن السماء سلطانه على ملايين الناس في بلاد الشرق التي تعود ، إلى بعثها ، متكاثرة بخصوبة نسلها.

دخول المسيحية

دخلت المسيحية اليابان سنة 1549 متمثلة في إنسان رجل هوفي طليعة طائفة الجزويت ومن خيرتهم ، وأعنى به "القديس فرانسس اكسافير" ولم يكدقد يكون جمعية صغيرة حتى أخذت تزداد ازدياداً سريعاً ، بحيث لم يمض جيل واحد بعد قدومه إلا وقد بلغ عدد أعضاء الجزويت سبعين ، وعدد من تحولوا إلى المسيحية في الإمبراطورية اليابانية مائة وخمسين ألفاً ؛ وكانوا من الكثرة في ناجازاكي بحيث جعلوا ذلك الميناء التجاري مدينة مسيحية ، وحملوا حاكمها المحلي "أومورا" على اتخاذ التدابير المباشرة في نشر العقيدة الجديدة ؛ يقول "لافكاديوهيرن": "إن البوذية في إقليم ناجازاكي قد طمست طمساً تاماً فكهنتها أصابهم الاضطهاد والتشريد" ؛ ففزع "[هيديوشي]" لهذا الفتح الروحاني للبلاد ، وارتاب في حتى تكون وراءه أهداف سياسية ، فأوفد رسولاً إلى نائب الجزويت في اليابان ، مزوداً بخمسة أسئلة عاجلة:

1- لما وبأي حق أرغم هو(نائب رئيس الجزويت) وأعضاء طائفته الدينية رعية "هيديوشي" على اعتناق المسيحية.

2- لما حرضوا أتباعهم وأشياعهم على هدم المعابد.

3- لما اضطهدوا كهنة البوذية.

4- لما أكلوا هم وبعض البرتنطقيين حيوانات نافعة للإنسان مثل العجول والأبقار.

5- لما جاز لتجار من بني جلدته حتى يشتروا أفراداً من اليابانيين يتخذونهم عبيداً في جزر الهند الشرقية.

ولما لم يقنع "هيديوشي" بالإجابات ، أصدر سنة 1587 الأمر الآتي: بما أننا قد فهمنا من مستشارينا الأمناء حتى طائفة دينية خارجية قد اتىت إلى مملكتنا ، حيث جعلت تبشر بقانون يتنافى وقانون اليابان ، بل مضىت بها الجرأة إلى تحطيم المعابد التي شيدت باسم (آلهتنا القومية) "كامى" و"هوتوكي" وعلى الرغم من حتى هذه الفتنه تستحق أقسى ألوان العقاب ، فإننا مع ذلك راغبون في لقاءة أعضائها بالرحمة ، لذلك نأمرهم بمغادرة اليابان خلال عشرين يوماً ، وعلى من يعصى تقع عقوبة الموت ؛ ولن يصيب أحداً منهم أثناء هذه المهلة ضرر أوأذى ، أما إذا بلغ ذلك الأمر ختامه فإننا نأمر بأن يقبض على من يوجد منهم في بلادنا وأن يعاقب على أنه من أخطر المجرمين.

وفي وسط هذه المفازع كلها عثر القرصان الأكبر من وقته فراغاً ينفقه في تشجيع رجال الفن ، وأن يُسْهم في مسرحيات "لا" ؛ وفي تأييد "ركْيو" في جعل الاحتفال بالشاي حافزاً على تشجيع صناعة الخزف الياباني ، وحلِيْة هامة تزدان بها الحياة في اليابان ؛ ومات سنة 1598 بعد حتى استوعد "أيِياسو" وعداً ببناء عاصمة جديدة في "ييدو"، (وهي الآن طوكيو)، وفي الاعتراف بابن هيديوشي- وهوهيديوري- وارثاً له على وصاية العرش في اليابان.


عهد أيياسو

مات "هيديوشي" فأعرب "أيياسو" أنه حين حلف اليمين له ، لم يشهد على يمينه قطرات من دمه يستقطرها من أصابعه أومن فمه ، كما يقضي بذلك تشريع "ساموراي" أي حملة السيف بل استقطر دمه ساعة حلف اليمين من خدش وراء أذنه ومن ثم كان يمينه غير ملزم بالوفاء ، والتقى بجماعة من قادته كانوا ينافسونه السلطان ، التقى بهم عند سكيجاهارا ، فعصف بهم عصفاً في مسقطة انتثر على أرضها أربعون ألفاً من القتلى ؛ وأبقى على "هيديوري" حتى بلغ سن الرشد فأصبح بذلك خطراً عليه ، وعندئذ أوحى له بالتسليم صيانة لحياته ؛ ولما قَرَّعوه على موقفه ذاك ، حاصر قلعة أوساكا الجبارة حيث كان هيديوري محصناً ، واستولى عليها في الوقت الذي كان الفتى فيه يزهق روح نفسه ، ومكّن لنفسه من السلطان كاملاً بأن اغتال أبناء "هيديوري" جميعاً الشرعيين منهم وغير الشرعيين ، وبعدئذ نظم "أيياسو" الأمن في مهارة وقسوة كما نظم القتال ، وحكم اليابان حكماً بلغ من صلاحيته حتى رضيت اليابان بأن تحكم بأبنائه وعلى مبادئه مدى ثمانية أجيال. كان رجلاً له أفكاره الخاصة ، وكان يتخذ لنفسه من قواعد الأخلاق ما تقتضيه ظروف الساعة ؛ فلما اتىته سيدة من أكرم السيدات تشكوإليه حتى أحد رجاله قد اغتال زوجها لكي يظفر بها ، أمر "أيياسو" ذلك الرجل حتى يخرج أمعاء نفسه بيده ، وبعدئذ اتخذ من السيدة خليلة له. وهوشبيه بسقراط في جعل الحكمة الفضيلة التي لا فضيلة سواها ، ورسم الطرق المؤدية إليها في ذلك الكتاب العجيب الذي أسماه "التراث" أوالعهد العقلي الذي خلَّفه لأسرته عند موته: "الحياة شبيهة برحلة طويلة يحمل فيها الراحل حملاً ثقيلاً ، فاجعل خطاك وئيدة ثابتة ، حتى لا تتعثر ، واقنع نفسك بأن النقص والتعب هما نسيج الحياة الطبيعي عند من تفنى حياته ، ولنقد يكون في حياتك ما يمد لك في سبيل السخط أواليأس فإذا ما نَزَتْ في قلبك نزوات الطموح ، فتذكر أيام الشقاء البالغ حده الأقصى ، التي اجتزتها في ماضي حياتك ؛ فالصبر هوأس السكينة والطمأنينة إلى الأبد ؛ انظر إلى السخط نظرتك إلى عدوك ؛ فإذا اقتصر فهمك على كيف من الممكن أن تَهزِم ، ولم تفهم كيف من الممكن أن تنهزم ، فالويل لك ، ويا سوء سبيلك في الحياة الدنيا ؛ فاكشف عن الخطأ في نفسك قبل حتى تكشف عنه في سواك".

أما وقد ظفر لنفسه بالسلطان بقوة السلاح ، فقد قرر حتى اليابان لم تعد بها حاجة إلى مواصلة الحروب ، وكَرَّسَ نفسه للنهوض بما يقيم السلام من وسائل وفضائل ، ولكي يباعد بين "الساموراي" (أي حملة السيف) وبين عاداتهم العسكرية ، شجعهم على دراسة الأدب والفلسفة والخلق الفني ، إلى غير ذلك ازدهرت الثقافة في اليابان في ظل حكمه الذي نشره في ربوع البلاد ؛ وتدهورت الروح العسكرية ، وقد خط يقول: "إن الشعب هوأساس الإمبراطورية". واستثار في قلوب خلفه الرحمة والرأفة "بالأرمل والأرملة واليتيم ومن لا أنيس له" لكنه لم يتصف بالميول الديمقراطية ، حتى لقد مضى إلى حتى أفدح الجرائم جميعاً هوالعصيان، "فالزميل" الذي يخرج على صفوف الزملاء من طبقته ، لابد من الفتك به فور ساعته ، ولا مندوحة من اغتال أسرة الثائر بأسرها، ومن رأيه حتى النظام الإقطاعي هوأفضل نظام يمكن وضعه لبني الإنسان كما هم في حقيقة طبائعهم ، لأنه يهيئ اتزاناً معقولاً بين السلطة المركزية والسلطة المحلية ، كما يقيم نظاماً طبيعياً وراثياً تتسق به الجوانب الاجتماعية والاقتصادية ، وهوكذلك يضمن استمرار المجتمع دون حتى يتعرض لسلطان الحاكم المستبد ، ولا بد لنا من الاعتراف هنا بأن "أيياسو" قد نظم في بلاده أكمل صورة عهدها الإنسان لحكومة تقوم على نظام الإقطاع.

وهو- ككل سياسي آخر- قد فكر في الدين على أنه أداة للنظام الاجتماعي قبل حتىقد يكون أي شيء آخر ، وأحزنه حتى يرى حتى اختلاف الناس في عقائدهم الدينية قد قضى على نصف هذا الخير الاجتماعي بما أحدثته العقائد المتعادية من فوضى ؛ وقد كانت العقيدة التقليدية للشعب الياباني- وهي خليط مضطرب من الشنتوية والبوذية- كانت هذه العقيدة التقليدية من وجهة نظره السياسية الخالصة ، رباطاً بالغ القيمة يربط الجنس الياباني في وحدة روحية ونظام خلقي وولاء وطني ، وهوعلى الرغم من أنه نظر إلى المسيحية بادئ ذي بدء بعين التسامح وبأفق عقلي فسيح كاللذين عهدا عن "أكبر" في (الهند) وأبى حتى يفرض عليها ما كان يفرضه عليها "هيديوشي" من أوامر يعلن بها غضبه منها ، إلا أنه عاد فضاق بها صدراً لتعصبها ، ولاتهامها القاسي للديانة القومية بأنها وثنية ، وما أحدثته بتعصبها الجامح من شحناء لم تقتصر على حتى تكون بين المعتنقين المسيحية وبقية أفراد الأمة ، بل امتدت فدبت بين معتنقي الديانة الجديدة أنفسهم ؛ ثم ثار في صدره السخط آخر الأمر لما عهد حتى المبشرين بالمسيحية كانوا أحياناً يُستخدمون طلائع للفاتحين وأنهم كانوا في أجزاء متناثرة من أرض الوطن يتآمرون على الدولة اليابانية ؛ فأمر سنة 1614 بتحريم العبادة المسيحية أوالتبشير بتعاليمها في اليابان ، وطالب المعتنقين لهذه الديانة من الأهالي إما حتى يغادروا البلاد وإما حتى يرتدوا عن عقيدتهم الجديدة ، واستطاع قساوسة كثيرون حتى ينجوا بأنفسهم من طائلة هذا القانون ، وألقي القبض على طائفة منهم ، ولكن لم يُعدم أحد منهم في حياة "أيياسو".

فلما قضى نحبه ، صبَّ سادة الحكومة غضبهم على المسيحيين ، وأعقب ذلك موجةٌ وحشية من الاضطهاد الديني ، كان من أثرها حتى أمحت المسيحية من بلاد اليابان محواً تاماً تقريباً ، ولما كان عام 1638 تجمعت البقية الباقية من المسيحيين ، وبلغ عددها سبعة وثلاثين ألفاً ، في شبه جزيرة "شيمابارا" وحصنتها ووقفت وقفة أخيرة دفاعاً عن حرية العبادة ؛ فأوفد لها "أبيمتسو"- حفيد أيياسو- قوة كبيرة مسلحة لإخضاعها ؛ وبعد حصار دام ثلاثة أشهر سقطت الحامية في أيدي اليابانيين ، وذبح المعتصمون بها ذبحاً في الشوارع ، لم يبق منهم على قيد الحياة إلا مائة وخمسة أشخاص.

مات "أيياسو" في نفس العام الذي توفي فيه شكسبير ؛ وخلَّف هذا الحاكم العسكري القوى سلطانه إلى ابنه "هيديناميا" مصحوباً بنصح سهل وهو: "ارْعَ أبناء الشعب ، وحاول حتى تكون فاضلاً ، ولا تهمل أبداً في حماية البلاد" ؛ وكذلك قدم النصح إلى الأشراف الذين وقفوا إلى جانب سريره ساعة احتضاره ، فكان نصحاً على أحسن ما تجرى به التنطقيد كما عُرفت عند "كونفوشيوس" و"منشيوس" إذا نطق لهم: "لقد بلغ ابني الآن سن الرشد ، ولست أشعر بأي قلق على مستقبل الدولة ، ولكن إذا ما اقترف خلفي خطأ فادحاً في إدارة حكومته ، فتولوا أنتم زمام الأمور بأيديكم ، فليست البلاد مِلْكاً لرجل واحد ، لكنها وطن للأمة بأسرها ، وإذا ما أضاع حفدتي سلطانهم بسبب أخطائهم ، فلن آسف على ضياعه منهم".

لكن حفدته ملكوا زمام أنفسهم على نحوأحسن جداً مما كان ينتظر عادة من ملوك عصرهم حتى يعملوا خلال أمد طويل من الزمن ؛ أما "هيديتارا" فقد كان رجلاً متوسط القدرة لا يصدر عنه الأذى ؛ ثم اتى "أييمتسو" مثلاً لصورة أقوى من صور أفراد هذه الأسرة ، فاستطاع بشدته حتى يحبط حركة نهضت لإعادة النفوذ الحقيقي إلى الأباطرة الذين كانوا لم يزالوا يملكون ولكنهم لمقد يكونوا يحكمون ؛ وأغدق "تسونايوشي" إغداقاً في رعايته لرجال الأدب ، ورعايته للمدرستين المتنافستين العظيمتين في عالم التصوير. وهما "كانو" و"توسا" اللتان زَيَّنتا عصر "جنروكو" (1688-1703)؛ واتى "يوشيموني" فجندّ نفسه للغاية التي ما انفكت الإنسانية تهدف لها حيناً بعد حين ، وهي محوالفقر ، وكان ذلك في نفس الوقت الذي كانت ميزانية حكومته تعاني فيه عجزاً جاوز المألوف ؛ فاستقرض من طبقة التجار قرضاً طائلاً ، وهاجم إسراف الأغنياء ، وخفض نفقات حكومته خفضاً نزع به نحوجانب الزهد الرواقي ، الذي مضى به إلى حد إخراجه سيدات القصر الخمسين اللائي كن أجمل السيدات ، واكتفى في ثيابه بلبس القطن ، وفي نومه بحصير مما يرقد عليه الفلاحون ، وفي طعامه بأبسط ألوان الطعام ؛ ووضع صندوقاً أمام قصر المحكمة العليا ليضع فيه الشاكون شكاواهم ، ونادى الناس إلى نقد السياسة الحكومية أوموظفي الحكومة على أي نحوشاءوا ؛ فلما قدم رجل يدعي "ياماشيتا" عريضة اتهام لاذع يهاجم بها الحكومة من أساسها ، أمر "يوشيموني" بالاتهام فَقُرِأ على مسمع من الملأ ، وكافأ محررها على صراحته بأجزل العطاء. ولقد قرظ "لافكاديوهيرن" حكمه في ذلك العهد فنطق: "إن عصر "توكوجاوا" كان أسعد العصور التي شهدتها الأمة في حياتها الطويلة".

ويميل التاريخ إلى الأخذ بهذا الرأي نفسه ، ولوعلى سبيل الترجيح ، لأن التاريخ لن يبلغ في فهمه بالماضي مبلغ اليقين ؛ فكيف يستطيع الإنسان إذا نظر إلى اليابان اليوم ، حتى يتصور حتى هذه الجزر التي تضطرب أعصابها اليوم اضطراباً كانت منذ قرن واحد مضى ، يسكنها شعب فقير لكنه قانع ، ويتمتع بعصر طويل من السلام في ظل حكومة تقوم عليها طبقة عسكرية ، ويتجه بمجهوده- في عزلته الهادئة- نحوأسمى غايات الأدب والفن ؟!.


المصادر

ول ديورانت. سيرة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود. Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)

تاريخ النشر: 2020-06-04 12:41:11
التصنيفات: Pages with citations using unsupported parameters, الحضارة اليابانية

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

الأرصاد تحذر المواطنين من تخفيف الملابس الشتوية |صور  

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-28 12:19:54
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 62%

إعلام النواب تطالب وضع خطة للترويج للسياحة العلاجية

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-28 12:19:50
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 52%

«العالمي للفتوى» يحسم الجدل حول حكم صيام شهر رجب

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-28 12:19:48
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 63%

لأول مرة في هذا الشتاء.. انخفاض حاد في درجات الحرارة.. والقاهرة تسجل 9

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-28 12:19:44
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 68%

الخط الساخن لاتحاد المهن الطبية تلقى 72 ألف مكالمة في 2022

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-28 12:19:45
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 56%

أجواء باردة جدا مع "صقيع" وتساقطات مطرية وثلجية منتظرة اليوم بهذه المناطق

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-28 12:19:23
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 62%

أزيلال ترتدي معطفها الأبيض السميك

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-28 12:19:19
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 55%

وكيل خطة النواب يُواجه وزير النقل بـ 5 طلبات إحاطة

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-28 12:19:55
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 70%

المنتخب الوطني المغربي يخوض مباراة ودية أمام منتخب البيرو

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-28 12:20:03
مستوى الصحة: 64% الأهمية: 72%

محمد بن سلمان وجمال خاشقجي: ماذا قال عنهما مايك بومبيو في كتابه؟

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-28 12:20:05
مستوى الصحة: 66% الأهمية: 82%

التنمية المحلية: الانتهاء من تنفيذ 103 مشروعا بحياة كريمة بمطروح

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-28 12:19:42
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 53%

إسعاف البحيرة: إنقاذ فتاة من الموت ذبحًا.. وتكريم المسعفين

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-28 12:19:46
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 66%

للتصدي لآثار التغيرات المناخية.. افتتاح محطات طاقة شمسية بمطار القاهرة

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-28 12:19:51
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 55%

أمن فاس يستعمل السلاح الناري لوقف “هجوم خطير”

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-28 12:19:58
مستوى الصحة: 75% الأهمية: 72%

تعرف على خطوات الحصول علي نتيجة صفوف النقل

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-28 12:19:52
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 53%

تحميل تطبيق المنصة العربية