أخلاق اليونان القديمة

عودة للموسوعة

أخلاق اليونان القديمة

الدين

لقد عجل فشل نظام دول المدائن تدهور الدين القديم؛ ذلك حتى آلهة المدينة قد ثبت عجزها عن حمايتها، ومن أجل هذا تزعزع إيمان الناس بهذه الآلهة. واختلط أهلها بالتجار الأجانب الذين لم يكن لهم نصيب في حياة البلد المدنية والدينية والذين انتشر تشككهم ولهوهم بين المواطنين. على حتى أساطير الآلهة المحلية القديمة قد بقيت بين الفلاحين والسذج من سكان المدن، وبقيت كذلك في الطقوس الرسمية، وظل المتفهمون يستخدمونها في الشعر والفن؛ أما من تحررت من عقائدهم بعض التحرر من سلطانهم فأخذوا يهاجمونها بعنف. غير حتى الطبقات العليا ظلت تستمسك بها وتستعين بها على حفظ النظام، وتقاوم الإلحاد الصريح وتعده شاهداً على فساد الذوق. ولما قامت دول كبيرة أدى قيامها هذا إلى توحيد الآلهة واندماجها هي الأخرى، وسرت في نفوس الناس نزعة غامضة نحوالتوحيد، وحاول الفلاسفة حتى يصوغوا للأدباء ممضى وحدة الوجود في صيغة لا تتعارض تعارضاً صريحاً جميع الصراحة مع العقائد الثابتة القديمة. من ذلك حتى أوفمروس Euphemerus أحد سكان مسانا في صقلية نشر حوالي عام 300 ق.م. كتابه المسمى هيرا أنجرافا Hiera Anagrapha (ومعناها الحرفي الكتابات أوالسجلات المقدسة)، والذي نطق فيه إذا الآلهة إما حتى تكون قوى طبيعية جسدها الناس، وإما حتى تكون-وهذا هوالأغلب الأعم-أبطالاً آدميين ألـَّههم خيال الشعب أوعبدهم اعترافاً بفضلهم على بني الإنسان؛ وإن الأساطير هي إلا استعارات وتشبيهات، وإن الاحتفالات الدينية كانت في الأصل مراسم تخليداً لذكرى الموتى. فزيوس مثلاً كان فاتحاً توفي في كريت وأفرديتي كانت موجدة النادىرة ونصيرتها، ولم تكن سيرة كرونوس وأكله أبناءه إلا طريقة للقول بأن أكل اللحوم البشرية في الزمن القديم عادة متبعة على ظهر الأرض. وقد كان لهذا الكتاب أثر قوي في نشر النزعة الإلحادية في بلاد اليونان في القرن الثالث قبل الميلاد .

بيد حتى الناس لا يستريحون للتشكك لأنه يهجر قلب الإنسان وخياله فارغين، وهذا الفراغ لا يلبث حتى يجذب إليه عقيدة جديدة مشجعة؛ وقد مهدت فوزات الفلسفة وفوزات الإسكندر السبيل إلى الطقوس الدينية الجديدة. وسادت أثينة في القرن الثالث عقائد دينية غريبة اضطربت لها أحوالها، وكانت كلها تقريباً، تبشر بالجنة ونذر بالجحيم، حتى أحس أبيقور، كما أحس لكريشيوس في رومة في القرن الأول، حتى من واجبه حتى يندد بالدين ويقول إنه يتعارض مع طمأنينة العقل ومتعة الحياة. ومن أجل هذا أصبحت المعابد الجديدة، حتى في أثينة نفسها، تشاد عادة لإيزيس، وسرابيس، Serapis، وبنديس Bendis وأدنيس، وغيرها من الأرباب الأجانب. وانتشرت الطقوس الإليزينية الخفية وأخذ الناس يحاكونها في مصر، وإيطاليا، وصقلية، وكريت. وظلت عبادة ديونيشيوس إليوثيريوس-المحرر-واسعة الانتشار حتى اندمج هذا الإله في المسيح. وانضوى تحت لواء الأرفية أتباع جدد حين جددت اتصالها بالأديان الشرقية التي نشأت هي عنها. لقد كان الدين القديم أرستقراطياً، وكان يحرم على الأجانب والرقيق حتىقد يكونوا من أتباعه، أما الطقوس الشرقية الجديدة فكانت تقبل بين أتباعها جميع الرجال والنساء، ومنهم الأجانب، والأرقاء، والأحرار، وكانت تعد الناس على اختلاف طبقاتهم بالخلود في الدار الآخرة.

وانتشرت الخرافات والأوهام في الوقت الذي بلغ فيه الفهم أوجه، وإن الصورة التي رسمها ثاوفراسطوس "للرجل المخرف" لتكشف عن رقة الغشاء الثقافي في حاضرة النور والفلسفة نفسها. فلقد كان العددسبعة عدداً مقدساً إلى حد لا يصوره العقل؛ فكان ثمة سبعة كواكب سيارة، وسبعة أيام في الأسبوع، وسبع عجائب في العالم، وسبعة أعمار للإنسان، وسبع سماوات، وسبعة أبواب للجحيم. وانتعش فهم التنجيم على أثر انتشار التجارة مع بابل، وكان من العقائد المسلم بها والتي لا تقبل الجدل حتى النجوم آلهة تتصرف في مصائر الأفراد والدول صغيرها وكبيرها، وحتى خلق الإنسان كان يحدده الكوكب الذي ولد الإنسان في مطلعهِ، فيكون مرحاً إذا ولد والمشتري في السماء؛ أونشطاً زواغاً، إذا كان فيها عطارد، أونكداً إذا كان زحل . وحتى اليهود أنفسهم كانوا يعبرون عن الأماني الطيبة بقولهم: "مزول-توف Mazzol-Tof " "نرجوحتىقد يكون كوكبك سعداً(24)". وكان فهم الفلك يكافح في سبيل الحياة ضد التنجيم، ثم استسلم له آخر الأمر في القرن الثاني بعد الميلاد. وكان الناس في جميع أنحاء العالم الهلنستي يعبدون تيكي Tyche إله الفرص.

وليس في مقدور الإنسان حتى يدرك عظيم الأثر الذي يحدثه في الأمة موت دينها التقليدي إلا إذا أوتي خيالاً قوياً لا يكل، أوقدرة فائقة على الملاحظة. لقد قامت الحضارة اليونانية القديمة على الإخلاص لدولة المدينة والتفاني في حبها، وكانت العقائد الخرافية من أقوى العوامل في تدعيم المبادئ الأخلاقية وإن كانت هذه المبادئ متأصلة في القصص الشعبي والمعارف الشعبية أكثر من تأصلها في العقيدة الدينية. لكن الرجل اليوناني المتفهم قد خسر في الوقت الذي نتحدث عنه دينه ووطنيته؛ ومحت الإمبراطوريات الحدود المدنية، وأضحت المبادئ الخلقية، وشؤون الزواج، والأبوة، والقوانين، بسبب انتشار المعارف من الأمور الدنيوية. وقد كان عصر الاستنارة في أيام بركليز من مسببات تدعيم الأخلاق إلى حين، وهذا شبيه بما وقع في أوربا الحديثة فقد نمت المشاعر الإنسانية، وأيقظت-دون جدوى-في نفوس الناس استياءً شديداً من الحروب، ونشأت عادة التحكيم في المنازعات بين المدن والأفراد، وأصبحت الآداب أظرف مما كانت وأكثر صقلاً، وصار الجدل أكثر تحضراً، وانتقلت آداب اللياقة والمجاملات اللطيفة من حاشيات الملوك، حيث كان الباعث عليها السلامة الشخصية والهيبة الملكية، إلى أفراد الشعب، فلما حتى اتى الرومان دُهش اليونان أشد الدهشة من سوء آدابهم وغلظة طباعهم. لقد أضحت الحياة في بلاد اليونان أرقى مما كانت وأكثر تهذيباً، وكان النساء يستمتعن بقسط أوسع من الحرية في غدوهن ورواحهن، ويبعثن في الرجال الميل إلى الظرف والرشاقة؛ فأخذوا يحلقون لحاهم وخاصة في بيزنطية ورودس، حيث كانت القوانين تحرم هذا العمل وتعده تشبهاً بالنساء(25). غير حتى الجري وراء اللذات قد أنهك حياة الراشدين من أفراد الطبقات العليا. ولم تجد المشكلة القديمة معضلة الآداب والقوانين الأخلاقية، وكيف يوفق الناس بين أبيقورية الفرد الفطرية ورواقية الدولة الضرورية، لم تجد هذه المشكلة حلاً لها في الدين، أوالسياسة، أوالفلسفة.

وانتشر التعليم ولكن انتشاره كان رقيقاً غير عميق، فقد كان يعمل ما يعمله في جميع العصور التي كانت الغلبة فيها للعقل فيعنى بالمعارف أكثر مما يعنى بالأخلاق، ولذلك أخرج جماهير غفيرة من أنصاف المتفهمين الذين انتزعوا من العمل ومن الأرض، وأخذوا يطوفون وهم ساخطون حيث يجب حتى لاقد يكونوا، كأنهم بضاعة سائبة في سفينة الدولة. وأنشأت بعض المدن مثل ميليطس ورودس مدارس عامة تنفق عليها الدولة، وكان الذكور والإناث يتفهمون مجتمعين في مدارس تيوس Teos، وطشيوز، وكانت تُعطى للجنسين فرص متكافئة لا نظير لها إلا في إسبارطة(26). وتطورت مدارس الرياضة البدنية حتى أضحت مدارس عليا أوكليات جامعية بها غرف للتدريس، وقاعات للمحاضرات ومخطات. كذلك ازدهرت ساحات التدريب الرياضي وأضحى لها شأن في بلاد الشرق؛ ولكن الألعاب العامة اضمحلت حتى أصبحت مباريات بين المحترفين وخاصة في الملاكمة، التي كانت قوة الجسم فيها أبرز من المهارة والحذق؛ وأصبح اليونان أمة من النظارة يقنعون بأن يشاهدوا ولا يعملوا وقد كانوا في ماضي أيامهم أمة من الرياضيين.

وتحللت الأخلاق الجنسية من القيود أكثر من تحللها في عصر بركليز نفسه، وإن كان هذا التحلل لم يقلل من انتشار اللواط بل ظل كما كان في سابق الأيام. أنظر إلى قول سميثا Simaetha في بعض قصائد ثاوفراطوس: "إن الشاب دلفس Delphis يحب، ولكني لا أعهد أيحب امرأة أم رجلاً(27)". ظلت الحظية صاحبة السلطان الأعلى، وهل أدل على ذلك من حتى دمتريوس بليوكرتيز جبى من الأثينيين ضريبة مقدارها مائتي وزنة وخمسين (750.000 ريال أمريكي) ثم وهبها لعشيقته لاميا Lamia بحجة أنها في حاجة إلى هذا المال لتبتاع به ما يلزمها من الصابون؛ ونطق الأثينيون الغضاب "إن هذه السيدة لا بد حتى تكون قذرة إلى أبعد حدود القذارة". وأصبح الناس لا يتأففون من رقص النساء العاريات بل يرونه من العادات المألوفة، وكان هذا يحدث أمام أحد ملوك مقدونية(29). وقد صور منندر في مسرحياته الحياة الأثينية بأنها حياة تدور كلها حول السفاسف، والغواية والزنى.

واشهجرت المرأة اليونانية اشتراكاً نشيطاً في الأعمال الثقافية في ذلك العصر، وكانت لها جهود موفقة في الأدب والفهم والفلسفة والفن، فكانت أرسطوداما Aristodama الأزميرية تنشد أشعارها في طول بلاد اليونان وعرضها وتقابل أينما حلت بأعظم مظاهر التكريم؛ ولم يتردد بعض الفلاسفة، كأبيقور مثلاً، في قبول النساء في مدارسهم. وبدأ الأدب يعنى بوصف جمال المرأة الجسماني بعد حتى كان من قبل يُعنى بقيمتها وفتنتها من ناحية الأمومة، ونشأت العبادة الأدبية للجمال النسوي في ذلك العهد إلى جانب أشعار الحب الروائي وقصصه. وقد صحب هذا التحرير الجزئي للمرأة ثورة على قصر وظيفتها على الأمومة، وأضحى تحديد النسل من أبرز الظواهر البارزة في ذلك العصر، فلم يكن يُعاقَب على الإجهاض مثلاً إلا إذا لجأت إليه المرأة على غير إرادة زوجها، أوبتحريض من أغواها؛ وكان الطفل في كثير من الأحيان يعرض للجوالقاسي. ولم يكن عدد الأسر التي تربي أكثر من بنت واحدة في المدن اليونانية القديمة يزيد على واحد في المائة من مجموع أسرها؛ وفي ذلك يقول بوسيدبوس Posidippus، "وحتى الرجل الغني نفسه، كان يعرض ابنته للجوالقاسي على الدوام. وكان يندر وجود أخوات للأبناء، وكثر عدد الأسر التي لم يكن لها أبناء قط أوكان لكل منها ولد واحد. وفي وسعنا حتى نتتبع من النقوش الباقية إلى هذه الأيام خصوبة تسع وسبعين أسرة من سكان ميليطس في عام 200 ق.م: لقد كان لاثنتين وثلاثين من هذه الأسر طفل واحد، ولإحدى وثلاثين منها طفلان؛ وكان مجموع أبناء هذه الأسر جميعها مائة وثمانية عشر ولداً وثمانياً وعشرين بنتاً(30). وفي إريتريا Eretria لم يكن عدد الأسر التي لها ولدان يزيد على أسرة واحدة في جميع اثنتي عشرة أسرة، وقلما كان لأسرة واحدة ابنتان. وكان الفلاسفة يتجاوزون عن اغتال الأطفال بحجة أنه يخفف من ضغط السكان على موارد الرزق؛ فلما حتى لجأت الطبقات الدنيا إلى هذه العادة وأسرفت فيها تساوت نسبة الوفيات مع نسبة المواليد. ولم يعد في مقدور الدين حتى يتغلب على مقتضيات الراحة ونفقات الأبناء، مع حتى الدين نفسه كان في الأيام الخالية يُخيف الناس ويحذرهم من قلة النسل حتى تجد أرواحهم من يُعنى بها بعد موتهم. وحل المهاجرون في المستعمرات محل الأسر القديمة، فلما حتى نقص عدد المهاجرين في أتكا والبلوبونيز إلى أدنى حد قل عدد السكان كثيراً. ورأى ذلك فليب الخامس فحرم تحديد عدد أفراد الأسر في مقدونية، وزاد بذلك عدد الرجال بنسبة خمسين في المائة مما كانوا عليه قبل هذا الأمر(31)؛ وفي وسعنا حتى نستدل من هذا على مبلغ ما وصلت إليه عادة تحديد النسل حتى في مقدونية التي كانت لا تزال نصف بدائية، وفي هذا المعنى يقول بولبيوس في عام 150 ق.م:

لقد سرت في جميع بلاد اليونان موجة من نقص المواليد ومن قلة السكان تبعاً لهذا النقص، نشأ عنها حتى أقفرت المدن من السكان وأجدبت الأرض فلم تعد تخرج ثمرها...ذلك حتى الناس قد انغمسوا في الترف والبخل والكسل، فلم يعودوا يرغبون في الزواج، أوفي تربية الأبناء إذا تزوجوا، وأقصى ما كانوا يسمحون به حتىقد يكون لهم من الأبناء ولد أوولدان حتى يظلوا يستمتعون برخاء العيش، وحتى يربوا هؤلاء الأبناء ليتلفوا ما يهجرون لهم من المال. واستشرى هذا الفساد بسرعة وإن تكن غير إشارة، وكان يحدث أحياناً حتى يهلك أحد الولدين في الحرب وأن يقضي الموت على الولد الثاني، فيكون مصير البيت الخراب...إلى غير ذلك نضب معين المدن وحل بها الوهن شيئاً فشيئاً(32).


الطفولة

كان يُنتظر من جميع مواطن أثيني حتىقد يكون له أبناء، وقد اجتمعت قوى الدين، والملكية، والدولة، كلها لمقاومة العقم. فإذا لم يكن للأسرة أبناء من نسلها كان التبني هوالعادة المتبعة، وكانت تؤدى مبالغ طائلة للحصول على أبناء الأيتام، لكن القانون والرأي العام كانا في الوقت نفسه يبيحان اغتال الأطفال ويريان فيه وسيلة مشروعة للحد من زيادة النسل ومنع تقسيم الأرض الزراعية تقسيماً يؤدي إلى الفاقة، فكان في وسع جميع أب حتى يُعرّض طفله للموت بحجة أنه يشك في صحة انتسابه إليه أوأنه ضعيف أومشوّه. وقلما كان يُسمح لأبناء الأرقاء حتى يعيشوا، وكانت البنات أكثر تعريضاً للموت من الأولاد، لأن البنت يجب حتى تعدلها بائنة، ولأنها إذا تزوجت انتقلت من بيت الذين ربوها ومن خدمتهم إلى خدمة من لم تكن لهم في تربيتها يد. وكانت الوسيلة المتبعة لتعريض الطفل للموت حتى يُهجر في إناء من الفخار بجوار هيكل أومكان آخر حيث يستطاع إنقاذه بعد وقت قليل من هجره إذا رغب أحد في تبنيه. وكان حق الآباء في تعريض أبنائهم للموت سبباً في غلظة قلوب اليونان، وكان هووالانتخاب الطبيعي الصارم عن طريق المنافسة ومعاناة صعاب الحياة، كان هذا وذاك من الوسائل التي جعلت اليونان شعباً سليماً قوياً. ويكاد فلاسفة اليونان يجمعون على تحبيذ تحديد النسل: فأفلاطون ينادي بتعريض جميع الأطفال الضعفاء ومن يولدون من أبوين منحطين أوطاعنين في السن(1) إلى الجوالقاسي؛ وأرسطاطاليس يدافع عن الإجهاض بحجة أنه أفضل من اغتال الأطفال بعد حتى يولدوا(2). ولم يكن قانون أبقراط الطبي يسمح للطبيب بأن يجهض الحامل، ولكن القابلة اليونانية كانت تحذق هذه العملية، ولا تجد قانون يحول بينها وبين ممارستها(3).

وكان الطفل يقبل في دائرة الأسرة رسمياً في اليوم العاشر بعد مولده أوقبله، ويقام لذلك احتفال ديني خاص في البيت حول موقد النار، يتلقى فيه الهدايا ويسمى باسمه. ولم يكن لليوناني عادة إلا اسم واحد مثل سقراط أوأرخميدس؛ ولكن كانوا من عادتهم حتى يسموا أكبر الأبناء باسم جده لأبيه، ولهذا كثر تكرار الأسماء، واختلط التاريخ اليوناني لكثرة ما ورد فيه من أسماء زنوفون، وإسكنيز، وتوكيديدز، وديوجين، وزينون، فكانوا يحاولون التغلب على ما فيها من غموض بإضافة اسم الأب أواسم مسقط الرأس إلى اسم الشخص فيقولون "كيمون ملتيادو" أي كيمون بن ملتيادس، أوديودورس صقلوس Diodorus Siculus أي ديودور الصقلي، أويحلون المشكلة بإضافة أحد ألقاب السخرية المضحكة مثل كَلِمِدون Callimedon أي السرطانْ.

فإذا ما قبل الشخص في الأسرة بهذه الطريقة لم يكن القانون يجيز تعريضه للجو، بل كان يربى محوطاً بكل ما يحيط به الآباء أبناءهم من العناية في جميع العصور، فنرى ثمستكليز مثلاً يصف ابنه بأنه حاكم أثينة الحقيقي، لأنه (ثمستكليز) وهوأعظم رجال أثينة نفوذاً تحكمه زوجته، وهذه الزوجة يحكمها ولدها(6). وفي وسعنا حتى نستدل على هذا الحب الأبوي من كثير من المقطوعات الشعرية ذات المغزى الأدبي في دواوين الشعراء. "لقد بكيت حين ماتت ثيونوTheonoe، ولكن الآمال التي كنت أعلقها على طفلنا خففت أحزاني، ثم أبَت الأقدار الحسودة إلا حتى تحرمني من هذا الولد أيضاً، فواحسرتا! لقد سُلِبتَ مني يا ولدي، وأنت جميع ما كان باقياً لي من سلوى؛ ألا فاستمعي يابرسفوني إلى النداء المنبعث من قلب أب حزين، وضعي الطفل فوق صدر أمه الميتة"(7).

وكانت الألعاب كثيرة تخفف مآسي المراهقة، وسوف تظل هذه الألعاب بعد حتى ينسى الناس بلاد اليونان، فترى على وعاء عطر خلق لكي يوضع في قبر طفل، صورة ولد صغير يأخذ عربته الصغيرة معه إلى الدار الآخرة. وكان للأطفال الرضع خشائش من الطين المحروق في داخلها عدد من الحصا؛ وكان للبنات دمى يحتفظن بها في البيت، وكان الغلمان ينازلون جنوداً وقواداً من الطين في مواقع عظيمة؛ وكانت المربيات يؤرجحن الأطفال على الأراجيح؛ وكان الأولاد والبنات يدفعون الأطواق، ويطيرون الطائرات، ويديرون الخذروف الخشبي، ويلعبون لعبة الاستخفاء أوالغميضاء، أوشد الحبل، أويتبارون في مئات الأنواع من المباريات في الحصا، والبندق، والنقود والكرات. أما "بلي" العصر المضىي فكان هوالفول الجاف يدفع بالأصابع أوالحجارة الملساء تطلق مسافة بعيدة أوتقذف في داخل دائرة لتزحزح حجارة العدومن أماكنها وتستقر في أقرب وضع مستطاع إلى مركز الدائرة. فإذا اقترب الأطفال من "سن العقل" - أي السنة السابعة أوالثامنة من عمرهم - لعبوا لعبة النرد وذلك برمي الكعاب (Astragali) المربعة، وتعد أعلى رمية لست كعاب أحسن لعبة(9). ألا إذا ألعاب الصغار قديمة قدم خطايا آبائهم.

التعليم

أنشأت أثينة ساحات للألعاب ومدارس للرياضة البدنية، وكان لها بعض الإشراف القليل على المدرسين، ولكن المدينة لم يكن فيها مدارس عامة أوجامعة تديرها الدولة، بل ظل التعليم فيها في أيدي الأفراد. ونادى أفلاطون بأن تنشئ الدولة مدارس(10)، ولكن يلوح حتى أثينة كانت تعتقد حتى المنافسة حتى في التعليم نفسه كفيلة بأن تثمر أحسن الثمرات. وكان المدرسون المحترفون ينشئون مدارسهم الخاصة يُرسل إليها أبناء الأحرار في سن السادسة. ولم يكن لفظ بيدجوجوس Paidagogos يُطلق عندهم على المفهم، بل كان يسمى به العبد الذي يصاحب الغلام جميع يوم في ذهابه إلى المدرسة والعودة منها، ولم نسمع قط عن وجود مدارس داخلية. وكان التلميذ يبقى في المدرسة حتى يبلغ الرابعة عشرة أوالسادسة عشرة من عمره، وإلى ما بعد السادسة عشرة إذا كان من أبناء الأغنياء(11). ولم يكن في المدارس أدراج بل كان يكتفى فيها بالمقاعد؛ فكان التلميذ يضع على ركبتيه الملف الذي يقرأ منه، أوالصحيفة، أياً كانت مادتها، التي يخط عليها؛ وكانت بعض المدارس تزدان بتماثيل لأبطال اليونان وآلهتهم، وهي عادة انتشرت فيما بعد انتشاراً واسعاً؛ وكان عدد قليل منها يمتاز بأثاثه الظريف. وكان المدرس يفهم جميع المواد، ويُعنى بالأخلاق كما يُعنى بالعقول ويستخدم النعال للتأديب وكان منهج الدراسة ينقسم ثلاثة أقسام -الكتابة، والموسيقى، والألعاب الرياضية؛ وأضاف المجددون الحريصون على التجديد في أيام أرسطوإلى هذا المنهج الرسم والتصوير(14). وكانت الكتابة تضم القراءة والحساب، وكانوا يستخدمون فيها الحروف لا الأرقام. وكان جميع تلميذ يتفهم العزف على القيثارة، وكان الكثير من مواد الدراسة يصاغ في عبارات شعرية وموسيقية(15). ولمقد يكونوا يضيعون شيئاً من الوقت في تعليم أية لغة أجنبية، بله اللغات الميتة، ولكنهم كانوا شديدي العناية بتفهم اللغة الوطنية واستخدامها على أصح وجه. وكانت الألعاب الرياضية تُعَلم أكثر ما تفهم في مدارس الألعاب، ولم يكن أثيني يعد متفهماً إذا لم يتقن المصارعة والسباحة واستعمال القوس والمقلاع.

أما البنات فكن يدرسن في منازلهن وكان تعليمهن يقتصر في الغالب على فهم "تدبير المنزل"، ولم يكن للبنات في غير إسبارطة حظ من الألعاب الرياضية العامة. وكانت أمهاتهن يفهمنهن القراءة والكتابة والحساب، والغزل والنسيج والتطريز، والرقص والغناء، والعزف على بعض الآلات الموسيقية؛ ومن النساء اليونانيات عدد قليل تفهمن تعليماً عالياً، ولكنهن في الغالب من المؤنسات، أما النساء المحترمات فلم يكن تعليمهن يتجاوز الفترة الابتدائية حتى أغرت أسبازيا Aspasia عدداً قليلاً منهن على تفهم فنون البلاغة والفلسفة. وكان الرجال يتفهمون التعليم العالي على يد فهماء البلاغة والسوفسطائيين، يلقنونهم فن الخطابة، والعلوم الطبيعية، والفلسفة والتاريخ. وكان هؤلاء المدرسون المستقلون يستأجرون قاعات للمحاضرات بالقرب من مدارس الألعاب الرياضية، وكان يتألف منهم من قاعاتهم هذه في أثينة قبل أفلاطون جامعة متفرقة. وكان ذووالثراء وحدهم هم الذي يتفهمون على أيديهم، لأنهم كانوا يتقاضون أجوراً عالية، ولكن ذوي الطموح من الشبان غير ذوي اليسار كانوا يعملون ليلاً في المصانع أوالحقول حتى يستطيعوا حتى يحضروا في النهار دروس هؤلاء المفهمين المتنقلين.

فإذا بلغ الأولاد السادسة عشرة من عمرهم، كان يُنتظر منهم حتى يعتنوا عناية خاصة بالتربية البدنية التي تعدهم بعض الإعداد إلى الأعمال الحربية، وكانت ألعابهم العادية نفسها تعدهم من طريق غير مباشر لهذا الغرض عينه؛ فقد كانوا يُدربون على العدو، والقفز، والمصارعة، والصيد، وسوق المركبات، وقذف الحراب. وإذا بلغوا الثامنة عشرة من عمرهم بدءوا الفترة الرابعة من مراحل الحياة الأثينية (الطفولة، والشباب، والرجولة، والكهولة (Geron, Auer, Ephebos, Pais) وفيها ينخرطون في صفوف شبان أثينة المجندين المعروفة بمنظمات الشباب Epheboi . وكانوا في هذه الفترة يدربون مدى عامين على أيدي "مدربين"، يختارهم لهم زعماء قبائلهم، على القيام بالواجبات الوطنية والعسكرية. فكانوا يعيشون ويأكلون مجتمعين، ويلبسون حُللاً رسمية ذات روعة وبهاء، ويخضعون بالليل والنهار لرقابة خلقية. وكانوا ينظمون أنفسهم تنظيماً ديمقراطياً على نمط نظام المدينة، فيجتمعون في جمعية وطنية، ويصدرون قرارات، ويسنون قوانين يتقيدون بها، ويكون لهم منهم حكام، وزعماء، وقضاة(16).وكانوا في السنة الأولى يخضعون لنظام صارم من التدريب الرياضي، ويتلقون محاضرات في الآداب، والموسيقى، والهندسة النظرية، وعلوم البلاغة(17). وفي التاسعة عشرة من عمرهم يُرسلون لحماية الحدود، ويُعهد إليهم مدى عامين حماية المدينة من الغزوالخارجي والاضطراب الداخلي. وكانوا في هذه الفترة يقسمون أمام مجلس الخمسمائة، وأيديهم ممتدة فوق مذبح الهيكل في أرجولوس Argaulos، يميناً مغلظة هي يمين الشباب الأثيني:

"لن أجلل بالعار الأسلحة المقدسة، ولن أتخلى عن الرجل الذي إلى جانبي أياً كان، وسأقدم المعونة إلى طقوس المدينة، وإلى الواجبات المقدسة، بمفردي ومع الكثيرين غيري. ولن تكون بلادي حين أسلمها إلى من يأتي بعدي أقل مما كانت حين تسلمتها، بل ستكون أكبر وأحسن مما كانت وقئذ. وسأطيع من يتولون القضاء حيناً بعد حين، وأخضع للقوانين المسنونة، ولكل ما يضعه الأهلون من أنظمة؛ وإذا ما حاول أحد حتى يفسد هذه القوانين، فلن أسمح له بذلك العمل، بل أدفعه بمفردي وبمعونة الجميع؛ وسأكرم دين السلف"(18).

وكان للشباب مكان خاص في دار التمثيل، وكان لهم شأن ظاهر في مواكب المدينة الدينية؛ ولعل هؤلاء الشبان هم الذين زي صورهم الجميلة منقوشة على طنف البارثنون يمتطون صهوة الجياد. وكانوا في أوقات معينة يعرضون ما يتحلون به من صفات في مباريات عامة، وبخاصة في سباق التتابع بالمشاعل من بيريه إلى أثينة. وكانت المدينة على بكرة أبيها تخرج لمشاهدة هذا المنظر الجميل، فيصطف أهلها على طول الطريق البالغ أربعة أميال ونصف ميل. ويجري السباق ليلاً، والطريق غير مضاء، فلا يرى الناس من العدائين إلا أنوار المشاعل التي يحملونها وتقفز من يد إلى يد على طول الطريق. وبعد حتى يتم تدريب الشباب في الحادية والعشرين من عمرهم، يتحررون من سلطان الآباء، وينتظمون رسمياً في سلك مواطنية المدينة الكاملة.

هذه هي التربية التي تنشئ المواطن الأثيني، أساسها الدروس التي تلقاها في المنزل وفي الطريق. وهي مزيج صالح جميل من التدريب الجسمي، والعقلي، يقوي في الشاب حاسة الجمال، ويفرض الرقابة في سن الشباب، ويعطيه حريته إذا ما نضج. وقد أخرجت في أحسن عهودها شباناً لا يفوقهم شبان آخرون في التاريخ كله. فلما انقضى عصر بركليز كثرت النظريات حتى طغت على الناحية العملية في هذه التربية، فاحتدم النقاش بين الفلاسفة حول أهداف التربية ووسائلها، هل يوجه المدرس أكبر همه إلى التربية العقلية أوالخلقية، وهل يُعنى أكبر العناية بتنمية الكفاية العملية، أوبتعليم العلوم النظرية البحتة. لكنهم كلهم مجمعون على حتى مكانة التربية هي أسمى مكانة في البلاد، ولما حتى سُئل أرستبس Aristippus بماذا يمتاز المتفهم عن الجاهل أجاب: "بما يمتاز به الجواد المروض على الجواد الجموح"؛ وأجاب أرسطاطاليس عن هذا السؤال نفسه بقوله: "بما يمتاز به الحي على الميت"، ويضيف أرستبس إلى قوله السابق: "حسب التعليم فضلاً على التلميذ أنه حين يشهد التمثيل لنقد يكون حجراً فوق حجر"(19).


المظهر الخارجي

كان مواطنوأثينة في القرن الخامس رجالاً متوسطي القامة، أقوياء البنية، ملتحين؛ ولمقد يكونوا كلهم من الوسامة كما صورهم فيدياس في فرسانه. وكانت النساء كما تراهُنَّ على المزهريات رشيقات الجسم، وتُظهرهن صورهن على الألواح الحجرية حِساناً ذوات وقار، وهن في التماثيل بارعات الجمال. أما نساء أثينة في حقيقة أمرهن فكن يضارعن في الجمال أخواتهن من نساء الشرق الأدنى ولا يفقنهن قط، وقد كانت عزلتهن التي تكاد تشبه عزلة النساء الشرقيات سبباً في نقص نموهن العقلي. واليونان يعجبون بالجمال أكثر مما تعجب به سائر الأمم، ولكن هذا الجمال لا يتمثل قط فيهن بأكمل معانيه، وكانت نساؤهم كغيرهن من النساء يرين أنهن لم يبلغن حد الكمال في هذه الناحية، ولهذا تراهن يزدن طولهن بنعال عالية من الفلين، ويصلحن ما في أجسامهن من العيوب بالحشايا، ويضغطن ما زاد فيها بالأربطة، ويحملن أثداءهن بحاملات من القماش.

وشعر اليونان أسود عادة، والشعر الأشقر نادر، وإذا عثر كان موضع الإعجاب. وكانت كثيرات من النساء يصبغن شعرهن ليكسبنه هذه الشقرة أوليخفين شيبهن إذا كبرن، وكان بعض الرجال يحذون حذوهن في هذا(22). وكانوا جميعاً رجالاً ونساءً يدهنون رؤوسهم بالزيت، يستعينون به على نماء شعرهم ووقايته من تأثير الشمس؛ وكانت النساء يخلطن الزيت ببعض العطور ويقلدهن في ذلك بعض الرجال(23). وكانوا جميعاً رجالاً ونساءً في القرن السادس قبل الميلاد يطيلون شعرهم ويجدلونه غدائر حول الرأس أوخلفها، فلما كان القرن الخامس أخذت النساء يصففن شعرهن ويعقصنه وراء رقابهن، أويهجرنه ينوس على أكتافهن، أويطوينه حول الأعناق وفوق الصدور. وكان النساء يحببن ربط شعرهن بأشرطة رمادية اللون تزدان بجوهرة فوق الجبهة(24). ثم أخذ الرجال بعد مرثون يقصون شعرهم، كما أخذوا بعد الإسكندر يحلقون شواربهم ولحاهم بأمواس من الحديد على شكل المنجل. ولم يكن اليوناني يطيل شاربه من غير حتى يطيل لحيته، وكان يعنى بتسوية لحيته حتى تنتهي عادة بطرف رفيع. ولم يكن عمل الحلاق مقصوراً على قص الشعر أوحلق اللحية أوتسويتها، بل كان يعنى إلى ذلك بتدريم الأظافر وتجميل من يتقدم إليه في أعين الناس، وكان إذا فرغ من عمله قدم إليه مرآة كما يعمل الحلاقون في هذه الأيام(25). وكان للحلاق حانوته، وكان هذا الحانوت "مجمعاً لغير المخمورين" (كما يسميهم ثيوفراسطس) يتناقلون فيه أخبار الناس ومعايبهم، ولكنه كان في كثير من الأحيان يقوم بعمله خارج حانوته في العراء. وكان الحلاق ثرثاراً بحكم مهنته، ويروى حتى حلاقاً سأل الملك أركلوس كيف من الممكن أن يجب حتى يقص شعره فأجابه الملك "في صمت"(26). وكانت النساء أيضاً يحلقن الشعر من بعض أجزاء جسمهن، ويستخدمن في هذا أمواساً أوأدهان مصنوعة من الزرنيخ والجير.

وكانت العطور - المصنوعة من الأزهار مخلوطة بالزيت - تعد بالمئات، ويشكوسقراط استعمال الرجال لهذه العقاقير(27). وكان لكل سيدة راقية عدة كبيرة من المرايا، والدبابيس العادية والإنجليزية، ودبابيس الشعر، والملاقط، والأمشاط، وقنينات العطور، وأواني الأصباغ الحمراء، والأدهان.وكن يصبغن خدودهن، وشفاههن بعصي من السلقون وجذور الشنجار . أما الحواجب فكانت تصبغ بسناج المصابيح أوبمسحوق الإثمد، وتلون الجفون بالإثمد، وتسود الرموش ثم تطلى بمزيج من زلال البيض والأشق . وكانت الأدهان ومحاليل الغسل تستخدم لإزالة التجاعيد والنمش والبقع من الوجه والجسم. وكانت بعض الأدهان المؤلمة تظل على الجسم ساعات طوالاً لكي تظهر المرأة في أعين الناس جميلة إذا لم تكن جميلة بطبيعتها. وكان زيت المصطكى يستخدم لمنع العرق، وكانت مراهم معطرة خاصة توضع على أجزاء مختلفة من الجسم. وكانت المرأة ذات الشأن تدهن وجهها وصدرها بزيت النخيل وحاجبيها وشعرها بالبردقوش، وعنقها، وركبتيها بخلاصة الصَّعتر؛ وذراعيها بخلاصة النعناع، وساقيها وقدميها بالمُر(28). وكان الرجال يحتجون على هذه الأسلحة المغرية، ولكن احتجاجهم لم يكن له من النتائج أكثر من احتجاج أمثالهم في أي عصر من العصور. من ذلك حتى إحدى الشخصيات في مسلاة أثينة تعير سيدة بتعداد ما تستخدمه من الأدهان والأصباغ الكثيرة فتقول: "إذا خرجتِ في الصيف تحدر من عينيكِ خطان أسودان، وجرى نهر أحمر من خديكِ إلى عنقكِ، وإذا مس شعرُكِ وجهَك أبيض من الرصاص الأبيض"(29). إذا النساء يبقين كما هن لأن الرجال لا يتغيرون. وكانت المياه قليلة فكانت النظافة تتطلب وسائل أخرى غير المياه، فأما الأغنياء فكانوا يستحمون مرة أومرتين في اليوم، ويستخدمون في استحمامهم صابوناً مصنوعاً من زيت الزيتون معجوناً بمادة قلوية، ثم يتعطرون.

وكان البيت الراقي يشتمل على حمام مبلط، به حوض كبير من الرخام يُحمل إليه الماء عادة باليد، وكانت المياه أحياناً تُنقل في أنابيب وقنوات إلى البيت مخترقة جدران الحمام، ثم تندفع من صنبور معدني في صورة رأس حيوان، وتسقط على أرض الحمام الرشاش وتجري بعدئذ إلى الحديقة(30). وأما الكثيرون من الأهلين الذين لا تتوافر لديهم المياه للاستحمام فكانوا يدلكون أجسامهم بالزيت ثم يزيلونه بمكشط هلالي الشكل كما نرى ذلك في تمثال أبكسيمنس Apoxyomenos للمَثال ليسبس Lysippus. ولم يكن اليوناني شديد الحرص على النظافة، ولم تكن أبرز وسائله للمحافظة على صحته هي العناية بها داخل المنزل، بل كان أهمها الاقتصاد في المأكل والحياة الخارجية النشطة. وكان يندر حتى يجلس داخل الدور والملاهي والمعابد والأبهاء المغلقة الأبواب، وقلما كان يعمل في المصانع أوالحوانيت المقفلة. وكانت مسرحياته وعباداته، وحتى حكومته في ضوء الشمس، وكان في وسعه حتى يخلع عن جسمه ملابسه البسيطة التي يصل منها الهواء إلى جميع أجزائه، ولا يكلفه خلعها أكثر من التلويح بذراعيه، للقيام بجولة مصارعة، أوالتمتع بحمام شمس.

وكانت ملابس اليوناني تتكون من بترتين مربعتين من القماش ملفوفتين في غير إحكام حول الجسم، وقلما كانتا تفصلان لتوائما لابساً بعينه. وكانتا تختلفان في بعض تفاصيلهما الصغرى في المدن المتنوعة، ولكنهما ظلتا بحالهما عدة أجيال. وكان أبرز رداء للرجال في أثينة هوالقباء Tuuic، وأهمه للنساء هوالمئزر Peplos، المصنوعين من الصوف. فإذا كان الجويحتاج التدفئة غطيا بعباءة أوبرنس معلق مثلهما من الكتفين يتدلى في غير كلفة في تلك الثنايا الطبيعية التي تسر العين حين تقع عليها في التماثيل اليونانية. وكانت الملابس في القرن الخامس بيضاء اللون في العادة، غير حتى النساء، وأغنياء من الرجال، والشبان المتأنقين، كانوا يعمدون إلى تلوينها؛ ولمقد يكونوا يستنكفون من لبس الثياب القرمزية أوالحمراء الداكنة، أوذات الخطوط المتنوعة الألوان والحواشي المطرزة. وكانت النساء في بعض الأحيان يتمنطقن بمناطق ملونة. ولم تكن القبعات مرغوباً فيها لأنها كانت في رأيهم تمنع رطوبة الجوعن الشعر فيشيب قبل الأوان(31)؛ ولم يكن الرأس يغطى إلا في أثناء السفر، والقتال، أوالعمل في أشعة الشمس الحارة. وكانت النساء في بعض الأحيان يغطين رؤوسهن بمناديل أوعصابات ملونة، وكان العمال في بعض الأوقات يغطون رؤوسهم بقلنسوات ويهجرون سائر الجسم عارياً(32). أما الأحذية فكانت أخفافاً (صنادل)، ونعالاً طويلة أوقصيرة تصنع عادة من الجلد، سوداء اللون للرجال وملونة للنساء. ويقول دسياركس Dicaerchus إذا نساء طيبة يحتذين أحذية قصيرة أرجوانية ذات شرائط تظهر منها القدم العارية(33). وكان معظم الأطفال والعمال لا يحتذون شيئاً مطلقاً، ولم يكن أحد يعنى بلبس الجوارب(34).

وكان الأهلون، رجالاً ونساء، يخفون دخلهم أويعلنوه للناس بالحلي والجواهر، فكان الرجل يلبس عدة خواتم(35). وكانت عصي الرجال تنتهي في أعلاها بكريات من الفضة أوالمضى. وكانت النساء يتحلين بالأساور، والقلائد، والأكاليل من الجواهر، والأقراط، ودبابيس الصدر، والعقود، والمشابك ذات الجواهر؛ وكان لهن في بعض الأحيان أربطة محلاة بالجواهر حول أعقابهن أوفي سواعدهن. وكانت الطبقات التي تسرف في الترف في هذه البلاد هي الحديثة الثراء كما تعمل أمثالها في جميع البلاد التي تسودها الثقافات التجارية. وكانت إسبارطة تحدد أنواع أغطية الرأس لنسائها، كما كانت أثينة تحرم على النساء حتى يأخذن معهن في أسفارهن أكثر من ثلاث مجموعات من الثياب(36). غير حتى النساء كن يسخرن من هذه القيود، ويتهربن منها دون حتى يستعِنَّ على ذلك الهرب بالمحامين. ذلك أنهن كن يعهدن حتى قيمة المرأة عند معظم الرجال وعند النساء إنما تقدر بملابسها؛ وكان مسلكهن في هذه الناحية يكشف عن حكمة تجمعت لهن في خلال آلاف من القرون الطوال.


المبادئ الأخلاقية

لم يكن الأثينيون في القرن الخامس مثلاً طيباً في حسن الخلق، وذلك لأن ارتقاء عقولهم قد أحل الكثيرين منهم من تنطقيدهم الأخلاقية، وجعل منهم أفراداً يكادونقد يكونون لا خلاق لهم. نعم إنهم قد اشتهروا بعدلهم القضائي، ولكنا قلما نراهم يؤثرون على أنفسهم أحداً غير أبنائهم، وقلما يشعرون بوخز الضمير، أويفكرون قط في حتى يحبوا جيرانهم كما يحبون أنفسهم. وتختلف آدابهم باختلاف طبقاتهم، ففي محاورات أفلاطون نرى الحياة تجملها الرقة الخلابة أما في ملاهي أرسطوفان فالآداب لا وجود لها قط؛ وفي الخطب العامة نرى السباب الشخصي هوروح البلاغة. ولقد كان "البرابرة" الذين هذبهم الدهر في مصر وفارس وبابل أرقى من اليونان كثيراً في هذه الناحية. وكانت التحيات عند الالتقاء ودية قلبية ولكنها بسيطة، فلم يكن فيها انحناءات لأن هذا كان يظهر للمواطنين بقية من بقايا الملكية البائدة. وكان السلام باليد مقصوراً على الحلف أوالوداع؛ أما التحية العادية فلم تكن تزيد على قولهم "ابتهج" (Chaire) تتبعها كما تتبعها عند غيرهم إشارة طريفة إلى الجو(37).

وقل إكرام الضيوف بعد أيام هومر لأن الأسفار أصبحت آمن بعض الشيء مما كانت في ذلك الوقت، ولأن النزل كانت تقدم الطعام والمأوى للمسافرين؛ غير حتى كرم الضيافة ظل مع ذلك من فضائل الأثينيين البارزة. وكانوا يرحبون بالغرباء ولولم يقدمهم إليهم أحد؛ فإذا اتى الغريب بخطاب من صديق له ولمن اتى إليه، قدم له الطعام والمأوى، وربما قدمت له عند رحيله بعض الهدايا. وكان من حق الضيف المدعوإلى طعام حتى يصحب معه ضيفاً غير مدعو. وكانت حرية الدخول إلى منازل الغير سبباً في قيام طائفة من الطفيليين على مر الأيام. وكانت الحدثة المستعملة في هذا المعنى Paraisitoi تطلق في الأصل على الكهنة الذين يأكلون "الحب الباقي" من مقررات المعابد. وكان الأغنياء أسخياء في عطائهم الخاص والعام. وكانت عادة العطف على الإنسانية عادة اليونان عملاً واسماً، واللفظ الذي يطلق عليها Philanthropy من أصل يوناني. وكان التصدق - Charitas أي الحب - من طباعهم، وكان لديهم هيئات للعناية بالغرباء والسقمى، والفقراء، والطاعنين في السن(38). وكانت الحكومة تقرر معاشات للجرحى من الجنود وتربي أيتام الحرب على نفقة الدولة؛ ولما حل القرن الرابع قبل الميلاد قررت مرتبات للعمال العاجزين عن العمل(39). وكانت الدولة تدفع في أوقات الجدب، والحرب، وغيرها من الأزمات إعانة يومية قدرها أبولتان (34slash100 من الريال الأمريكي) للمحتاجين، تضاف إلى ما كانت تعطيه كلاً منهم لحضور الجلسات الجمعية، والمحاكم، ومشاهدة التمثيل. ولم تكن هذه الإعانات تخلومن الفضائح المعتادة، فهاهوذا ليسياس يذكر في خطبة له رجلاً يتقاضى إعانة من الأموال العامة، مع حتى له أصدقاء من الأغنياء، ويكسب مالاً من عمله اليدوي، ويركب الخيل للرياضة(40).

ومن الممكن أنك كنت إذا سألت اليوناني نطق لك: إذا الأمانة أحسن سياسة، ولكنه كان في حياته العملية يجرب جميع الوسائل الأخرى أولاً. فترى المغنين في مسرحية فلكتيتس Fhiloctetes لسفكل يظهرون أعظم العطف على الجندي الجريح الذي تخلى عنه رفقاؤه، ثم ينتهزون فرصة غفوته فيشيرون على نيوبتلموس Neoptolemus حتى يغدر به ويسرق سلاحه، ويهجره بعدئذ لمصيره. وكان جميع الناس يشكون من حتى بائع الأشتات الأثيني يغش بضاعته، ويخسر الكيل والميزان، وينقص ما بقي للمشتري من نقود على الرغم من مفتشي الحكومة، ويحول مرتكز الميزان نحوالكفة التي بها الموزون(40أ)، ويكذب حدثا سنحت له الفرصة؛ وهومتهم بأخذ الوذم من الكلاب(41). ويطلق محرر مسرحي هزلي على بائعي السمك اسم "السفاحين" ويسميهم محرر أرحم بهم منه "لصوصاً" (42). ولم يكن رجال السياسة خيراً من هؤلاء كثيراً؛ فلا نكاد نرى رجلاً ذا شأن في الحياة الأثينية العامة لم يتهم بالالتواء(43)، وإذا عثر فيهم رجل شريف مثل أرستيدبز عد من خوارق الطبيعة، يكاد يبلغ حد البشاعة، وحتى ديوجين نفسه بمصباحه الذي يسير به في النهار يعجز عن حتى يعثر على رجل آخر شريف. ويقول توكيديدز إذا الرجال كانوا أكثر حرصاً على حتى يوصفوا بالحذق من حتى يوصفوا بالأمانة، ويظنون حتى الأمانة هي السذاجة(44). وكان من أيسر الأمور حتى تجد اليونان يخونون وطنهم. وفي ذلك يقول بوزنياس: "لم يكن ينقص بلاد اليونان في أي وقت من الأوقات رجال مصابون بهذا الداء داء الخيانة"(45). وكانت الرشوة هي السبيل المألوفة للرقي، ولفرار المجرمين من العقاب، ولنيل المطالب الدبلوماسية. وحصل بركليز على مبالغ طائلة من المال للخدمات السرية، وأكبر الظن أنه استخدمها لتيسير مسببات المفاوضات الدولية. وكانت المبادئ الأخلاقية قبلية الطابع إلى أقصى حد، وينصح زنوفون في رسالة له في التربية بالالتاتى الصريح إلى الكذب والسرقة في معاملة أعداء البلاد(46). ويدافع الرسل الأثينيون الذين وفدوا إلى إسبارطة في عام 432 عن إمبراطوريتهم بتلك العبارات الصريحة: "لقد كان القانون السائد على الدوام حتى يخضع القوي للضعيف...ولم يسمح أحد بأن تقف المطالبة بالعدالة في سبيل المطامع إذا لاحت للتخلص فرصة كسب شيء ما قوة

واقتداراً"(47). ولا يبعد حتى تكون هذه الفقرة هي وخطب الزعماء الأثينيين في ميلوس(48) من خيال توكيديدز الفلسفي أثارتها أقوال بعض السوفسطائيين الساخرة؛ ومن أجل هذا فإن الحكم على اليونان من أخلاق جورجياس، وكلكليز Callicles، وثرازيماكوس Thrasymachus التي تخالف العهد المألوف لاقد يكون فيه من العدالة أكثر مما في وصف الأوربيين المحدثين بالاستناد إلى أقوال مكيفلي، ورشفوكول، ونتشة، واسترنر Stirner الشاذة الغريبة. ولسنا نحب حتى نقول ماذا في هذا الحكم من عدالة. ومما يشير على حتى اليونان يرون أنهم أرقى من حتى يتقيدوا بهذه القيود الأخلاقية حتى الإسبارطيين لا يترددون في موافقة الأثينيين على هذه الطائفة من نقط الخلاف الأخلاقية. ولما حتى استولى فوبداس Phoebidas اللسديموني على قلعة طيبة غدراً وخيانة على الرغم من معاهدة الصلح المعقودة مع الطيبيين، وسُئل أجسلوس Agesilus ملك إسبارطة عما في هذا العمل من العدالة أجاب بقوله: "لا يناسبك إلا حتى تسأل هل هونافع أوغير نافع، لأن العمل النافع لبلدنا هوالعمل الصالح". وكثيراً ما كانت تُخرق شروط الهدنة، وتُنقض العهود الصريحة، وتُقتل الوفود(49). على أننا نعود فنقول: إذا اليونان قد لا يختلفون عنا إلا في صراحتهم لا في مسلكهم، ذلك حتى تفوقنا عنهم في الرقة يجعلنا نستنكف حتى ندعوجهرة إلى ما نعمل.

ولم يكن للعادة والدين إلا أثر قليل في كبح جماح المنتصرين في الحرب. ولقد كان من الأمور المألوفة، حتى في الحروب الأهلية، حتى تُنهب المدن المفتوحة، وأن يُقتل جميع الجرحى، وأن يُذبح جميع أسرى الحرب أومن يُقبض عليهم من غير المحاربين، أوحتى يُتخذوا عبيداً إذا لم يُفتدوا، وأن تُحرق البيوت، وأشجار الفاكهة، والمحصولات الزراعية، وأن تُباد الحيوانات، وتُتلف البذور لكيلا تُغرس في المستقبل(50). وقد ذبح الإسبارطيون في بداية حرب البلوبونيز جميع من وجدوهم من اليونان في البحر وعاملوهم معاملة الأعداء، سواء من أحلاف أثينة أومن المحايدين(51)، وقتل الإسبارطيون في معركة إيجسبوتامي Aegospotami التي انتهت بها هذه الحرب، ثلاثة آلاف من الأسرى الأثينين(52) - ويكاد هؤلاء حتىقد يكونوا صفوة المواطنين الأثينيين الذين قضت الحرب على الكثيرين منهم. وكانت الحرب من نوع ما - حرب مدينة ضد مدينة، أوطبقة ضد طبقة - هي الحالة المألوفة العادية في بلاد اليونان. وعلى هذا النحوأخذت هذه البلاد التي هزمت ملك الملوك يقاتل بعضها بعضاً، فيلقى اليوناني اليوناني في ألف مسقطة، ولم يكد يمضي قرن واحد على معركة ماراثون حتى أخذت الحضارة اليونانية، وهي أزهى حضارات التاريخ على الإطلاق، تفني نفسها بهذا الانتحار القومي الطويل الأمد.


الطباع

إذا كان هؤلاء الأقوام المتخاصمون الطائشون لا يزالون يخلبون عقولنا ويستدرون عطفنا، فما ذلك إلا لأنهم يسترون خطاياهم وعيوبهم المكشوفة بما طبعوا عليه من قوة المغامرة والذكاء التي تبعث البهجة في النفوس. لقد كان قرب البحر من الأثينيين، وما أتاحه لهم هذا القرب من فرص تجارية نادرة، وحرصهم على الحرية في حياتهم الاقتصادية والسياسية، مما جعل الأثيني إنساناً مرن العقل والطبع، سريع التهيج والحساسية إلى أقصى حد. ألا ما أعظم ما يتبينه الإنسان من تغير الطباع حين ينتقل من الشرق إلى أوربا، فهوينتقل من الأصقاع الجنوبية الوسنانة إلى أنطقيم وسطى في شتائها من البرودة ما يكفي لبعث النشاط دون ركود، وفي صيفها من الدفء ما يطلق القوى دون حتى يضعف الجسم والروح. هناقد يكون الإيمان بالحياة وبالإنسان، والتحمس للحياة تحمساً لا نجد له نظيراً قبل عصر النهضة.

من هذا الوسط المنبه المنشط تنبعث الشجاعة وتنبعث الثورة العاطفية البعيدة جميع البعد عن فضيلة ضبط النفس (Saphrosyne) التي يدعوإليها الفلاسفة دون جدوى، وعن الرصانة التي يعزوها الشاب ونحدثان Winckelmann والشيخ جوته إلى اليونان العاطفيين القلقين. ليست المثل العليا لأية أمة من الأمم عادة إلا ستاراً يخفي عن الأعين الفاحصة حقيقة أمرها، ولذلك فإن الواجب يقضي بألا تعد من الحقائق التاريخية. إذا الشجاعة والاعتدال - أوالرجولة (Andreia) وعدم الإفراط في شيء ما (Meden agan) إذا شئت الألفاظ التي نقشت على جدران معبد دلفي - شعار اليوناني؛ وهويحقق أولهما في كثير من الأحوال أما ثانيهما فلا يحققه من اليونان إلا الفلاحون، والفلاسفة، والقديسون. أما الأثيني العادي فهورجل شهواني ولكنه رجل ذوضمير حي، لا يرى خطيئة في ملاذ الجسم ويجد فيها الجواب العاجل للتشاؤم الذي يخيم عليه في فترات تفكيره. وهومغرم بالخمر ولا يستحي حتى يسكر منها بين الفينة والفينة، ويحب النساء حباً جثمانياً لا يكاد يشعر بأن فيه خطيئة ما، ولا يجد حرجاً في حتى يعفوعن نفسه بعد حتى يرتكب خطيئة الاختلاط الجنسي الشاذ، ولا يرى حتى تنكب طريق الفضيلة كارثة لا يمكن النجاة منها. ولكنه رغم هذا يخفف الخمر بإضافة ثلاثة أقداح من الماء لكل قدحين منها، ويرى حتى تكرار السكر مخالف لمقتضيات الذوق السليم؛ وهويعظم الاعتدال بل يعبده مخلصاً في عبادته إياه، ولكنه قلما يسير عليه في حياته العملية، ويصوغ مبدأ السيطرة على النفس صياغة لا تجاريها في الوضوح صياغة أي شعب آخر في التاريخ لهذا المبدأ السامي. إذا الأثينيين أذكى من حتىقد يكونوا صالحين ويسخرون من البلاهة أكثر مما يمقتون الرذيلة، وليسوا كلهم حكماء؛ وليس لنا حتى نتصور حتى نساءهم كلهن حِسان مثل نسكا Nausica، أوحتى فيهن من مسببات الجلال ما في هلن؛ كما لا يحق لنا حتى نتصور حتى رجالهم يجمعون بين شجاعة أجاكس وحكمة نسطور. لقد حفظ لنا التاريخ أسماء عباقرة اليونان وغفل عن ذكر بلهائهم (عدا نيشياس Nicias)؛ وقد يظهر عصرنا نفسه عظيماً حين ينسى معظمنا، ولا ينجومن هذا النسيان إلا الشوامخ منا. وإذا أخرجنا من حسابنا ما يبعثه قدم العهد في القلوب من عطف وحنان على الأقدمين، بقي حتى نقول إذا الأثيني العادي لا يقل دهاء عن الشرقي، ولا يقل شغفاً بالجدة عن الأمريكي، متشوف طلعة على الدوام، لا ينبتر عن الحركة والانتنطق، ولا ينفك ينادي بالهدوء البرمنيدي ، ولكنه مضطرب مهتاج مثل هرقليطس. ولم يكن لشعب قبل الأثينيين ما كان لهم من قوة الخيال أوفصاحة اللسان؛ ولقد كان التفكير الواضح والتعبير الخالي من الغموض يبدوان للأثيني من الصفات القدسية، فلم يكن يطيق التشويش والارتباك الفهمي، ويرى حتى الحديث الدقيق القائم على الفهم والذكاء أرقى متع الحضارة. ولقد كان سبب ما امتاز به التفكير وما امتازت به الحياة من غزارة وقوة، حتى اليوناني كان يرى حتى الإنسان هوالمقياس الذي تقدَّر به الأمور جميعها؛ فالأثيني المتفهم يعشق العقل، وقلما كان يشك في قدرته على إدراك العالم وتصويره؛ وكان حب الفهم والرغبة في الفهم أنبل عواطفه وأعظم مشتهياته؛ وكان شغفه بهما شغفاً مسرفاً قوياً كشغفه بغيرهما. ولقد كشف فيما بعد حتى للعقل الإنساني والجهود البشرية حدوداً يقفان عندها ولا يتخطيانها، وكان من الطبيعي حتىقد يكون رد العمل المترتب على هذا الكشف حتى تنتابه حالة من التشاؤم عجيبة لا تتفق قط مع بهجته ومرحه. وحتى في العصر الذي بلغ فيه إنتاجه الفكري غايته، كانت آراء أعمق مفكريه - وهم كتاب المسرحيات لا الفلاسفة - تشوبها عقيدته في حتى بهجة الحياة خداعة قصيرة الأجل، وأن الموت رابض له متربص به.

وكانت روح البحث هي التي أنشأت علوم اليونان، كما كان الحرص على الاستحواذ منشأ حياتهم الاقتصادية والعامل المسيطر عليها. وفي هذا المعنى الأخير يقول أفلاطون مبالغاً كعادة فهماء الأخلاق: "إن حب الثراء يستحوذ جميع الاستحواذ على قلوب الرجال، فلا يفكرون إلا في أملاكهم الخاصة، التي تتعلق بها نفس جميع مواطن"(53). فالأثينيون في حقيقة أمرهم حيوانات متنافسة، وبهذه المنافسة القاتلة التي لا هوادة فيها ولا رحمة، يحفز بعضهم همم بعض. وهم على جانب كبير من الذكاء، ولا يقلون دهاءً واحتيالاً عن الساميين، وهم صلاب الرأي صلابة العبرانيين كما وصفتهم التوراة، وهم مثلهم مشاكسون، معاندون، متكبرون، كثيرواللجاج والمساومة في البيع والشراء، لا يهجرون نقطة في حديثهم من غير جدل ومناقشة؛ إذا عجزوا عن محاربة غيرهم من الأمم تحاربوا فيما بينهم. وليسوا على جانب كبير من رقة العواطف، يعيبون على يوربديز دموعه في مسرحياته، يشفقون على الحيوان ويقسون على الإنسان: فهم يعذبون العبيد دون ذنب، ويخيل إلى من يراهم أنهم ينامون ملء جفونهم بعد حتى يذبحوا جميع من في المدينة من غير المحاربين، ولكنهم مع ذلك يكرمون العاجز والفقير؛ ودليلنا على ذلك أنه لما فهمت الجمعية حتى حفيدة أرستجيتون Aristogeiton قاتل الطغاة تعيش في لمنوس فقيرة معدمة، أمدتها بالمال ليكون لها بائنة ولتحصل به على زوج لها. وكان المظلومون المضطهدون من المدن الأخرى يجدون في أثينة ملجأ يحميهم ويعطف عليهم.

والحق حتى الأثيني لم يكن يفكر في الأخلاق كما نفكر فيها نحن الآن. فهولا يأمل حتىقد يكون له ما للصالحين من أفراد الطبقة الوسطى من ضمير، أوما للأشراف من شعور بالشرف، بل يرى حتى أحسن الحياة هي الحياة الكاملة، المليئة بالصحة، والقوة، والجمال، والانفعال، والثراء، والمغامرة، والتفكير. والفضيلة عنده هي الرجولة (Arete) - أوالحربية كما كان معنى اللفظ في بادئ الأمر - والتفوق (Ares أي المريخ)، وهي تقابل بالضبط حدثة Viritus عند الرومان ومعناها الرجولة. والرجل المثالي عند الأثينيين هوالكلوجاثوس Kalogathos أي الذي يجمع بين الجمال والعدالة في فن من فنون العيش الراقية، والذي يقدر في صراحة قيمة الكفاية، والشهرة، والثراء، والصداقة، كما يقدر الفضيلة وحب الإنسانية. ويرى الأثيني كما يرى جوته حتى ترقية النفس هي جميع شيء. ويختلط بهذا المبدأ عنده قدر من الغرور لا نستسيغه نحن لصراحته: فاليونان لا يملون الإعجاب بأنفسهم، ويعلنون في جميع مقام تفوقهم على غيرهم من المحاربين، والكتاب، والفنانين، والشعوب بأسرها. وإذا شئنا حتى نعهد الفرق بين اليونان والرومان فما علينا إلا حتى نوازن بين الفرنسيين والإنجليز، وإذا أحببنا حتى نحس بالروح الإسبارطية وندرك الفرق بينها وبين الروح الأثينية فما علينا إلا حتى نفكر في روح الألمان وروح الفرنسيين.

وقد اجتمعت صفات الأثينيين كلها لتقيم دولة - المدينة؛ ففيها ولدت قوتهم وشجاعتهم، وحدة ذكائهم وألمعيتهم، وشقشقة لسانهم، وشدة مراسهم، ومحبتهم للكسب، وشدة غرورهم، ووطنيتهم، وعبادتهم للجمال والحرية؛ وفي دولة المدينة اجتمعت هذه الصفات كلها وبلغت غايتها. وهم سريعوالانفعال ولكنهم لا يميلون كثيراً مع الهوى. ويجيزون التعصب الديني من آن إلى آن، غير أنهم لا يتخذونه وسيلة للحد من حرية الفكر، بل يتخذونه سلاحاً من أسلحة السياسة الحزبية، ورباطاً لتجاربهم الأخلافية. أما فيما عدا هاتين الحالتين، فهم يستمسكون بقدر من الحرية، يندهش منه زائريهم الشرقيون ويبدوفي نظرهم الفوضى بعينها. ولكن حريتهم هذه، وكون جميع منصب من مناصب الدولة ميسر لكل مواطن وكون جميع مواطن محكوماً تارة وحاكماً تارة أخرى، لكن هذه الأمور هي التي جعلتهم يخصصون نصف حياتهم لخدمة دولتهم. ولم يكن بيتهم إلا المكان الذي ينامون فيه، أما حياتهم فكانوا يقضونها في السوق العامة، وفي الجمعية، والمجلس، والمحاكم، وساحات الأعياد الكبرى والمباريات، وفي مشاهدة المسرحيات التي يمجدون بها مدينتهم وآلهتها. وهم يعترفون بحق الدولة في حتى تجندهم وتستولي على أموالهم متى احتاجت إليهم وإليها. وهم يعفون عن إرهاقها إياهم واستيلائها على أموالهم، لأن عملها هذا يتيح لهم فرصة النماء الإنساني أكبر مما عهده الإنسان في أي عصر من العصور السابقة؛ وهم يحاربون دفاعاً عن مدينتهم لأنها مهد حرياتهم وحارستها. وفي ذلك يقول هيرودوث "وبهذا زاد الأثينيون قوتهم؛ ويتضح جميع الوضوح، من هذا ومن شواهد أخرى كثيرة، حتى الحرية من أعظم النعم. ألست ترى حتى الأثينيين، وهم خاضعون لحكم الطغاة، لمقد يكونوا يفوقون جيرانهم في الشجاعة أدنى تفوق، ولكنهم لم يكادوا يتحررون من نير الطغاة حتى صاروا أشجع الشجعان بلا منازع"(54).


العلاقات الجنسية قبل الزواج

تبدوأثينة إبان مجدها شرقية أكثر منها أوربية في أخلاق أهلها، كما تبدوكذلك في حروفها الهجائية، وقي مقاييسها وموازينها، وسكتها، وملابسها، وموسيقاها، وفلكها، وطقوسها الصوفية. ففي الأخلاق يعترف الرجال والنساء اعترافاً صريحاً بأن العلاقة الجنسية هي أساس الحب، ولذلك لم يكن شراب العشاق الذي تعصره السيدات المشتاقات يقدم للرجال المهملين لأغراض أفلاطونية خالصة. لقد كانوا يطلبون إلى النساء المحترمات حتى يكن عفيفات قبل الزواج؛ أما الرجال غير المتزوجين فلم تكن تفرض على شهواتهم الجنسية، بعد حتى يبلغوا الحلم، إلا القليل من القيود الخلقية. وقد كانت الأعياد الكبرى، وهي دينية في أصلها، صمامات الأمان لما طبعت عليه البشرية من شهوة جنسية مختلطة؛ فكانوا في هذه المناسبات يتغاضون عن التحرر من القيود في العلاقات الجنسية لاعتقادهم حتى هذا ييسر لهم فيما بقي من العام حتى يقتصر جميع منهم على زوجته الوحيدة. ولم يكن الأثينيون يرون حتى في اتصال الشبان بالخليلات من آن إلى آن شيئاً من العار، ولقد كان في وسع المتزوجون أنفسهم حتى يبسطوا حمايتهم على تلك الخليلات، ولا ينالهم لهذا السبب عقاب أخلاقي أكثر من تأنيب زوجاتهم في بيوتهم وشيء قليل من سوء السمعة في المدينة(58). وكانت أثينة تعترف بالبغاء رسمياً وتفرض ضريبة على البغايا.

وأصبح العهر في أثينة، كما أصبح في معظم مدن اليونان، مهنة كثيرة الرواد، ذات فروع مختلفة لكل فرع إخصائيات. وكانت السبيل ميسرة أمام ذات الكفاية للترقي في هذه المهنة كما كانت ميسرة للترقي في غيرها من المهن في تلك المدينة. وكانت أسفل طبقة من العاهرات هي طبقة البرناي pornai ، ويسكن معظم أفرادها في بيرية في مواخير عامة يسهل على الجمهور الاستدلال عليها بصورة قضيب بريابوس المعلقة عليها. وكان رسم الدخول في هذه المواخير أوبلة واحدة، وكان الداخل يجد فيها البنات في أثواب لا تكاد تستر منهن شيئاً، ولذلك يسمين الجمناي (أي العاريات)، وكن يجزن لمن يرون ابتياعهن حتى يختبروهن كما تختبر الكلاب في بيوتها. وكان في وسع الرجل حتى يعقد الصفقة التي يريدها للزمن الذي يبتغيه، ويتفق مع ربة البيت على حتى يستأجر منها بنتاً تعاشره أسبوعاً، أوشهراً، أوسنة. وكانت البنت أحياناً تؤجر بهذه الطريقة لرجلين أوأكثر من رجلين في وقت واحد توزع وقتها بينهم حسب مواردهم المالية(61). وتلي هذه الطبقة عند الأثينيين طبقة العازفات على القيثارة، وأولئك يُستخدمن، كما تستخدم المسامرات في اليابان، في الليالي "الحمراء" يمرحن ويعزفن، ويرقصن رقصاً فنياً أوخليعاً مثيراً للشهوات، ثم يبتن مع مَن يريدهن من الرجال(62). وكانت قليلات من عجائز العاهرات يدرأن عن أنفسهن شر الفاقة بإنشاء مدارس لتدريب تلك البنات العازفات، يفهمنهن كيف من الممكن أن يجملن أنفسهن، ويسترن عيوب أجسامهن، ويسلين الرجال بالعزف على الآلات الموسيقية، كما يفهمنهن كيف من الممكن أن يتصنعن الحب والدلال. وقد حرصت الروايات المتواترة على حتى تحتفظ العاهرات جيلاً بعد جيل، احتفاظ الإنسان بأثمن تراث، بالطرق التي يلهبن بها القلوب، كالتظاهر بالحب بعقل وروية، وإطالة أمده بتصنع الدلال والإباء، والحصول به على أكبر أجر مستطاع(63). لكن بعض العازفات، إذا صدقنا ما نطقه عنهن لوشيان بعد ذلك العصر، كانت لهن قلوب رحيمة رقيقة، وكن يعهدن الحب الحقيقي، ويضحين بأنفسهن من أجل عشاقهن كما ضحت بنفسها كامي Camille. إذا سيرة العاهرة الشريفة سيرة قديمة شابَ قرناها وخلع عليها طول الزمن شيئاً من الجلال والتبجيل.

وكانت أرقى طبقات العاهرات الأثينيات هي طبقة الهتايراي hetairai- ومعناها الحرفي "الرفيقات". ولم تكن هؤلاء الرفيقات مثل طبقة البورناي تتكون في الغالب من نساء شرقيات المولد، بل كانت تتألف في العادة من بنات المواطنين اللاتي سقطن لسبب من الأسباب، أوفررن من العزلة المفروضة على العذارى والنساء الأثينيات. وكن يعشن مستقلات بأنفسهن ويستقبلن في بيوتهن مَن يغوين من العشاق. وكانت كثرتهن سمراوات بطبيعتهن، ولكنهن كن يصبغن شعرهن باللون الأصفر لاعتقادهن حتى الأثينيين يفضلون الشقراوات؛ وكنّ يميزن أنفسهن بلبس أثواب منقوشة بالورد، ولعل هذه الثياب كان يفرضها عليهن القانون(64). وكان بعضهن يحصلن على قدر لا بأس به من التعليم بالقراءة المستقلة من حين إلى حين، وبالاستماع إلى المحاضرات، وكن يسلين روادهن المثقفين بحديثهن المنطوي على قدر من الفهم والثقافة. وقد اشتهرت منهن تاييس Thais وديوتيما Diotima وثارجليا Thargelia، وليونتيوم Leontium، كما اشتهرت أسبازيا، بمناقشاتهن الفلسفية، واشتهرن أحياناً بأسلوبهن الأدبي المصقول(65). وذاعت شهرة الكثيرات منهن بفكاهاتهن الحلوة، وفي الآداب الأثينية لهن مجموعة من المقطوعات الشعرية الفكهة(66).وكانت العاهرات على اختلاف طبقاتهن محرومات من الحقوق المدنية، لا يجوز لهن حتى يدخلن هيكلاً من الهياكل عدا هيكل إلهتهن أفرديتي بندموس Aphrodite Pandenos، ولكن قلة مصطفاة من الهتايراي كانت لهن منزلة عالية في مجالس الرجال الاجتماعية في أثينة، ولم يكن أحد من الرجال يستحي حتى يُرى في صحبتهن، وكان الفلاسفة يتبارون في كسب ودهن، ومن المؤرخين من يروي تاريخهن بنفس الخشوع والإجلال الذي يرويه به بلوتارخ(67).

وبهذه الطرق خلدت بعض أسماءهن. فمن هؤلاء كلبسدرا التي سُميت كذلك لأنها كانت تُخرج عشاقها من عندها بعد ساعات محددة تحصيها بساعة رملية؛ ومنهن ثرجيليا Thargelia متا هاري Mata Hari زمانها، التي خدمت الفرس بأن ضاجعت أكبر عدد مستطاع من ساسة أثينة(68)؛ وثيوريس Theoris التي خففت عن سفكليز متاعب شيخوخته، وأرشبي Archippe التي خلفتها في هذا العمل حوالي العقد التاسع من حياة هذا الكتاب المسرحي(69)؛ ومنهن أركيانسا Archeanassa التي كانت تُسلي أفلاطون(70)، وداني Danae وليونتيوم Leontium اللتين فهمتا أبيقور فلسفة اللذة؛ ومنهن تمستونوئي Themistonoe التي ظلت تمارس مهنتها حتى فقدت آخر سن من أسنانها وآخر خصلة من شعرها؛ ومنهن ناثينا Gnathaena التي كانت تطلب ألف درخمة (ألف ريال أمريكي) ثمناً لمضاجعة ابنتها ليلة واحدة، لأنها قضت وقتاً طويلاً في تدريبها وإعدادها لمهنتها(71). وكان جمال فريني Phryne حديث أثينة كلها في القرن الرابع، وذلك لأنها لم تكن تظهر أمام الناس إلا وهي محجبة من رأسها إلى قدميها، ولكنها في عيدي إلوزيا وبسدونيا تخلع ثيابها أمام الناس كلهم وتسدل شعرها على جسمها وتنزل البحر لتستحم(72)، وقد عشقت بركستيليز المَثال؛ ووقفت أمامه لينحت على صورتها تماثيل أفرديتي. وعلى صورتها أيضاً نحت أبليز تمثال أفرديني أناديوموني Aphrodite Andeyomone (73).وأثرت فريني من عشاقها إثراء أمكنها من حتى تعرض استعدادها لإعادة بناء أسوار طيبة إذا وافق الطيبيون على نقش اسمها على هذه الأسوار، ولكنهم أصروا على رفض هذا العرض. ولعلها تغالت فيما طلبته إلى يوثياس Euthias من أجر لها، فثأر لنفسه منها باتهامها بالإلحاد؛ ولكن أحد أعضاء المحكمة كان من زبائنها، كما كان هيبريدز الخطيب من عشاقها المفتونين بها، ودافع عنها هيبريدز ولم يستخدم في هذا الدفاع بلاغته فحسب بل شق أمام المحكمة جلبابها وكشف عن صدرها. ونظر القضاة إلى جمالها وبرؤوها من تهمة الإلحاد في الدين(74). ويقول أثينيوس "يبدوحتى لئيس Lais الكورنثية كانت أجمل من أية امرأة سقطت عليها العين"(75). وتتنازع شرف مولدها مدن لا تقل في عددها عن المدن التي تتنازع شرف انتساب هومر إليها. ويتوسل إليها المَثالون والرسامون حتى تقف أمامهم لينحتوا تمثالها أويصوروها، ولكنها تتمنع حياءً وخجلاً، ثم يتغلب عليها ميرون Myron العظيم في شيخوخته فتقبل طلبه؛ حتى إذا خلعت ثيابها نسي وقار شَعْره الأبيض ولحيته وعرض عليها حتى ينزل عن ما يملك إذا أقامت معه ليلة واحدة، فتبسمت ضاحكة من قوله، وهزت كتفيها المستديرتين، وهجرته دون حتى ينحت التمثال. وفي صباح اليوم الثاني اشتد به الوجد، وعادت إليه نشوة المراهقة، فصفف شعره، وحلق لحيته، وارتدى ثوباً قرمزي اللون، وتمنطق بمنطقة مضىية، وتقلد قلادة مضىية، وتختم في جميع أصابعه، وحمر خديه، وعطر ثيابه وجسمه، ثم مضى وهوعلى هذه الصورة يطلب لئيس ويعلن إليها أنه متيم بها. فنظرت إلى صورته الممسوخة وعهدت من هو، ثم أجابته بقولها: "أيها الصديق المسكين، إنك تطلب إلي ما أبيته على أبيك بالأمس"67). وجمعت لئيس من مهنتها ثروة طائلة، ولكنها لم تكن تمنع نفسها عن فقراء العاشقين من ذوي الجمال؛ وقد أعادت دمستين القبيح الصورة إلى الفضيلة، بأن طلبت إليه عشرة آلاف درخمة أجر ليلة واحدة(77). واكتسبت من أرستبس الثري من المال ما أفزع خادمه(78)، أما ديجين المعدم فكانت تسلم نفسها إليه بأقل أجر، لأنها يسرها حتى يجثوالفلاسفة أمام قدميها. وقد أنفقت ثروتها في سخاء في تشييد المعابد والمباني العامة، وعلى الأصدقاء، ثم عادت آخر الأمر، كما يعود معظم من على شاكلتها، فقيرة كما كانت أيام شبابها. وأخذت تمارس مهنتها صابرة إلى آخر أيام حياتها، فلما قضت نحبها أقيم لها قبر فخم تكريماً لها، لأنها كانت أعظم غازية منتصرة عهدها اليونان طول تاريخهم(79).


الصداقة اليونانية

وأعجب من هذا الوفاق بين البغاء والفلسفة اعتراف اليونانيين في غير حياء بالانحراف الجنسي. فلقد كان أكبر من ينافس العاهرات هم غلمان أثينة، وكانت العاهرات اللائي يسربلهن العار من قمة رءوسهن إلى أخمص أقدامهن لا يفتأن ينددن بما في عشق الذكور للذكور من فساد خلقي شنيع. ولقد كان التجار يستوردون الغلمان الحسان ليبيعوهم لمن يدفع فيهم أغلى الأثمان، وكان هؤلاء يُستخدمونهم في أول الأمر لتمضية شهواتهم ثم يتخذونهم فيما بعد أرقاء(80). ولم يكن من بين الذكور في المدينة إلا أقلية ضئيلة تعتقد حتى ثمة عيباً في حتى يثير الشباب المخنثون أبناء الأشراف في المدينة شهوة شيوخها ويشبعوا هذه الشهوة. ولم تكن إسبارطة أقل استهتاراً من أثينة في هذا الشذوذ الجنسي، وشاهد ذلك حتى ألكمان حين أراد حتى يثني على بعض الفتيات سماهن "أصدقاءه - الغلمان الإناث"(81). وكانت الشرائع الأثينية تحرم من يمارس رذيلة اللواط من الحقوق السياسية(82)، ولكن الرأي العام كان يتغاضى عن هذه العادة ويجيزها وهوهازل فكه؛ ولم يكن أهل إسبارطة أوكريت ينظرون إليها نظرة الاستنكار(83)، وكان أهل طيبة يرون أنها معين لا ينضب للشجاعة وحسن النظام العسكري. وكان هرمديوس وأرستجيتون، وهما أعظم بطلين تعتز أثينة بذكراهما، من قتلة الطغاة وعشاق الغلمان. وكان ألسبيديز أحب الناس إلى الشعب الأثيني في أيامه، وكان يفتخر بكثرة من عشقه من الرجال. ولقد ظل "العشاق اليونان" إلى أيام أرسطاطاليس يعلنون ولاءهم لمعشوقيهم عند قبر أيولوس رفيق هرقل(84)؛ ويصف أرستبس زنوفونَ قائدَ الجيوش الذي اشتهر بأنه من أشد رجال العالم صلابة وعناداً، بأنه مشغوف بحب الفتى كلينياس Cleinias(85). وتمثل علاقة الرجل بالغلام، أوالغلام بغلام مثله في بلاد اليونان، جميع مظاهر الغرام الروائي- من عاطفة جياشة، وحب عذري، ونشوة، وغيرة، وعزف وغناء تحت نوافذ المعشوقين، وطول تفكير، وتوجع وأنين، وسهاد طويل(86). وإذا تحدث أفلاطون في الفدروس Phaedrus عن الحب الإنساني، فإما يتحدث عن الحب الجنسي بين الذكران، ويتفق المجادلون في محاوراته في نقطة واحدة - هي حتى حب الرجل للرجل أنبل وأكثر روحانية من حب الرجل للمرأة(87). ونرى هذا الشذوذ نفسه بين النساء، ونراه أحياناً بين أرقاهن مثل سوفوSopho، وكثير بين العاهرات، فالعاهرات المسامرات مثلاً يحب بعضهن بعضاً أكثر من حبهن من يعشن في كنفهن من الرجال، وعاهرات المواخير تُروى عنهن أحب القصص في عشق بعضهن بعضاً(88).

ترى كيف من الممكن أن يفسر الإنسان انتشار هذا الشذوذ الجنسي في بلاد اليونان،يا ترى؟ فأما أرسطاطاليس فيفسره بخوفهم حتى تزدحم بلادهم بالسكان(89)، وقد يحدث هذا سبباً من مسببات هذه الظاهرة، ولكن لا جدال في حتى ثمة علاقة بين انتشار اللواط والنادىرة في أثينة من جهة وعزلة النساء من جهة أخرى. فقد كان الأولاد في أثينة في عصر بركليز يؤخذون من أجنحة الحريم في البيوت حيث تقضي النساء المحصنات حياتهن، وينشئون عادة في صحبة أولاد مثلهم أورجال، وقلما تتاح لهم فرصة في طور تكوينهم وفي الفترة التي لم يشعروا فيها بعد برجولتهم، يدركون فيها جاذبية الحنوالنسوي. كذلك كانت حياة الغلمان الجامعة في إسبارطة، واشتراكهم في الطعام، واجتماعهم في الأسواق العامة، والملاعب الرياضية، وفي مدارس الألعاب في أثينة، وحياة منظمات الشباب، كانت هذه كلها لا يرى فيها الشبان إلا صور الذكور. وحتى الفن نفسه لا يكشف عن الجمال النسوي قبل عهد بركستليز. وقلما كان الرجال في حياتهم الزوجية يجدون في البيوت رفقة عقلية، ذلك بأن عدم انتشار التعليم بين النساء يحدث ثغرة بين الجنسين فيضطر الرجال إلى البحث في خارج البيوت عن مسببات المتعة التي حرموا أزقابلم من الحصول عليها. ولم يكن البيت للمواطن الأثيني حصنه وملجأه، بل كان مكان نومه. وكان في كثير من الحالات يقضي النهار كله من مطلع الشمس إلى مغيبها في المدينة، وقل حتى تكون بينه وبين النساء المحترمات عدا زوجته وبناته أية صلات اجتماعية. لهذا كان المجتمع اليوناني مقصوراً على أحد الجنسين، يعوزه الحيوية، والظرف، والمجاملة، والاستثارة، وهي الصفات التي اكتسبتها من روح النساء وسحرهن إيطاليا في عهد النهضة وفرنسا في عهد الاستنارة.


الحب والزواج

الحب الروائي موجود بين اليونان ولكنه قلماقد يكون سبب الزواج؛ ولسنا نجد إلا القليل منه في شعر هومر حيث يذكر أجممنون وأخيل كريسيس Chryseis، وبريسيس Brisseis، ويذكران أيضاً كسندرا التي لا تستجيب لحبهما في عبارات تنم عن الشهوة الجسمية؛ لكن في سيرة نسكا ما يحذرنا من حتى نعمم هذا الحكم، ودليلنا على هذا ما نجده من القصص التي لا تقل في قدمها عن عصر هومر نفسه مثل سيرة هرقليط وأيولا، وسيرة أورفيوس ويورديس. كذلك يتحدث الشعراء الغنائيون حديثاً طويلاً عن الحب، ويعنون به في العادة الرغبة في إشباع الشهوة؛ والقصص التي تروي أخبار فتيات يمتن من فرط الوجد، كالسيرة التي يرويها استسكورس، نادرة أوتكاد تكون معدومة؛ ولكننا حين نرى ثينوTheano زوجة فيثاغورس تصف الحب بأنه "سقم النفس المشتاقة" (91) نحس بقوة الحب الروائي الحقيقية. ولما زادت مشاعر اليونان رقة وأحلت الشعر مكان حرارة الجسم، كثر ذكر العواطف الشعرية الرقيقة، وأصبح طول الفترة التي تضعها الحضارة بين الرغبة وإشباعها مما يتيح للخيال فرصة يخلع فيها المحاسن على الحبيب المأمول. وقد ظل أيسكلس نفسه هومري النزعة في معاملته للنساء، ولكننا نستمع في سفكل عن "الحب الذي يحكم الآلهة بإرادتها" ، وفي شعر يوربديز مقطوعات كثيرة وصف قوة إروس Eros إله الحب. وكثيراً ما يصف المتأخرون من كتاب المسرحيات شاباً يهم بحب فتاة(93)، ونستشف من أقوال أرسطاطاليس الصفة الحقيقية للعشق الروائي حين يقول إذا "المحبين ينظرون إلى أعين أحبائهم، حين يستكن الخفر"(94) .

وكانت هذه الشئون وأمثالها في عصر اليونان الزاهر تؤدي إلى صلات الجنسين قبل الزواج أكثر مما تؤدي إلى الزواج نفسه. ذلك بأن اليونان كانوا يعدون الحب الروائي صورة من "تقمص الشيطان للجسم" أومن الجنون، وكانوا يسخرون إذا ذكر لهم إنسان أنه وسيلة يهتدي بها إلى اختيار الزوج الصالح أوالصالحة (95). وكان الزواج عادة يتفق عليه والدا الزوجين كما كان يحصل على الدوام في فرنسا القديمة، أوبين خطاب محترفين(96)، أكبر ما يهتمون به فيه البائنات لا الحب. فقد كان يُنتظر من والد الفتاة حتى يهيئ لابنته بائنة من المال، والثياب، والجواهر، ومن العبيد في بعض الأحيان(97).

وكانت هذه البائنة تظل على الدوام ملكاً للزوجة، وتعود إليها إذا افترقت عن زوجها- وهونظام يقلل من احتمال طلاقها منه. فإذا لم يكن للبنت بائنة فقلما تجد لها زوجاً، ومن أجل هذا كان أقاربها يجتمعون ليعدوها لها إذا عجز الوالد نفسه عن إعدادها. وبهذه الطريقة انقلب الزواج بالشراء الذي كان كثير الحدوث في أيام هومر، فصارت المرأة في عهد بركليز هي التي تشتري زوجها؛ ومن هذا الوضع تشكوميديا في إحدى مسرحيات يوربديز. فلم يكن اليوناني إذن يتزوج لأنه يحب، ولا لأنه يرغب في الزواج (فهوكثير التحدث عن متاعبه)، بل ليحافظ على نفسه وعلى الدولة عن طريق زوج اتىته ببائنة مناسبة، وأبناء يردون عن روحه الشرور التي تصيبها إذا لم تجد من يُعنى بها، ولقد كان رغم هذه المغريات كلها يتجنب الزواج ما دام يستطيع تجنبه. ولقد كانت حرفية القانون تحرم عليه حتى يبقى عازباً، ولكن القانون لم يكن ينفذ دائماً في أيام بركليز؛ ولما انقضى عهده زاد عدد العزاب حتى صار معضلة من المشاكل الأساسية في أثينة(99). ألا ما أكثر الأمور التي تدهش الإنسان في بلاد اليونان! وكان الذين يرضون بالزواج من الرجال يتزوجون متأخرين، في سن الثلاثين عادة، ثم يصرون على الزواج من فتيات لا تزيد سنهن على خمسة عشر عاماً(100). وفي ذلك تقول إحدى الشخصيات في مسرحية ليوربديز: "إن زواج الشاب من زوجة شابة شر مستطير ، وسبب ذلك حتى قوة الرجل تظل طويلاً، أما نضرة الجمال فسرعان ما تفارق صورة المرأة"(101).

فإذا ما تم اختيار الزوجة، واتفق على بائنتها، تمت خطبتها رسمياً في بيت والدها، ويجب حتى يحضر هذه الخطبة شهود، ولكن حضور الفتاة نفسها لم يكن ضرورياً. فإذا لم تتم هذه الخطبة الرسمية، لم يعترف القانون الأثيني بالزواج، فكانت الخطبة والحالة هذه هي العمل الأول في مراسم الزواج المعقدة. وكانت المستوى الثانية التي تتبع هذه المستوى الأولى بعد أيام قلائل هي إقامة وليمة بهذه المناسبة في بيت الفتاة. وكان الزوج والزوجة قبل حتى يحضرا هذه الوليمة يستحمان جميع منهما في بيته استحماماً يتطهران به رسمياً، ثم تقام الوليمة ويجلس رجال الأسرتين في جانب من جوانب الحجرة، ونساؤها في جانب آخر، ثم يأكل الجميع كعكة العرس ويشربون الكثير من الخمر، ثم يأخذ العريس بيد عروسه المحجبة ذات الثوب الأبيض- ولعله لم يكن قد رأى وجهها من قبل- ويسير بها إلى عربة تقلها معه إلى بيت أبيه في موكب من الأصدقاء ومن الفتيات العازفات على القيثارة، ويضاء لهما الطريق بالمشاعل، وتنشد لهما أناشيد الزواج. فإذا وصلا إلى البيت حملها وتخطى بها عتبة الدار، كأنه يمثل في ذلك أسرها في العهد القديم، ويحيي أبوا الزوج الفتاة، ويستقبلانها استقبالاً دينياً ويدخلانها في دائرة الأسرة وفي عبادة آلهتها؛ ولم يكن للكاهن دور ما في مراسيم الزواج كلها. ثم يرافق الضيوف الزوجين إلى حجرتهما، وهم ينشدون أنشودة غرفة الزواج، ويتلكؤون صاخبين عند بابها حتى يعلن لهم العريس أنه قد جنى ثمرة الزواج.

وكان في وسع الرجل حتى يتخذ له فضلاً عن زوجته خليلة يعاشرها معاشرة الأزواج. وفي ذلك يقول دمستين: "إنا نتخذ العاهرات للذة، والخليلات لصحة أجسامنا اليومية، والأزواج ليلدن لنا الأبناء الشرعيين ويعنين ببيوتنا عناية تنطوي على الأمانة والإخلاص"(102)، وفي هذه الجملة الواحدة العجيبة جمع دمستين رأي اليونان في المرأة إبان عصرهم المضىي. وتبيح قوانين دراكون التسري، ولما حتى قضت الحروب على العدد الكبير من المواطنين بعد الحملة التي سُيرت على صقلية سنة 415 ق.م، ولم تجد كثيرات من البنات أزواجاً، لهن، أباح القانون صراحة التزوج باثنتين؛ وكان سقراط ويوربديز من بين من استجابوا لهذا الواجب الوطني(103). وكانت الزوجة عادة تقبل التسري وتصبر عليه صبر الشرقيات، لأنها تعهد حتى "الزوجة الثانية" متى فارقتها فتنة جمالها أصبحت في واقع الأمر جارية في المنزل، وأن أبناء الزوجة الأولى دون غيرهم هم الذين يعدون أبناء شرعيين. ولم يكن الزنا يؤدي إلى الطلاق إلا إذا ارتكبته الزوجة، وكان الزوج في هذه الحال يوصف بأنه يحمل قرنين Keroesses ، وكان من واجبه بحكم العادة حتى يخرج زوجته من بيته(104). وكان القانون يعاقب الزانية، والرجل إذا زنى بامرأة متزوجة، بالإعدام؛ ولكن اليونان بلغوا من التساهل في الأمور الجنسية حداً يمنعهم من التشدد في تطبيق حكم هذا القانون، فكان عادة يهجر للزوج المعتدى عليه حتى يأخذ بحقه من الزاني بالكيفية التي يختارها- فتارة يقتله في حالة التلبس، وتارة يرسل له عبداً يقتله، وتارة يكتفي بأن يأخذ منه تعويضاً مالياً(105).

وكان من السهل على الرجل حتى يطلق زوجته، وكان في وسعه حتى يطردها من بيته متى شاء من غير حتى يبدي لذلك سبباً. وكانوا يرون عقم الزوجة سبباً كافياً لطلاقها، لأن الغرض من الزواج عندهم هوإنجاب الأبناء. أما إذا كان الرجل نفسه عقيماً فقد كان القانون يجيز، والرأي العام يحبذ، حتى يستعين الزوج في هذه المهمة بأحد أقربائه. وكان الطفل الذي يولد نتيجة لهذا الاتصال ينسب للزوج نفسه، وعليه حتى يعنى بروحه بعد وفاته. ولم يكن يباح للزوجة حتى تهجر زوجها متى شاءت، ولكن كان في وسعها حتى تطلب إلى الأركون حتى يطلقها من زوجها إذا قسا عليها أوتجاوز حد الاعتدال في شئونه(106). وكان الطلاق يباح أيضاً إذا تراضى الزوجان، وكان هذا التراضي يعبر عنه عادة بإعلانه رسمياً إلى الأركون. وإذا افترق الزوجان بقي الأطفال مع أبيهم حتى إذا ثبت الزنا عليه(107). وجملة القول حتى العادات والشريعة الأثينية فيما يختص بالعلاقات بين الرجال والنساء كانت كلها من خلق الرجال، وهي تمثل النكوص عن المستوى الذي وصل إليه المجتمع في مصر وكريت وبلاد اليونان نفسها في عصر هومر، وتميل بالمجتمع الأثيني ناحية الشرق.


المرأة

من الأمور التي لا تقل دهشة الإنسان منها عن دهشته من أي شيء آخر في هذه الحضارة، أنها ازدهرت من غير حتىقد يكون لها عون أوحافز من المرأة. لقد قام عصر الأبطال، بفضل معونة النساء، بجلائل الأعمال، وبهذه المعونة ابتكر عصر الطغاة روائع الشعر الغنائي، ثم اختفت النساء المتزوجات من تاريخ اليونان بين يوم وليلة، كأن الأقدار قد أرادت حتى تدحض حجة القائلين بأن ثمة ارتباطاً بين مستوى الحضارة في بلد ما ومركز المرأة فيه. فبينما نرى المرأة في تاريخ هيرودوت في جميع مكان، إذ لا نراها في تاريخ توكيديدز في أي مكان، وترى الأدب اليوناني من سميندز الأمرجوسي Semonides of Amorgos إلى لوشان يكرر أخطاء النساء تكراراً تشمئز منه النفس، وفي آخر هذا العصر يكرر بلوتارخ الرحيم نفسه قول توكيديدز(108): "يجب حتى يحبس اسم السيدة المصونة في البيت كما يحبس فيه جسمها"(109).

وهذه العزلة النسائية لا وجود لها عند الدوريين، وأكبر الظن أنها اتىت من الشرق الأدنى إلى أيونيا، ثم انتقلت من أيونيا إلى أتكا، فهي جزء من تنطقيد آسية. ولعل لاختفاء نظام التوارث عن طريق الأم، ونشأة الطبقات الوسطى، وسيطرة النظرة التجارية إلى الحياة، لعل لهذه الأمور أثرها في هذا التغيير: ذلك حتى الرجال في هذه الأحوال ينظرون إلى النساء نظرة نفعية، فيجدون أكثر فائدة لهن في البيت. وتتفق الصبغة الشرقية التي اصطبغ بها الزواج اليوناني مع نظام العزلة الأتكية (Attic)، فهذا الزواج يبتر الصلة بين العروس وأقاربها، فتمضى لتعيش عيشة لا تكاد تختلف عن عيشة الخدم في بيت غير بيتها، تعبد فيه آلهة غير آلهتها. ولم يكن في مقدورها حتى تتعاقد على شيء أوحتى تستدين أكثر من مبلغ تافه أوحتى تحمل قضايا أمام المحاكم. ومن شرائع صولون حتى العمل الذي يقوم به إنسان تحت تأئير المرأة عمل باطل قانوناً(110)؛ وإذا توفي الزوج لم ترث زوجته شيئاً من ماله. وحتى العيب الفسيولوجي في أمور التناسل يعد سبباً مشروعاً لإخضاعها للرجل؛ فبينما كان جهل الرجل في الأزمنة البدائية بدوره في أمور التناسل يؤدي إلى حمل شأن المرأة، نرى النظرية السائدة في عصر اليونان الزاهر تحمل من شأن الرجل بتقريرها حتى قوة التناسل يختص بها الرجل وحده، وأن المرأة لا تعدوحتى تكون حاملاً للطفل وسقمعاً له(111). وكان كبر سن الرجل عن المرأة وقت الزواج من مسببات خضوع المرأة، فقد كانت سنه في ذلك الوقت ضعفي سنها، وكان في وسعه إلى حد ما حتى يشكل عقلها حسب آرائه وفلسفته في الحياة. وما من شك في حتى الرجل كان يعهد ما يتمتع به الرجال من حرية في المسائل الجنسية في أثينة فهم تمنعه حتى يجازف بإطلاق الحرية لزوجته أوابنته، فهويختار الحرية لنفسه على حتىقد يكون ثمنها عزلة زوجته أوابنته. ولقد كان في وسعها إذا تحجبت الحجاب اللائق بها، وصحبها من يوثق به، حتى تزور أقاربها وأخصاءها، وأن تشهجر في الاحتفالات الدينية ومنها مشاهدة التمثيل؛ أما فيما عدا هذا فقد كان ينتظر منها حتى تقبع في منزلها، وألا تسمح لأحد حتى يراها من النافذة. وكانت تقضي معظم وقتها في جناح النساء القائم في مؤخرة الدار، ولم يكن يسمح لزائر من الرجال حتى يدخل فيه، كما لم يكن يسمح لها بالظهور إذا كان مع زوجها زائر.

وكانت وهي في البيت تكرَم وتُطاع في جميع ما لا يتعارض مع سلطة زوجها الأبوية. فهي تدبر شئون البيت أوتشرف على تدبيرها؛ وهي تطهوالطعام، وتمشط الصوف وتغزله، وتخيط ثياب الأسرة وتصنع فراشها. ويكاد تعليمها حتىقد يكون مقصوراً على الفنون المنزلية، لأن اليونان كانوا يعتقدون مثل يوربديز حتى ذكاء المرأة يعوقها عن أداء واجباتها(112). وكانت نتيجة ذلك حتى نساء أثينة المحصنات كن أكثر تواضعاً، وأكثر "فتنة" لأزقابلن من مثيلاتهن في إسبارطة، ولكنهن كن في الوقت نفسه أقل منهن ظرفاً ونضوجاً، عاجزات عن حتى يكن رفيقات لأزقابلن، لأن عقول هؤلاء الأزواج قد امتلأت وانصقلت بتجارب الحياة المتنوعة؛ ومن أجل هذا أفاد الأدب اليوناني كثيراً من اليونانيات في القرن السادس ولم يفد شيئاً من نساء أثينة في عصر بركليز.

وقامت في أواخر هذا العصر حركة تهدف إلى تحرير المرأة. فنرى يوربديز يدافع عن النساء في خطب جريئة وغمزات خفيفة، أما أرسطوفان فيسخر منهن بألفاظ وقحة صاخبة. وتنزل النساء إلى الميدان في حركة التحرير ويخترن أقوى سلاح فيبدأن ينافسن الهيتاميراي ويجملن أنفسهن بكل ما يمدهن به تقدم الكيمياء من معونة. وشاهد ذلك سؤال تسأله كليونيكا Cleonica في مسرحية ليسستراتا Lysistrata لأرسطوفان: "أي شيء معقول نستطيع حتى نقوم به نحن النساء،يا ترى؟ إنا لا نستطيع حتى نعمل أكثر من حتى نجلس جماعات بأدهاننا، وأصباغ شفاهنا، وأثوابنا الشفافة وما إلى ذلك"(113). وتصبح أدوار النساء من عام 411 أكثر شأناً في المسرحيات الأثينية مما كانت من قبل، وهي تكشف عن خروج المرأة شيئاً فشيئاً من العزلة التي كانت مفروضة عليها.

على حتى سلطان المرأة الحقيقي على الرجل يظل قائماً في خلال هذا التغيير كله، ويجعل خضوعها للرجل خضوعاً غير حقيقي إلى حد كبير. إذا اشتياق الرجل للمرأة أكثر من اشتياق المرأة للرجل يكسب المرأة في اليونان كما يكسبها في غيرها من البلاد ميزة كبرى عليه. وفي ذلك يقول صمويل جنسن: "سيدي؛ لقد وهبت الطبيعة المرأة من القوة ما لا تستطيع الشرائع حتى تزيد عليه شيئاً"(114) وقد يضاعف من هذه السيادة الطبيعية أحياناً بائنتها الكبيرة، أولسانها السليط، أوحب زوجها لها حباً يجعله خاضعاً ذليلاً لها. وأكثر ما يقوم عليه سلطانها هوجمالها، أوإنجاب الأبناء الظرفاء وتربيتهم، أوانصهار روحها وروح زوجها في بوتقة التجارب والواجبات المشهجرة؛ إلا حتى عصراً يستطيع حتى يصور شخصيات ظريفة مثل أنتجوني، والسستيس، وإفجينيا، وأندرمكي، ويصور بطلات مثل هكيبا، وكسندرا، وميديا، إذا عصراً يستطيع حتى يعمل هذا لا يمكن حتى يجهل أسمى ما في المرأة وأعمق ما فيها. لقد كان الأثيني العادي يحب زوجته، ولم يكن على الدوام يحاول حتى يستر هذا الحب؛ وإن الألواح الجنائزية لتكشف عن حنوالزوج على زوجته وحنوالآباء على أبنائهن في داخل جدران المنزل، وهوفي كلتا الحالتين حنويثير الدهشة. وفي دواوين الشعر اليونانية كثير من الشعر الغزلي الواضح الصريح، ولكن فيه أيضاً كثيراً من المقطوعات الشعرية المؤثرة التي تخاطب بها الرفيقة المحبوبة! انظر مثلاً إلى هذه القبرية: "في هذا الحجر وارى مرثونيز Marethonis نيقوبوليس Nicopolis، وروى صندوقها الرخامي بعبراته، ولكن هذا لم يجده نفعاً. وهل ثمة فائدة تعود على رجل فارقته زوجته، وبقي هووحيداً على ظهر الأرض؟"(115).


المنزل

وكانت الأسرة اليونانية، كالأسرة الهندو- أوروبية بوجه عام، تتكون من الأب والأم، "والزوجة الثانية" أحياناً، ومن بناتهما غير المتزوجات، وأبنائهما، وعبيدهما، وزوجات أبنائهما وأطفالهم، وعبيدهم. وقد بقيت هذه الأسرة إلى آخر تاريخ اليونان أقوى الأنظمة في الحضارة اليونانية، لأنها كانت وحدة الإنتاج الاقتصادي وأداته في الزراعة والصناعة على السواء. وكان للأب في أتكا سلطان واسع في أسرته، ولكنه كان أقل من سلطان الأب في رومة؛ فقد كان في وسعه حتى يعرّض الطفل الحديث الولادة للموت، ويبيع عمل أبنائه القاصرين وبناته غير المتزوجات، ويزوج بناته لمن يشاء، ويختار زوجاً آخر لأرملته بعد وفاته في بعض الظروف المعينة(116). ولكن القانون الأثيني لم يكن يجيز له حتى يبيع أبناءه أنفسهم، وكان جميع ولد من أولاده إذا تزوج يخرج عن سلطان أبيه، وينشئ لنفسه بيتاً خاصاً ويصبح عضواً مستقلاً في العشيرة.

ولم يكن البيت اليوناني على شيء من الفخامة. فقلما كان بناؤه الخارجي يزيد على سور سميك خال من الزينة ذي مدخل ضيق؛ وهوشهادة صامتة على ما كان يكتنف الحياة اليونانية من أخطار. وكانت مادة البناء هي الستُّوق Stucco، واللبِن في معظم الأحيان. وكانت بيوت المدينة تتجمع في شوارع ضيقة، وترتفع في الغالب طابقين، وتكون أحياناً مساكن مستقلة لعدة أسر، ولكن جميع مواطن كان يمتلك في الغالب بيتاً مستقلاً. وظلت المساكن صغيرة في أثينة حتى ضرب ألسبيديز لأهلها مثلاً في الفخامة؛ ذلك حتى النزعة الديمقراطية، يقويها الحذر الأرستقراطي، كانت تحول بين الأهلين وبين التفاهم والتظاهر، وكان تعود الأثيني قضاء أكثر وقته في الهواء الطلق يصرفه عن حتىقد يكون للبيت نفسه من المعنى ومن الإعزاز ما له في المناطق الباردة. وكان لبيت الأثيني الغني في بعض الأحيان مدخل ذوعمد لقاء للشارع، ولكن هذا كان من المظاهر الشاذة النادرة. كذلك كانت النوافذ ترفاً نادر الوجود، وإذا وجدت اقتصرت على الطابق الأعلى، ولم تكن لها ألواح زجاجية، ولكنها كانت تغلق بمصاريع خشبية، أوتكون مشبكة لتحجب أشعة الشمس. وكان الباب الخارجي يتكون عادة من مصراعين يدوران على محورين ينفذان في إسكفة الباب وعتبته. وكان على أبواب الكثير من بيوت الأغنياء مطرقة معدنية تتخذ في أغلب الأحيان صورة حلقة في فم أسد(117). وكان يمتد من مدخل الدار - إلا في دور الفقراء - مسار يؤدي إلى فناء مكشوف يسمى الأول Aule يرصف عادة بالحجارة، ويحيط به أحياناً رواق وعمد، وقد يحدث في وسطه مذبح أوحوض أوكلاهما، مزدان أحياناً بالعمد، ومرصوفة أرضيته بالفسيفساء. ويدخل أكثر الهواء وضوء الشمس إلى البيت من هذا الفناء، لأن أبواب جميع حجراته تفتح فيه، وكان لا بد لمن يريد الدخول من حجرة إلى حجرة حتى يدخل الرواق أوالفناء. وكانت الأسرة تقضي معظم حياتها، وتقوم بأكثر أعمالها، في ظلال الرواق والفناء وخلوتهما.

وكانت الحدائق نادرة في المدينة، وتقتصر على مساحات صغيرة في فناء البيت أوخلفه؛ أما حدائق الريف فكانت أكثر من حدائق المدينة عدداً وأوسع رقعة؛ ولكن قلة الأمطار في الصيف وتكاليف الإرواء قد جعلا الحدائق في أتكا ترفاً لا يستمتع به إلا القليلون. ولم يكن اليوناني العادي مرهف الحس بالطبيعة كروسوRousseau، وكانت جبال بلاده لا تزال من مسببات متاعبه، ولهذا لم تكن في نظره جذابة جميلة، وإن كان شعراء اليونان ينظمون القصائد التي يتغنون فيها بجمال البحر رغم أخطاره الشديدة. ولم تكن الطبيعة تثير عواطفه، بقدر ما كان يتخيله فيها من كائنات روحية، فهويملأ الغابات ومجاري المياه في بلاده بالآلهة والأشباح، وإذا فكر في الطبيعة لم يكن تفكيره في جمال مناظرها، بل في أنها مكان تتنعم فيه أرواح الأبطال الذين قتلوا في الميدان. وهويطلق على جباله وأنهاره أسماء الأرباب الذين يسكنوها، ولا يرسم الطبيعة ذاتها بل يرسم بدلاً منه صوراً رمزية للآلهة التي تبعث فيها الحياة حسب ما تحدثه به ديانته الشعرية، أوينحت لها تماثيل ترمز إلى هذه الآلهة. ولم ينشئ اليوناني لنفسه حديقة أو"جنة" ينعم بها وظل كذلك حتى عادت إليه جيوش الإسكندر بأساليب الفرس ومضىهم. ومع هذا فقد كانت الأزهار محبوبة في بلاد اليونان كما كانت محبوبة في غيرها من البلاد، وكانت الحدائق تنبتها، وبائعات الأزهار تمدهم بها، طوال العام. فكانت الفتيات البائعات يتنقلن من بيت إلى بيت يبعن الورد، والبنفسج، والزنبق، والنرجس، والسوسن، والآس، والليلق، والزعفران، وشقائق النعمان. وكانت النساء يزين شعرهن بالأزهار، والشبان المتأنقون يضعونها خلف آذانهم؛ وكان الرجال والنساء يخرجون في الأعياد وحول رقابهم عقود من الأزهار(118).

وكان البيت من داخله غاية في البساطة. فأما الفقراء فكانت أرض بيوتهم طيناً جف وتصلب، فلما زاد ولج هؤلاء أخذوا يغطون هذه الطبقة الأرضية بالحصباء أويرصفونها بحجارة مستوية، أوببتر منها صغيرة في أرضية من الأسمنت، كما كان أهل الشرق الأدنى يعملون من أقدم الأزمان. وكانوا أحياناً يغطون هذا كله بالحصر أوالأبسطة. وكانت الجدران المقامة من الآجر تطلى بالجص أوبالجير. وكانوا يدفئون أنفسهم على مواقد من نحاس يخرج دخانها من أبواب الحجرات إلى فناء الدار، ولمقد يكونوا يحتاجون إلى هذه التدفئة أكثر من ثلاثة أشهر في العام. وتكاد البيوت حتى تكون خالية من الزينة، ولكن الأغنياء في أواخر القرن الخامس أخذوا يزينون بيوتهم بالأبهاء ذات العمد، وجدرانهم ببتر من الرخام أوبطلاء يجعلها شبيهة بألواح الرخام، ويعلقون على هذه الجدران صوراً ملونة أوبتراً من القماش المزركش، ويحلون سقفها بنقوش على الطراز العربي. وكان الأثاث قليلاً في البيوت العادية - فلم يكن يزيد على بضعة كراسي وصناديق، وقليل من النضد، وسرير. وكانت الوسائد توضع على الكراسي بدل المقاعد المنجدة، ولكن كراسي الأغنياء كانت تزين في بعض الأحيان بنقوش محفورة فيها بعناية فائقة، أوتطعم بالمضى أوبأصداف السلاحف، أوالعاج. وكانت الصناديق تُتخذ أصونة ومقاعد معاً، وكانت النضد صغيرة، تقف عادة على ثلاث أرجل، وهذا هوسبب تسميتها "بالطرابيزات" أي ذات الأرجل الثلاث. وكان يؤتى بها مع الطعام ثم تُحمل بعده، وقلما كانت تُستخدم في غير هذا الغرض، فقد كانوا يخطون على ركبهم. وكانت الأرائك والأسرة من وسائل الزينة المحبوبة، وكانوا يعنون كثيراً بحفرها وتطعيمها. وكانت لهم حشايا ووسائد وأغطية للفرش مطرزة ووسائد للرأس مرتفعة. وكانت المصابيح تعلق من السقف أوتوضع على قواعد، أوتتخذ شكل مشاعل جميلة النقش.

وكان المطبخ مجهزاً بكثير من الأواني المتنوعة المصنوعة من الحديد، والبرنز، والخزف. أما الزجاج فكان من مواد الترف النادرة، ولم يكن يصنع في بلاد اليونان. وكان الطعام يُطهى فوق نار في العراء، أما المواقد فكانت بدعة اخترعت في البلاد التي اصطبغت بالصبغة اليونانية. وكانت الوجبات الأثينية بسيطة مثلها في ذلك مثل الوجبات الإسبارطية، وتختلف كثيراً عن الوجبات البؤوتية، والكورنثية، والصقلية؛ فإذا كان الأثينيون ينتظرون قدوم ضيف يريدون تكريمه استخدموا في العادة طاهياً محترفاً، وكان دائماً من الرجال. وكان الطهوفناً راقياً ألفت فيه كثير من الخط واشتهر به كثير من الأبطال، فمن الطهاة اليونان من لا تقل شهرتهم لدينا عن شهرة آخر الأبطال الفائزين في الألعاب الأولمبية. وكان الأثينيون يعدون من يأكل منهم بمفرده جلفاً غير مهذب، وكانت آداب المائدة عندهم دليلاً على ارتقاء الحضارة. وكان الأولاد والنساء يجلسون حول موائد صغيرة، أما الرجال فكانوا يتكئون على آرائك تتسع الواحدة لرجلين. وكانت الأسرة تأكل مجتمعة إذا لم يكن عندها غرباء؛ فإذا كان لديها ضيوف من الرجال انسحبت نساء الأسرة إلى جناح الحريم. وكان الخدم يخلعون نعال الضيوف أويغسلون لهم أقدامهم قبل حتى يتكئوا على الآرائك ويقدمون لهم الماء ليغسلوا به أيديهم، وكانوا في بعض الأحيان يدهنون لهم رؤوسهم بالزيوت المعطرة؛ ولمقد يكونوا يستخدمون السكاكين أوالشوك، ولكنهم كانوا يستخدمون الملاعق، ويتناولون الطعام اليابس بالأصابع. وكانوا في أثناء الطعام ينظفون أصابعهم بلقيمات من الخبز، ويغسلونها بعدئذ بالماء. وكان الخدم يملئون قدح جميع ضيف قبل تناول الحلوى من آنية تحتوي على خمر مخفف بالماء. وكانت الصحاف من الخزف، ثم ظهرت الصحاف الفضية في آخر القرن الخامس، وبدأ المتأنقون في الطعام والشراب يزداد عددهم في القرن الرابع؛ ومن هؤلاء رجل يدعى بيثلس Pithyllus خلق للسانه وأصابعه أغطية يستطيع بها حتى يأكل الطعام مهما كانت حرارته(119). وكان منهم بعض من يقتصرون على الخضر، وكان ضيوف هؤلاء يسخرون منهم ويشكون كعادة الضيوف مع أمثالهم. من ذلك قول أحدهم: "إنهُ هرب من وليمة لا تقدم فيها إلا الخضر خشية حتى تكون حلواها هي الدريس"(120). ولم يكن الشراب أقل شأناً عندهم من الطعام، فكان الغذاء (الديبنون Deipnon) يتلوه الشراب الجماعي Symposion، وكان في إسبارطة وأثينة أندية للشراب تتوثق العلاقة بين أعضائها توثقاً تصبح معه هذه الأندية أدوات سياسية عظيمة القوة.

وكانت الإجراءات التي تتبع في الولائم كثيرة التعقيد، وكان الفلاسفة أمثال زنوكراتس Xenocrates وأرسطاطاليس يرون أنه يحسن بهم حتى يضعوا لها قوانين(121).

وكانت الأرض التي يلقى عليها ما لا يؤكل من الطعام تنظف بعد الانتهاء من تناوله، ويطوف عليهم الخدم بالروائح العطرية والخمر الكثير. ثم يرقص الضيوف إذا شاءوا، ولكنهم لمقد يكونوا يرقصون أزواجاً أومع النساء (لأن الرجال وحدهم هم الذين كانوا يدعون عادة إلى الولائم) بل جماعات؛ أوكانوا يلعبون ألعاباً كالكتوموس ، أويتقارضون الشِعر، أويتبادلون المدح، أوالألغاز، أويشاهدون ألعاباً يقوم بها رجال محترفون ونساء محترفات، كالبهلوانة التي يحدثنا عنها زنوفون في "منطقاته الدورية" والتي تقذف اثني عشر طوقاً دفعة واحدة ثم ترقص رسيرة الانقلاب في الهواء في داخل طوق "أحيط من جميع جوانبه بالسيوف القائمة"(122).وكان يحدث أحياناً حتى تظهر أمام الضيوف بنات يعزفن على القيثارات، ويغنين، ويرقصن، ويغازلن غزلاً دُبر أمره من قبل. وكان الأثينيون المتفهمون يفضلون عن هذا حتى يجتمعوا ليتناقشوا نقاشاً ينظمه لهم رئيس منهم يختارونه بقذف النرد. وكان الضيوف يحرصون على ألا ينقسم المجلس إلى طوائف صغيرة لأن معنى هذا الانقسام في العادة حتى جميع طائفة تتحدث مستقلة، بل كانوا يحرصون على حتىقد يكون الحديث عاماً، وكانوا يصغون إلى جميع متحدث إذا اتى دوره بالأدب واللطف الذي يسمح به ما هم فيه من مرح. وما من شك في حتى الحديث الظريف الذي يقصه علينا أفلاطون من نسيج خيال هذا الفيلسوف النابه؛ ولكن أكبر الظن حتى أثينة قد شهدت محاورات لا تقل حيوية عن محاورات أفلاطون، وسواء كان ذلك أولم يكن فإن المجتمع الأثيني هوالذي أوحى إلى أفلاطون بمحاوراته، وهذا المجتمع هومرجعها وموضوعها. وفي وسط هذا الجوالمنعش المنبه جوالنابهين الأحرار تكونت العقلية الأثينية.


الشيخوخة

لقد كان اليوناني يحب الحياة ويكره الشيخوخة ويندبها. على حتى هذه الشيخوخة نفسها كان فيها ما يمضى ببعض أحزانها؛ فقد كان يعزي الشيخ الهرم حتى يرى قبل حتى يبلى جسمه حياته الجديدة في صورة أبنائه وأحفاده فيخدع نفسه ويظنه مخلداً، كأنه درهم بال عاد إلى دار الضرب ليصهر ويسك من جديد. لسنا ننكر حتى في تاريخ اليونان أمثلة من إهمال الشباب للشيوخ أوإساءة معاملتهم إهمالاً وإساءة مبعثهما الأثرة الممقوتة، وسبب ذلك حتى المجتمع الأثيني مجتمع تجاري، فردي النزعة، مجدد غير محافظ؛ وكل هذه العوامل تجعله ينزع إلى عدم الشفقة على الشيوخ، لأن احترامهم من خصائص المجتمع الديني المحافظ مثل مجتمع إسبارطة؛ أما الديمقراطية فإن ما فيها من حرية يحل عرى الصلات، ويركز اهتمام الناس بالشباب، ويفضل الجديد على القديم. ولهذا نجد في تاريخ الأثينيين أمثلة عدة لأبناء يستولون على ملك آبائهم في حياتهم، وإن لم يثبت العته على هؤلاء الآباء(123)؛ ولكن سفكليز ينجي نفسه من هذا المصير، ولا يكلفه هذا أكثر من حتى يقرأ للمحكمة التي تنظر في أمره فقرات من آخر مسرحية له. غير حتى الشرائع الأثينية تأمر الأبناء حتى يعولوا آباءهم العجزة أوالطاعنين في السن(124)؛ والرأي العام، الذي يخشاه الناس على الدوام أكثر مما يخشون القانون، يفرض على الشباب حتى يبجلوا الكبار ويتواضعوا أمامهم. ويرى أفلاطون حتى من الأمور المسلم بها حتى يظل الشاب الحسن التربية صامتاً في حضرة الكبار إلا إذا طُلب إليه الكلام(125). وفي الآداب الأثينية صور كثيرة للشباب المتواضع، منها المحاورات الأولى لأفلاطون ومنها منطقات زنوفون الدورية، وفي هذا الأدب قصص مؤثرة عن وفاء الأبناء للآباء، كوفاء أرستيز لأجممنون ووفاء أنتجوني لأوديب. فإذا حانت منية الشيخ حرص الأحياء أشد الحرص على حتى يجنبوا روحه جميع ما يستطيعون حتى يجنبوها من الآلام. فالجسم يجب حتى يدفن أويحرق، وإلا فإن الروح تهيم قلقة مضطربة حول العالم، وتثأر لنفسها من أبناء الشيخ المهملين. فقد تظهر مثلاً في صورة طيف، وتصيب النبات والإنسان بالأمراض والكوارث. وكان إحراق الموتى أكثر انتشاراً في عصر الأبطال ودفنهم أكثر انتشاراً في العصر المضىي. والدفن عادة مأخوذة عن الميسينيين وقد بقيت إلى العصر المسيحي، ويبدوحتى عادة إحراقهم اتىت إلى بلاد اليونان مع الأخيين والدوريين، لأن عاداتهم البدوية لا تمكنهم من حتى يعنوا العناية الواجبة بالقبور. وجملة القول حتى الدفن أوالإحراق واجب يلزم به الأثينيون، وقد بلغ من حرصهم عليه حتى القواد المنتصرين في أرجنوسي قد أعدموا لأن عاصفة حالت بينهم وبين استعادة جثث موتاهم ودفنها.

وأبقت عادات الدفن اليونانية الأساليب القديمة إلى ما بعد عصرها بزمن طويل. من ذلك حتى الجثة كانت تغسل بالماء، وتدهن بالعطور، وتكلل بالأزهار، وتُلبس أحسن ما تستطيع الأسرة حتى تبتاعه لها من الثياب، ثم توضع اُبلة بين أسنانها لتؤديها أجراً لكارون صاحب القارب الأسطوري الذي ينقل الموتى في نهر أستيكس إلى مقرهم الأخير . وتوضع الجثة في تابوت من الفخار أوالخشب. وكان من أمثال اليونان الأقدمين قولهم "إن إحدى قدمي الشخص في التابوت" ويعنون بذلك ما نعنيه نحن بهذا المثل نفسه%=@ويقابل هذا قول عامة مصر "إن رجله في القبر".@ . ويتخذ الحزن على الموتى عدة مظاهر مقررة: منها لبس الثياب السود، وقص الشعر كله أوبعضه ليقدم هدية للميت. وفي اليوم الثالث بعد الموت تحمل الجثة في نعش ويطوف موكب الجنازة بشوارع المدينة، والنساء من خلف الجثة يبكين، ويضربن صدورهن، وقد تُستأجر نادبات محترفات يندبن الميت. وتصب الخمر على التراب الذي يغطي القبر لتروي به روح الميت غليلها، وقد تُذبح بعض الحيوانات لتكون طعاماً لها. ويضع مشيعوا الجنازة على القبر أكاليل من الأزهار أوورق السرو(127)، ثم يعودون إلى منزل الميت ليحتفلوا بالجنازة. وإذ كان من معتقداتهم حتى روح الميت تشهد هذا الاحتفال، فقد كان من عاداتهم المقدسة "ألا يذكروا عن الميت إلا الخير" . وقد كانت هذه العادة منشأ قانون قديم يفرض على الأحياء ألا يذكروا إلا محاسن الموتى، ولعلها هي أيضاً منشأ ما يخط على شواهد القبور من مدح. وكان أبناء الميت يزورون قبور أسلافهم في مواسم معينة، ويقدمون لهم الطعام والشراب. وقد تعهد أهل بلاتية بعد المعركة المسماة باسم مدينتهم والتي اغتال فيها عدد من اليونان من مختلف المدن، تعهدوا حتى يقيموا لجميع الأموات وليمة سنوية، وكانوا لا يزالون يوفون بوعدهم هذا بعد حتى مضت على المعركة ستة قرون كاملة.

وكانت الروح تنفصل من الجسم بعد الموت وتصبح طيفاً غير مادي يسكن في الجحيم. ويستفاد من أقوال هومر حتى الأرواح التي ارتكبت ذنوباً شنيعة أومرقت من الدين هي وحدها التي تعذب في تلك الدار، أما سائر الأرواح بعدئذ، سواء كانت أرواح قديسين أومذنبين، فكان مصيرها كلها حتى تطوف إلى أبد الدهر حول مملكة بلوتوالمظلمة. وقد نشأ في التاريخ اليوناني على تعاقب الأيام اعتقاد حديث بين الطبقات الفقيرة مضمونه حتى الجحيم مكان يكفر فيه المذنبون عن ذنوبهم؛ ويصور إسكلس زيوس وهويحاسب الموتى في ذلك المكان، فيعاقب المذنبين، وإن كان لا يذكر حدثة واحدة عن إثابة الصالحين(129). ولسنا نسمع إلا القليل عن الجزائر المباركة أوالحقول الإليزية مواطن السعادة الأبدية التي ينعم فيها عدد قليل من أرواح الأبطال. فالتفكير فيما ينتظر جميع الأموات من مصير محزن نكد يخيم على الأدب اليوناني ويجعل الحياة اليونانية أقل بهجة وانشراحاً مما يجب حتى تكون عليه الحياة تحت هذه السماء الصافية.


المصادر

  • ول ديورانت. سيرة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود. Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)
تاريخ النشر: 2020-06-04 13:46:51
التصنيفات: Pages with citations using unsupported parameters, فلسفة يونانية كلاسيكية, مدارس وحركات أخلاقية, تاريخ الفلسفة

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

محمد حماقى يتألق بحفله الغنائى بالمملكة العربية السعودية (صور)

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-07 00:21:37
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 68%

السعودية تهزم اليمن بهدفين فى مستهل مشوارها بكأس خليجى 25

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-07 00:21:15
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 54%

المسيح في فلكلور المصريين.. «نور للعالم» - تحقيقات وملفات

المصدر: الوطن - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-07 00:20:31
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 68%

تايوان: ركاب الترانزيت سيدفعون 16 دولارًا رسوم استخدام المطار

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-07 00:21:07
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 58%

الابتزاز للسماح بإلتقاط صور لمعلمة سياحية.. أمن فاس يعتقل أربعة أشخاص

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-07 00:21:02
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 66%

سموحة يعلن التعاقد مع هداف الدوري في صفقة انتقال حر

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-07 00:21:15
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 63%

بعد تعرضه لنزيف حاد.. وفاة وديع نجل المطرب جورج وسوف

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-07 00:21:04
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 63%

يضرب 29 دولة..«إكس بي بي» متحور كورونا الأشد فتكًا يهدد العالم

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-07 00:21:34
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 59%

رومانيا تعلن حالة «التأهب لوباء الانفلونزا» دون فرض أى قيود

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-07 00:21:06
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 56%

رئيس إبشواى يهنئ الأقباط بعيد الميلاد المجيد

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-07 00:21:26
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 58%

التصريح بدفن جثة شاب لقى مصرعه فى حادث سير بالخليفة

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-07 00:21:29
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 60%

موعد إجازة البنوك في مصر والبنك الأهلي يعمل استثنائيًا

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-07 00:21:08
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 58%

مصدر كنسى يكشف آخر مستجدات الحالة الصحية للبابا تواضروس الثانى

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-07 00:21:05
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 62%

تحميل تطبيق المنصة العربية