تقرير اللجنة الخصوصية المنتدبة لمصر (لجنة ملنر)

عودة للموسوعة

تقرير اللجنة الخصوصية المنتدبة لمصر (لجنة ملنر)

تقرير اللجنة الخصوصية المنتدبة لمصر (لجنة ملنر) فيتسعة ديسمبر 1920، منشور من "وزارة الخارجية المصرية، القضية المصرية 1882 - 1954، المطبعة الأميرية بالقاهرة، ص 33 - 92"

المنشور

«"تحقيق مسببات الاضطرابات التي حدثت أخيرا في القطر المصري وتقديم تقرير عن الحالة الحاضرة في تلك البلاد، وعن شكل القانون النظامي الذي يعد تحت الحماية خير دستور لترقية مسببات السلام واليسر والرخاء فيها، ولتوسيع نطاق الحكم الذاتي فيها توسيعا دائم التقدم والترقي، ولحماية المصالح الأجنبية".»

تأليف اللجنة الخصوصية المنتدبة لمصر

الفيكونت ملنر الوزير الأكبر لمستعمرات جلالة الملك (رئيس اللجنة).

السير رنل رود.

الجنرال السير جون مكسويل.

البريجادير جنرال السير أوين توماس، العضوفي البرلمان.

السير سسل ج . ب . هرست من موظفي وزارة الخارجية.

مستر ج . أ . سبندر.

مستر أ . ت . لويد (سكرتير اللجنة).

مستر أ . م . ب. انجرام من موظفي وزارة الخارجية (معاون السكرتير والسكرتير الخصوصي لرئيس اللجنة).

فيتسعة ديسمبر سنة 1920

{{اقتباس|إلى فخامة الإرل كرزن وزير الخارجية.

مولاي اللورد

أعرض على فخامتكم تقرير اللجنة الخصوصية المنتدبة لمصر والتي أنا رئيسها وقد سقط هذا التقرير أعضاء اللجنة كلهم ما عدا الجنرال السيرجون مكسويل الذي اضطر لأسباب صحية حتى يغادر إنجلترا في أوائل شهر نوفمبر، وهونزيل مصر الآن، ولكن أتاني منه الكتاب التالي الذي يعرب فيه عن موافقته على الأمور التي استصوبناها وأوصينا بها في هذا التقرير، وهذا نص كتابه:

"يشق علي حتى أقول لكم أني مراعاة لصحتي وطوعا لأمر الطبيب لي بالسفر إلى الخارج لم يعد في استطاعتي مشاركة اللجنة في تشاورها وتداولها في أمور مصر.

على أني أغتنم هذه الفرصة لأقول إني موافق تمام الموافقة على ما آلت إليه مداولاتها بوجه الإجمال إلى تاريخنا هذا، ومتحد معها في السياسة التي رسمت حدودها في مشروع الاتفاق الذي سلم إلى سعد باشا زغلول في شهر أغسطس الماضي".

ولى الشرف يا مولاي اللورد حتى أكون عبد فخامتكم الخاضع،


ملنر

(1) عمل اللجنة في مصر

كانت حكومة جلالة الملك تفكر في إرسال لجنة خصوصية إلى بر مصر منذ شهر أبريل سنة 1919 لما تفاقم القلق في تلك البلاد حتى ظهر بمظهر العنف والتعدي والإخلال بالنظام، وفى شهر مايوالتالي أعرب حتى لجنة كهذه ستسافر إلى بر مصر برياسة اللورد ملنر في فصل الخريف، فجاهر المصريون الوطنيون بعزمهم على تدبير ما يلزم لمقاطعة تلك اللجنة واشتد عزمهم هذا كثيرا باحتجاج محمد سعيد باشا رئيس الوزارة حينئذ على مجيء اللجنة قبل إمضاء عقد الصلح مع هجريا وازداد ذلك قوة وشدَة بعد استعفاء محمد سعيد باشا إثر إغفال احتجاجه فخلفه وهبه باشا على رياسة الوزارة، وظلت الوزارة الجديدة قابضة على زمام الأحكام مدة إقامتنا كلها بمصر.

واستعفي وهبه باشا بعد ذلك لاعتلال صحته فحل محله توفيق نسيم باشا أحد زملائه في الوزارة وكان وزير الداخلية مدة إقامتنا بمصر. ويعسر على المرء حتى يفي هذين الرئيسين وسائر رفاقهم الوزراء حقهم من المدح والإطراء على ما أبدوا من الشجاعة والغيرة الوطنية باستلامهم منطقيد الأحكام في زمن كانت فيه بلادهم تعاني شدة أزمة كهذه وكانت حياتهم مهددة بخطر دائم. ولا تزال وزارة توفيق نسيم باشا قابضة على زمام الأمور وأعضاؤها هم عين الوزراء الذين كانوا في وزارة وهبه باشا ما خلا وزيرا واحدا؛ فهي كسابقتها في أوصافها: وزارة أعمال مؤلفة من رجال إداريين أكفاء مقيمين على ولاء السلطان، ويديرون الأمور بالاتفاق مع المعتمد السامي البريطاني وليس لوزارتهم صبغة سياسية ولا هي ميالة إلى اتباع خطة مقررة في المسألة التي هي أم المسائل الحالية أي مسألة مستقبل مصر.

فتغير الوزارة في مصر وأحوال أخرى أيضا أخرت سفر اللجنة إلى آخر شهر نوفمبر، ثم بلغنا بورت سعيد في صباح الأحد الموافقسبعة ديسمبر ووصلنا إلى مصر القاهرة بعد الظهر من ذلك اليوم عينه، وكانوا قد اتخذوا جميع الاحتياطات للمحافظة على سلامتنا نظرا إلى روح العداء للجنة الذي اشتد في النفوس بالتحريض والإغراء. فبلغنا الفندق المعدَ لنزولنا فيه من دون حتى يحدث حادث ما.

وفى اليوم التالى ليوم وصولنا قدَمنا اللورد أللنبى كلنا إلى عظمة السلطان فكان ذلك الزيارة الرسمية وإنما تقدمتها زيارة قصيرة قابل فيها عظمته اللورد ملنر لقاءة ودية غير رسمية، وكان ذلك أول حديث من عدة أحاديث جرت لرئيسنا وبعض أعضاء لجنتنا مع عظمته، فكان عظمته يعاملنا فيها دائما بتمام الصداقة ويعرب في أثنائها بصراحة عن رأيه في الحالة السياسية بمصر والحوادث التي حدثت بها في السنوات القليلة الماضية وعن صعوبة مركزه. ولكنه امتنع عن حتى يشير برأى؛ أوحتى يعطى نصيحة في الموضوع الذي انتدبنا له، أي دستور مصر في المستقبل. ولم يحاول قط حتى يدير زمام مداولاتنا أوحتى يؤثر فيها أقل تأثير، وإنما اقتصر على النصح لنا بالتأني في استنتاج النتائج والاحتراس من الفضوليين، ودلنا على بعض من ذوي المقامات الذين يحسن بنا استشارتهم مثل رشدى باشا وعدلي باشا ومحمد سعيد باشا ومظلوم باشا وكلهم من الوزراء السابقين وكان موقفه بإزاء غرض اللجنة موقف الملتزم جانب الحياد.

وقد كان الاحتراس أشد ظهورا من ذلك في الوزراء - وهبه باشا ورفاقه - الذين تعهدنا بهم في حفلة أقامها اللورد أللنبى بدار الحماية في 11 ديسمبر والذين كنا نحن وإياهم على غاية الوداد طول مدة إقامتنا بمصر وكانوا دائما على استعداد لمساعدتنا في بحثنا ولموافاتنا بكل أنواع المعلومات وجمعنا بكل موظف نروم لقاءته. ولم يكن ثمة ريب على الإطلاق في رغبتهم في تمكيننا من انتهاز جميع فرصة تمكننا من فهم نظام الحكومة وكيفية إدارتها لأعمالها ومن الاطلاع على حالة البلاد، ولكنهم كانوا شديدى العناية بهجرنا وشأننا حتى نستنتج النتائج بأنفسنا، ولما طلبنا منهم صريحا حتى يفصحوا لنا عن آرائهم أظهروا عدم رغبتهم في اقتراح شئ من عندهم في المسائل الدستورية الخارجة عن المسائل الإدارية، ولم يظهروا أدنى رغبة في فهم الجهة التي تتجه إليها أفكار اللجنة من جهة حكومة مصر في المستقبل. غير حتى هذا الاحتراس والتمنع اللذين بديا في رجال الحكومة الوطنيين كانا على نقيض ما عمله جمهور الوطنيين والجرائد الوطنية فإنهم أثاروا عواصف الاحتجاج والاستنكار على اللجنة حين وصولها، ولم نكد نقيم أياما بل ساعات في القاهرة حتى رأينا الأدلة الكثيرة على وجود معارضة شديدة لها منظمة لمقاومتها، فان التلغرافات انهالت علينا معلنة عزم مرسليها على الاعتصاب احتجاجا منهم على وجودنا في البلاد وكان كثير من هذه التلغرافات مرسلا من صبيان المدارس وتلامذتها، ولكن تلغرافات أخرى وردت من هيئات عمومية كمجالس المديريات وبعضها من موظفى الحكومة وكثير من النقابات والجماعات المتفاوتة في الأهمية وعظم الشأن. وقد بلغ عدد التلغرافات التي وردت علينا مدة إقامتنا بمصر 1131 تلغرافا كلها من هذا القبيل، ولم يصلنا غير 29 تلغراف تهنئة معظمها من أناس يعهدون بعض رجال اللجنة بأشخاصهم. أما الجرائد الوطنية فكلها ماعدا القليل النادر منها أفرغت جعبتها في القدح والتعريض منادية بأن جميع اعتراف باللجنة يؤوَل بكونه رضى عن الحالة الحاضرة، وأن جميع مصري تكون له علاقة بأعضائها يرتكب جناية خيانة الوطن. واتفقت حدثة معظم الكتاب طبعا لمقتضى ذلك على حتى سعد زغلول باشا المقيم بباريس هوالوكيل الذي أنابه الشعب المصري عنه، فالأولى باللجنة مفاوضته في الأمر. وأضرب صبيان المدارس والمحامون وعمال الترام عن العمل، جميع فريق منهم في دوره وجعلوا يخرجون في مواكب ينضم إليها الصبية من تلامذة المدارس والغوغاء ويطوفون في الشوارع وهم حاملوالأعلام ويصيحون بأعلى أصواتهم بالنادىء على اللجنة وخصوصا اللورد ملنر، ويهتفون بالنادىء لزغلول باشا والاستقلال التام لمصر، ولم تقتصر هذه المظاهرات على الذكور بل شاركتهم فيها الإناث، فإن سيدات مصر القاهرة انتهزن تلك الفرصة فبرزن من خبائهن وركبن المركبات وطفن في الشوارع وهن يرددن ذلك النداء الحربي. وخروج مثل هذه المواكب أمر غير مألوف في بر مصر على الإطلاق، ولكنها كانت حسنة النظام فيما خلا الشغب الذي كان يحدثه صبيان المدارس والرعاع، فلولا النظام البديع الذي حافظ البوليس عليه-وكان رجال العسكرية يساعدونهم أحيانا في حفظه-لخرب الشيء الكثير في مصر، ولسفكت الدماء في شوارعها أيضا، ولكن غاية ما وقع من هذا القبيل تكسير بعض مركبات الترام ولم يقع ضرر يذكر فيما سوى ذلك. وبعد مرور أسبوع أوأسبوعين على وصولنا خف الاضطراب والإخلال بالنظام. على أنه سقط بعض التعدي على جنود من البريطانيين مدة إقامتنا بمصر وحاول المعتدون اغتيال بعض الوزراء ثلاث مرات متوالية فدل ذلك على حتى العنصر المجرم كان لا يزال نشيطا وخصوصا بين فئة من الطلبة والذين على شاكلتهم.

ولا حاجة بنا إلى إطالة الكلام عن ضروب العداوات التي قوبلت اللجنة بها، وأنواع المقاومات للغاية التي اتىت من أجلها، وإنما نذكر حادثتين من هذا القبيل لأنهما تدلان بوجه خاص على قوة التيار الذي كان الجمهور مسوقا به. ففي الأسبوع الثاني من وصولنا أوفد فهماء الجامع الأزهر الذي هومعهد التعليم الديني الإسلامي منشورا إلى المعتمد السامي البريطاني أبانوا فيه حقوق مصر في طلب استقلالها التام وطلبوا خروج البريطانيين من البلاد. وهناك مسببات تحملنا على الاعتقاد حتى الفهماء الذين سقطوا ذلك المنشور لمقد يكونوا يهوون ركوب ذلك المركب السياسي وإنما ركبوه إذعانا لضغط الأساتذة والتلامذة الذين نشطت بينهم الدعوة لمعارضة البريطانيين؛ واشتد بينهم التحريض على ذلك منذ مدة، ثم تلا هذا المنشور-تصريح يشبهه مذيل بأسماء ستة من أمراء بيت محمد علي أقارب السلطان، وقد أوفد في كتاب إلى اللورد ملنر ونشر في الجرائد في الوقت عينه. ولا يبعد حتىقد يكون أولئك الأمراء قد عملوا ذلك لأسباب مختلفة ولكن لا ريب في حتى السبب الأكبر منها هورغبتهم في اكتساب حب الجمهور لهم بانحيازهم إلى حركة طغت على البلاد حينئذ كالسيل الجارف.

وكان أقرب غرض للقائمين بهذه الحركة منع أعضاء اللجنة من الاتصال الودي بوجهاء المصريين الذين ينطقون بلسان أمتهم وأن يفهموا بأنفسهم قيمة الطلب المتواصل "للاستقلال التام" والطعن الدائم على الحماية، فلذلك كان مركز اللجنة دائما تحت مراقبة حراس خفيين من المعارضين، فلم يكن مصري ذوشأن يزورها حتى يبلغ خبره الصحف حالا فتحمل عليه بالإنذار والوعيد كأنه ارتكب جريمة، ثم يقصد ذلك المجرم جماعة من التلامذة إلى منزله ويستفسرون عن سبب سلوكه هذا فينتهى الأمر غالبا بأنه يطنب في صحة تمسكه بالعقيدة الوطنية وتبرئة من الخروج بحدثة عن حدود هذه العقيدة في حديثه مع اللجنة، ولم يشذ عن ذلك إلا واحد أواثنان من ذوى الشجاعة الأدبية الذين أفهموا أولئك الفضوليين حتى لا يتعرضوا لشؤونهم ولا يسألوهم عما لا يعنيهم. وكانوا يستقصون حركات أعضاء اللجنة بمزيد الحرص والدقة ولا سيما متى سافر واحد منا إلى الأرياف، فيرسلون الرسل حالا من مصر ليقتفوا خطواتنا ويسعوا في منعنا من الوصول إلى الأهالى وخصوصا الفلاحين ويدبروا المظاهرات التى يحسبون أنها تؤثر فينا فتوهمنا باتحاد الرأى المصرى وتضامنه حتى لقد أفضت زيارة أحد أعضاء اللجنة لطنطا إلى اضطراب وشغب دام أياما ولم تخمد ناره إلا بيد رجال العسكرية، فعرقلت هذه المظاهرات عملنا طبعا بعض العرقلة، ولكنها قصرت عن بلوغ الغرض الأكبر المقصود منه لأنه يستحيل على المرء ألا يستنتج من هذه الأعمال أنه لوكان المصريون مجمعين حقيقة هذا الإجماع الذى أرادوا حتى يوهمونا بوقوعه لهجرونا وشأننا حتى نتحققه بأنفسنا من الجولات في البلاد بلا عائق ولا مانع.

ولا يظنَّنَ أحد حتى مقاطعة اللجنة التى كان العامل الأكبر فيها الطلبة وصبيان المدارس سقطت مسقط الاستحسان عند المتفهمين عموما، أونالت رضى جميع المتمسكين بالأراء الوطنية الراقية لأن هؤلاء كانوا يرون حتى لقاءة الغرباء بالإعراض والجفاء لا تطابق المجاملة وحسن الضيافة التى يتباهى بها المصريون جميعهم، وزد على ذلك حتى أناسا كثيرين كانوا يودون حتى يفصحوا للجنة عن آرائهم ولكن منعهم من ذلك خوفهم من المضايقة لأشخاصهم والتطاول عليهم ولذلك نطق لنا كثيرون إننا إذا استطعنا حتى نفهم الجمهور حتى من يزور اللجنة فزيارته لا تؤثر في وطنيته بالضرورة فالحائل دون حرية الكلام معنا يزول. وعليه خطنا التصريح التالى ونشر في 29 ديسمبر في الجريدة الرسمية والجرائد الأخرى وهذا نصه:

"اتىت اللجنة البريطانية إلى مصر فأدهشها ما رأته من الاعتقاد الشائع بين الجمهور بأن الغرض من مجيئها هوسلب شئ من الحقوق التى كانت لمصر إلى اليوم. فاللجنة تعلن فساد هذا الاعتقاد، وأنه لا نصيب له من الصحة البتة، وأنها إنما أوفدتها الحكومة البريطانية بموافقة مَجلس نوابها مجلس أعيانها لغرض واحد هوالتوفيق بين أمانى الأمة المصرية وبين ما لبريطانيا العظمى من المصالح الخاصة في مصر مع المحافظة على الحقوق المشروعة التى لجميع الأجانب القاطنين فيها. وإن اللجنة لعلى يقين من أنه إذا توفر حسن النية وصدق الإخلاص بين الجانبين يصبح في الميسور تحقيق هذه الغاية، وإنها لترغب رغبة أكيدة في حتى تكون الصلات بين بريطانيا العظمى ومصر أساسها اتفاق ودى يستأصل جميع سبب للتنافر فيتمكن المصريون من حتى يفرغوا جهدهم في ترقية شؤون بلادهم تحت أنظمة دستورية.

وللوصول إلى هذه الغاية تود اللجنة حتى تقف على آراء الهيئة المشخصة للأمة المصرية وآراء الأشخاص الذين يهتمون اهتماما صادقا بخير بلادهم ويتمكن جميع فرد من إبداء رأيه بغاية الصراحة ونهاية الحرية، إذ ليس من غرض اللجنة تقييد الآراء أوالمناقشة بقيد ما أوحصرها في دائرة مخصوصة؛ وهى تعلن حتى الدخول في المناقشة لا يعتبر اعترافا بمبدأ أوتنازلا عن رأى من قبل اللجنة أومن قبل المناقش لها وأن حرية المناقشة شرط أساسي للنجاح وبغيرها يتعذر حمل سوء الفهم والوصول إلى الاتفاق".

فهذا التصريح أثر بعض التأثير بترا في تخفيف العداوة ولكنه لم يمضى بنفور المصريين إجمالا من الاتصال باللجنة رسميا. فقر رأينا والحالة هذه للوقوف على رأي المصريين حتى نعتمد على أنفسنا في معهدته باغتنام الفرص التي تسنح لكل فرد منا في معاشرته لهم على اختلاف طبقاتهم. ولما كانت هذه الفرص تسنح لنا على الدوام وكان الناس الذين نقابلهم يبدون آراءهم على انفراد معنا بمنتهى الصراحة والبساطة، وكان معظم قادة الرأي المصري من جملتهم تمكنا في الأشهر الثلاثة التي قضيناها في بر مصر من فهم الأفكار والشعور والأميال في العالم المصري وسبر غور المجاري التي تجري فيها بمزيد الدقة.

وقد شغلت أحاديثنا معهم جانبا عظيما من وقتنا، ولكنا كنا ندرس الحالة أيضا من وجهة أخرى مختلفة عن الوجهة الأولى تمام الاختلاف، فإن وزارة الخارجية البريطانية كانت قد عنيت بجمع مجلدات من الأوراق الرسمية التي أعدتها لإرشاد اللجنة، وعلاوة على ذلك كانت لجنة الاستعلامات التي أنشأها المعتمد السامي قد جمعت شيئا كثيرا من البيانات القيمة قبل وصولنا، وكذلك من الآراء المحكمة التي حصلت عليها في مسائل كثيرة من وجهاء الموظفين وسكان القطر غير الموظفين والهيئات الممثلة للأمة. فدرس هذه الآراء وجمعها وبوّبها وحرّرها سكرتير اللجنة الكبتن ب أ. هوبر تحريرا يشهد له بالبراعة استغرق زمنا محسوسا.

وقد كانت مطالعة هذه الأوراق الكثيرة مفيدة لنا جدا، ومع ذلك سعينا في زيادة ما تضمنته من المعلومات باجتماعنا شخصيا بكل من جاز لنا الوقت بلقاءته من أفراد البريطانيين الموظفين وغير الموظفين، وكذلك كبار النزلاء الأجانب الذين لمقد يكونوا يترددون طبعا عن الاتصال الدائم باللجنة جهارا، وكان كبار الموظفين البريطانيين يجودون علينا بشهاداتهم ومشوراتهم حدثا طلبناها منهم في بادئ الأمر، ونحن مدينون لهم بالمساعدة التي ساعدونا بها عن طيب نفس، فقد مكنتنا مساعدتهم من الإحاطة فهما بالحوادث الأخيرة وفحص نظام جميع ديوان من دواوين الحكومة المصرية والمستخدمين فيه فحصا وافيا، وقد قسم هذا العمل على لجينات ألفت من لجنتنا وكانت هذه اللجينات تحمل تقاريرها إلى لجنتنا الأصلية التي اجتمعت كلها معا في جلسة واحدة لسماع آراء أسمى الموظفين البريطانيين وآراء السير وليم برنيات الذي كان قبل ذلك قائما بأعمال المستشار المالي في الحكومة المصرية وكان بمصر القاهرة في أواخر مدة وجودنا فيها وكان المستر (والآن السير سيسل) هرست العضوالقضائي في اللجنة يشهجر معنا في هذه الأعمال على قدر الإمكان ولكنه قضى معظم وقته في تفهم النظام القضائي وخير تعديل يعدل به ليطابق مقتضى الزمان الحالي، وكذلك السير أوين توماس الذي كان يقوم بعمل لجينة من تلك اللجينات ولكنه وجه عنايته خصوصا إلى تفهم الأحوال الزراعية وزار عددا من الأباعد والأملاك التي يخص بعضها الحكومة وبعضها أفراد الناس ليحيط فهما بأساليب الزراعة وبأحوال الناس المعاشية، وقضت اللجنة كلها ماعدا واحدا منها (كان يعمل عملا آخر) أياما من أسبوع في الأسكندرية حيث تيسر لها الاتصال بالجاليات الأجنبية المهمة النازلة بالمركز التجارى العظيم في القطر المصرى، فاطلعنا على آراء الغرف التجارية الفرنسوية والإيطالية واليونانية وآراء الغرفة التجارية البريطانية أيضا، وزار بعض أعضاء اللجنة مراكز أخرى للأشغال والأعمال في الوجهين البحرى والقبلى وأبلغوا رفاقهم بما رأوه فيها فاتىت هذه الزيارات بفوائد ثمينة ودونت في بطون الأوراق رغما عن السعى في منعنا من الاتصال بالأهالى مباشرة كما تقدم.

وزار اثنان منا، وهما الجنرال السيرجون مكسويل والسيرأوين توماس، السودان زيارة استغرقت عدة أسابيع، وعادا منها بمعلومات ثمينة ضممناها إلى المعلومات التى جمعناها من أقوال الذين تمكنا من الاجتماع بهم في مصر القاهرة من البريطانيين والأهالى المقيمين في تلك البلاد.

فهذه الأعمال الكثيرة التى ذكرناها بالإيجاز شغلتنا كلنا في شهرى يناير وفبراير، وفى أواخر فبراير أخذ الوقت الباقى لدينا لإنجاز أبحاثنا يقرب من النهاية لأن جماعة من أعضاء اللجنة كانوا مضطرين حتى يعودوا إلى انكلترا قبل آخر شهر مارس، فجعلنا نعقد الجلسات لتبويب المعلومات التى جمعناها وتنسيقها، ولمقارنة الآراء التى استخلصها جميع منا على حدة بعضها ببعض، فاتضح لنا لأول وهلة أنه يتعذر علينا كتابة تقرير في المدة الباقية لنا بمصر لكثرة المواد المتراكمة لدينا وكثرة المسائل التى تقتضى بحثا دقيقا لاسيما وأن لقاءاتنا بالناس كانت لا تزال تستغرق جانبا كبيرا من وقتنا. فلذلك أرجأنا إعداد تقريرنا إلى ما بعد عودتنا إلى انكلترا. على حتى المناقشات الابتدائية التى جرت بيننا أظهرت أننا مجمعون إجماعا غريبا على بعض الأمور الجوهرية حتى أننا أثبتنا قبل سفرنا من مصر عدة اقتراحات اتفقنا كلنا عليها اتفاقا وقتيا، ولكنا جعلناها بمثابة رءوس أقلام قابلة للتعديل طبقا لما تقتضيه زيادة البحث والمناقشة.

وهذه الاقتراحات تعم دائرة لجنتنا وتحقيقنا كلها وهى أساس تقريرنا الحالى، فيخلق بنا والحالة هذه حتى نراجع حاصل لجاننا في مصر والنتائج التى وصلنا إليها.

(2) النتائج الوقتية التي استنتجناها في مصر

(أ) مسببات الاضطرابات الأخيرة والقلق الحالي

أولا - قبل الحرب:

إن الاضطرابات التى سقطت في شهر مارس سنة 1919 تعاظمت حتى بلغت غايتها بسبب حوادث معينة تتعلق بالحرب ولا يمكن نسبتها على الاطلاق إلى أحوال حديثة أوأحوال جرت في زمانها فقط، لأن السبيل مهد لها قبل حدوثها بزمان طويل.

ويظهر حتى الناس في هذه البلاد كثيرا ما يحسبون فيما يقولونه ويخطونه حتى مصر جزء من الإمبراطورية البريطانية. وهذا لا يطابق الواقع ولم يطابق قط فيما مضى حتى "المركز الخصوصي" الذي تشغله بريطانيا العظمى في مصر يبتدئ تاريخه من يوم توسطها لإعادة النظام مدة الثورة العرابية سنة 1882 بعد ما طلبت من الدول حتى تشهجر معها في ذلك فأبت. فألقى ذلك على عاتق بريطانيا العظمى مسئولية لا يسعها رفضها ولا تستطيع القيام بأعبائها إلا باحتلال تلك البلاد إلى حتى يستتب النظام في البلاد ويثبت إمكان المحافظة عليه وصيانة أرواح الأجانب المقيمين فيها وأموالهم. وكانت الحكومة البريطانية تنوي في ذلك الحين الجلاء عن البلاد حالما تدرك تلك الغاية كما صرحت به جهارا فأوفدت السير هنري در مندولف سنة 1887 إلى الآستانة يمهد لها سبيل الجلاء فوضع اتفاقا مع السلطان وافقت بريطانيا العظمى بمقتضاه على إخراج جنودها من القطر المصري بعد ثلاث سنوات على شرط ألا يجدَ حينئذ خطر خارجي أوداخلي يقتضي إبقاءهم فيه، وأيضا على شرط أنه يحق لها حتى تعود فتحتل البلاد إذا وقع خطر كهذا، ولكن السلطان رفض توقيع هذا الاتفاق في آخر لحظة بسبب التشديد الأجنبي عليه فأخفقت المفاوضات بسبب ذلك.

ومع حتى بريطانيا العظمى بقيت في مصر فهي لم تعمل شيئا في السبع والعشرين سنة التي تلت ذلك بجعل مركزها في مصر شرعيا أويمس النظرية التي من شأنها اعتبار مصر أمة مستقلة استقلالا داخليا تحت سيادة سلطان هجريا، وكانت مصر نظريا تحت حكم الخديوي ومجلس النظار المصريين ومجلس شورى القوانين المصري والجمعية المصرية ولم يكن المعتمد البريطاني اسما غير "وكيل سياسي وقنصل جنرال" يعرب عن آراء حكومته ورغائبها لحكومة مصر كغيره من معتمدي الدول الأخرى. ثم لوجود جيش الاحتلال ولكثرة ما ألقي على عاتقه تدريجيا من الواجبات والمسئوليات بحكم الأحوال أضحى الحكم الحقيقي في البلاد، ومع ذلك كان يعنى أشد العناية باحترام تلك النظرية، وكان المصريون يعدون احترامه لها عربونا يضمن لهم حتى الدولة المحتلة لا تقصد حتى تغض من حالة الحكم الوطني في بلادهم.

وكانت الدول الأجنبية تعده كذلك أيضا، فلما عقد الاتفاق بين إنكلترا وفرنسا سنة 1904 سقط تصريح في لندن هذا نصه:

" تصرح حكومة جلالة الملك البريطانية أنها لا تنوي تغيير حالة مصر السياسية، وتصرح حكومة الجمهورية الفرنسية أنها لا تعرقل عمل بريطانيا العظمى في تلك البلاد إما بطلبها منها تعيين أجل للاحتلال البريطاني أوبغير ذلك".

فهذا الاتفاق كان يفي بقضاء جميع الأغراض لودام السلم في أوروبا، ولكن وقوع الحرب ودخول هجريا فيها إلى جانب العدوأفضيا إلى مسائل صعبة معقدة لأن المصريين كانوا حكما رعية سلطان هجريا ويدينون له لا للتاج البريطاني فهذه حالة لا يمكن احتمالها كما لا يخفى، ولكن مجرد إلغاء السيادة الهجرية بداعى الحرب كان يحرم مصر من جميع حالة سياسية معينة ويهجرها بين يدى بريطانيا العظمى كبلاد من البلدان التابعة لهجريا، وحينئذ كان يسهل على بريطانيا العظمى حل هذا الإشكال بضم مصر إلى الامبراطورية البريطانية، ولكن الحكومة البريطانية اختارت عمدا سبيلا أرق من هذا به تنال مصر الأمن ويبقى مبدأ الوحدة القومية المصرية غير ممسوس وذلك ببسط حماية بريطانيا العظمى عليها، وعليه صدر المنشور التالى في الوقائع الرسمية في 18 ديسمبر سنة 1914:

"يعلن وزير الخارجية لدى جلالة ملك بريطانيا العظمى أنه بالنظر إلى حالة الحرب التى سببها عمل هجريا قد وضعتَ مصر تحت حماية جلالته وأصبحت من الآن فصاعدا من البلاد المشمولة بالحماية البريطانية.

وبذلك زالت سيادة هجريا على مصر وستتخذ حكومة جلالته جميع التدابير اللازمة للدفاع عن مصر وحماية أهلها ومصالحها".

وفى اليوم التالى صدر منشور آخر بخلع عباس حلمى الخديوى إذ ذاك بحجة التصاقه بأعداء الملك وأن وراثة عرش مصر عرضت على سموالبرنس حسين تام فقبلها ملقبا بسلطان مصر.

أما المصريون الوطنيون فكانوا دائما يقولون ويؤكدون أنهم فهموا حتى الحماية ستكون احتياطا حربيا، وأن الدفاع عن مصر الذى صدر الوعد به في الفقرة الثانية من المنشور يقتصر على الدفاع في الحرب فقط، ولكن يظهر لنا من تعبير المنشور أنه لا يفتح بابا لهذا التفسير، ولكن لا ريب في حتى المصريين أفهموا حتى المساعى ستبذل بعد الحرب لتحقيق أمانيهم القومية، وأن الجهد أفرغ في التأكيد لهم بأن حالتهم السياسية الوطنية لم تصر بعد بسط الحماية عليهم أردأ مما كانت عليه قبلها. مثال ذلك التلغراف الذى أوفده جلالة الملك إلى السلطان حسين لما جلس على عرش السلطنة فقد استخدم جلالته فيه هذه الحدثات:

"فى اليوم الذى ترتقى فيه عظمتكم السلطانية منصبها السامى أرغب حتى أقدم إلى عظمتكم السلطانية عواطف الوداد المنبعثة عن أكمل إخلاص مع تأكيدى لكم بأننى لا أنفك عن تأييدكم في المحافظة على مصر وضمان رفاهيتها في المستقبل وسعادتها، ولقد دعيتم عظمتكم السلطانية إلى تحمل مسئولية منصبكم السامى إبان أزمة خطيرة في الحياة الأهلية بمصر، وإنى على يقين أنه بمعاونة وزرائكم وبحماية بريطانيا العظمى يتسنى لكم التغلب على جميع المؤثرات التى يراد بها العبث باستقلال مصر وبرفاهية أهلها وسعادتهم".

وزد على ذلك حتى المصريين الوطنيين يستشهدون بشواهد عديدة صرح فيها رجال الدولة البريطانيون بإنكار جميع فكرة بضم البلاد أوباحتلالها احتلالا دائما، وبتأييد القول الذى نطقه السير الدن غورست وهوحتى الفكرة الأساسية التى تتوخاها الحكومة البريطانية هى إعداد المصريين للحكم الذاتى ومساعدتهم في الوقت نفسه لكى يتمتعوا باجتناء الفوائد التى تعود عليهم من وجود حكومة صالحة جيدة في بلادهم. فالإنكليز يفهمون الحوادث التي حالت دون إنجاز هذه العهود حتى الآن، ولكن المصريين يحرصون عليها. ولذلك يسهل اتخاذها حجة على الإنكليز لاتهامهم بسوء النية، فينبغي تذكر هذه الأمور إذا أردنا حتى نفهم سبب استنكار المصريين للزعم المعتاد وهوحتى مصر صارت من الأملاك البريطانية أوحتى بسط الحماية عليها صيَّرَها كذلك.

ولذلك ظلت الحالة في مصر حالة غير طبيعية منذ احتلال البريطانيين لها سنة 1882، ففي بادئ الأمر كانت تعرض مشاكل يظن الإنسان أنه لا يمكن حلها والتغلب عليها ثم لا تلبث حتى تحل بنجاح فائق تحت إشراف رجل من أعظم الإداريين كفاءة واقتدارا. ولما مرت الأيام وبان في الظاهر حتى أداة الحكم في مصر سائرة سيرا حسنا منتظما لم يعد الرأي العام البريطاني يهتم بأمر الحالة غير المحدودة في تلك البلاد، ولكن الواقع حتى الحاجة إلى تسوية تلك الحالة كانت تزداد شيئا فشيئا حدثا ازداد تأثير وجودنا في القطر المصري والشعور بتأثير الطرق الأوربية التي تدخل إليه، فإنه بعد زوال الخوف من الظلم الذي غادر المصريين في الأيام القديمة طائعين خاضعين تحركت فيهم خواطر جديدة ومطامع جديدة مما لابد منه، فمصريوسنة 1920 يختلفون عن مصريي سنة 1910، ويختلفون كثيرا جدا عن مصريي سنة 1890 سواء كانوا من أهل المدن أومن الفلاحين، فنحن لم نعالج حل القضية المصرية كما يقتضيه الصدق والجد، وإهمالنا ذلك هوالذي سبب بعض ما وصلت إليه الحالة الحاضرة.

إن نظام الأحكام الذي استنبطه اللورد كرومر لإنقاذ حكومة قد دهمها الإفلاس لم يكن إلا نظاما وقتيا، لأنه لم يكن أحد يظن مدة أعوام كثيرة حتى الاحتلال يدوم إلى ما شاء الله بعدما وافقنا عملا سنة 1887 على أنه ينتهي بعد أجل قصير، ولكن التدابير المؤقتة والوسائل التي اتخذت في ساعتها لسد الحاجة الماسة ثبتت ورسخت شيئا فشيئا حتى صارت نظامات مقررة وجعل العنصر الأقوى بين العناصر الإدارية يزيد قوة وتفوقا وينال من السلطة ويتحمل من المسئولية ما لم يكن مقصودا في الأصل ويقصر خدمة العنصر المصري على الوظائف الثانوية في الحكومة. إذا السياسة التي كانت متبعة في أوائل عهد الاحتلال كانت تقوم باستخدام عدد محدود من الموظفين البريطانيين المنتقين بمزيد العناية ليشيروا وليساعدوا خصوصا في دوائر المالية والري ثم أضيف إليهم على مر الأيام مستشار قضائي ومستشار للمعارف وبعدهما مستشار للداخلية وجماعة من المفتشين للأنطقيم، كان عدد هؤلاء الموظفين محصورا ضمن دائرة محدودة وكان لا يوظف منهم إلا الأكفاء المجربون كان اشتراكهم في الأحكام محتملا ومقبولا، بل كان المصريون ينظرون إليهم بالتجلة والإكرام. ولما زادت إيرادات مصر وسع نطاق الوظائف في حكومتها كثيرا فاقتضى هذا التوسيع زيادة عدد من يوظف فيها من المساعدين والخبيرين الأجانب. فلطول زمان الاحتلال زاد عدد الموظفين البريطانيين زيادة مطردة وأغفل المبدأ القاضي بأنقد يكون غرض الإدارة تدرب المصريين وإعدادهم لتدبير شئونهم بأنفسهم. نعم إذا الوزراء المصريين أخذوا في السنين الأخيرة يوسعون دائرة عملهم ويزيدون اهتمامهم بشؤون وزاراتهم عما كانوا يعملون في أوائل أيام الاحتلال حين كان أكثرهم يكتفي بفخر منصبه، ولكن زاد عمل وكلاء الوزارات ورؤساء المصالح الذين أكثرهم ليسوا مصريين استقلالا عن مجلس الوزراء فجعل الاستياء ينموويزيد من عدد الوظائف التي احتكرها البريطانيون ولحظ الناس زيادته هذه قبل وقوع الحرب بزمان طويل. ورأى المصريون الذين طال اختبارهم لوظائف الحكومة، واتصفوا بالكفاءة أنه قد قضي على ترقيتهم إلى أسمى الوظائف في حكومتهم بعد النظام القاضي بأن المنصب الذي يتقلده موظف غير مصري لا يتقلده مصري إذا خلا، بل يتقلده غير مصري على الدوام.

واستاء الناس في مصر استياء خصوصيا حين وصول اللجنة من زيادة عدد البريطانيين حديثا في خدمة الحكومة، فهذه الزيادة وإن كان ما شاع عنها لا يخلومن مبالغة عظيمة لعدم صحة الفهم بحقيقتها كانت زيادة محسوسة وضمت وظائف قليلة من الوظائف الصغيرة التي كان أهالي البلاد يستخدمون فيها إلى ذلك الحين. ومما يذكر هنا حتى عدد الموظفين البريطانيين كان حوالي مائة في أوائل سني الاحتلال فبلغ حوالي 1600 في هذه الأيام "وفئات" رواتبهم تختلف عن فئات رواتب المصريين، فزيادة فئاتهم وإن كان لها مسوغ بالنظر إلى ظروفهم الخصوصية جعلت على أسهل سبيل سببا للتظلم والشكوى.

ومما زاد القلق في مصر بلا ريب كيفية المعيشة في مصر، فقد كان البريطانيون يزيدون اعتزالا وابتعادا عن معاشرة المصريين حدثا زادوا عددا في مصر حتى أصبح الحي الذي يقيمون فيه بالجزيرة حيا قائما بنفسه شبه محلة من محلات الجنود البريطانية في بلاد الهند مستكملة العدة اللازمة لعشرتها وألعابها ورياضتها البدنية فزاد طيب العيش بذلك للبريطانيين، ولكنهم خرجوا به عن حظيرة الهيئة الاجتماعية المصرية وانحصروا في بقعة خاصة بهم، وبات المصريون في عزلة عنهم. ونحن لا نجهل الصعوبات التي تحول من الجانبين دون حرية الصلات الخالية من التكلف والمؤاخذة بين الرجال والنساء من أقوام مختلفة الأجناس والعادات، ولكنا إذا طرحنا جميع ما يجب طرحه من حسابنا لهذه الاعتبارات وأشباهها. فالباقي بعد ذلك يقضي علينا بأن نقول إذا اقتصار البريطانيين على معاشرة بعضهم بعضا واعتزالهم لسواهم الاعتزال الذي ازداد خصوصا في الأعوام الأخيرة كان سببا في البعد بينهم وبين المصريين وجعل احتلال الأجنبي أثقل على الطبع مما ينبغي حتىقد يكون.

على أننا لحظنا بسرور حسن علاقات الحب والوداد بين كثيرين من الذين نزلوا مصر منذ زمان طويل وقليلين من كبار الموظفين ونسائهم وبين جيرانهم المصريين ورأينا الأدلة الكثيرة على عظم قيمة هذه الصداقة في الأيام العصيبة وزمان الشدّة أخيرا، ونحن على يقين أنه إذا زيدت علاقات الصداقة هذه بين الجيران ووثقت عراها زادت الفائدة من زيادتها وتقويتها. وعلى البريطانيين الذين ينزلون مصر والذين يزورونها أيضا حتى يحسنوا فهم سلوك الناس فيها واصطلاحاتهم وعاداتهم وأن يراعوها ويحترموها. ويخلق بهم، وخصوصا الزائري منهم، حتى يفهموا حتى عدم مراعاة الذوق السليم في أمور ولوكانت طفيفة تافهة بذاتها قد يؤدى إلى عواقب وخيمة لا نسبة بينه وبينها في جسامتها فليتوخ النزلاء والزائري البريطانيون إجمالا إزالة الحواجز الموجودة لا إيجاد حواجز جديدة، وليمازجوا المصريين في معيشتهم على قدر الإمكان وليتفهموا الكفاية من لغتهم حتى تتيسر لهم معاشرتهم وحتى يجدوا اللذة والتبسط فيها، وليجتنبوا الأسباب الجزئية التى تسوؤهم لأنها إذا توالت كانت وخيمة العاقبة.

هذا، ولسنا نرى من الجهة الأخرى مسوغا لانتقاد سمعناه كثيرا وهوحتى الموظفين البريطانيين انحطوا في الكفاءة والأوصاف، ففى مصر اليوم موظفون بريطانيون كثيرون بالغون شأوا بعيدا في الكفاءة والمقدرة، كما كان بها فيما مضى رجال فائقون في مقدرتهم وآخرون معتدلون فيها ولكن قوة الانتقاد زادت في المصريين كثيرا بتقدمهم وباتصالهم بالبلدان الأخرى فصاروا يتطلبون من المقدرة والكفاءة أكثر مما كان يتطلبه أسلافهم.

وأيضا بعد ما اعتزل اللورد كرومر منصبه بمصر سنة 1907 توالى على مصر لا أقل من خمسة وكلاء بريطانيين ومعتمدين سامين حتى جعلت مصر تشعر كأنها حقل من حقول التجارب فتأتى عن هذه التغيرات المتكررة التى قضت بها ظروف الحال حتى الموظفين البريطانيين الثابتين زادوا استقلالا وهؤلاء كانوا يهتمون بإصلاح أحوال الدواوين والمصالح وإجادة أعمالها أكثر من مراعاة المسائل السياسية، وأما المصريون الذين كانوا يراقبون مجرى الأمور فكانوا يعدون ذلك دليلا على عدم التثبت في الأمور وعدم الثبات فيها.

ومن مسببات الاستياء العام أيضا عدم النجاح في سياسة التعليم. كما هوظاهر جليا، فأدى ذلك إلى تخريج عدد دائم الازدياد. ولا حاجة إليه من طلاب الوظائف الحاملين شهادات الامتحان والخالين من تأثير التهذيب الحقيقى، ففى بادئ الأمر كانت الحال تقتضى تعليم عدد من الشبان تعليما يمكنهم من القيام بمقتضيات وظائف الحكومة الكتابية التى كان معظم الموظفين فيها إذ ذاك من غير المصريين، وكذلك إعداد الطلبة لدخول المدارس العليا التى تدرس الطب والحقوق والهندسة، ولكن يظهر هنا أيضا حتى الحال بقيت إلى عهد قريب بلا سعى يذكر في تنقيح نظام وضع في ظروف استثنائية وبلا التفات إلى كون الأحوال المتغيرة تقتضى اتباع طرق جديدة، وأن التعليم والتهذيب الذى أقبل الناس عليه إقبالا حقيقيا وجعلوا يلحون في طلبه لا يزال قاصرا جدا. والسواد الأعظم من الأهالى لا يزال أميا، وليس ذلك فقط بل لا يزال بلا تربية اجتماعية أوأدبية أيضا. والناس إنما يجدون التهذيب السليم بمعناه الأسمى في المعاهد الدينية والخيرية التى يشرف على أكثرها أناس فرنسيون أوأمريكيون أوفي كلية فيكتوريا البديعة التى أنشأها نزلاء الاسكندرية البريطانيون. ولكن مع جميع هذه الانتقادات التى ينتقد بها على المعارف المصرية لابد لنا من التسليم بأن مستوى التعليم ارتقى كثيرا عما كان عليه في أوائل عهد الاحتلال وأن عدد الذين يهتمون بالمسائل العمومية بفهم وذكاء ازداد اليوم كثيرا.

هذا، والدعوة الوطنية قائمة على ساق وقدم في مصر منذ زمان طويل، ولونشأ الروح القومي في الصدور مقرونا بالعقل والاعتدال لقوبل بالميل إليه والعطف عليه والاهتمام به، وقد كان المرحوم اللورد كرومر يؤمل حتى يوجهه جهة الخير والنفع ولكن المناظرات السياسية التي كانت لسوء الحظ بين الدول الغربية حوّلته من بادئ الأمر حتى صبغته بالصبغة المضادة للبريطانيين، وكان الخديوالسابق تارة يؤيد أنصار الدعوة الوطنية ويشدد عزائمهم، وتارة يخذلهم ويقاومهم طبقا لغاياته الشخصية. وكثر عديدهم بانضمام أعضاء إليهم من موظفي الحكومة الناقمين المستائين الذين يعدون وجود البريطانيين حائلا بينهم وبين الترقي، والذين ضعفت عزائمهم من وجود نظام للانتقاء للوظائف يمكَن ذوي الوجاهة والنافذي الحدثة من تفضيل أقاربهم وأتباعهم وتقديمهم على غيرهم في وظائف الحكومة. ثم إذا ازدياد عدد التلامذة الذين ينتظرون الاستخدام في الحكومة جزاء التضحيات التي كثيرا ما يضحونها حقيقة في سبيل الاستعداد لتلك الخدمة والذين يرون حتى مزاحمة الأجنبي لهم على الوظائف تقلل من إمكان حصولهم عليها صيرهم آلات معدة لنشر تلك الدعوة في الأنطقيم.

ونقول أخيرا إذا هناك أمرا دائم الوجود وكامنا في النفوس وهوعدم اصطبار المسلم على حكم المسيحي، فوجود المسلم في مركز سياسي تحت مركز المسيحي مناف لروح الإسلام، والشعور الذي يصدر عن هذا الروح يدوم طويلا في الصدور بعد ما تخف حرارة الشعور الديني نفسه، أوتخمد تماما في الصدور. ولا ريب حتى وجود الشعور المذكور أثر تأثيرا استخدمه العنصر الديني في البلاد لتحريض الناس على اسم "الحماية" بعد ما فسروها بأنها تفيد خضوع الحاكم المسلم وحكومته الإسلامية لملك مسيحي خضوعا دائما. ولا يخفى حتى في الشرق غيرة وطنية على الدين أشد وأمكن من الغيرة الوطنية على الوطن وعلى تنطقيد أهله.

ثانيا - في أثناء الحرب:

هذه هي العوامل التي كانت قد عملت مدة طويلة لما دخلت هجريا - كرسي الخلافة - الحرب سنة 1914 ضد الدولة المحتلة، ووعد عمال ألمانيا جهرة بتحرير مصر من السيطرة البريطانية بعد فوزهم الأخير الذي كانوا واثقين به جميع الثقة، ففي هذه الأحوال وبسبب روح العداء المستحكم الذي ما زال يتجسم ضد الدولة المحتلة مدة سنتين أشير على القائد العام-ونعمت الإشارة بإعلان الحرب مع هجريا ليفهم الناس حتى بريطانيا العظمى أخذت على نفسها "أن تحمل وحدها حمل الحرب الحاضرة من غير حتى تدعوالأمة المصرية إلى مساعدتها فيها" على أنه من العدل والإنصاف حتى يسطر هنا أنه مهما تكن الأماني والآمال التي حركتها الحرب في صدور فئة من المصريين فإن الشعب المصرى تحمل التكاليف والقيود التى اقتضتها تلك الحرب بالصبر والرضى، والخدم التى قام بها فيلق العمال المصرى كانت خدما لا تثمّن ولا غنى عنها للحملة على فلسطين، وأن حكومة السلطان أيدت رجال السلطة البريطانية بأعظم تعاون حبى. والدلائل على ذلك كثيرة منها تنازلها عن ثلاثة ملايين جنيه إنجليزية من حساب الأمانات والعهد التى كانت قد سلفتها وكان يحق لها المطالبة بها.

إلى هنا بحثنا فقط في مسببات الاضطراب في القاهرة وغيرها من البنادر الكبرى في المدة السابقة للاضطرابات التى حدثت في مارس سنة 1919.

بقى علينا حتى نبحث في الأسباب التى أثرت في الفلاحين فجعلتهم يتأثرون بتحريض أنصار الدعوة الوطنية وأقوالهم.

ظهرت آثار القلق على الفئات المتفهمة في مصر قبل أزمة سنة 1919 بزمان طويل كما أبنَا فيما تقدم، ولكن انتشارها حتى وصلت إلى الفلاحين وحملتهم على ارتكاب الفظائع وهم الطبقة التى جنت منافع عظيمة من الاحتلال البريطانى أمر يحتاج إلى الإيضاح.

فأولا نقول إذا الاضطراب بين الفلاحين أضيق نطاقا مما كان يظن، والاضطرابات انحصرت في جوار البنادر الكبرى والبلاد المحاذية لخطوط المواصلات، وأما القرى البعيدة التى لا يصل إليها المحرضون وأهل الدعوة بسهولة فلم يبد فيها صغار الفلاحين ميلا كثيرا إلى الاشتراك في حركة كهذه، ثم إذا الأماكن التى سقطت الاضطرابات فيها سقط التعدى فيها على سكك الحديد بوجه الإجمال. وهناك ما يحمل على الاعتقاد بأن مهاجمة سكك الحديد كانت اتباعا لخطة قديمة سابقة كان يقصد بها التمهيد لهجوم ألمانى عثمانى على القنال، ويؤيد هذا الهجوم ثورة تحدث في مصر، وهذا يعلل بعض الدلائل التى تدل على اشتراك واتحاد في العمل باضطرابات مارس سنة 1919.

وهناك ما يشير أيضا على حتى التحكم في أسعار القطن زاد استياء الناس، لأن هذا التحكم يحرم الزارع مزية المزاحمة في الأسواق الأجنبية مع كون إيجار أطيانه على ازدياد. ولكن هناك عوامل جرتها الحرب وكانت أدعى إلى زيادة جفائه ونفوره وهى: (1) التجنيد لفيلق العمال والهجانة المصرى، (2) مصادرة الحيوانات الأهلية، (3) مصادرة الحبوب، (4) جمع الأموال للصليب الأحمر. فكان استهجان الناس لكيفية تطبيق هذه العوامل أكثر من العوامل نفسها.

أما العامل الأول فقد دلت الدلائل على حتى الأنفار كانوا بعد تجنيدهم يرضون بشروط التجنيد، وأن الرواتب التى كانوا يأخذونها نفعت الفقراء نفعا عظيما، ولكن يظهر حتى المستشفيات التى كانوا يسقمون فيها لم تكن على ما يرام، وأنه كان بين ضباطهم كثيرون يجهلون لغتهم ولا خبرة لهم بمعاملتهم. على حتى قبولهم للانتظام في سلك فيلقهم المرة بعد المرة وعدم اشتراك الذين كانوا في الخدمة وأما العامل الرابع وهوجمع الأموال للصليب الأحمر فقد تولاه المأمورون والعمد المصريون. وكان المقصود جمع هذه الأموال بالتبرع ولكنه كثيرا ما تحول إلى الغصب والإكراه على يد موظفين يطلبون حتىقد يكون لهم فضل واستحقاق بجمع الأموال التي جمعت من مراكزهم. شاع في البلاد حتى جزءا فقط من المال المجموع بلغ المصدر الذي جمع له. فمما يختلف فيه والحالة هذه ما إذا كان من أصالة الرأي ومراعاة مقتضى الحال في أيام كان فيها فريق من الناس يشيد بذكر الصليب وفريق بذكر الهلال حتى يعمل في مصر شيء أكثر من فتح اكتتاب لمساعدة الجرحى فكان كثيرون من أغنياء المصريين والأجانب المقيمين في مصر يقبلون على الاكتتاب بلا ريب. وأما تفويض جمع المال إلى موظفين محليين من المصريين فكان من شأنه فتح باب للمنكرات والمساوئ المؤدية إلى زيادة التشديد على الفقراء الذين كرهوا الحرب جدا لأسباب أخرى كثيرة. هذا ومما يقتضي ذكره حتى لجنتي الصليب الأحمر الإنكليزي وفرسان ماريوحنا عينتا بعد الحرب (100,000) جنيه إنكليزي لإعانة الذين نكبوا في الحرب من فيلق العمال المصريين وعائلاتهم. وزد على هذه الظلامات الخصوصية التي ذكرت حتى أسعار الأمور ارتفعت في مصر ارتفاعا متواليا لم يسبق له مثيل ولاسيما أسعار الحاجيات كالحنطة والثياب والوقود فثقلت وطأتها على الفقراء ولاسيما حتى أجورهم لم تكن تكفي للنفقة التي يقتضيها غلاء المعيشة مع أنهم كانوا يرون عددا من مواطنيهم ومن الأجانب غير المحبوبين عندهم يجمعون الثروات الكبيرة، فعائلة من أربعة أنفس رجل وزوجته وطفلين لم تكن تستطيع في أوائل سنة 1919 الحصول على ما يكفيها من الطعام إلا بثمن يفوق متوسط الأجرة كثيرا حينئذ.

فهذه العوامل المتنوعة أفضت في آخر سنة 1918 إلى الاستياء والقلق بين معاشر الفلاحين وأضاعت بعض الثقة التي كانت عندهم بمزايا الإدارة البريطانية، فأعد ذلك النفوس لقبول تحريض المحرضين. وكانت إذ ذاك قد مضت مدة طويلة لم ير الفلاح فيها موظفا إنجليزيا ولم يتوسط إنجليزي لحمايته من المطالب الجائرة التي كانت تطلب منه، وكان قد اعتاد حتى يرى المفتش الإنجليزي يمر في غيطانه راكبا جواده ويقف هنا وهناك ليسمع شكاوى صغار الفلاحين، فغاب هذا المنظر عنه أوكاد حتى في الأيام السابقة للحرب ولم يعد يرى سوى السيارات تنقل الموظفين على عجل من مركز إداري إلى آخر، فغياب المفتش عنه سهل عليه تصديق الإشاعات التي شاعت عن قرب رحيل الإنجليز وتقسيم البلاد على الفلاحين وهجر المياه مباحة لهم يأخذون منها ما شاءوا بلا ممانعة وإلغاء الضرائب عنهم. وهناك أيضا ما يحمل على الاعتقاد حتى بعض المحرضين الذين لا خلاق لهم روجوا الإشاعات الوهمية الكاذبة عن تعدي الجنود الإنجليزية على أعراض النساء المصريات وهجومهم على القرى يعيثون فيها قتلا وفسادا فهاج ذلك روح السخط والانتقام الذي أفضى إلى اغتال بعض الجنود الإنجليز قتلا شنيعا في ديروط. أما تلك الإشاعات فليس ثم مرشد على حتى زعماء الحزب الوطني هم الذين أوحوا بها.

فقدت مصر بوفاة السلطان حسين سنة 1919 حاكما مقتدرا وكريم الأخلاق يعهد أهل وطنه حق الفهم. وكان قد قبل حتىقد يكون سلطان مصر الأول مع فهمه بثقل أعباء هذا المنصب واشهجر بشجاعة وإخلاص في تحمل المشقات التى يقتضيها تدبير أمور بلاد إسلامية تحتلها دولة مسيحية محاربة لسلطان هوخليفة المسلمين وعاش حتى تغلب على نفور الناس منه بسبب حلوله محل ابن أخيه وحاز احترامهم وإكرامهم له على اختلاف طبقاتهم. أما خلفه الذى تفهم وتهذب في إيطاليا فوجد نفسه من بادئ الأمر في مركز أضعف كثيرا من مركز سلفه في عيون شعبه ولم يكن له عليهم يد إذ ذاك فمهما قصد وسعى وجدَ لم يكن يستطيع سد السيل الذى كان يطفوويتعالى ضد الإنجليز.

ثالثا- بعد الحرب:

حاولنا فيما تقدم وصف حالة مصر الداخلية الى آخر الحرب فسهل الآن علينا حتى ندرك كيف من الممكن أن حتى المبادئ التى جاهر بها الرئيس ولسن ووافق الحلفاء عليها أثرت تأثيرا سريعا قاطعا في الرأى المصرى. فقد ظهر حتى قبول الدول لفكرة تعيين الأمم مصيرها اتى مصدقا لعواطف تختمر في صدور الطبقات المتفهمة منذ زمن طويل.

فالذين كانوا ينتظرون في مصر نصراً ألمانيا عثمانيا ويرحبون به فيما مضى وجدوا الآن فرصة سانحة لتغيير موقفهم، فقاموا يدعون حتى مصر بمساعدتها الحلفاء أدبيا وماديا على نيل النصر كانت هي نفسها آلة فعالة في خلع البقية الباقية من النير العثمانى.

والمعتدلون في مصر قاموا يقولون إذا الوقت قد حان للمطالبة بحكم ذاتى طبقا لما صرح به الساسة البريطانيون مرارا من حتى تدخلنا في مصر وقتى وشعر الناس شعورا صادقا بأن سلوك البلاد عامة في الحرب ومعاونة السلطان ووزرائه والبذل الكثير الذى دعيت الأمة إليه فَلَبَّتْهُ تعطيهم حقا في مراعاة بريطانيا العظمى لهم مراعاة خصوصية حتى حتى رشدى باشا كبير الوزراء كان قد فتح في آخر سنة 1917 مسألة تسوية العلاقات بين بريطانيا العظمى ومصر تسوية نهائية.

ونشطت هذه الحركة واشتدت عزيمة أهلها بنشر التصريح الإنجليزى الفرنسوى في أوائل نوفمبر سنة 1918 عن سورية والعراق. فقد اتى فيه حتى بريطانيا العظمى وفرنسا تنويان تحرير الشعوب التى أنقذت من الظلم العثمانى تحريرا تاما، وأن تنشئ لهم حكومات وطنية تستمد سلطتها من السنن التى يسنونها من تلقاء أنفسهم ومطلق اختيارهم، فأبان المعتمد السامى حينئذ (السرر يجنلد ونجت) حتى هذه السياسة سيكون لها صدى في مصر. وزد على هذا حتى المصريين كانوا قد شاهدوا قبل ذلك بقليل إنشاء مملكة مستقلة في بلاد العرب التى لا يزالون يعدونها متأخرة بمراحل في الحضارة والارتقاء عن بلادهم التى تضارع بلاد الغربيين بعض المضارعة.

وبينما كان الناس يتحدثون بهذه الأمور في جميع مكان ثار ثائر الرأي العام إثر إذاعة مذكرة سرية أوّلت بأنها تنكر على مصر مزايا الحكم الذاتي الذي يراد منحه لأمم دون الأمة المصرية ارتقاء. وذلك حتى لجنة خصوصية كانت قد عينت في أوائل سنة 1918 للبحث في الإصلاح الدستوري فطلبت من السير وليم برنيات نائب المستشار المالي حتى يضع مذكرة تكون قاعدة لمناقشتها، وأن يفحص على الخصوص مبدأ منح النزلاء الأجانب قسطا في تشريع البلاد لعل ذلك يغري الدول بالتنازل عما يحق لها بموجب الامتيازات الأجنبية من المفاوضة في كثير من ذلك التشريع، فلما قدمت مذكرة السير وليم برنيات إلى رئيس الوزارة في أواسط نوفمبر سنة 1918 ساءته كثيرا، ثم ذاعت واشتهرت مع حتى المقصود كان جعلها قاعدة لمناقشات سرية، فقامت القيامة وعلا الاحتجاج على مشروع فسر بأنه يمنح الجمعية التشريعية سلطة استشارية فقط ويعهد في السلطة التشريعية كلها إلى مجلس ثان (مجلس شيوخ) تكون فيه الأكثرية من الأعضاء الذين تعينهم الحكومة وبعض الأعضاء الأجانب المنتخبين.

وفى الوقت الذي عينت فيه اللجنة المذكورة آنفا كانت لجنة أخرى تدرس مسألة الإصلاحات القضائية اللازمة فيما إذا ألغيت الامتيازات الأجنبية، وقد قضت في ذلك أشهرا كثيرة ولم تصدر تقريرا ولكن شاع أنها تنوي استبدال المحاكم المختلطة بمحاكم جديدة تكون لغتها الإنجليزية ويكون القانون الإنجليزي هوالمعمول به فيها. وفي ذلك ما فيه من الغبن والحيف على المحامين من أبناء البلاد وشل أيدي المحامين الأجانب الذين يترافعون بالفرنسية وكان من شأن هذه الإشاعة أنها زادت معاداة المحامين لتوسيع المراقبة الإنجليزية.

وفى 13 نوفمبر سنة 1918 زار زغلول باشا وزعيمان آخران من زعماء الفريق المتقدم في الحركة الوطنية المعتمد البريطاني السامي وأعربوا له عن رغبتهم في السفر إلى لندن لعرض بيان "بالاستقلال الذاتي التام" لمصر، وعرض رشدي باشا في الوقت عينه حتى يسافر هووعدلي باشا يكن وزير المعارف إلى لندن للمناقشة في شؤون مصر، ونطق إذا السلطان موافق على ذلك تمام الموافقة، وكانت حجة هذين الوزيرين حتى مؤتمر الصلح سيوافق على الحماية رسميا، وعليه لا يمكن هجر ماهيتها وكنهها بلا تعريف وتحديد. فقد كان لمصر تحت السيادة العثمانية حقوق معلومة، وهما يريدان حتى يفهما ما هي حقوقها على بريطانيا العظمى تحت حمايتها.

فأبلغ السير ريجنلد ونجت وزارة الخارجية مطالبها، فاتىه الجواب بأن "لا فائدة من السماح لزعماء الحركة الوطنية بالمجيء إلى لندن، وأما زيارة الوزيرين فليست مناسبة الآن. وأبان وزير الخارجية البريطانية السبب في ذلك، وهوأنه سيغيب هووزملاؤه عن لندن بسبب مؤتمر الصلح، ولذلك "لا يستطيعون حتى يعطوا الوقت الكافي والعناية الواجبة لمسائل الإصلاح الداخلي المصري" وعليه طلب من الوزيرين حتى يؤجلا زياراتهما، فأفهم رشدي باشا المعتمد السامي أنه يعد رفض حكومة جلالة الملك لسماع أقواله حالا تفسيرا لمعنى الحماية لا يوافق عليه ولذلك قدّم استعفاءه. ولا ريب أنه كانت هناك موانع واضحة تمنع من البحث مع الوزراء المصريين في مسائل كهذه حين كان الضغط السياسي شديدا، وكان مؤتمر الصلح بوشك حتى يفتح، ولكن يظهر أنهم لم يدركوا في تلك الساعة الحرجة وجوب البحث في المسألة المصرية حالا مع حتى المعتمد السامى ألح عليهم في لقاءة الوزيرين، فلم يدخروا وسعا في إقناع رشدى باشا باسترجاع استعفائه وضربوا موعدا للقاءة الوزيرين، ولكن مركز أنصار الحركة الوطنية كان قد قوى واعتز في مصر حتى حتى الوزيرين اشترطا في سفرهما حتى يسمح لزغلول باشا ورفاقه بالسفر مثلهما. ولما لم يروا من الموافق السماح بذلك أصر الوزيران على الاستعفاء، فطلب المعتمد السامى إلى انجلترا لاستطلاع رأيه في الحالة.

وكانت نتيجة هذه الحوادث حتى بعض المعتدلين انضموا إلى المتقدمين من أهل الحركة الوطنية، ونهض هؤلاء يطالبون بسياسة أبعد مدى، وحمل عمالهم حملة شديدة على الإنجليز في طول البلاد وعرضها حيث لم يبق إلا قليلون من الموظفين البريطانيين بسبب الحرب.

وبينما كان البحث دائرا على سفر الوزيرين المصريين إلى لندن في أوائل سنة 1919، أوفدت مذكرة إلى وكلاء الدول في مصر بتأليف وفد من اثنى عشر عضوا تحت رياسة زغلول باشا وغرضه عرض أمانى مصر المشروعة على الدول الأخرى، وكان معظم أعضاء الوفد أعضاء لجنة وطنية تألفت في آخر السنة السالفة من أربعة عشر عضوا.

وفى الثالث من شهر مارس حمل الوفد عريضة إلى السلطان أوّلها الجمهور بأن الغرض منها محاولة إرهاب عظمته ومنعه تأليف وزارة جديدة، فعدّ ذلك تحديا لا يمكن السكوت عنه، فقر رأى السير ملن شيتهام القائم بأعمال المعتمد السامى بعد موافقة الحكومة البريطانية على إبعاد زغلول باشا وثلاثة من أشد أنصاره إلى مالطة، فأفضى ذلك إلى تجدد التحريض والاحتجاج وبدأ الطلبة بالقاهرة بمظاهرات ضد الإنجليز أوجبت مداخلة الجنود على عجل. واتىت أنباء الأنطقيم بحدوث مثل هذه الفتن، وفى 12 مارس حدثت فتنة في طنطا فأخمدها الجنود بعد سفك دم. ولم يأت اليوم الرابع عشر والخامس عشر من مارس حتى كانت الاضطرابات قد انتشرت في معظم مديريات الوجه البحرى وعم فيها الهجوم على المواصلات لبترها ووردت الأنباء من أماكن كثيرة بالسلب والنهب والاعتداء على الجنود البريطانية وقتل بعضها وبعض الملكيين، وفى 16 منه بترت سكة الحديد والأسلاك التلغرافية بين القاهرة والوجهين البحرى والقبلى. ولم يأت يوم 18 مارس حتى كانت مديريات البحيرة والغربية والمنوفية والدقهلية قد جاهرت بالثورة. وقد بترت المواصلات تماما بين القاهرة والوجه القبلى والأجانب المقيمين فيه، وبلغ تعصب الثوار أشده في ذلك اليوم بقتل ضابطين بريطانيين وخمسة من غير الضباط في ديروط ومفتش إنجليزى في مصلحة السجون وهوراكب القطار بين مصر وأسيوط والمنيا، ولكن عادت الحالة فهدأت في 26 مارس من الوجهة العسكرية المحضة. فأعيدت المواصلات بخط سكة حديد الأكبر والتلغراف ورتبت الجنود اللازمة لحراستها، ووجهت القوّات العسكرية في جهات مختلفة لحفظ النظام في الأماكن التي اشتدت الثورة فيها والقبض على الذين ارتكبوا الفظائع ومحاكمتهم وإعادة هيبة الحكومة إليها، وأنقذت الأماكن النائية في الوجه القبلي، فزال بذلك الدور الأوّل من الاضطراب وكان أشد الأدوار خطرا.

وعليه لم يمض على إبعاد زغلول باشا وشركائه أسبوع حتى قامت حركة على الإنجليز، بل على الأوربيين عموما وبلغت حدا تخشى عواقبه. وكانت حركة وطنية تؤيدها أميال جميع الطبقات والمذاهب في الأمة المصرية وفى جملتهم الأقباط، وظهرت بين أشد عناصرها تعصبا بمظهر تخريب الأملاك والمواصلات تخريبا منظما والاستهانة بالنفوس استهانة متزايدة. ولا ريب حتى الوفد مسئول عن تنظيم المظاهرات الأصلية التي نشأت الحركة عنها، ولكن أعضاؤه الذين يفوقون سواهم في المسئولية هالهم تفاقم الخطب حتى خرج زمام الحالة من أيديهم وانتقل إلى أيدي المتطرفين غير المسئولين تؤيدهم بعض العناصر الأجنبية من المتشردين.

وَكان اللورد اللنبي القائد العام في مصر قد سافر لينضم إلى مؤتمر الصلح في باريس في 12 مارس فعاد إلى القاهرة في 25 منه، وكان قد عين معتمدا ساميا خاصا مدّة غياب السير ريجلند ونجت في إنجلترا وصدرت إليه التعليمات "بإعادة القانون والنظام وبإدارة الأمور بجميع الوسائل على ما يقتضيه بقاء حماية الملك قائمة على قاعدة ثابتة عادلة" وقد أفضت التدابير العسكرية التي اتخذت إلى تهدئة الأحوال ظاهرا، ولكن الشعور بعداوة الإنجليز لم يخف إلا قليلا وتحول بالأكثر ضد العنصر العسكري الذي أشاعوا الأخبار الكاذبة عن سلوكه في قمع الفتنة وظل المحامون والطلبة معتصبين وغاب كثيرون من الموظفين عن ممحررهم.

ونادى المعتمد السامي الخاص إليه نفرا من الأعيان وخاطبهم بلهجة سليمة، ولكن ذلك لم يحل دون الإضراب العام من 2 أبريل إلىستة منه. غير حتى اللورد اللنبي جاز بسفر المصريين الذين يريدون السفر إلى إنجلترا وبعودة زغلول باشا ورفاقه الثلاثة من مالطة جريا على سياسته السلمية وبموافقة حكومة جلالة الملك، وبذلك انعكست السياسة التي اتبعت قبل مرور شهر على إبعادهم وأصبح زعماء الحركة أحرارا يمضىون إلى إنجلترا أوإلى غيرها لتجديد التحريض والتهييج.

هذا بالاختصار حديث سير الأحوال في الأربعة الأشهر الأولى من سنة 1919، وقد اتضح بعد حدوث ما وقع أنه كان يجب تنشيط الوزيرين المصريين للمجيء إلى لندن لما طلبنا ذلك، ودلت النتيجة على حتى مشورة السير ريجنلد ونجت في هذه المسألة كانت عين الصواب. وفى رأينا أنه كان يحسن صنعا لوزاد إلحاحا في وجوب اتباع مشورته. وبعد هذا الخطأ الذي ارتكب في بادئ الأمر جرت الحوادث في مصر بأسرع مما أدركت الحكومة، فإنها لم تقدر نتائج إبعاد الزعماء حق قدرها، ولما ألغي الأمر بإبعادهم بعد حدوث اضطرابات شديدة تبادر إلى ذهن الناس طبعا حتى السياسة البريطانية سياسة تردد، وأنها تتقلب تقلبا سريعا تحت تأثير الإغراء والتحريض، ثم اقتضى الأمر في الفترة الثانية معاقبة الذين قتلوا الضباط الإنجليز وارتكبوا فظائع أخرى مدة الفتنة. وهذا العقاب أطال عهد السخط طبعا وإن لم يكن قد أنفذ بالاعتدال بوجه الإجمال. وحاولت الحكومة تطييب خواطر المصريين بإحالة كثير من القضايا إلى المحاكم العادية بعد ما نظرت المحاكم العسكرية في القضايا المستعجلة جدا، ولكن رأي أنصار الحركة الوطنية قد صلب ورسخ، فنتج عن ذلك حتى الناس لم يعودوا يتقدّمون للشهادة في جميع القضايا تقريبا فأطلق سراح المتهمين فيها. وفى أثناء ذلك سافر زغلول باشا ورفاقه بعد إخلاء سبيلهم من مالطة إلى باريس آملين حتى يحملوا مؤتمر الصلح على سماع دعوى مصر بالاستقلال. ولما أخفقوا في ذلك وجهوا همهم للحصول على تأييد الأجنبي لقضيتهم، فأوفدوا رسولا إلى أمريكا لاستمالة الرأي العام في الولايات المتحدة. وجدّ أنصارهم في مصر في السعي لإتمام نظامهم وجمع أموال طائلة ونشر دعوتهم في جوانب البلاد متذرعين إلى ذلك بالقلق الصناعي الذي كان في البلاد. فحوّلوا جميع جهدهم للاستعانة به. ولذلك تعدّدت حوادث الإضراب عن العمل بين كبيرة وصغيرة، وأعرب في خلال ذلك حتى الحكومة البريطانية عازمة على إرسال اللجنة الخصوصية إلى مصر. فحكم المهيجون بأن غرض هذه اللجنة القضاء على الوطنية المصرية، فجعلوا همهم تضييق دائرة عملها بمقاطعتها مقاطعة منظمة .

(ب) الحركة الوطنية والأماني المصرية

تقدم لنا كلام كاف لتعليل سرعة نموّ الحركة الوطنية. وأصعب من ذلك حتى نبسط الكلام بقدر ما يحتمل المقام عن ماهيتها وأغراضها الحقيقية بسطا سليما مفهوما.

قيل " إذا جميع مصري يستحق حتى يسمى مصر يا وطني النزعة في قلبه " وهذا القول إنما يصدق على المتفهمين كثيرا أوقليلا، وهم أقل منعشرة في المائة من سكان مصر الذين يبلغ عددهم 14 مليونا. فلا معنى لهذا القول عند إطلاقه على 92 في المائة من الأميين وخصوصا الفلاحين الذين هم ثلثا الأمة كلها . ففي المدن والبنادر يسهل تهيج الغوغاء بتلقينهم ألفاظا مستحبة رنانة تتخذ شعارا سياسيا فيصيحون بها وهم لا يفهمون معناها. وأما الفلاحون فجمهورهم لا يبالي بالسياسة من طبعه. وهم لا يزالون على العهد القديم في الفلاحة يعيشون في أطيانهم ومنها، وهم متعلقون بها تعلقا شديدا. ومع حتى طرقهم وأدواتهم الزراعية لا تزال على عهدها الأول، وقلما يستعينون بالعلوم الزراعية فهم يخرجون، بجدهم الذي لا يبارى ومعهدتهم التامة بالتربة، تلك الحاصلات العجيبة التي هي أساس الثروة المصرية، وليس لهم همّ في هذه الحياة إلا هذه الحاصلات وأخذ الماء الكافي لزراعتهم من النيل في حينه لئلا تمحل أرضهم. ولكنهم وإن كانت دائرة نظرهم في الأمور لا تزال محدودة فقد ازدادوا استقلالا واستمساكا بحقوقهم عما كانوا عليه في عهد الاستبداد الماضي.

وإذا هجروا وشأنهم فلا عداوة عندهم للإنجليز، على أنهم لا يحبون الأجنبي أيا كان، واعتبارا لكونهم مسلمين غيورين لا تخلولقاءتهم للمسيحي في بادئ الأمر من الفتور والنفور، ولكن هذه الأوهام زال معظمها منهم مع الإنجليز بعد اختبارهم لاستقامة الموظفين البريطانيين ولطفهم بوجه الإجمال؛ وما أفضى إليه وجودهم من التحسن الظاهر في أحوال الفلاحين. نعم إذا أبناء العهد الجديد الذين لم يعهدوا مساوئ العهد القديم أقل شكراً لنا من آبائهم الذين كانوا يتذكرون تلك المساوئ ولا ينسونها، ولكن الفلاحين وإنقد يكونوا أقل ضعفا واستكانة مما كانوا في الأزمان الماضية لا يزال عندهم ما يخيفهم من أصحاب الأطيان وتعنت عدد كبير من الموظفين المصريين واضطهادهم لهم، وهم يشعرون حتى النفوذ الإنجليزي يحميهم من هذه الأخطار بعض الحماية. نعم إذا حوادث الحرب المشئومة التي أشرنا إليها آنفا أدّت إلى زعزعة ثقتهم بعدلنا وحسن نيتنا زعزعة وقتية، وكانت أسبابا مهيأة للحوادث الفظيعة التي حدثت ضد الإنجليز في ربيع سنة 1919، ولكن تلك الفظائع كانت شاذة وقصيرة الأجل. ويظهر أنه فيما خلا الجهات التي يصل إليها تحريض أهل المدن مباشرة عاد الفلاحون إلى حسن الظن بالإنجليز الذين يعهدونهم ويعهدون كيف من الممكن أن يعاملونهم، وقد أثرت فينا شهادة عدد من مواطنينا الموظفين وغير الموظفين الذين يعيشون بين الفلاحين ويعاشرونهم حيث أكدوا لنا حتى المرارة التي كدرت الصفاء في السنة الماضية أوالسنتين الماضيتين زالت الآن، وأن الإنجليز الذين أحسنوا السلوك ينزلون على الرحب والسعة في البلاد كما كانت الحال فيما مضى .

ولكن من العبث حتى نؤمل حتى حسن سلوك الفلاحين معنا يدوم طويلا إذا بقيت العلاقات بيننا وبين الطبقات المتوسطة والعليا من مواطنيهم على ما هي عليه من الجفاء، فقد سادت الحركة الوطنية في مصر الآن جميع ناطق وصامت واجتذبتهم أليها كلهم، إما طوعا أوكرها من أمراء العائلة السلطانية إلى صبية الكتاتيب وأصحاب الأملاك وأهل الصناعات العالية ورجال الدين والأدباء والصحافيين وطلبة المدارس. وأخطر من هذا شأنا أنها تخللت الآن طبقة الموظفين وكبار ضباط الجيش، وربما حال حب هؤلاء للنظام العسكري ومحافظتهم على الأصول الرسمية دون مجاهرتهم بأميالهم. وقد كان سلوك الموظفين المصريين مع اللجنة سلوكا لا غبار عليه، ولكن معظمهم من أشد أنصار الحركة الوطنية في قلوبهم ونفوذهم يتجه إلى الجهة الوطنية ولا يعقل حتى أميال رؤساء جميع طبقة من طبقات الهيئة الاجتماعية وجميع الذين يقوم بهم الرأي العام في الأمة لا يؤثر في السواد الأعظم منها على مر الأيام. ولا ينكر حتى هذه الملايين التي تجهل القراءة والكتابة لا تبالي بالحركة الوطنية من حيث كونها ممضىا سياسيا ولكن يسهل تعليمها ترديد الألفاظ المستحبة التي تصير شعارا لها. والمتطرف لا يحاول اكتساب تأييدها إياه بالحجج السياسية المحضة كما يحاول ذلك بالطعن دائما في جميع ما إنجليزي، وبنسبة جميع نكبة تصيب البلاد وكل ظلامة شخصية إلى خبث الموظفين البريطانيين أوعدم كفاءتهم فهذه الحرب القائمة بتسويد جميع شيء تسويدا كاذبا يديرها كثيرون : خطباء الجوامع والطلبة الذين يعودون إلى بلادهم أيام عطلة المدارس وجميع الصحف العربية إلا القليل منها.

والفلاح وإذا كان لا يقرأ بنفسه عادة يصغى إلى من يقرأ له، فإذا كان جميع ما ينطق ويخط للتأثير فيه يوجه إلى جهة واحدة فلابد حتى الأكاذيب التى تنفث كلها فيه على الدوام تسمم عقله أخيرا.

نحن نحسب في حسابنا أنه عند زيارتنا لمصر كانت الصيحة ضد الإنجليز بالغة غاية الشدة، وكان الفريق المتطرف يزيدها ويقويها تقوية اصطناعية لكى يؤثر فينا، مع أنه ما من خبير بهذه الأمور يتأثر منها حتى يخطىء فيحسب الشطط الذى ينتج عن التحريض السياسى البالغ غاية الشدّة دليلا على حقيقة رأى الأمة، ولكن ما يستحق الاعتبار أنه بينما كان كثيرون من المصريين يستهجنون شطط المتطرفين لم يحرك أحد منهم ساكنا لمنعه غير الذين تضطرهم مناصبهم الرسمية إلى ذلك ونفر قليل جدا. وخشى وجوه مصر على اختلاف آرائهم الشخصية حتى يظهروا بمظهر الذين لا يميلون إلى الأمانى الوطنية أوحتى يعملوا شيئا من شأنه كبح جماح المتطرفين وردهم إلى دائرة الاعتدال، ولم يجرؤ أحد حتى يقول إنى موافق على "الحماية" أوأنه غير موافق على "الاستقلال التام". فكان ظاهر ذلك حتى جميع ذى رأى مستقل يميل إلى الحركة الوطنية بكليته وعندنا حتى ذلك سيبقى كذلك على الراجح.

لا مشاحة حتى الأمر جلل، ومن يقدره يخيل إليه لأول وهلة أنه لا خيار لنا أمام هذا البنيان المرصوص،لا حتى نقلع عن مركزنا في مصر بالكلية، أوحتى نحافظ عليه قوة واقتدارا رغم العداوة المتزايدة لنا في الأمة المصرية، ولكنا بعد إنعام النظر في هذه القضية زدنا أملا بها واقتنعنا بعد الأحاديث الكثيرة الودية التى جرت بيننا وبين وجهاء المصريين الذين يمثلون أمتهم وفى جملتهم قوم يعدون من غلاة الوطنيين، أنهم لا يضمرون للانجليز من الخصومة والعداوة بقدر ما يتوهم الإنسان من الحملات المنكرة التى تحملها الصحف علينا. وتبين لنا حتى فهم الحركة الوطنية الضافى يخفق على أقوام متعدّدة الآراء مختلفة طبعا وقصدا، فلا ريب في حتى هنالك قوم من أنصار الحركة الوطنية يحملهم كرههم لكل مراقبة خارجية وخصوصا لكل مراقبة بريطانية على تعدّى القانون وارتكاب الجرائم والموبقات، أوعلى الميل إلى من يرتكب تلك المنكرات على القليل. وأغراضهم كلها تنافى الاتفاق والتفاهم بين الإنجليز والمصريين ، وليس ذلك فقط، بل إنهم مستعدون أيضا للسعى في بلوغ تلك الأغراض بوسائل لا يحللها شئ، ولا يسع حكومة من الحكومات إلا الضرب على أيدى الذين يجرّئون الناس عمدا على نظام من الإرهاب يراد به جعل التعاون بين البريطانيين والمصريين محالا في المستقبل. ولا ريب حتى الحوادث المشئومة التى حدثت بمصر نفسها في السنوات الأخيرة، وروح القلق والثورة الذى ساد العالم كله، وكان له صدى شديد في مصر أفاد الفئة المتطرفة لأنها اتخذته حنطة لمطحنتها اكسبت الحركة الوطنية مسحة من الشؤم والوبال. فلا عجب والحالة هذه، إذا اعتبر كثير من الانجليز المقيمين بمصر وأكثرهم من إنجليز انجلتر حتى الحركة الوطنية مرادفة للعداوة الشديدة للانجليز، وأن الغرض منها قلب نظام الحكومة المصرية الحالى رأسا على عقب.

ولكنا اقتنعنا حتى قبل مغادرتنا القاهرة حتى التمسك بهذا الرأي الواسع خطأ كبير، ولا يجوز حتى نهجر التأثير الذي علق بنفوسنا في الاضطراب الذي وقع في الاثني عشر شهرا الماضية يعمينا عن رؤية المعقول والمشروع من أماني الحركة المصرية ولوعملنا ذلك لكانت عاقبته سوق المعتدلين شيئا فشيئا إلى أحضان المتطرفين، وتحويل الخلاف الواقع لسوء الحظ بين الإنجليز والمصريين والسهل التلافي إلى عداوة وجفاء دائم بين الفريقين. نعم إنه يجب قمع التعدي والإخلال بالنظام، والحق ينطق إذا التدابير التي اتخذت لذلك مدّة إقامتنا بمصر كانت معتدلة وفعالة. ومما يقضي بالأسف الاضطرار إلى إبقاء الأحكام العهدية في مصر، ولكن هذه الأحكام تجرى في أيام اللورد أللنبي بأقل ما يمكن من الشدّة ومن التعرض لسير القضاء المعتاد بالبلاد ولأحوال الناس في معيشتهم اليومية. غير حتى وجوب قمع التعدي والإخلال بالنظام في الحال لا يجيز عدم التمييز بين الذين يعارضون نظام الحكومة الحالي كثيرا أوقليلا، والذين يجاهرون بالثورة والجناة الذين كانوا سبب الفتنة في ربيع سنة 1919 وما تلاها من ضروب التعدي بعد ذلك التاريخ، فإنا في الكلام الذي جرى لنا مع كثيرين من المجاهرين بكونهم من أهل الحركة الوطنية- وقلما التقينا بمن ينكر ميله إليهم - وجدنا روحا يختلف جميع الاختلاف عن الروح الظاهر في تلك الفظائع والمنكرات، فقد ذموا أمامنا الالتاتى إلى التعدي والمجاهرة بالثورة ونطقوا إذا ذلك جناية لا خير منها. ويروي جمهورهم حتى بريطانيا العظمى أقوى من حتى تعجز عن إخضاع مصر إخضاعا تاما إذا شاءت حتىقد يكون لها رعايا مكرهون مرغمون لا حلفاء صادقون شاكرون، واعترفوا كلهم اعترافا متفاوتا في شدته وحرارته بالمنافع العظيمة التي أغدقتها بريطانيا العظمى على مصر، واعترف أكثرهم أيضا بأن مصر لا تزال في حاجة إلى مساعدة إنجلترا لها على تنظيم أمورها في الداخل، ومنع التعرض لها من الخارج، ووقايتها من حتى تعود فتصير مرة أخرى ميدانا لتنافس الدول ودسائسها، واعترفوا كلهم بلا استثناء بأن لبريطانيا العظمى مصالح خصوصية في مصر لأنها حلقة الاتصال. بينها وبين سلطتها الشرقية وأملاكها الأسترالية، وأن لها جميع الحق في ضمان هذا الاتصال وحفظه من خطر الانقطاع. ولكن هل يلزم انقضاء هذه الأغراض حتى تحرم مصر استقلالها، وتجعل جزءا غير منفصل عن السلطة البريطانية، وأن تقاوم رغبة المصريين المتأصلة في أعماق نفوسهم في حتىقد يكونوا شعبا قائما برأسه بين شعوب العالم. ألا تقضي مصر أغراض إنجلترا كما تقضيها الآن أوأحسن إذا صارت بلادا منتظمة الأمور هادئة الأحوال مصادقة لإنجلترا متصلة بها اتصالا وثيق العرى لا تشكوظلامة ولا تميل إلى ثورة. أوليس هذا الحل هوالحل الوحيد المطابق للسياسة التي طالما جاهرت بها بريطانيا العظمى في تصريحاتها المتكررة حيث نطقت إنها لا تقصد امتلاك مصر ولا إدماجها في السلطة البريطانية وإنما تروم جعلها قادرة على الوقوف على قدميها. نطقوا إنهم اعتقدوا بصدق هذه التصريحات زمانا طويلا، ولكنهم أخذوا الآن يكفون عن تصديقها لأنهم يرون- بعد مرور أربعين سنة تقريبا على الاحتلال البريطاني لبلادهم - أنهم لم يدنوا من الغرض الذي ادّعت بريطانيا العظمى أنها ترمي إليه بل بعدوا عنه، وأن بريطانيا العظمى بإصرارها الدائم على الحماية التي يعتقدون كلهم أنها تتضمن إخضاع بلادهم إخضاعا دائما، عدلت عدولا بتريا عن سياستها الأولى، ونكثت عهدها. فأنهم قبلوا الحماية حين إعلانها كضرورة اقتضتها الحال، لأنه لما كانت بريطانيا العظمى في حرب مع هجريا أصابت ببتر الحلقات التى كانت باقية بين هجريا ومصر، فلم يكن بد إذ ذاك من وضع شئ آخر في الحال موضع السيادة العثمانية، فوضعت الحماية. وكان وضعها سائغا باعتبار كونها وسيلة وقتية لسد الحاجة، وبعد انتهاء الحرب جعلوا ينتظرون حتى تسوى بريطانيا العظمى العلاقات بينها وبين مصر على وجه يطابق تصريحاتها ومصالحها الحقيقية وشرفها، ولكنهم بدلا من ذلك لا يرون الآن أمامهم غير فقد جنسيتهم وقوميتهم فقدا دائما وصيرورتهم "مستعمرة بريطانية" فهم يستغيثون من ذلك ولا يزالون يستغيثون بالعدل البريطانى أولا وبعطف جميع العالم المتمدين عليهم أخيرا.

(ج) السياسة المقبلة

هذا في اعتقادنا بيان الرأى عند أنصار الوطنية المصرية، ولكن سلوك الفئة المتطرفة الصاخبة سبيل العنف، وخروجها عن دائرة الاعتدال والإنصاف جعلا الحركة تظهر كأنها ليست مما يقبل الصلح أوالاتفاق مع حتى الأمر ليس كذلك في رأينا، ولا هودائم بالضرورة، فإن الهيئة المستحقة الاعتبار المعروفة بالوفد التى يرأسها سعد باشا زغلول، والتى تسلطت على عقول المصريين تمام التسلط ولوفي هذا الحين على الأقل، والتى تقول أيضا بأنها تنطق بلسان الأمة، ومعها وثائق كثيرة مؤلفة من أعضاء أكثرهم ليسوا من الغلاة المتطرفين بل أصلهم من حزب الأمة الذى الذى كان غرضه التقدم الدستورى تدريجا بخلاف الحزب الوطنى الذى هوحزب الثورة ومعارضة البريطانيين. نعم إذا زغلول باشا ورفاقه لما رأوا من خطتنا معهم ما أوهمهم بأننا نرفض جميع آمالهم مالوا إلى المعارضين، وما زالوا يدنون منهم شيئا فشيئا إلى عهد قريب، ولكن ظهر لنا بالاختبار حتى الأمر لا يقتضى إلا عناء يسيرا لفهم رأيهم وإزالة ريبهم وشبهاتهم في مقاصد بريطانيا العظمى حتى يستمال كثيرون منهم إلى المناقشة في الحالة بتمام التعقل. وهذا يصدق أيضا على الذين هم أكثر منهم اعتدالا في رأيهم مثل الوزراء السابقين رشدى باشا وعدلى باشا وثروت باشا الذين لم ينضموا إلى الوفد عملا، وأنقد يكونوا ميالين إلى الغايات الوطنية. ولما خرجنا في تلك المناقشات عن دائرة العبارات والصيغ، ودخلنا في جوهر القضية وصعوباتها العملية تبين لنا حتى المصريين على آراء شتى ومذاهب مختلفة، ولكنهم متفقون كلهم على أمر واحد وهورغبتهم في حفظ قوميتهم وجنسيتهم بحيثقد يكونون شعبا ممتازا عن سواهم.

فيظهر مما تقدم ذكره أنه لابد من مراعاة هذا الشعور المتأصل في أعماق نفوسهم عند السعى في التوفيق بين البريطانيين والمصريين، ولا غنى عن ذلك في جميع سياسة يقصد بها استمالة العناصر التى هى أكثر اعتدالا وميلا إلينا من سواها بين عناصر الوطنية المصرية حتى تعود إلينا وتنحاز إلى جانبنا، ولا يكفى لذلك إعطاء مصر كثيرا أوقليلا من "الحكم الذاتى" حتى ولوأعطيناها ما معروف عندنا "بالدومنيون هوم رول" (الاستقلال الداخلي لأملاكنا) لأن المصريين لا يعدّون بلادهم من جملة الأملاك البريطانية ولا يعدّون أنفسهم رعية بريطانية. وهذا الفارق يوجب الفرق والتمييز بين قضية الارتقاء الدستوري في مصر وقضيته في البلدان الأخرى التي مضت عليها السنون وهى جزء من الإمبراطورية البريطانية كبلاد الهند البريطانية مثلا. فإننا نقول في كلامنا عن هذه البلاد إنها تبلغ حالة القومية (أوحالة الأمة) تدريجا، وأما المصريون فيقولون إنهم بلغوا هذه الغاية، ولا يمكن حتى يرضوا بحل لمستقبل مصر إذا لم يكن مبنيا على الاعتراف بدعواهم هذه بل يجب حينئذ إكراههم على قبوله إكراها.

وعندنا لقاء هذه الاعتبارات اعتبارات أخرى، وهي حتى مصر وإن لم تكن جزءا من الإمبراطورية البريطانية عملا فأهميتها حيوية لنظامنا الإمبراطوري كله. وأنها بلغت بإرشاد بريطانيا العظمى مستوى جديدا من الحضارة والتمدن. إذا هجرناها تنحط عنه كان ذلك شرا ووبالا فالتوفيق بين الدفاع عن هذه المصالح المصرية والبريطانية وبين الاعتراف لمصر بالحالة القومية ليس بالأمر اليسير، والإنسان يتوهم لأول وهلة حتى هذه القضية تزداد إشكالا وتعقيدا بسبب قوة مركزا الجاليات الأجنبية غير الجالية البريطانية في مصر ولكنه إذا أنعم النظر في ذلك عثر أنه يجعل تلك القضية أقل إشكالا، فليس في الشرق بلاد كمصر يكثر فيها النزلاء الأوربيون ويتمتعون بمزايا خصوصية، ويحتلون مراكز مهمة في التجارة والتعليم والصناعات الفهمية والأدبية والهيئة الاجتماعية ودواوين الحكومة أيضا. ثم إذا المدن المصرية الكبيرة ولاسيما الإسكندرية أضحت مدنا أوربية من وجوه، وستظل بلاد مصر بلادا دولية على الدوام بمعنى ما. فما من حل للقضية المصرية يدوم طويلا ما لم يراع فيه ضمان المصالح الأوربية العظيمة الحصينة المركز في وادي النيل، فلا عجب إذا ظهر كأن تلك القضية غير قابلة للحل وأنها فريدة في بابها. ولكن جميع ما في مصر - وجوها- فريد في بابه أيضا، وليس عندنا سوابق نتبعها لمعالجتنا لأحوال خارجة عن الحد المألوف كهذه، وكل نظام يطابقها يلزم حتىقد يكون جديدا غريبا ولا يصلح حتى يحكم عليه بعدم الصحة لمجرد كونها في حكم الأمور المتناقضة.

وبناء على هذه الصعوبات وصلنا تدريجا إلى هذه النتيجة، وهي حتى جميع حل تفرضه بريطانيا على مصر فرضا لا يرضي ولا يفي بالغرض، وأن الحكمة تقضي بالتماس حل يتفق عليه الفريقان أي بعقد معاهدة بين البلدين. ولم نر سبيلا آخر غير هذا. إلى إطلاق سراح مصر من الوصاية التي يعترض المصريون عليها اعتراضا شديدا بلا تعريض المصالح الحيوية التي تجب علينا وقايتها من الأخطار، وظهر لنا حتى جميع ما يلزم لوقايتها حتى يستوفي بعقد معاهدة ترضى فيها مصر لقاء تعهد بريطانيا العظمى بالدفاع عن سلامتها واستقلالها حتى تسترشد ببريطانيا العظمى في علاقتها الخارجية وتعطيها حقوقا معينة في الأراضي المصرية. أما الحقوق التي كنا نفكر فيها عملى نوعين: الأول حتىقد يكون لبريطانيا العظمى الحق في إبقاء قوة عسكرية في أرض مصر لتحمي مصلحتها الخصوصية في مصر أي سلامة مواصلاتها الإمبراطورية، والثاني حتىقد يكون لها نصيب من المراقبة على التشريع المصري والإدارة المصرية فيما يختص بالأجانب للدفاع عن جميع المصالح الأجنبية المشروعة. أما الامتياز الأول فليس بأكثر مما يمكن مصر، مع محافظتها على كرامتها، حتى تمنحه لحليف يتكفل بأن يحميها من جميع الأخطار الخارجية ولذلك تهمها قوته وسلامته أهمية حيوية. وأما الامتياز الثانى فليس فيه من الافتئات على استقلال مصر أكثر مما كانت دائما معرضة له بسبب الامتيازات الأجنبية *

على حتى استبدال ثلاث عشرة دولة تتمتع بحقوق الامتيازات في مصر بدولة واحدة فقط يزيد استقلالها ولا ينقصه، وزد على ذلك أننا- جريا على ما اتصفت به السياسة البريطانية في مصر- جعلنا قسما من مشروعنا حصر المزايا التى يتمتع بها الأجانب بمقتضى حق الامتيازات داخل حدود معقولة لتصير مصر ولية أمرها أكثر مما هى الآن. وذلك لا يمكن عمله إلا إذا كانت مصر تعترف بأن بريطانيا العظمى هى التى تحمى تلك الامتيازات الأجنبية بعد ردها إلى حدود معقولة.

وهذه النقطة الأخيرة بحاجة إلى إيضاح فنقول إذا القيود التى تقيد بها الامتيازات الأجنبية حقوق مصر المطلقة لها حسنات ولها سيئات. فحسناتها أنها تحمى حرية الأجانب وأملاكهم بكونها تضمن لهم العدل في أحكام المحاكم والسلامة من استبداد الحكام المحليين، وسيئاتها أنها تعفى

  • الامتيازات الأجنبية اسم أطلقه الأوربيون على الامتيازات التى نال بها الأجانب المقيمون في هجريا من سلاطين هجريا الأولين حقوقا خارجة عن حقوق بلادها إدامة للامتيازات المضارعة لها التى كانت السلطنة البيزنطية تمنحها للأجانب المقيمين في بلادها وهى تنحصر بفريق واحد فقط من الفريقين المتعاقدين ولا أجل لها ،وإنما تقبل التعديل بمعاهدات تالية لها، أما إذا كانت هذه المعاهدات التالية إلى أجل معين فالامتيازات تعود فتنتعش عند انقضاء ذلك الأجل، وكان القصد منها في الأصل تمكين المسيحيين من المتاجرة والسكنى في بلاد السلطنة العثمانية بوقايتهم من الظلم أوالعسف الذى كان يمكن حتى ينالهم لكونهم غربا، ويدينون بدين آخر. ويبتدىء تاريخ الامتيازات التى منحت لبريطانيا العظمى من عهد قديم جدا ولكنها بعدما غيرت وحورت تغييرات متعددة بحسب تاريخها الآن منذ سنة 1657، وقد ثبتت في معاهدة الصلح التى عقدت في الدردنيل سنة 1809 ومنحت الامتيازات لفرنسا في السنين 1581، 1604، 1673 وجددت سنة 1740 ومنحت الامتيازات للدنمارك سنة 1612 وجددت سنة 1680 ولا تزال نافذة المفعول ونالت الدول العظام كلها تقريبا امتيازات كهذه من الباب العالى في أوقات مختلفة في الاربعمائة سنة الماضية.

فوجود الامتيازات الأجنبية في مصر ناتج عن هذه المعاهدات الخاصة بالفريق المتعاقد مع الباب العالى (دون الباب العالى نفسه) وقد كان عدد الدول التى تتمتع بها قبل الحرب خمس عشرة دولة: وهى بريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا وهولندا والبلجيك ونروج وأسوج والدانمرك واليونان والبرتغال وروسيا والمانيا وألنمسا وهنجاريا فانتهت امتيازات الدولتين الأخيرتين بعقد معاهدتى فرسايل وسان جرمان. وتتضمن الحقوق التى تخولها الامتيازات للأجانب في مصر علاوة على بعض الامتيازات التجارية إعفاءهم من الضرائب الشخصية بلا مصادقة عليها من حكوماتهم وحفظ حرمة منازلهم وحمايتهم من القاء القبض عليهم استبدادا وإخراجهم عن دائرة اختصاص المحاكم الأهلية، فأفضى أمر هذا الامتياز الأخير بعد إنشاء المحاكم المختلطة سنة 1876 إلى عدم تطبيق تشريع على الأجانب بلا مصادقة الدول ذوات الامتيازات، وأن القضايا المدنية التى تقع بين الأوربيين والأهالى أوبين الأوربيين المنتمين إلى شعوب مختلفة تنظر أمام المحاكم المختلطة وأما القضايا الجنائية التى تتعلق بالأوربيين وكذلك القضايا المدنية التى تقع بين أوروبيين من شعب واحد فتنظر أمام المحاكم القنصلية ، وتستعمل فيها قوانين بلادها. ولا يؤدى الأجانب الآن ضريبة من الضرائب الداخلية غير عوائد الأملاك وأموال الأطيان.

الأجانب من الضرائب ومن وجوب اتباع القوانين المحلية واللوائح العادلة فتؤخر بذلك تقدم البلاد تأخيرا عظيما لا مسوغ له، ولذلك كانت سياسة بريطانيا العظمى ولا تزال التخلص من الامتيازات الأجنبية واستبدالها بنظام يحمي جميع المصالح الأجنبية المشروعة، ويبطل الامتيازات التي يتمتع بها الأجانب الآن والتي لا يمكن الدفاع عنها وللوصول إلى هذه الغاية دارت المفاوضة منذ مدة بين بريطانيا العظمى والدول التي لها حقوق في مصر بموجب الامتيازات ولكن هذه الدول لا يمكن حتى تتنازل عن تلك الحقوق ما لم تحصل على ضمان بأن أبناء وطنها يحصلون على العدل والمعاملة بالإنصاف في المستقبل. ولإعطائها هذا الضمان يجب حتى توضع بريطانيا العظمى في مركز يمكنها من تطبيقه ، فمن مصلحة مصر إذن حتى يمكن بريطانيا العظمى حتى تحمي الامتيازات التي يتمتع بها الأجانب الآن في مصر ويقضي العدل والإنصاف بإبقائها فيها. وبهذا المعنى يجب حتى يفسر الاعتراف في معاهدات الصلح الحديثة بمركز بريطانيا العظمى في مصر.

هذه هي أوصاف التسوية التي بتنا نرى أنها تضبط العلاقات بين بريطانيا العظمى ومصر في المستقبل ذكرناها بوجه الإجمال وهجرنا تفصيلها لنشرحه بعد، فلما شرعنا نناقش فيها المصريين الذين كنا نحن وإياهم على وداد- وكلهم من ذوي الآراء المتقدمة في الوطنية تقدما متفاوتا في القلة والكثرة- وجدنا منهم ما شدد عزائمنا وهولقاءتهم لاقتراحاتنا بالميل إليها والعطف عليها لأنهم يرتاحون إلى فكرة عقد معاهدة أوتسوية يتفق عليها الفريقان كما يتفق الند مع ندّه لا كما يملي الأعلى على الأدنى لمطابقتها لشعورهم بأنهم شعب قائم برأسه ولحفظ كرامتهم القومية ، إذ الأمر الظاهر حتى تلك الفكرة تنطوي على الاعتراف مبدئيا باستقلال مصر ولا تطابق النظرية التي تعتبر بموجبها مصر ملكا من الأملاك البريطانية. ولما نظروا في الشروط التي اشترطناها في اقتراحنا وعلقناها على ذلك الاعتراف سلموا بأنها وإن كانت شروطا لا يقبلها الوطنيون المتطرفون لكنها من الشروط التي يستطيعون حتى يسوغوها ويبرروها أمام أبناء وطنهم لكونها تطابق حالتهم القومية وكونهم أمة قائمة بنفسها، فإنهم لا يستطيعون المحافظة على تلك الحالة إلا إذا أيدتهم بريطانيا العظمى فيها. ويحق لبريطانيا العظمى حتى تأخذ بدلا معقولا لهذا التأييد الذي لا غنى عنه لمصر وهذا البدل إنما هوالإشراف على سياسة مصر الخارجية وإبقاء قوة في أرض مصر لتمضية أغراضها الإمبراطورية. أما فيما يختص بشؤون مصر الداخلية فمصر تكون ولية أمرها وحاكمة نفسها بنفسها تماما إلا فيما يختص بامتيازات الأجانب. وأما القيود التي يتقيد بها حكم مصر نفسها بنفسها من بقاء بعض من تلك الامتيازات فلا تكون أكثر بل أقل مما كانت طول الزمان وأثنطقها تكون أيضا أخف مما كانت. ولا ينكر بعد هذه الاعتبارات حتى التسوية التي اقترحناها لم تقترح حبا، بمصلحة بريطانيا العظمى وحدها بل بها وبمصلحة مصر أيضا ولذلك يمكن الدفاع عنها بحجة كونها تصلح لأن تكون أساسا عادلا معقولا ليبنى عليه تعاون الأمتين في المستقبل.

ولا يسعنا ذكر رأي المصريين الذين ذكرناهم في هذه التسوية إلا بوجه الإجمال لأن المناقشات طالت بيننا وبينهم، والاختلاف كثر في الرأي بينهم أنفسهم عند التفصيل وقضينا وقتا طويلا في مجادلات مملة لا نهاية لها في معاني ألفاظ "الحماية" و"السلطة" و"الاستقلال التام" ، ولكن ذلك كله لم يمنع من إنعام النظر طويلا في مواد المعاهدة التي كنا نفكر فيها ولا أدل على حتى الاتفاق عليها غير ممكن. وينطق بالإجمال إذا الأحاديث التي جرت ونحن بمصر أرتنا أننا تقدمنا كثيرا في سبيل الاتفاق والتفاهم مع المصريين، وأننا انتقلنا خصوصا من جوإلى جوخير منه كثيرا لأن الجفاء الذي استحوذ أخيرا على جميع المصريين من أنصار الوطنية والشبهات التي دبت في نفوسهم من جهة بريطانيا العظمى ابتدأت تزول، واشتدت الآمال باستمالة الفئات المعتدلة منهم لتأييد سياسة المصالحة والمسالمة.

ولكن جميع ما كان يمكننا عمله ونحن في مصر للوصول إلى نتائج معينة محدودة كان أيضا محدودا لأنه لم يكن من اختصاصنا حل القضية المصرية وتسويتها لأننا إنما انتدبنا لنشير بخير الطرق التي يجب اتباعها للوصول إلى تلك الغاية. والمصريون الذين حادثناهم هناك كانوا يقولون كلهم أفرادا وجموعا إنهم إنما يعربون عن آرائهم الخصوصية ولا يدّعون بأنهم يتحدثون بلسان الجمهور من أهل بلادهم بل إذا أكثرهم تجاوز هذا الحد ونطقوا إذا زغلول باشا ووفده هم وحدهم الذين فوّض إليهم الناس عموما تمثيل الأمة المصرية. أما نحن فلم نكن نسلم طبعا بأن زغلول باشا ورفاقه حائزون لكل السلطة التي يدعونها لهم؛ ولكنا مع ذلك لم نكن نستطيع حتى نتعامى عن رؤية الحقيقة وهي أنهم كانوا في هذه المدة أقوى قادة الرأي العام المصري،وأن لا أمل بأن المشروع الذي يعارضونه يحوز حسن الالتفات أويقع مسقط القبول عند الجمهور. وكان من الضروري في اعتبارنا، كما قلنا للمصريين في أول الأمر، إذا المعاهدة التي نفكر في عقدها مع مصر لا تعقد عقدا عهديا فقط بل عهديا وأدبيا أيضا إذا أريد حتى تكون لها قيمة حقيقية فهي تكون لها شكلا معاهدة بين الحكومة البريطانية والحكومة المصرية، ولكن عقدها بين الحكومتين فقط غير كاف لأنه يمكن حتى ينطق دائما بعد ذلك إذا الحكومة المصرية لم تكن حرة مختارة في عقدها بل إنها كانت مكرهة على قبول جميع شرط تشترطه بريطانيا العظمى، وأنها على جميع حال حكومة أوتوقراطية استبدادية لا تمثل الشعب المصري حقيقة. فلذلك كان من الأمور الجوهرية في مشروعنا حتى لا تنفذ المعاهدة إلا إذا وافقت عليها جمعية مصرية تنوب عن الأمة المصرية نيابة حقيقية، فإما حتى تكون الجمعية التشريعية الحالية التي أوقفت جلساتها منذ نشوب الحرب، أوتكوين هيئة جديدة تنتخب لتلك الغاية وذلك أفضل. ولكن المصريين أولى منا نحن بأن يحكموا أي جمعية تعدّ عندهم أحسن جمعية تمثل رأي الأمة، وإنما ينبغي على جميع حال حتى تكون جمعية منتخبة من الشعب تتناقش وتتداول بتمام الحرية، وتأخذ قراراتها بلا ضغط عليها من جهة من الجهات رسمية أوغير رسمية.

وكان الجميع يؤكدون لنا حتى زغلول باشا ورفاقه ينالون الأكثرية الكثيرة إذا لم ينالوا الأكثرية المطلقة في مثل هذه الجمعية، ولذلك رأينا من الحماقة في مثل هذه الحالة حتى نهجر الرسميات تحول دون مناقشتنا له إذا شاءوا الكلام معنا، فإننا من أول الأمر دعونا وجوه المصريين ليبسطوا لنا آراءهم بلا محذور على فريق من الفريقين، وكان يحتمل حتى زغلول باشا الذى كان حينئذ في باريس يعود إلى مصر ليقابل لجنتنا لأن المصريين الذين كانوا يحادثوننا حينئذ بذلوا الجهد لإقناعه بذلك، وكان بعضهم من أقوى أنصاره وساعدهم عدلى باشا في ذلك أيضا بما له من الحدثة النافذة لأنه ولوكان مستقلا عنهم كانت العلاقات ودية بينه وبين زغلول باشا، وكان يروم جدا حتى يجتمع به، ولكن زغلول باشا لم يكن يرى إذ ذاك إجابة أصدقائه إلى طلبهم، ومع حتى المخاطبات الكثيرة دارت بينه وبينهم في أواخر مدة إقامتنا هناك، بقى في باريس ولم يغادرها في ذلك الحين.

ولذلك كانت الحالة لما سافرنا من مصر كما يأتى:

استقينا معلومات عديدة من مصادر بريطانية ومصرية عن الأحوال إذ ذاك وانتهزنا الفرص الكثيرة لنعهد بأنفسنا حالة شعور الجمهور، وقررنا رأينا في أحسن سياسة توفق بين المصالح البريطانية والمصالح المصرية، ولكنا لم نكن نستطع حينئذ حتى نحكم في أمر المشروع الذى كنا نفكر فيه، لأننا لوفرضنا أنه سقط مسقط القبول عند البريطانيين فلم يكن يمكننا حتى نقول إنه يلقى في مصر التأييد الكافى الذى يسوغ قضاء الوقت في وضع تسوية على مبادئنا فيه. ولهذا كانت غاية ما نستطيع عمله حتى نحمل تقريرا عن الحالة كما وجدناها، ويدل على النتائج التى أوصلنا بحثنا وتحقيقنا إليها ونبسط الراتى حتى ازدياد حسن التفاهم الذى رأينا دلائله بين البريطانيين والمصريين يمكن أخيرا من تعيين حالة مصر في المستقبل باتفاق الفريقين.

(3) أعمال اللجنة بعد مغادرتها لمصر ـــــ ( ا ) مناقشات مع رجال من الوفد المصري بلندن

غادرنا مصر في الأسبوع الأول من شهر مارس وسافرنا في طرق مختلفة، والتقينا في لندن ثانية في أواسط أبريل لكتابة تقريرنا. وبعد الابتداء به بقليل جدّ أمر لم يكن غير منتظر تماما، فوقفنا عملنا آملين حتى نفهم منه أكثر مما كنا نفهم عن النقطة الكبرى التى فارقنا القطر المصرى ونحن مرتابون فيها، وتلك النقطة هى كما أوضحنا قبلا الموقف الذى يمكن حتى يقفه أقطاب أهل الرأى الوطنى بإزاء السياسة التى كنا نحن نميل الى نصح الحكومة البريطانية باتباعها فحدث الآن ما يمكن حتى يجلوالشك عن هذه النقطة وذلك باتصال اللجنة بزغلول باشا رأسا.

ففى أواخر، أبريل زار عدلى باشا باريس وهوموضوع التجلة والاحترام من جميع مواطنيه، وكانت نصائحه لنا في مصر من أعظم النصائح قيمة، فقصد زغلول باشا من فوره وجعل يحدثه لكى يجمع بينه وبين اللجنة. عملمنا في أوائل شهر مايوأنه بحسن مساعى عدلى باشا بالأكثر رضى زغلول باشا وأعضاء الوفد حتى يعدلوا عن خطتهم الأولى وأن يتصلوا باللجنة مباشرة. واتفق في الأسبوع الثالث من مايوحتى مستر هرست ( والآن السير سسل ) كان في باريس، فأبلغهم دعوة للاجتماع باللجنة في لندن، ولما أيقن زغلول باشا ألاّ حرج عليه في ذلك على مركزه من حيث كونه المحامي عن الاستقلال المصري وصل إلى لندن في ثلاثة يونيه ورافقه سبعة من أعضاء الوفد ثم التحق بهم عضوأوعضوان آخران.

ودار الكلام بينهم وبين اللجنة في أوقات متعددة تخللها فترات كثيرة لانشغال عدة من أعضاء اللجنة بأشغال أخرى، ولذلك استمر الكلام إلى أواسط شهر أغسطس، وجرت تلك المناقشات الطويلة على صور وأشكال شتى: فعدد منها جرى في جلسات تحضرها هيئة اللجنة للاجتماع بزغلول باشا ورفاقه بحضور عدلي باشا أيضا، والنقط التي كانت تصعب المناقشة فيها في هيئة كبيرة كهذه كانت تحال من وقت إلى آخر إلى لجان فرعية مؤلفة من أفراد قليلين من الفريقين فيتناقشون فيها ويفضونها عادة. وزد على ذلك أنه كثيرا ما كان الكلام يدور في الفترات التي تتخلل الجلسات لرسمية بين أفراد من أعضاء اللجنة وواحد أواثنين من المصريين فيأتي بفائدة كثيرة. ولا فائدة من الإسهاب في وصف الوجوه الكثيرة المتغيرة التي جرت عليها هذه المناقشة الطويلة فنقتصر على تبيان أوصافها العمومية.

ونبتدئ بذكر ما نسطره بالسرور والارتياح وهوحتى العلاقات كانت بيننا على غاية الصفاء والوداد من الأول إلى الآخر حتى أنه لما كان الاختلاف في الرأي بيننا يبلغ غايته، فإن الجدال كان يجري بيننا بمزيد الصداقة، ولا يخامرنا الريب يوما في حتى زائرينا كانوا يرومون بكل إخلاص مثلنا حتى يجدوا مخرجا من مشاكل الحال ومصاعبها ولكنهم، ونخص بالذكر زغلول باشا نفسه منهم، كانوا مقيدين بقيود الخطة التي اختطوها لأنفسهم قبل ذلك بمدة حين كانوا يعتقدون حتى بين أماني المصريين وسياسة بريطانيا العظمى هوّة لا يمكن عبورها للتوفيق بينهما. ولما رأوا أنهم أخطأوا فهم تلك السياسة تعذّر عليهم حتى يعدلوا مركزهم حتى يطابق رأيهم بعد تغييره في مقاصد بريطانيا العظمى. فلطالما نطقوا لنا المرة بعد المرة إنهم لا يستطيعون قبول اقتراح عرضناه عليهم مع عدم منازعتهم في مطابقته للعدل والإنصاف، وما ذلك إلا لكونه لا يطابق "التوكيل" الذي أخذوه من الشعب المصري. ولم نكن نجني نفعا من قولنا لهم إذا " التوكيل " الذي يدّعونه هوالبيان الذي وضعوه هم أنفسهم، وأن الجمهور المصري إنما قبله منهم فليس ثم ما يمنعهم من تعديل سياسة هي من بنات أفكارهم، فكانوا يجيبوننا دائما أنه ليس لهم سلطة لأن يحيدوا عن المطالب التي صادقت عليها الأكثرية الكبرى من أهل بلادهم والتي كانت في الأصل قد عرضت منهم. فكان النداء الحربي الذي دوّى بمصر في الثمانية عشر شهرا الماضية حجر عثرة دائما في الطريق، ولذلك كنا حدثا قربنا من الاتفاق على أمر جوهري في سياق المناقشة نجد من الصعوبة مالا يعرض في إلباس ذلك الاتفاق ثوبا من التعبير لا يغاير الصيغ التي يرى المصريون أنفسهم مقيدين بحفظها.

وقبلوا فكرة عقد معاهدة بين بريطانيا ومصر حالما عرضت عليهم، وقد ابتدأنا بها في سيرنا ولولاها لما تقدمنا تقدما يذكر، ولما وصلنا إلى التناقش في شروط المعاهدة التي تتضمن

الضمانات القليلة الجوهرية للمصالح البريطانية والأجنبية تهيّب المصريون الموافقة على أمر يمكن حتى ينافى الاستقلال الذى يرمون إليه، الواقع حتى اقتراحاتنا لم تكن تنافى ذلك الاستقلال إذا فسرت حق تفسيرها كما كان المصريون أنفسهم أوبعضهم على الأقل يعترفون به، ولكنهم كانوا دائما في وجل من حتى أبناء وطنهم لا يرون رأيهم فيعدونهم في مصر خائنين للقضية المصرية.

ومع جميع هذه المصاعب فقد ذللناها تدريجا الواحدة بعد الأخرى، وفزنا أخيرا بوضع رسم للتسوية ارتاح إليه الفريقان بعضهم كثيرا وبعضهم قليلا. ولم نصل إلى هذه النتيجة إلا بعد ما تساهلت اللجنة في أمور كثيرة نخص منها بالذكر أمرا نعود إلى ذكره بالإسهاب قريبا فإننا وافقنا على طلب للمصريين كنا عازمين على مقاومته في أول الأمر، وإنما وافقنا عليه لفهمنا أنه يرضى أهل مصر أكثر من جميع أمر سواه. فرأينا أنه مهما كلفتنا الموافقة عليه فثمنه لا يعد غاليا علينا إذا اكتسبنا موافقة الأمة المصرية الودية على المشروع برمته. ثم يلزمنا حتى نعترف حتى الوفد كان يميل إلى التجاوز عن كثير من مطالبه لرغبته الشديدة في الاتفاق وحسن التفاهم مع اللجنة.

أعجبتنا التسوية التى توصلنا إليها نظرا إلى ما هى عليه بذاتها، ولكن على شرط واحد جوهرى وهوحتى زغلول باشا ورفاقه يكفلون بأن يستعملوا نفوذهم لحمل أهل مصر على قبولها بعد ذلك بأن تصادق جمعية من مصرية شعبية على معاهدة تنفذ بها تلك التسوية. وهذا الشرط لا يزيد عما يحق لنا حتى نطلبه منهم. ولم نكن ننتظر حتى يعدونا بنجاح مسعاهم، كما أننا نحن لا نقدر حتى نعدهم بأن الحكومة البريطانية والأمة البريطانية توافقان على مشورتنا وتقبلان نصيحتنا، والذى طلبناه منهم إنما هوحتى يتكفلوا بأن يؤيدوا النتيجة التى وصلنا إليها نحن وإياهم معا من صميم قلوبهم، لأنهم إذا لم يعملوا ذلك ضعف الأمل في فهم التسوية حق الفهم في مصر أوفي استقبالها بالترحيب والارتياح. وإن لم يكن لنا نحن هذا الأمل فمن العبث حتى نحبذ هذه التسوية للشعب البريطانى ونقول له إنها حل للقضية المصرية، لأننا نعتقد حتى الشعب البريطانى يرضى حتى يجود في الشروط التى يعقدها مع مصر إذا كان يقتنع بأن تلك الشروط تقبل بالشكر، وأنها تؤول إلى تحسين العلاقات تحسينا دائما وإلى التعاون بالصدق والإخلاص بينهم وبين المصريين في المستقبل.

أما زغلول باشا ورفقاؤه فلمقد يكونوا مستعدين لأن يتكلفوا بهذا المقدار ، أوحتى يتقيدوا إلى هذا الحد لخوفهم من حتى ينكرهم كثيرون من أتباعهم في مصر ، ولذلك ظلوا يطلبون التعديل والتحوير في الشروط المتفق عليها،وذلك بالأكثر في شكله لكى يجعلوها أقرب إلى قبول الرأى العام المصرى، فتساهلنا لهم بقدر ما تقتضيه الحكمة ،لأننا نحن أيضا مضطرون إلى مراعاة الرأى العام البريطانى كما أوضحنا لهم ؛ فلا فائدة من موافقتنا على جميع ما يرومونه منا لإرضاء المصريين إذا كانت موافقتنا تقضى إلى رفض المشروع كله في بريطانيا العظمى ، فكأننا قد بلغنا والحالة هذه سدّاً لا منفذ له.

(ب) مذكرة 18 أغسطس سنة 1920

ولما بلغت المسألة هذه الفترة اقترح المصريون توقيف البحث والمناقشة إلى حين، ريثما يزور بعض أعضاء الوفد القطر المصري ليوضحوا للناس هناك ماهية التسوية التي تميل اللجنة إلى تحبيذها، والمنافع العظيمة التي تنتفعها مصر منها. فإذا أحسن الناس ملقاهم كما يؤملون كان ذلك توكيلا لهم يسوّغ للوفد بعد رجوع رسله حتى يتكفل بتأييد اقتراحاتنا بلا قيد ولا شرط. فاستصوب زغلول باشا هذه الفكرة، ولكنه لم يشأ حتى يسافر بنفسه، ورغب ثلاثة أوأربعة من رفاقه في السفر.

وكان لهذا الاقتراح مزايا ظاهرة في نظر الأعضاء المصريين، لأنه يمكّن رسلهم حتى يحثوا على قبول بعض الشروط من غير حتى يتقيدوا بها فلا ينفردوا بذلك عن حزبهم إذا لم تقابل تلك الشروط بالرضا والاستحسان. وكان لهذا الاقتراح مزايا لنا نحن أيضا لأن المناقشة التي تقع بين الجمهور في مصر على أثره تمكننا من سبر غور الرأي المصري أكثر مما تيسر لنا سبره فيما مضى، وأن نقارن بين قوة المعتدلين وقوة المتطرفين من أنصار الحركة الوطنية. وعليه خطت مذكرة حاوية بعبارة مجملة أشهر خصائص التسوية التي تحبذها اللجنة وتشير بقبولها على الشرط المعين آنفا. فكان وضع هذه المذكرة خاتمة المساعي التي سعيناها لإفراغ نتيجة مناقشاتنا في نطقب معين وعلى شكل محدود. وكان الغرض منها تمكين رسل الوفد من استخلاص تعبير تعرب عن الرأي العام المصري، فهذه المذكرة التي سميت اتفاق ملنر وزغلول ليست اتفاقا كما هوظاهر عليها، وإنما هي رسم للقواعد التي يمكن حتى يبنى عليها اتفاق بعد وضعها. فدفعها اللورد ملنر إلى عدلي باشا الذي كان وسيطا بين الفريقين، وكان له نصيب عظيم في جميع مفاوضاتنا، وطلب منه حتى يوصلها إلى زغلول باشا وأصحابه، وكان المفهوم أنهم يستعملونها كما شاءوا في مناقشاتهم العمومية وهي مؤرخة في 18 أغسطس وهذا نصها:

إن المذكرة المرسلة مع هذا هي نتيجة المحادثات التي دارت بلندن في شهري يونيه وأغسطس سنة 1920 بين اللورد ملنر وأعضاء اللجنة الخصوصية المنتدبة لمصر، وبين زغلول باشا وأعضاء الوفد المصري. وقد اشهجر عدلي باشا في تلك المفاوضات أيضا، وهي تعبير عن رسم سياسة يقصد بها تسوية المسألة المصرية على أحسن وجه لمصلحة بريطانيا العظمى ومصلحة مصر كلتيهما.

فأعضاء اللجنة مستعدون لأن يشيروا على الحكومة البريطانية بقبول السياسة المبينة في هذه المذكرة إذا اقتنعوا حتى زغلول باشا وأعضاء الوفد مستعدون أيضا للدفاع عنها والترغيب فيها، وأنهم يستعملون جميع نفوذهم ليحصلوا على مصادقة جمعية وطنية مصرية على عقد معاهدة كالمعاهدة المبينة في المادتين ثلاثة و4.

وواضح أنه إذا كان الفريقان لا يتحدان قلبيا على تأييد الخطة المقترحة هنا فاتباعها لا يصادف نجاحا،


الإمضاء: (ملنر)


مذكرة

1 - لكى يبنى استقلال مصر على أساس متين دائم يلزم تحديد العلاقات بين بريطانيا العظمى ومصر تحديدا دقيقا، ويجب تعديل ما تتمتع به الدول ذوات الامتيازات في مصر من المزايا وأحوال الإعفاء وجعلها أقل ضررا بمصالح البلاد.

2 - ولا يمكن تحقيق هذين الغرضين بغير مفاوضات جديدة تحصل للغرض الأول بين ممثلين معتمدين من الحكومة البريطانية وآخرين معتمدين من الحكومة المصرية، ومفاوضات تحصل للغرض الثانى بين الحكومة البريطانية وحكومات الدول ذوات الامتيازات، وهذه المفاوضات ترمى إلى الوصول إلى اتفاقات معينة على القواعد الآتية:

3 - (أولا) تعقد معاهدة بين مصر وبريطانيا العظمى، تعترف بريطانيا العظمى بموجبها باستقلال مصر كدولة ملكية دستورية ذات هيئات نيابية، وتمنح مصر بريطانيا العظمى الحقوق التى تلزم لصيانة مصالحها الخاصة، ولتمكينها من تقديم الضمانات التى يجب حتى تعطى للدول الأجنبية لتحقيق تخلى تلك الدول عن الحقوق المخوّلة لها بمقتضى الامتيازات.

(ثانيا) تبرم بموجب هذه المعاهدة نفسها محالفة بين بريطانيا العظمى ومصر، تتعهد بمقتضاها بريطانيا العظمى حتى تعضد مصر في الدفاع عن سلامة أرضها، وتتعهد مصر بأنها في حالة الحرب حتى ولولم يكن هناك مساس بسلامة أرضها تقدم داخل حدود بلادها جميع المساعدة التى في وسعها إلى بريطانيا العظمى، ومن ضمنها استعمال ما لها من الموانى وميادين الطيران ووسائل المواصلات للأغراض الحربية.

4 - تضم هذه المعاهدة أحكاما للأغراض الآتية:

(أولا) تتمتع مصر بحق التمثيل في البلاد الأجنبية، وعند عدم وجود ممثل مصري معتمد من حكومته تعهد الحكومة المصرية بمصالحها إلى الممثل البريطاني،وتتعهد مصر بأن لا تتخذ في البلاد الأجنبية خطة لا تتفق مع المحالفة، أوتوجد صعوبات لبريطانيا العظمى، وتتعهد كذلك بأن لا تعقد مع دولة خارجية أي اتفاق ضار بالمصالح البريطانية.

(ثانيا) تمنح مصر بريطانيا العظمى حق إبقاء قوة عسكرية في الأرض المصرية لحماية مواصلاتها الإمبراطورية، وتعيّن المعاهدة المكان الذي تعسكر فيه هذه القوة، وتسوي ما تستتبعه من المسائل التي بحاجة إلى التسوية، ولا تعتبر وجود هذه القوة بأي وجه من الوجوه احتلالا عسكريا للبلاد كما أنه لا يمس حقوق حكومة مصر.

(ثالثا) تعين مصر بالاتفاق مع الحكومة البريطانية مستشارا ماليا، يعهد إليه في الوقت اللازم بالاختصاصات التي لأعضاء صندوق الدين الآن ويكون تحت تصرف الحكومة المصرية لاستشارته في جميع المسائل الأخرى التي قد ترغب في استشارته فيها.

(رابعا) تعين مصر بالاتفاق مع الحكومة البريطانية موظفا في وزارة الحقانية، يتمتع بحق الاتصال بالوزير، ويجب إحاطته فهما بجميع المسائل المتعلقة بإدارة القضاء فيما له من مساس بالأجانب، ويكون أيضا تحت تصرف الحكومة المصرية لاستشارته في أي أمر مرتبط بتأييد القانون والنظام العام.

(خامسا) نظرا لما في النية من نقل الحقوق التي تستعملها إلى الآن الحكومات الأجنبية المتنوعة بموجب نظام الامتيازات إلى الحكومة البريطانية، تعترف مصر بحق بريطانيا العظمى في التدخل بواسطة ممثلها في مصر لتمنع حتى يطبق على الأجانب أي قانون مصري يستدعي الآن موافقة الدول الأجنبية، وتتعهد بريطانيا العظمى من جانبها بأن لا تستعمل هذا الحق إلا حيثقد يكون مفعول القانون مجحفا بالأجانب.

صيغة أخرى لهذه الفقرة

" نظرا لما في النية من نقل الحقوق التي تستعملها إلى الآن الحكومات الأجنبية المتنوعة بموجب نظام الامتيازات إلى الحكومة البريطانية، تعترف مصر بحق بريطانيا العظمى في التدخل بواسطة ممثلها في مصر لتمنع حتى يطبق على الأجانب أي قانون مصري يستدعي الآن موافقة الدول الأجنبية، وتتعهد بريطانيا العظمى من جانبها بأن لا تستعمل هذا الحق إلا في حالة القوانين التي تتضمن تمييزا مجحفا بالأجانب في مادة فرض الضرائب، أولا تتفق مع مبادئ التشريع المشهجرة بين جميع الدول ذوات الامتيازات".

(سادسا) نظرا للعلاقات الخاصة التي تنشأ عن المحالفة بين بريطانيا العظمى ومصر يمنح الممثل البريطاني مركزا استثنائيا في مصر ويخول حق التقدم على جميع الممثلين الآخرين.

(سابعا) الضباط والموظفون الإداريون من بريطانيين وغيرهم من الأجانب الذين دخلوا خدمة الحكومة المصرية قبل العمل بالمعاهدة يجوز انتهاء خدمتهم بناء على رغبتهم أورغبة الحكومة المصرية في أي وقت خلال سنتين بعد العمل بالمعاهدة، وتحدد المعاهدة المعاش أوالتعويض الذي يمنحه الموظفون الذين يهجرون الخدمة بموجب هذا النص زيادة على ما مخول لهم بمقتضى القانون الحالي.

وفى حالة عدم استعمال الحق المخوّل بهذا الاتفاق تظل أحكام التوظف الحالية بغير مساس.

5 - تعرض هذه المعاهدة على جمعية تأسيسية، ولكن لا يعمل بها إلا بعد إنفاذ الاتفاقات مع الدول الأجنبية على إبطال محاكمها القنصلية وإنفاذ المراسيم المعدلة لنظام المحاكم المختلطة.

6 - يعهد إلى الجمعية التأسيسية في وضع قانون نظامي حديث تسير حكومة مصر في المستقبل بمقتضى أحكامه، ويتضمن هذا القانون النظامي أحكاما تقضي بجعل الوزراء مسئولين أمام الهيئة التشريعية، وتقضي أيضا بإطلاق الحرية الدينية لجميع الأشخاص، وبالحماية الواجبة لحقوق الأجانب.

7 - تحصل التعديلات اللازم إدخالها على نظام الامتيازات باتفاقات تعقد بين بريطانيا العظمى والدول المتنوعة ذات الامتيازات، وتقضي هذه الاتفاقات بإبطال المحاكم القنصلية الأجنبية، لكي يتيسر تعديل نظام المحاكم المختلطة، وتوسيع اختصاصها وسريان التشريع الذي تسنه الهيئة التشريعية المصرية ( ومنه التشريع الذي يفرض الضرائب) على جميع الأجانب في مصر.

8 - تنص هذه الاتفاقات على حتى تنتقل إلى الحكومة البريطانية الحقوق التي كانت تستعملها الحكومات الأجنبية المتنوعة بمقتضى نظام الامتيازات، وتضم أيضا أحكاما تقضي بما يأتي:

(أولا) لا يسوغ العمل على التمييز المجحف برعايا أي دولة وافقت على إبطال محاكمها القنصلية، ويتمتع هؤلاء الرعايا في مصر بنفس المعاملة التي يتمتع بها الرعايا البريطانيون.

(ثانيا) يؤسس قانون الجنسية المصرية على قاعدة النسب، فيتمتع الأولاد الذين يولدون في مصر لأجنبي بجنسية أبيهم ولا يحق اعتبارهم رعايا مصريين.

(ثالثا) تخول مصر موظفي قنصليات الدول الأجنبية نفس النظام الذي يتمتع به القناصل الأجانب في إنجلترا.

(رابعا) المعاهدات والاتفاقات الحالية التى اشهجرت مصر في التعاقد عليها في مسائل التجارة والملاحة، ومنها اتفاقات البريد والتلغراف تظل نافذة المفعول. أما في المسائل التى ينالها مساس من جراء إبطال المحاكم القنصلية، فتعمل مصر بالمعاهدات النافذة المفعول بين بريطانيا العظمى والدول الأجنبية صاحبة الشأن، مثل معاهدات تسليم المجرمين وتسليم البحارة الفارين، وكذلك المعاهدات التى لها صبغة سياسية، سواء أكانت معقودة بين أطراف عدّة، أم بين طرفين كاتفاقات التحكيم، والاتفاقات المتنوعة المتعلقة بسير الحروب، وذلك كله ريثما تعقد اتفاقات خاصة تكون مصر طرفا فيها.

(خامسا) تضمن حرية إبقاء المدارس، وتعليم لغة الدولة الأجنبية صاحبة الشأن، على شرط حتى تخضع هذه المدارس من جميع الوجوه للقوانين السارية بوجه عام على المدارس الأوربية بمصر.

(سادسا) تضمن أيضا حرية إبقاء أوإنشاء معاهد دينية وخيرية كالمستشفيات الخ. وتنص المعاهدات أيضا على التغيرات اللازمة في صندوق الدين، وعلى إبعاد العنصر الدولى عن مجلس الصحة في الاسكندرية.

9 - التشريع الذى تستلزمه الاتفاقات السالفة الذكر بين بريطانيا العظمى والدول الأجنبية يعمل به بمقتضى مراسيم تصدرها الحكومة المصرية.

وفى الوقت عينه يصدر مرسوم يقضى باعتبار جميع الإجراءات التشريعية والإدارية والقضائية التى اتخذت بمقتضى الأحكام العهدية سليمة.

10 - تقضى المراسيم المعدلة لنظام المحاكم المختلطة بتخويل هذه المحاكم جميع الاختصاص الذى كان مخولا إلى الآن للمحاكم القنصلية الأجنبية، ويهجر اختصاص المحاكم الأهلية غير ممسوس.

11 - بعد العمل بالمعاهدة المشار إليها في البند الثالث تبلغ بريطانيا العظمى نصها إلى الدول الأجنبية، وتعضد الطلب الذى تقدمه مصر للدخول عضوا في جمعية الأمم.

(ج) سياسة المذكرة

أولا- تمثيل مصر في البلاد الأجنبية:

إن سياسة المذكرة التى مر ذكرها مطابقة بجملتها للنتائج التى توصلنا إليها قبل سفرنا من مصر بناء على الأسباب التى أبنّاها آنفا، ولكن نتيجة المناقشات التى دارت بيننا وبين زغلول باشا ورفاقه صيرتنا مستعدين للذهاب إلى أبعد منها. وأهم نقطة حملتنا حججهم على تعديل رأينا فيها ظاهرة في المذكرة ظهورا عظيما. وهى حق مصر في تعيين ممثليها في البلدان الأجنبية. فقد كنا ولا نزال نرى من المبادئ الأساسية حتى تكون علاقات مصر الخارجية تحت إدارة بريطانيا العظمى بوجه العموم. وجميع عقلاء المصريين يدركون عظم قيمة الضمان الذي ينالونه من محالفة بريطانيا العظمى لهم مهما كانت أميالهم شديدة إلى الحركة الوطنية. وواضح أنه لا يمكن حتى ينتظر من بريطانيا العظمى حتى تحمل على عاتقها مسئولية الدفاع عن سلامة مصر واستقلالها من جميع الأخطار إذا هجرت مصر وشأنها في اتباع السياسة الخاصة بها، ولوكانت ضارة بالسياسة البريطانية أوغير مطابقة لها، وهذه أولية لم ينازعنا فيها أحد من المصريين الذين كنا نناقشهم، بل كلهم كانوا مستعدين أنهم عند عقد معاهدة المحالفة يعطون جميع الضمانات اللازمة لمنع مصر من جميع عمل يمكن حتى تعمله إذا كان يسقط بريطانيا العظمى في ارتباك، ولم يقع بيننا وبينهم خلاف في الرأي في هذه النقطة عند المناقشة. ويظهر لنا حتى عبارات المذكرة المتعلقة بها تدل دلالة كافية على حتى الاتفاق عليها كان تاما بيننا. وإنما قلنا إنها تدل عليها دلالة كافية. لأنه لا يجب حتى يبرح من البال سواء كان في هذه النقطة أوفي غيرها أننا لما كنا نضع المذكرة لم نكن نحرر معاهدة، بل كنا نعرب بعبارات معتادة عن الآراء والأفكار التي تذكر بالتفصيل، وبمزيد الضبط والتدقيق في المعاهدة التي يفاوض فيها وتعقد بعد ذلك.

فالمسألة الحقيقية التي كانت موضوع الأخذ والعطاء لم تكن "هل يجب حتى تكون مصر حرة في اختيار سياسة خارجية مستقلة عن بريطانيا العظمى " إذ لا خلاف في حتى موافقتنا على هذه المسالة ضرب من المحال، وإنما كانت: هل يتضمن هذا المبدأ بالضرورة حتى تظل إدارة جميع علاقاتها الخارجية في أيد بريطانية ؟

فهذه المسألة كنا قد اتفقنا فيها على قرار نهائي قبل حتى نناقش المصريين فيها، وهذا القرار هوحتى تقتصر السيطرة البريطانية على علاقات مصر السياسية، وأما مصالح مصر التجارية وسواها من مصالحها الخارجية غير السياسية فالأفضل هجرها بيد المصريين، وهذه المصالح كثيرة وعددها آخذ في الازدياد، فاتساع نطاق التجارة والمواصلات، وازدياد عدد المصريين الذين يسافرون الآن إلى البلدان الخارجية. أويقيمون بها وخصوصا في غرب أوربا، والعلاقات الكثيرة التي تحصل لهم هناك بحاجة هذه كلها إلى حماية رسمية، فإذا ظل سفراء بريطانيا العظمى وقناصلها يرعون مصالح جميع الأفراد المصريين خارج بلادهم ثقلت أعباء ذلك جدا عليهم. ولذلك رأينا من بادئ الأمر حتى تعيين مصر لممثلين لها في الخارجقد يكون عين الصواب.

ولكن الذي كنا نقصده في الأصل هوحتى تكون صفة هؤلاء الممثلين صفة قنصلية فقط سياسية. فلما دارت المناقشة في لندن بيننا وبين المصريين غيرنا رأينا في هذه النقطة بعد تردد وتمنع، فإن المصريين أجمعوا على إنكار الصفة الرسمية على الممثلين المصريين يفسد فكرة المحالفة، ويحمل أبناء وطنهم على رفض التسوية التي كنا نفكر فيها وعدم قبولها. ورأينا نحن أنهم مصيبون فيما يقولون، لأننا أدركنا ونحن في مصر حتى المصريين جميعهم والسلطان ووزراءه في جملتهم يرومون حتى تمثل بلادهم سياسيا في الخارج مهما اختلفت آرائهم في المسائل الأخرى. وكانوا كلهم ممتعضين من إلغائنا منصب وزير الخارجية المصري عند إعلاننا الحماية، وتسليمنا زمام وزارة الخارجية لعدم الاستغناء عنها إلى المعتمد السامي البريطاني، وكذلك كانوا كلهم يرجون أنه متى آن الأوان لتسوية العلاقات بين بريطانيا العظمى ومصر تسوية دائمة. يعين وزير مصري في وزارة الخارجية المصرية، ويتلقى ممثلومصر في البلدان الخارجية اعتمادهم من حاكم مصر رأسا، وكانوا يرجون على هذا المبدأ أيضا بعد زوال السيادة العثمانية. حتى الذين ترسلهم مصر إلى البلدان الأجنبية ليمثلوها فيها تكون لهم الصفة السياسية التي تكون لممثلي الدول الأجنبية في مصر.

فلذلك لم يخامرنا ريب في حتى أعضاء الوفد المصري كانوا يعبرون عن رأي أبناء بلادهم كلهم في هذه المسألة. وكانوا يقولون لنا قولا صريحا باتا إننا إذا لم نوافقهم على هذه النقطة فلا أمل بتسوية العلاقات بطريق الاتفاق بين بريطانيا العظمى ومصر في المستقبل، وأما إذا اعترفنا بها لمصر. أرضينا المصريين إرضاء تاما بمراعاتنا عزة نفسهم، فيسهل ذلك قبول سائر شروطنا. وسألوا قائلين: لم أنتم خائفون ،يا ترى؟ فقد اعترفتم حتى لمصر مصالح كثيرة خاصة بها في البلدان الأجنبية يحسن المصريون رعايتها أكثر مما يحسنها غيرهم، ولا مزية لبريطانيا العظمى من الضن بالصفة السياسية على الذين يعينون للاعتناء بتلك المصالح ، لأنهم لا يستطيعون حتى يعملوا عملا يضر بالمصالح البريطانية أويناقض السياسة البريطانية. ما لم يخرقوا المعاهدة التي تم الاتفاق على تحريرها لمنع وقوع أمر كهذا. وزد على ذلك حتى عدد الممثلين السياسيين الذين يمثلون مصر في الخارجقد يكون قليلا جدا لأن مصر لا تروم حتىقد يكون لها ممثلون منهم إلا في بلدان قليلة؛ ولا يسعها حتى تقوم بنفقات كثيرين منهم أيضا. ففي سائر البلدان توكل مصر بريطانيا العظمى برعاية مصالحها وكفى بذلك دليلا على متانة العلاقات وحسنها بين البلدين.

فلم يسعنا إلا الشعور بقوة هذه الحجج الوجيهة، ومع ذلك فالأمر واضح، وقد قلناه لهم وأكدناه على مسامعهم، وهوأنه متى عثر ممثلون سياسيون من المصريين ولوفي قليل من عواصم أوربا ووجد ممثلون سياسيون من الأجانب في مصر، انفسح بذلك المجال لدسائس يمكن حتى تكون عواقبها وخيمة، لأن قلة وجود أعمال لهم يعملونها ضمن الدائرة السياسية قد يغريهم بتعدي حدود وظائفهم حتى لا ينطق إنهم لا يجدون شغلا يشغلهم، ولكن رجال الوفد لم يسلموا بأنه يخشى من حدوث أمر كهذا، بل كان رأيهم حتى المصريين يرتضون ويسرون بالمركز الذي نالته مصر بعقد المعاهدة، فيكونون آخر من يوافق على دسائس يمكن حتى تفتح للأجانب سبيل الدخول في شئون بلادهم بإلقاء الشر أولا بينهم وبين بريطانيا العظمى، وأن أعظم ضمان يقينا شر هذه الدسائس هوحتى المصريين يوافقون من صميم أفئدتهم على محالفة يعترف فيها بحالتهم القومية وكرامتهم الوطنية.

هذه هي الأدلة والبراهين التي حملتنا على إعادة النظر في مركزنا بإزاء مسألة الصفة السياسية، مع فهمنا تمام الفهم كما قلنا للوفد صريحا حتى تساهلنا في هذا الأمر قد يلقي الرعب المقلق في دوائر الرأي العام البريطاني. ويخشى أنه يمنع الشعب البريطاني من قبول الاتفاق برمته. وإذا بنينا حكمنا على ما نشأ عنه من الانتقاد والأقوال الدالة على عدم الرضا عنه في دوائر كثيرة اتضح أننا أصبنا ولم نخطئ في تسقطنا له المعارضة الشديدة. ومع ذلك فنحن لا نزال نرى كفة الحجج الراجحة هي في جانبه بلا مشاحة، لأنه مادام الجفاء والخلاف ضاربين أطنابهما بين بريطانيا العظمى ومصر، فنحن نظل معرّضين لعداوة المصريين لنا في البلدان الأجنبية، فالجمعيات التي أنشئت لنشر الدعوة ضد إنكلترا تنشرها بجد واجتهاد منذ أعوام في سويسرا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا. ولا علاج لذلك إلا بإعادة علاقات الوداد. ونحن نعد السياسة التي أوضحناها هنا كفيلة بذلك، فإذا تمت لنا هذه النتيجة، فإعطاء الصفة السياسية لممثلي مصر في الخارج نافع لنا لا محالة، لأنه إذا بقي قوم من المصريين غير راضين بالمصالحة، وبقوا مصرين على إدامة الدعوة ضدنا كما هوالمنتظر، اضطر الممثلون الرسميون لمصر حتى يسعوا في كبح جماحهم وإيقافهم عند حدهم، إذ لا يسع معتمدا مصريا إلا الإعراض عن جميع عمل يعمله أبناء وطنه ضد حليفة مصر وذمّه والنفور منه، وإلا قصر في الواجب عليه وتعرّض للعزل عن منصبه.

ثانيا- الدفاع عن المواصلات البريطانية:

ظهرت الأهمية العظمى التي يعلقها رجال الوفد على مسألة " حالتهم القومية " أتم الظهور لما شرعنا نبحث في مصلحة بريطانيا العظمى الحربية بمصر من حيث الدفاع عن مواصلاتها الإمبراطورية، فكان رأيهم حتى مصر تستطيع حتى تعطي بريطانيا العظمى- متى كانت حليفتها- قاعدة في أرضها من غير حتى يقدح ذلك في عزة نفسها. أي أنها تعطيها "مكانا منيعا لأسلحتها " أو" نقطة ارتكاز" في سلسلة استحكاماتها الإمبراطورية التي تربط الشرق بالغرب، ولم يأبوا حتى بريطانيا العظمى تستلزم زمام الموارد المصرية كلها أيام الحرب، وخصوصا جميع وسائط المواصلات والسكك الحديدية وميادين الطيران إلخ لإدارة الأعمال الحربية، بل رحبوا بهذا الحكم لأنه يثبت حتى الاتفاق من الجانبين، ومعقود بين البلدين. بدليل حتى مصر تعطي شيئا بدلا مما تأخذه، فكما حتى بريطانيا العظمى تتعهد في معاهدة المحالفة التي تعقد بينها وبين مصر بأن تدافع عن مصر، فكذلك مصر يجب عليها عدلا وإنصافا حتى تعمل شيئا لمساعدة الإمبراطورية البريطانية إذا دخلت بريطانيا العظمى في حرب ولولم يكن لمصر مصلحة فيها مباشرة.

وأصعب من هذه المسألة مسألة إبقاء قوّة عسكرية بريطانية بمصر أيام السلم، وفيها أيضا لم يهتم المصريون بعدد تلك القوّة بقدر ما اهتموا بصفتها، فبقاؤها في مصر سائغ عندهم مادامت تعتبر قوّة يقصد بها قضاء غرض خارجي،وهوالدفاع عن الإمبراطورية البريطانية لا " جيش الاحتلال " ولا " قوة لحفظ النظام " في مصر، إذ مفاد ذلك بقاء مصر خاضعة لبريطانيا العظمى. ولم يفتحوا مسألة مقدار تلك القوة طول مدة المناقشة لاعترافهم بأن مقدارها يتوقف على الأحوال الخارجية، وأنه يتغير بتغير مقتضيات الدفاع الإمبراطوري وذلك ببتر النظر عن مقدار القوة اللازمة إذا كانت مصر في خطر. بل كان جميع همهم حتى تلك القوة لا تعد حامية لمصر بوجه من الوجوه لأن المحافظة على النظام الداخلي من شئون المصريين أنفسهم.

ولكي يؤكدوا ذلك أعظم تأكيد ألحوا في حتىقد يكون معسكر تلك القوة على ضفة قنال السويس، وفضلوا حتى تكون تلك الضفة الشرقية، ولكن لم يكن في إمكاننا حتى نوافقهم على ذلك لأن وجود جنود بريطانية في "منطقة القنال" المحايدة يمكن حتى يلقي المشاكل بين بريطانيا العظمى والدول الأخرى التي لها مصلحة في تلك الترعة الدولية. إذ حياد القنال مضمون باتفاقات دولية، فاحتلال جنود دولة واحدة لمنطقة القنال احتلالا دائما قد يعد خرقا لذلك الحياد. وزد على ذلك حتى مصلحة بريطانيا العظمى العسكرية في مصر لا تقتصر على ضمان حرية المرور لها في قنال السويس. بل إذا الدفاع عن مواصلاتها الإمبراطورية ينطوي على أكثر من ذلك كثيرا. إذ مصر تقرب شيئا فشيئا من حتى تصير "عقد ارتباط" جميع تلك المواصلات برية كانت أوجوية أوبحرية فلهذه الاعتبارات عدلنا عن تعيين القنطرة أوغيرها في منطقة القنال لنزول الجنود فيها، وبعد ما تم التسليم مبدئيا بوجود قوة عسكرية في مصر هجرنا مسألة معسكرها حتى يقر القرار عليها مع غيرها من التفاصيل في المفاوضات التي تجرى لعقد المعاهدة المنوتة.

ثالثا- الموظفون البريطانيون في خدمة الحكومة المصرية.

تبحث الفقرة السابعة من البند الرابع من المذكرة في مركز الموظفين البريطانيين في خدمة الحكومة المصرية، وهذه المسألة عظيمة الشأن جداً من حيث انتظام الحكومة وحسن سير أحكامها في مصر، فنظام الإدارة الداخلية الحالي برمته بنى الموظفون البريطانيون معظمه بعملهم وقدرتهم، وقضى كثيرون منهم زهرة العمر في بر مصر، فإذا أبعد العنصر البريطاني عن الحكومة حالا خيف من تقوّض أركانها وخراب بنيانها، بل إذا التسرع في تخفيض عدده يخشى حتى يؤثر في متانة ذلك البناء، ويعطل حسن إدارة أعمال الحكومة كثيرا.

ولكن لا خوف من حتى تعود الحكومة بعد خروج الموظفين البريطانيين منها إلى سوء الإدارة الذي أنقذناها منه، وأن جميع الشرور والمساوئ القديمة تعود إلى ما كانت عليه، لأن عدد المصريين الذين صاروا كفئا فهما وأخلاقا للاشتراك أعمال الحكومة على مبادئ التمدن ازداد ازديادا عظيما في عهد الاحتلال واعتاد المصريون جميعهم من أعلاهم إلى أدناهم حتى تكون أعمال حكومتهم، وإدارتها حسنة الانتظام عادلة صادقة، فلا يصبرون عليها إذا عادت إلى مساوئ العهد الماضى تماما. ولكن مع هذا كله لا يخلوالأمر من خطر على البناء الجديد حتى يتداعى بنيانه إذا أبعد الذين بنوه، ولا يزالون عماده، دفعة واحد، عنه.

فمن الطبيعى والحالة هذه حتى ينظر بعين الهمّ والقلق لأول وهلة إلى الاقتراح الذى فحواه حتى تهجر الحكومة المصرية المحضة وشأنها مطلقة الحرية في استبقاء من تبقيه، وفى إخراج من تخرجه من خدمتها من الموظفين البريطانيين وغيرهم من الأجانب. ولكنا إذا تدبرنا هذه المسألة من الجهة التى يمكن العمل بها، وبحثنا فيها بهدوء وتأن خفّف عنا ذلك القلق كثيرا، لأن من يظن حتى وزارة من الوزارات المصرية تقدم يوما على إخراج جميع الموظفين الأجانب من خدمتها فقد وهم مهما أطلقت لها الحرية في ذلك. وحسبنا تصور الحالة التى تبيت فيها تلك الوزارة بعد ما تعدم فجأة أعظم مستشاريها اختباراوأكثرهم تحملا المسئولية، وتستهدف لنفور الجمهور منها نفورا شديدا، وانقلابه عليها بعد انهيار نظام إدارتها حتى نحكم بأنه ما من عاقل يلقى بنفسه عمدا في بحر هذه المصائب والمحن. ثم إذا الأمر لا يقتصر على نفور المصريين وعدم استحسانهم، بل عليه أيضا حتى يحسب حساب سخط الأجانب وخوفهم، فإن الجاليات الأجنبية الكبيرة الغنية التى يتوقف عليها كثير من يسر مصر ورفاهيتها تقوم عليه حالا قومة واحدة. لأنها كلها تعد وجود عدد من البريطانيين في الحكومة المصرية عنوان سلامتها وملجأ رفاهيتها. ولا ينتظر حتى المعتمد السامى أوأى لقب آخر يلقب به في المستقبل لا تكون له حدثة يقولها بهذا الشأن. نعم إنه لاقد يكون له حق الأمر والنهى على الحكومة المصرية، ولكنه معتمد حليفة مصر وأسمى الأجانب مقاما في مصر. وحامى مصالح الأجانب فيها. فلهذه الاعتباراتقد يكون لحدثته شأن عظيم، ويهم جميع وزير مصرى حتىقد يكون على صفاء واتفاق معه. فالمؤثرات التى من شأنها منع الوزراء المصريين عن الإفراط والتفريط في استعمالهم حق الاستغناء عن خدمة الموظفين البريطانيين مؤثرات قوية جدا. هذا ناهيك حتى سرورهم العظيم يفهمهم حتى ذلك الحق هوحقهم وأن الموظفين البريطانيين باقون معهم ليساعدوهم لا ليأمروهم وينهوهم يزيد رغبتهم في الاتكال على مساعدة البريطانيين ولا ينقصها.

إذا ما من مصرى عاقل يتمنى بجد حتى يستغنى عن مساعدة الأجنبى لحكومة بلاده، أويعتقد حتى مصر تستطيع الاستغناء عن تلك المساعدة من الآن إلى زمان طويل. لكن المصريين عامة يعتقدون - وهم مصيبون في اعتقادهم- حتى جلب الموظفين البريطانيين زاد عن الحد أحيانا وخصوصا في السنين الأخيرة، وهم معتصمون بهذا المبدأ، وهوأنه لا يجوز تعيين بريطانى أوأجنبى آخر وفي وظيفة يمكن حتى يعين فيها رجل كفء لها من قومهم. فهم يتطلعون إلى الزمان الذى يعين فيه رجال من أبناء وطنهم في وظائف الحكومة كلها أوجلها، ويشعرون حتى التقدم في هذه الجهة كان أبطأ مما يجب، ويودون حتى يصير أسرع، ولكنهم لا يريدون التخلص من أولئك الموظفين البريطانيين الذين هم موضع احترامهم وكثير ما هم، وكذلك يأبون حتى يمنعوا من استخدام غيرهم من المضارعين لهم في كفاءتهم في حكومة بلادهم في المستقبل (1)

(1) بذلنا جهدا كثيرا لتعهد الحقيقة عن عدد الموظفين الأجانب في الحكومة المصرية فأعدت لنا مصلحة الإحصاء، كشوفا تبين كيفية توزيع جميع الوظائف في ميزانية 1919 - 1920 وطلبنا من جميع وزارة بيانا لتوزيع الوظائف فيها بنسبة بعضها إلى بعض في سني 1905 و1910 و1914 و1920

أما كشوف مصلحة الإحصاء فقد قسمت الوظائف فيها ذات معاش ( داخل هيئة العمال) ووظائف بعقود (كنتراتات) ووظائف ماهياتها شهرية وأخرى ماهياتها يومية (وهذه الفئة ظهورات) أما القسمان الأخيران فالمستخدمون 98.5 في الماية منها مصريون ولذلك تكون المزاحمة فيها غير زائدة.

وأما الوظائف ذات المعاش والوظائف ذات العقود فقد تبين من إنعام النظر فيها حتى حالها تختلف عما تقدم. لأننا إذا ضربنا صفحا عن مناصب الوزراء، السبعة وموظفي الديوان السلطاني ومجلس الوزراء والجمعية التشريعية ووزارة الأوقاف - وهذه وظائفها كلها بيد المصريين وحدهم ما عدا واحدة أواثنين منها، فالمصريون يتقلدون 86 في المائة من الوظائف ويقبضون 71 في المائة من الرواتب وأما البريطانيون فيتقلدونستة في المائة ويقبضون 19 في المائة من الرواتب. وغير المصريين والبريطانيين يتقلدونثمانية في المائة من الوظائف ويقبضونعشرة في المائة من الرواتب. وفي بعض الرسوم الإحصائية التي رسمت لبيان توزيع هذه الوظائف والرواتب على الوزارات المتنوعة قسمت الوظائف إلى ست درجات: الثلاث الأولى منها تختلف رواتبها من أدنى راتب إلى 799 جنيها مصريا في السنة وتسمى الوظائف الصغيرة. والثلاث الأخرى تضم الوظائف الكبيرة ورواتبها من 800 جنيه مصري إلى 2999 جنيها مصريا في السنة.

فالوظائف الصغيرة يشغل المصريون نحوثلثي ما كان راتبهم منها يختلف من 240 إلى 499 جنيها مصريا وينحط نصيبهم من الثلث قليلا في الوظائف التي تختلف رواتبها من 500 جنيه إلى 799 ج . م . والوظائف الكبيرة يزيد التفاوت فيها وضوحا فإن نصيب المصريين فيها لا يبلغ الربع. نعم إذا نصيب المصريين يرتفع حتى يزيد عن ثلث الوظائف التي راتبها من 1200 ج . م إلى 1499 ج . م ولكن ذلك راجع إلى وزارتي الحقانية والداخلية حيث يعين المديرون المصريون والقضاة المصريون. أما وزارات المالية والمعارف والأشغال العمومية والزراعة والمواصلات فوظائفها الكبيرة يتقلد المصريون منها 31 لقاء 168 يتقلدها البريطانيون و32 غيرهم وراتب جميع منها أكثر من 800 ج . م . نعم إذا في هذه الوزارات وظائف كبيرة كثيرة تقتضي معارف فنية خصوصية ولا يمكن وجود مصريين قادرين على القيام بها في الوقت الحاضر ولكن إذا كان المصريون سيصيرون مسئولين عن إدارة بلادهم الداخلية فالواجب اتخاذ تدابير أحسن من التدابير الحالية لتدريبهم وإعدادهم لتقلد أمثال هذه الوظائف الكبيرة.

أما الجداول التي يقارن فيها بين توزيع الوظائف ذات المعاش والوظائف ذات العقود في سني 1905 و1910 و1914 و1920 فأرقامها تقريبية فقط لأن تقييدها في السجلات غير تام ولكنها كافية لإدراك التقلب بين المستخدمين بوجه الإجمال فقد زاد عدد العنصر المصري في مجموع الوظائف من 45.4 في المائة سنة 1905 إلى 50.4 في المائة سنة 1920 ولكن عدده في الوظائف الكبيرة نقص من 27.8 في المائة سنة 1905 إلى 23.1 في المائة سنة 1920 وزاد نصيب البريطانيين في قسم تلك الوظائف عينها من 42.2 في المائة إلى 59.3 من المجموع كله.

أما الخطر فهومن الجبهة الأخرى. فقد يمكن حتى الموظفين البريطانيين وغيرهم من الأجانب يهجرون الخدمة جملة من تلقاء أنفسهم خوفا من حتى يبقوا تحت رحمة حكومة مصرية محضة، فيكون ذلك مصيبة عظيمة، ولكن نستبعد جدا أنهم يخرجون من الخدمة على هذا المنوال: (أولا) لأن مصالح مصرية كثيرة مثل مصلحة المبانى والسكة الحديد والجمارك، ومثل الأشغال العمومية ونحوها تستخدم عددا كبيرا من الإنجليز وغيرهم من الأوربيين في وظائف فنية لعدم وجود مصريين مستوفين الخبرة اللازمة لها. فهؤلاء الموظفون الأجانب لا يشعرون بأن تغيير حالة مصر السياسية أثر في مركزهم وإنما الذين يخافون من هذا التغيير هم الذين يقلدون مناصب إدارية محضة ولهم سلطة على جماعات كبيرة من المصريين لأنهم يسألون أنفسهم قائلين: هل ترى يؤيدنا الوزراء المصريون الآن في استعمالنا لسلطاتنا؟. وهل يمكننا حتى نستمر على جهادنا الدائم في سبيل مقاومة الرشوة والصنيعة "المحسوبية" وترقية الذين يستحقون الترقى لا الذين يوحى بترقيتهم، وأن تنجح في ذلك باستمرارنا عليه. فمثل هذا الخوف طبيعى وقد يحمل بعضا من أولئك الموظفين على الاستعفاء، ولكن موظفين آخرين يزيدون ثقة بأنفسهم، وقوة مركزهم في المستقبل، لأنهم لاقد يكونون مثل أولئك الأوربيين القلائل الذين كانوا في خدمة الحكومة قبل الاحتلال فلاقوا المشاق والأهوال في سبيل إصلاح أحوال الحكومة قبل حتى يتطرق إلى مصر إصلاح. ومع أنهم كانوا في أحوال صعبة تكدر النفوس لم يعدموا نفوذا ووجاهة ولم يعاملوا بغير التجلة والإكرام، أما الموظفون البريطانيون الذين يبقون في مصر اليوم فإنهمقد يكونون في بلاد اختمرت بالتأثيرات الأوروبية وتعودت الجرى على أساليب الحكم البريطانى، ومتصلة على حدودها بشواهد محسوسة ناطقة تذكر بالقوّة البريطانية. وزد على ذلك حتى الاعتراف بالاستقلال المصرى يزيل مانعا عظيما يحول الآن دون نفعهم للبلاد، وذلك أنه إذا لم يوقف استياء المصريين وضررهم من جانب الموظفين الأجانب عند حدهما خيف أنهما يؤديان إلى بتر جميع تعاون حتى بينهم وبين الموظفين المصريين، وسببهما ليس أشخاصا بل النظام، إذ من السهل إثارة العداوة الآن عليهم بحجة كونهم يجلبون إلى مصر رغم أنفها، ويجعلون فيها عمالا للسؤدد الأجنبى وعلامة عليه. فأسباب هذه العداوة تزول متى لم يعودوا يعّدون آلات بيد حكومة أجنبية، ويزداد تأييد الوطنيين لهم في محافظتهم على حسن سير الحكومة وتعيين الأكفاء فيها. والدليل على ذلك حتى الموظفين البريطانيين في الإدارة والضباط البريطانيين في الجيش غير مكروهين شخصيا، بل إذا أحسنهم محترمون ومحبوبون أيضاً عند شعب يعترف حالا بالكفاءة لأربابها، ولا سيما إذا اقترنت باللطف والكياسة، فإذا تأمل الإنجليز الموظفون في الحكومة المصرية هذه الاعتبارات وتأنوا. وما من شئ يوجب العجلة، فالمرجح حتى كثيرين منهم يبقون في وظائفهم، وما من خدمة يخدمونها بأشرف من هذه الخدمة، وهى إنشاء شركة حبية بين بريطانيا العظمى ومصر ومساعدة المصريين حتى ينجحوا في أنظمة الحكم الذاتى.

ولكن وإن يكن خروج الموظفين البريطانيين وغيرهم من الأجانب جملة وبسرعة أمرا غير منتظر، فإنه يحسن مع ذلك تدبير أمر الذين تروم الحكومة المصرية حتى تستغنى عن خدمتهم، أوالذين يرومون

هم أنفسهم حتى يخرجوا من خدمتها عند تطبيق النظام الجديد. فهؤلاء يجب حتى يعاملوا بإنصاف وسخاء إذ لا شيء يكدر صفوالعلاقات بين الإنجليز والمصريين في المستقبل من حتى يخرج عدد من الموظفين السابقين وهم يتظلمون من الحيف عليهم. فيجب في جميع معاهدة تعقد بين بريطانيا العظمى ومصر حتى تكون مراكزهم مضمونة، وأن ينص على شروط الخروج من الحكومة بعد مشاورة رجال ينوبون عنهم. وبموجب القانون الحالي يعطى الموظفون المصريون إذا أحالتهم الحكومة على المعاش بسبب غير سوء سلوكهم معاشا طيبا مناسبا لطول مدى خدمتهم. وما من ترتيب يوضع من حديث يمس الحقوق الحالية، ولكن- يلزم مراعاة لتغيير الأحوال- حتى يوضع تدبير خصوصي لمعاملة الذين قد يقضي على مستقبلهم في الخدمة قضاء مبرما، وكذلك الذين قد يهجرون الخدمة من تلقاء أنفسهم في النظام الجديد يعاملون معاملة الذين تستغني الحكومة عنهم. والمعتاد الآن أنه إذا أراد موظف الاستعفاء من الخدمة قبل بلوغه السن المعينة للإحالة على المعاش يخسر بعض حقوقه، ولكن هذه القاعدة لا تنطبق على ما نحن بصدده بعد تغير شروط الخدمة تغيرا جوهريا؛ بل يجب حتى يهجر للموظفين حق الخيار بين البقاء في الخدمة أوهجرها في النظام الجديد، فإذا اختار الهجر يعامل معاملة من يلزم بالخروج من الخدمة إلزاما.

رابعا - التحفظات لحماية الأجانب.

تستثني المذكرة في البند أربعة والفقرتين ثلاثة وأربعة شيئين من المبدأ العام القاضي بأن تكون الحكومة المصرية في المستقبل حرة في تعيين الوظائف التي توظف غير المصريين فيها، وهما على ما في الفقرتين المذكورتين تعيين مستشار مالي وموظف في وزارة الحقانية وظيفته الخصوصية مراقبة تطبيق القانون فيما له مساس بالأجانب "بالاتفاق مع حكومة جلالة الملك" ورب قائل يقول بعد الذي تقدم ذكره بهذا الشأن، وما الذي أوجب استثناء هذين الأمرين، فالجواب على ذلك أنه المسئوليات الخصوصية التي تلقى على عاتق بريطانيا العظمى بمقتضى التسوية المطلوبة لحماية حقوق الأجانب، فالأمران اللذان يهمان الدول الأجنبية التي يتمتع رعاياها الآن بالامتيازات الأجنبية هما اقتدار مصر على سد ديونها، وذلك يهم حملة السندات المصرية ويؤثر أيضا في جميع رؤوس الأموال والمشروعات الأجنبية في البلاد، وسلامة أرواح الأجانب وأملاكهم.. فلضمان هذين الأمرين لا تكف الدول بكل تأكيد عن الإلحاح طالبة إبقاء بعض المراقبة الأجنبية، وقد رضيت حتى تتولى بريطانيا العظمى تلك المراقبة. فإذا كفت بريطانيا العظمى الآن عنها طلبت الدول حتى يعهد بها إلى دولة أخرى غيرها، أوإلى فريق من الدول لتحل في ذلك محلها.

ومن المبادئ الأساسية التي تبنى التسوية المنوّية عليها حتى جميع سلطة تلزم لضمان مصالح الأجانب في مصر، ولحمل الحكومات الأجنبية على الاطمئنان والإيقان بأن حقوق رعاياها تحترم، وهذا هوسبب الشرط المتقدم، وهوحتى يبقى تعيين الموظفين الكبيرين المشار إليهما بالاتفاق مع الحكومة البريطانية، لأن الواجب على أحدهما ضمان اقتدار مصر على سد دينها، والواجب على

الآخر مراقبة تطبيق القوانين التى لها مساس بالأجانب، وقد وصفت وظيفتاهما وصفا إجماليا في المذكرة، وسيحدد مدى اختصاصهما تحديدا دقيقا عند تحرير المعاهدة، لأننا اكتفينا هنا أيضا بالاتفاق مبدئيا وهجرنا التفصيل للمفاوضة الآتية.

وهذا يصدق أيضا على الفقرة الخامسة من البند الرابع، حيث خوّل المعتمد البريطانى في بعض الأحوال حق منع تطبيق القوانين المصرية على الأجانب، وقد كثرت المناقشة في ذلك، وبذل رجال الوفد جهدهم لكى يمنعوا هذا الحق من حتى يتحول إلى منع عام في التشريع المصرى، وهذا ما لم نكن نريده، ولكن قاسي علينا الاتفاق على تعيين حدود هذا الاتفاق تعيينا مدققا، ولهذا أثبتنا لذلك صيغتين في المذكرة. فالمسألة كثيرة التعقيد ولكنا إذا جردناها من حواشيها الفنية والاصطلاحية بقى معنا ما يأتى:

وهوحتى الحكومة المصرية تجد نفسها كيفما التفتت مكتوفة اليدين لا تستطيع سن قوانين تسرى على رعايا الدول ذوات الامتيازات في بلادها بلا مصادقة منهن، وان تكن الجمعية العمومية للمحاكم المختلطة تنوب عنهن أحيانا في تلك المصادقة. وقد قدمنا حتى السياسة البريطانية ترمى دائما إلى تنقيص القيود التى تقيد بها سلطة الحكومة المصرية التشريعية، وأن ذلك أيضا هوجزء من المشروع المنوى في المذكرة، ولكن ذلك غير ممكن، وليس المطلوب إزالة تلك القيود بالكلية، وهى ما دامت لا غنى عن وجود منقد يكون له حق استعمالها. وهذا الحق الذى يقصد به ضمان مصالح جميع الأجانب المشروعة تمنحه مصر على ما في المشروع الذى تتضمنه المذكرة لدولة واحدة هى بريطانيا العظمى.

(د) (نص خاص بالسودان (1)).

(هـ) زيارة أعضاء من الوفد لمصر

وبعد انتهاء المناقشات التى أسفرت عن مذكرة 18 أغسطس سافر زغلول باشا وسائر رجال الوفد وعدلى باشا أيضا من لندن إلى باريس. ثم سافر في الحال أربعة من أعضاء الوفد (وهم محمد باشا محمود وأحمد لطفى بك السيد وعبد اللطيف المكباتى بك وعلى بك ماهر) إلى مصر طبقا لما تم الاتفاق عليه. لكى يحصلوا من مواطنيهم على تأييد المشروع المبين في المذكرة. وكانت خلاصة المذكرة قد وصلت إلى الجرائد مع هفوات قليلة في تفصيلها قوبلت في مصر بعبارات الرضا والاستحسان.

وحوالى ذلك الحين نشر في مصر منشور طويل من زغلول باشا نوّه فيه بصفة الوفد النيابية التى يمثل فيها الأمة، وبما لقيه من تأييدها. وأشار إلى المساعى التى بذلها الوفد لعرض القضية المصرية على مؤتمر الصلح وعلى العالم كله مدعيا أنهم اكتسبوا شيئا كثيرا من الميل والعطف

(1) راجع الكتاب الأخضر عن السودان.

في البلاد الأجنبية. ثم استطرد إلى ذكر تعيين اللجنة الخصوصية ومقاطعة أعضائها بسبب الإصرار على بقاء الحماية، وما جرى بعد ذلك حتى أفضى الأمر إلى زيارة الوفد المصري للندن، والمناقشات التي جرت فيها، وأعرب في الختام حتى الاقتراحات التي نشأت عن تلك المناقشات ستعرض على الأمة على يد رسل منتدبين لذلك، فإذا قوبل المشروع بالاستحسان عين ممثلون للمفاوضة في عقد معاهدة على القاعدة المقترحة.

ولخلوّ هذا المنشور من الجزم يظهر أنه أضعف الحماسة التي استقبلت بها لجنة الوفد المركزية في القاهرة إعلان التسوية في بادئ الأمر، ولكن لما وصل الرسل الأربعة إلى الإسكندرية فيسبعة سبتمبر قوبلوا بمظاهر الابتهاج، والترحيب، وأنعش وصولهم التفاؤل في النفوس، وأوفدت لجنة الوفد المركزية رسالة برقية إلى زغلول باشا أعربت فيها عن "ثقة البلاد كلها" بالوفد وعن الحماسة الغالبة على الجمهور. ظهرت في ذلك الوقت دلائل الفتور في الجذب والدفع اللذين اعتورا علاقات البريطانيين والمصريين مدة من الزمان، ولاحت تباشير المصالحة في جميع مكان.

سليم حتى الحزب الوطني وآخرين من المتطرفين حملوا على التسوية المنوية حملة منكرة في أول الأمر، ونطق الناقدون إذا الاستقلال المنوي لمصر ليس استنطقا حقيقيا، واحتجوا خصوصا لعدم إدخال السودان في المشروع، وقام في مقدمة المعترضين أربعة من أمراء البيت الخديوالذين سقطوا المنشور المذكور، فانتهزوا الفرصة ونظروا في الجرائد في 11 سبتمبر سنة 1920 تصريحا بأن آراءهم لم تتغير، وأنهم لا يؤيدون اتفاقا يضيق نطاق استقلال مصر، ولكن هذه المظاهرة لم تؤثر في الجمهور تأثيرا يذكر. ولما رأى أولئك الأمراء حتى تلك الاقتراحات سقطت سقطا حسنا عند الناس عموما تداركوا الأمر بأن نشروا كلاما يعفوأثر ما كانوا قد نشروه قبلا.

ولم يتصل رسل الوفد الأربعة بالعالم السياسي في مصر مطلقا، ومع ذلك بذلت العناية التامة حتىقد يكونوا في عملهم كاملي الحرية مطلقي الحركة. أما الخطة التي جروا عليها فكانت أنهم يدعون إليهم جماعات صغيرة من وجهاء المصريين الممثلين لقومهم لكي يجتمعوا معا ويتناقشوا في التسوية المقترحة، فإذا عادت هذه الجماعات من عندهم أبلغت الأمر إلى جماعات أخرى في الأنطقيم، فترد على الرسل الأربعة قرارات الموافقة والانضمام إلى القابلين بحيث لم يمض أسبوعان على وصول أولئك الرسل حتى اتضح حتى أكثرية جسيمة من العناصر الممثلة للبلاد توافق على قاعدة المفاوضات التي عرضوها عليها. ولكن أبرز الشهادات الناطقة بهذا الاستحسان العام شهادة الباقين من أعضاء الجمعية التشريعية في اجتماع عقدوه لمحادثة أعضاء الوفد في 16 سبتمبر، وكان عددهم تسعة وأربعين عضوا، فقر قرار خمسة وأربعين منهم بالموافقة على الاقتراحات، وامتنع اثنان عن إعطاء رأيهما وعارض اثنان فقط فيه. ولم يستطع عضوان آخران الحضور بنفسيهما إلى الاجتماع، فخطا يعربان عن رأيهما بالموافقة على المشروع، وعليه أيد المشروع سبعة وأربعون عضوا من الواحد والخمسين عضوا الباقين أحياء من أعضاء الجمعية التشريعية.

وبينما كان هذا الاستحسان العام يسجل طُلب تفسير بعض النقط الخصوصية في المشروع مع الراتى بأنه متى عاد الوفد إلى لندن يحصل على التأكيدات البترية بشأن هذه النقط، وأهم هذه النقط رغبة الناس إجماعا في الحصول على مرشد قاطع على إلغاء الحماية عند عقد معاهدة المحالفة.

(و) اللقاءات الأخيرة مع الوفد المصري في لندن

وعاد الرسل الأربعة من مصر إلى باريس في أوائل أكتوبر، وانضموا إلى زغلول باشا وسائر زملائهم الذين بقوا في أوربا. وفي آخر الشهر المذكور عاد الوفد كله يصحبه عدلي باشا إلى لندن، واجتمع مرتين مع اللجنة قص فيهما الرسل الأربعة ما رأوه وخبروه في مصر، وجرى للبحث في الحالة التي نجمت عن ذلك. وقد ظهر من أقوال الرسل التي اتىت مؤيدة للأخبار التي نشرتها الجرائد حتى الرأي المصري قابل شروط التسوية المنوية بالاستحسان، وأن المساعي الكبيرة التي بذلت في أول الأمر لإثارة المعارضة انتهت بالفشل التام، ولكن الرسل لم يغفلوا حتى يرسخوا في أذهاننا حينئذ حتى الموافقة العامة على التسوية كانت مصحوبة ببعض التحفظات من جانب المصريين الذين حدثوهم، وأنهم أوصوا بأن يجتهدوا لكي يحصلوا على تعديل التسوية في نقط منها. وكان أهم. ما يرغبون فيه من هذا القبيل تضييق اختصاصات المستشار المالي والموظف البريطاني في وزارة الحقانية، وإهمال الشرط الذي تضمنه البند الخامس من المذكرة، وهوحتى تطبيق المعاهدة المنوية بين بريطانيا العظمى ومصر يتوقف على عقد اتفاقات مع الدول لإجراء التعديل اللازم في نظام الامتيازات، وأهم من ذلك إلغاء الحماية رسميا، وأوردوا نقطا أخرى أقل أهمية من ذلك. فاتضح لنا أننا إذا أعدنا النظر في هذه الأمور كلها اضطررنا إلى فتح باب المناقشة من حديث بعد ما اشتغلنا بها معظم الصيف، واتفقت آراء أعضاء اللجنة كلهم على حتى السير على هذا المنوال ضرب من العبث، لا سيما بعد ما أوضحنا لأعضاء الوفد حتى جميع اتفاق يتم بيننا وبينهم لا يمكن حتىقد يكون نهائيا على جميع حال، وأن جميع ما يسعنا عمله هوحتى نمد الطريق للمفاوضات الرسمية التي تدور فيما بعد إذا لقيت فكرة عقد المعاهدة على المبادئ التي تناقشنا فيها قبولا عند الرأي البريطاني والمصري. أما النقط التي قدمت الآن فيمكن عرضها كلها على بساط البحث في المفاوضات الرسمية هي وغيرها من النقط التي لا بد من حتى تعرض للبحث من الطرفين، فمحاولتنا حتى نعين من الآن ما يقر عليه القرار أخيرا من هذه التفاصيل يؤخر حتما البدء بهذه المفاوضات، وقد يضر ضررا كبيرا في نجاح سيرها أيضا.

وقد لخص اللورد ملنر رأي اللجنة في بيان تلاه في الجلسة الثانية التي حضرها الوفد فيتسعة نوفمبر وهوكما يأتي:

رأينا أنه يحسن حتى تعقد هذه الجلسة قبل سفر الممثلين المصريين لجلاء الحالة، وهجر مجال للتعاون على العمل بينهم وبين اللجنة في المستقبل.

ويظهر من الأخبار التي عاد بها إلينا السادة الذين رجعوا من مصر أخيرا أنها تدل على حتى هناك جمهورا كبيرا يستحسن التسوية - على القاعدة المبينة في مذكرة أغسطس ولكنهم نطقوا إذا في المذكرة نقطا يرغبون تعديلها، وإنهم يرغبون أيضا في إضافة شروط جديدة قبلما يعدوننا بتأييدهم لنا من غير قيد ولا شرط، وإني في غنى عن الإسهاب في الكلام على هذه النقط اليوم لأن أعضاء اللجنة مجمعون رأيا على حتى لا فائدة من المناقشة في التفاصيل الآن.

والمذكرة لم تدّع أنها تتضمن غير تبيان المبادئ العامة التي يمكن حتى يبنى الاتفاق عليها. وعلى جميع حال لاقد يكون الاتفاق إذا قر القرار عليه إلا نتيجة مفاوضات رسمية بين ممثلين معتمدين من الحكومة البريطانية والحكومة المصرية. كما كنا نتسقط ذلك دائما. وفى تلك المفاوضات يمكن عرض النقط الجديدة التي قدمتموها على أثر زيارة بعضكم لمصر، وغيرها من النقط التي يمكن حتى يعرضها هذا الفريق أوذاك. ومن المحال والمكروه أيضا حتى تُمنع الاقتراحات التي ليس فيها مناقضة واضحة لجوهر الاتفاق المبين في المذكرة. التي بحاجة في حالتها الحاضرة إلى توضيح وإتقان قبلما تحول إلى معاهدة رسمية، ومن رأينا أننا إذا تعرضنا لهذه المناقشات من الآن لا نكون قد سهلنا حصول التسوية، ولذلكقد يكون الأجدر بنا حتى نجتنب الآن إبداء أي رأى في النقط الجديدة التي عرضتموها أخيرا مع أننا نعتقد أنه يمكن الوصول إلى حل سقم، بل لا بد من الوصول إليه حينما تدور المفاوضات القانونية.

والأمر الذي يهمنا الآن بعد حتى بلغنا ما بلغناه، هوالتأثير في الرأي العام هنا وفى مصر حتى يستحسن التسوية على المبادئ التي استحسناها نحن وأنتم. وأعظم من ذلك كله حتى نغرس ونقوي بكل وسيلة ممكنة أواصر الصداقة والثقة المتبادلة التي ساعدت محادثاتنا هنا على إيجادها، والتي يجب تعميمها بين الفريقين إذا شئنا حتى تفضي مساعينا إلى الغاية المطلوبة. فإن ذلك كله أبرز جدا من المناقشة في التفاصيل. أما فيما يختص بهذه البلاد فإننا نؤمل حتى تقرير اللجنة الذي نحن مهتمون بإنجازه بأسرع ما يمكن يؤدي إلى هذه الغاية، ومما يماثل ذلك في الأهمية حتى تنتج مساعيكم في مصر نتيجة مثل هذه، ونحن نعترف لكم شاكرين عظم ما عملتموه من هذا القبيل حتى الآن، ولكن من البّين أنه لا يزال هناك معارضة يجب التغلب عليها، وأن في مصر أناسا كثيرين لم يتشربوا روح الاتفاق بل لا يزالون معادين لحسن التفاهم بين بريطانيا العظمى ومصر لسبب من الأسباب، فهم يرتابون في نيات هذه البلاد، أويدّعون ذلك. غير مدركين مقدار السخاء الذي تقابل به بريطانيا العظمى أماني الشعب المصري. وأنكم بتبديدكم سوء الظن وسوء التفاهم وغرسكم حسن الظن في النفوس بدلهما تعملون مالا يستطاع عمله بطريقة أخرى للوصول إلى التسوية التي نرغب فيها كلنا أشد رغبة.

فرد زغلول باشا على هذا البيان بخطبة خلاصتها أنه شديد الرغبة كما نحن شديدوالرغبة في إيجاد حالة موافقة للتسوية، ولكن مساعيه في هذا السبيل تضعف جدا إذا لم يستطع حتى يعد المصريين

شيئا من جهة التحفظات المطلوبة، وبالأخص إذا كان غير قادر حتى يقول للمصريين إذا بريطانيا العظمى- ألغت الحماية نهائيا. وقد أعاد القول الأخير مرارا وكرر هذه الآراء في رسالة بعث بها إلى اللورد ملنر.

وكانت هذه آخر لقاءاتنا مع الوفد وقد غادر إنجلترا بعدها. ولا بد لنا من القول إذا مناقشاتنا كانت دائما على غاية المودة من البداية إلى النهاية، ومع أننا افترقنا من غير حتى نصل إلى اتفاق نهائي. بل بقى جميع فريق متمسكا برأيه، فقد استنتجنا حتى شروط الاتفاق المنوي سقطت سقطا حسنا جداً في مصر سواء قوبلت بتحفظات أوبغير تحفظات، وأن أكثر أعضاء الوفد - إذا لمقد يكونوا كلهم- كانوا شديدي الثقة بأنها تقابل من مواطنيهم بالقبول التام أخيرا، شديدي الرغبة في تحقيق ذلك.

خلاصة عامة

نظرا إلى ماهية الموضوع الكثيرة التشويش، والهجريب وإلى طول تقريرنا الذي قضت به الضرورة، مع بذلنا الجهد في حذف جميع التفاصيل التي ليست بجوهرية منه، نروم الآن حتى نراجع أشهر خصائص الخطة التي نشير باتباعها، والمراحل التي بترناها حتى وصلنا إلى نتائجنا فنقول:

لما وصلنا إلى مصر وجدنا القلق والاستياء مستحوذين عليها، وكانت الفتنة قد قمعت، ولكن الهيجان لم يخف بل كان لا يزال يظهر بمظهر العنف الخطر عند فريق من المتطرفين. وكانت المطالبة تنهال من جميع مكان "بالاستقلال التام" مبتدئا بإلغاء الحماية التي كانوا يقولون إنها تتضمن إبادة الجنسية المصرية. ولكي يسوّغ أنصار الحزب الوطني هذا الاستنتاج كانوا يستشهدون برفض الحكومة البريطانية السماح للوزراء بالسفر إلى لندن بعد الهدنة، وإبعاد زغلول باشا ورفاقه، وازدياد عدد الموظفين البريطانيين منذ نشبت الحرب، واستمرار الأحكام العسكرية. ثم إذا البنود الأربعة عشر التي أعربها الرئيس ولسن أثارت آمالا في جميع مكان، ووعدت أمما أخرى شرقية بتقرير مصيرها، والمصريون يحسبونها دونهم. فزاد ذلك في استيائهم، واحتدمت الغيرة الدينية من جراء انكسار الأتراك، وما حام حول مستقبل الخلافة من الريب والشكوك.

وأما من جهة البريطانيين فكانت الحالة على غاية الصعوبة. فإن عددا كبيرا من الموظفين الواسعي الخبرة أخلوا مناصبهم من أوّل الحرب، وحل محلهم رجال جدد لا يعهدون إلا اليسير من النظام المتبع الذي حفظت به الرقابة البريطانية في عهد لورد كرومر من غير حتى يجرح إحساس المصريين. نعم إذا عمل الإدارة في زمن الحرب خليق بالشكر الجزيل. ولكن الضرورة أفضت إلى تقديم المصالح البريطانية على المصالح المصرية ولوبعض الشيء وإلى استخدام الوسائل الميسورة، ولولم تخل من الشدّة مما ينفر منه شعب لم يكن ميله إلينا شديدا. ولما انتهت الحرب كان كثير من المعالم القديمة قد زال وانبتر جميع اتصال بالماضى، وصارت الأحكام العسكرية ضربة لازب لحفظ النظام وللقيام بأعمال الإدارة، وكان القنصل الجنرال الوكيل السياسى قد صار معتمدا ساميا وهوالقائد العام أيضا، وظل الوزراء المصريون في مناصبهم، ولكن الجمعية التشريعية وقفت، فكانت الإدارة في هذه الأحوال مضطرة حتى تقوم بأعمال رغما عن مقاومة تكاد تكون عامة، ويكاد الموظفون أنفسهم يشهجرون فيها، وهم معتمد الحكومة في جانب كبير من عملها التطبيقى.

وقد استنتجنا حال وصولنا حتى هذه الحالة لا يمكن معالجتها بالرجوع إلى النظام الذى كان متبعا قبل الحرب، ولا بإصلاح إدارى محض. بل لا بد من تغيير جوهرى يناسب الأحوال الجديدة. ولكن الهياج الذى ثار على "الحماية" زاد الصعوبة في إيجاد سياسة يقبل بها المصريون، وتصان بها المصالح البريطانية. فإن حدثة "الحماية" صارت عنوان الاستعباد في أذهان المصريين، وأصروا على حتى معناها هوالمعنى الذى فهموه لها، فعاد الجدال في هذا الموضوع ضربا من العبث، واتضح لنا والحالة هذه أنه لا يمكن حتى نصل إلى تسوية بالاتفاق ما لم تُتخذ خطة أخرى.

ومن حسن الحظ وجدنا حتى المحادثات غير الرسمية التى دارت بيننا وبين أناس من أقطاب مصر تقوّى الأمل حتى تسوية مثل هذه ليست مما يستحيل الوصول إليها على مبادئ جديدة. واتفقت حدثتهم على أنهم يرفضون جميع حالة سياسية منحطة توجبها عليهم الحكومة البريطانية، ولكنهم يرحبون بمعاهدة تحالف تعقد بين الفريقين باختيارهما، تقرر استقلال مصر وتنيل بريطانيا العظمى جميع التأمينات والضمانات التى تراد من الحماية بالمعنى الذى نفهمها به نحن، وانحصر أكثر عملنا بعد ذلك في فحص هذا الأمر الذى حسبناه محتملا. وكان غرضنا دائما حتى نجد قاعدة لمحالفة توضع فوق جميع المجادلات على الألفاظ والعبارات، وتكون الحد الوحيد النهائى للعلاقات بين بريطانيا العظمى ومصر.

وليس في اعتراف بريطانيا العظمى باستقلال مصر شئ جديد. فقد عنينا أشد العناية جميع مدة احتلالنا لمصر باحترام وحدة مصر كأمة تحت سيادة سلطان هجريا، ولما ألغينا السيادة الهجرية فضلنا بعد إنعام النظر حتى نعلن حمايتنا لمصر على حتى نضمها أونجعلها جزءا من الامبراطورية البريطانية. وقد جددنا وعدنا دائما بإعطاء مصر الحكم الذاتى. ومن رأينا حتى الوفاء بهذا الوعد لا يمكن تأجيله، والروح الوطنية المصرية لا يمكن إطفاؤها. وقد يمكن قمع ما يبلغ درجة العنف من مظاهرها، ولكن الحكم على بلاد أهلها مظهرون العداء لنا يتهموننا بنقض عهودنا، عمل شاق مكروه لدى الذين يشهجرون فيه، ولدى الشعب البريطانى المسئول عنه.

غير حتى هناك مصاعب هائلة تعترض جميع تغيير فجائى تام ينقل جميع السلطة إلى أيد مصرية. وهناك مصالح بريطانية جوهرية لابد من الاحتقاظ بها، ولابد أيضا من حماية عدد كبير من

الأجانب المتوطنين في مصر وحماية حقوقهم. ووجود هؤلاء في مصر يجعل مركزها مختلفا عن مركز غيرها من البلدان الشرقية، ويزيد المسألة تعقيدا.

أما المصالح البريطانية الجوهوية فهي حتى المواصلات الإمبراطورية العظيمة التي تخترق الأراضي المصرية، يجب ألا تهدد بخطر سواء كان باضطرابات داخلية أوباعتداء أجنبي، وأن تكون ميسورة في زمن الحرب، وللأغراض الضرورية في زمن السلم، وألا تعود إلى مصر منافسة الدول التي تتنافس على التفوق فيها. وأخيرا ألا تجري مصر المستقلة على سياسة خارجية تكون معادية للإمبراطورية البريطانية مجحفة بها. ولذلك فإن جميع معاهدة تعقد بيننا وبين المصريين يجب حتى تضمن المركز الخاص الذي للمندوب البريطاني في مصر، وتمكننا من إبقاء قوة داخل الأراضي المصرية لحماية مواصلاتنا الإمبراطورية، ونتخذ التأمين الكافي في حتى السياسة المصرية تكون مطابقة لسياسة الإمبراطورية البريطانية.

ثم إذا حماية الحقوق الأجنبية معضلة أشد تعقيدا، فهذه الحقوق مضمونة الآن بالامتيازات، ولكن الامتيازات أعظم جميع القيود التي تشكومنها مصر الآن. فإن تعدد القضاء الناتج عنها، والتسهيلات التي تحولها للرجال الذين ليس لهم جنسية معينة للنجاة من المحاكم الأهلية، جميع ذلك مشاكل تمنع حفظ القانون والنظام، في حين حتى إعفاء الأجانب من الضرائب المقررة غير أموال الأطيان وعوائد الأملاك يشل يد الحكومة إذا أرادت حتى تزيد إيراداتها، لأنه يستحيل عمليا فرض ضرائب على المصريين ويعفى الأجانب منها، ولذلك بقيت الحكومة زمانا في الماضي مضطرة حتى تضيق على بعض فروعها المهمة كالتعليم العمومي والصحة العمومية، مع حتى ثروة البلاد تزداد بسرعة، ومواردها كثيرة تكفي لكل حاجات حكومة منظمة، وفى زمن الحرب لم يتيسر الحصول على إيراد كاف للخفراء إلا بضريبة خصوصية فرضت بواسطة الأحكام العسكرية.

فاتضح لنا أنه ما من حكومة مصرية تستطيع حتى تكون مستقلة إلا بعد إزالة هذه القيود، وإذا هجرت وزارة مصرية تعاني مصاعب هدّدت الإدارة الحالية بتوقيف دولاب أعمالها، فيكون ذلك بمثابة القضاء عليها بالفشل. وتراءى لنا أنه إذا بقيت الامتيازات، فالمرجح جميع الترجيح حتى الحكومة المصرية تتعرض لضغط تتبارى فيه السلطات الأجنبية يمكن حتى يشلها إذا لم تؤيدها بريطانيا العظمى. فيرى من ذلك جليا حتى مصلحة مصر تقتضي إلغاء الامتيازات، وإعادة تنظيم المحاكم المختلطة حتى تقوم مقام المحاكم القنصلية، فتنظر في القضايا الجنائية التي تتعلق بالأجانب كما في القضايا المدنية. ولكن تحقيق ذلك لا يتيسر إلا بواسطة بريطانيا العظمى. وهي لا تتسقط حتى تفلح في جعل الدول تتنازل عن امتيازاتها الحاضرة إلا إذا كانت بحيث تستطيع حتى تؤكد لهم حتى مصر تظل قادرة على إيفاء ما عليها من الديون، وأن أرواح الأجانب وأموالهم في أمان، ولذلك وجهنا اهتمامنا إلى الحصول على مركز مثل هذا لبريطانيا العظمى يمكنها من إعطاء

التأكيد اللازم، ولا يحصل هذا الغرض ينبغى حتىقد يكون في المعاهدة بند يخوّل لبريطانيا العظمى حق الدخول في التشريع الذى يتناول الأجانب، ويخوّلهما أيضا قسطا من الرقابة على الإدارات التى لها تأثير مباشر في المصالح الأجنبية.

وإذا استثنينا هذه الاحتياطات اللازمة لمصالح بريطانيا العظمى الخاصة، وحماية حقوق الأجانب، فإننا نرى حتى تعاد حكومة مصر عملا إلى ما كانت عليه نظريا مدة احتلالنا، أى حكومة مصرية للمصريين، ولنا ثقة كافية بأعمال الإصلاح التى تمت في الأربعين سنة الماضية. تحملنا على الاعتقاد بأن هذا السبيل يمكن السير فيه الآن ونحن واثقون بنجاحه، ولكن يجب حتى نعمل به بكل جوارحنا وبروح الحب والإخاء، ولا شئ يحتمل حتى يؤدى إلى الفشل مثل حتى تقيد هذه السياسة بقيود كثيرة تدل على حتى صاحبها موجس شرا، وتشوّه مبدأ الاستقلال المصرى، وتوجد الريبة في صدق نياتنا، وتفسد علينا غرضنا الأصلى وهوإعادة الثقة المتبادلة والمؤازرة الأكيدة بين البريطانيين والمصريين.

ولا نحاول إخفاء اقتناعنا بأن مصر لم تصر بعد قادرة على الاستغناء عن المساعدة البريطانية في إدارتها الداخلية، ولكن المصريين يفهمون ذلك، ومتى أيقنوا حتى المسئولية واقعة عليهم وحدهم لا يسرعون للاستغناء عما لا يستغنى عنه من مساعدتنا اللازمة لنجاح بلادهم وحسن إدارة حكومتهم، ومما يزيدهم إبطاء في ذلك فهمهم انهم إذا فشلوا في أمر لم يعد يمكنهم حتى يحتجوا بأن فشلهم كان لائتمارهم بأمر البريطانيين، ولفهم وزرائهم حتى الأعمال الحسنة التى يعملها الموظفون البريطانيون في الحكومة يعود الفخر بها إلى أولئك الوزراء العقلاء الذين أبقوهم في وظائفهم، وعندنا حتى الجوكله يتغير تغيرا تاما متى اقتنع المصريون بأن غرض السياسة البريطانية هومساعدتهم لينالوا الاستقلال الذى يرمون إليه لا حتى يحولوا في سبيلهم لكى لا ينالوه، وقد رسخ هذا الاعتقاد فينا بعد الذى اختبرناه بأنفسنا في الأخذ والعطاء بيننا وبين المصريين الممثلين لقومهم، واتصال حبل الوداد بيننا وبينهم، فإنهم لما وثقوا بخلوص نيتنا أظهروا حسن استعدادهم حالا لقدر رأينا قدره، وللاعتراف بمصالح بريطانيا الخصوصية في مصر بما هم مدينون لها به من الشكر على أعمالها الماضية في البلاد، وعدم استغنائهم عن مساعدتها لهم على حفظ سلامتها واستقلالها. ولم تضعف عزيمتنا لأنهم ليسوا كلهم مستعدين للتقيد بلا شرط ولا استثناء بكل نقطة من نقط التسوية التى عاونونا على استنباطها، فلا ريب عندنا في أنهم موافقون بكليتهم على أعظم مزايا تلك التسوية، وأنهم شديدوالرغبة في حمل أهل وطنهم على قبولها. والظاهر لنا حتى الرأى العام متجه إلى هذه لا محالة. وقد قل ما كان من الجفاء والحقد وضعفت الدعوة العنيفة التى كانت غالبة إلى عهد قريب، ومالت البلاد إلى الهدوء والسكون، فالوقت ملائم لإقرار علاقات بريطانيا العظمى ومصر على قاعدة موافقة دائمة هى قاعدة المعاهدة التى تقرر لمصر استقلالها وتضمن لبريطانيا العظمى مصالحها الجوهرية. ومزية ذلك لبريطانيا العظمى ومصر ظاهرة. أما لبريطانيا العظمى فلأنه يحدد مصالحها تحديدا واضحا، ويقرها في معاهدة يقبلها المصريون فلا ينازع فيها منازع بعد ذلك، وأما لمصر فلأنه ينيلها ضمان بريطانيا العظمى لسلامتها واستقلالها، فنصيحتنا لحكومة جلالة الملك هي حتى تسرع بلا إبطاء زائد في مفاوضة الحكومة المصرية لعقد معاهدة على المبادئ التي حبذناها، وعندنا حتى إضاعة هذه الفرصة مصيبة عظيمة.

هذا ونروم في الختام حتى نسطر شكرنا لسكرتيري اللجنة، ونعرب عن تقديرنا لخدماتهما التي لا تثمن حق قدرها، فإن مستر أ . ب . لويد أولهما اعتزل خدمة الحكومة بعد خبرة سنين عديدة في مصر وفى وزارة الخارجية البريطانية، وذلك قبل حتى تشرع اللجنة في عملها بقليل، ولكنه أذعن إلى إلحاح رئيسنا عليه، ورضي حتى يصحبنا إلى مصر، وقد يكون سكرتيرنا الأول فيها مع أنه كان المفهوم في أول الأمر حتى واجبات أخرى لا تسمح بالبقاء في هذه الوظيفة طويلا بعد عودتنا إلى إنكلترا، وقد استفدنا منه فوائد عظيمة مدة إقامتنا بمصر لمعهدته التامة بالبلاد وأهلها وبجميع دوائر الحكومة، ولما له من المكانة عند البريطانيين والمصريين معا.

ولما هجرنا مستر لويد في شهر مايواجتمع شغل السكرتارية كله على مستر أ . م . ب انجرام من موظفي وزارة الخارجية البريطانية، وكان قد صحبنا إلى مصر بوظيفة مساعد لمستر لويد وسكرتير خصوصي للورد ملنر، وكانت واجبات وظيفته في الأشهر السبعة الماضية ثقيلة شاقة، ولكنه قام بها بهمة كبيرة وغيرة متقدة ومقدرة وكفاءة، ونحن مدينون له دينا كبيرا على مساعدته.

الإمضاءات: ملنر- رنل رود- أوين توماس- سسل ج. ب. هرست - ج. ا. سبندر

9 ديسمبر سنة 1920

(4) نص مشروعى مفاوضات ملنر

(أ) نص مشروع المعاهدة الذى قدمه اللورد ملنر الى الوفد المصرى 17 يوليه سنة 1920

(المادة الأولى)

تتعهد بريطانيا العظمى بضمان سلامة أرض مصر واستقلالها كمملكة (سلطنة) ذات نظامات دستورية.

(المادة الثانية)

وتتعهد مصر من جانبها حتى لا تعقد أى معاهدة سياسية مع أى دولة أخرى بدون رضاء بريطانيا العظمى.

(المادة الثالثة)

نظرا للمسئولية الملقاة على عاتق بريطانيا العظمى بمقتضى الفقرة المتقدمة، ونظرا لمالها من المصلحة الخاصة في حفظ مواصلاتها مع ممتلكاتها في الشرق والشرق الأقصى، فمصر تعطيها حق إبقاء قوة عسكرية بالأراضى المصرية، وحق استعمال الموانئ والمطارات المصرية لغرض التمكن من الدفاع عن القطر المصرى ومن المحافظة على مواصلاتها مع أملاكها المذكورة، أما المكان أوالأمكنة التى تعسكر فيها تلك الجنود البريطانية فإنها تعين بعد باتفاق الطرفين.

(المادة الرابعة)

تقبل مصر حتى تعين بالاشتراك مع حكومة جلالة الملك مستشارا ماليا يعهد إليه بجميع الاختصاصات المخولة الآن لأعضاء صندوق الدين لحماية حقوق دائنى مصر. ويكون تحت تصرف الحكومة المصرية في جميع المسائل الأخرى التي ترغب استشارته فيها.

(المادة الخامسة)

تتعهد بريطانيا العظمى بمساعدة مصر في تحرير نفسها من القيود التي تقيد حريتها في التشريع والإدارة بسبب الامتيازات التى يتمتع بها الأجانب في مصر. وفى وضع نظام بمقتضاه تكون القوانين المصرية سارية على المصريين والأجانب على السواء.

(المادة السادسة)

وتسقطا لتنازل الدول الأجنبية عن الامتيازات الخاصة التي يتمتع بها رعاياها حتى الآن، ونظرا لضرورة تطمين تلك الدول على حتى حقوق الأجانب الشرعية ستكون مع ذلك محترمة. فمصر تعطي لبريطانيا العظمى حق التدخل بواسطة ممثليها في مصر لإيقاف تطبيق أي قانونقد يكون ماسا بحقوق الأجانب الشرعية، أومخالفا للمتبع في البلاد المتمدنة، وإن وجدت الحكومة المصرية حق التدخل هذا قد استخدم في أي حالة مخصوصة بدون وجه فلها حمل الأمر لعصبة الأمم.

(المادة السابعة)

قضاء المحاكم المختلطة الحالية أوما يحل محلها من الأنظمة المماثلة لها يبقى قائما. وينسحب هذا القضاء على المواد الجنائية وجميع النادىوى الأخرى الخاصة بالأجانب في مصر.

(المادة الثامنة)

تقبل مصر حتى تعين بالاشتراك مع حكومة جلالة الملك موظفا إنجليزيا بوزارة الحقانيةقد يكون له من الاختصاص والسلطة ما يتمكن معه من تأكيد حسن إدارة القوانين فيما يتعلق بالأجانب.

(المادة التاسعة)

تكون حكومة جلالة الملك مستعدة لأن تأخذ على عهدتها تمثيل مصر في أي بلد لم يتعين فيها ممثل مصري. ولكن ليس لمصر حتى تعهد بهذا التمثيل لأي دولة أخرى غير بريطانيا العظمى.

(المادة العاشرة)

تعترف الحكومة حتى لمركز ممثل بريطانيا العظمى في مصر صفة خاصة، وأن له باعتباره ممثل الدولة الحليفة حق التقدم على جميع الممثلين الآخرين.

(المادة الحادية عشرة)

الموظفون البريطانيون وغيرهم من الأجانب عدا من ذكروا بالمواد السابقة تسوي حالتهم باتفاق خاص بين الحكومتين البريطانية والمصرية.

وهذا الاتفاق يعتبر جزءا متمما للتراضي المزمع عقده بينهما.


(ب) نص مشروع المعاهدة الذى قدمه الوفد المصرى إلى لجنة اللورد ملنر في 17 يوليه سنة 1920

(المادة الأولى)

تعترف بريطانيا العظمى باستقلال مصر.

تنتهى الحماية التى أعربتها بريطانيا العظمى على مصر في 18 ديسمبر سنة 1914 هى والاحتلال العسكرى الإنجليزى، وبذلك تسترد مصر تام سيادتها الداخلية والخارجية وتكون دولة ملكية ذات نظام دستورى.

(المادة الثانية)

تجلى بريطانيا العظمى جنودها عن القطر المصرى في ظرف من تاريخ العمل بهذه المعاهدة.

(المادة الثالثة)

عند استعمال الحكومة المصرية حقها في الاستغناء عن خدمة الموظفين الإنجليز. تلتزم بإحسان معاملتهم على الكيفية الآتية:

فى غير حالة الرفت لبلوغ السن القانونية. أوللعجز الجسمانى عن العمل. أوبمقتضى حكم تأديبى أولانتهاء المدة المحدّدة في عقد الاستخدام. يعطى الموظف المرفوت تعويض إضافى بمقدار شهر عن جميع سنة قضاها في الخدمة، ويمنح هذا التعويض أيضا لكل موظف يهجر باختياره خدمة الحكومة المصرية في ظرف سنة من تاريخ العمل بهذه المعاهدة.

(المادة الرابعة)

تخفيفا لمضار الامتيازات الأجنبية إلى حين إلغائها تقبل مصر حتى الحقوق التى تستعملها الدول الآن بمقتضى هذه الامتيازاتقد يكون لبريطانيا العظمى استعمالها باسمها بالكيفية الآتية:

(1) الزيادات والتعديلات التى يراد إدخالها على لائحة ترتيب المحاكم المختلطة لا تحصل إلا بموافقة بريطانيا العظمى.

(2) كافة القوانين الأخرى التي لا تنفذ الآن في حق الأجانب أصحاب الامتيازات إلا بموافقة الدول، أوبقرار بالموافقة صادر من الهيئة التشريعية لمحكمة الاستئناف المختلطة، أومن الجمعية العمومية بهذه المحكمة. تصير نافذة عليهم بمقتضى دكريتويصدر وينشر لهذا الغرض ما لم تحصل معارضة من بريطانيا العظمى تبلغ لوزير الخارجية المصري في ظرف (....) من تاريخ النشر بالجريدة الرسمية. ولا تصح هذه المعارضة إلا إذا كان مبناها حتى القانون يضم أحكاما لا نظير لها في شريعة من شرائع الدول ذوات الامتيازات أو- إذا كان قانونا ماليا- حتى الضريبة التي يأمر بها لا مساواة في المعاملة بشأنها بين المصريين والأجانب، وفى حالة حصول خلاف بين الحكومتين في صحة مبنى هذه المعارضة فلمصر حمل الأمر إلى عصبة الأمم لتفصل فيه.

(المادة الخامسة)

في حالة إلغاء المحاكم القنصلية وإحالة محاكمة الأجانب على ما يقع منهم من الجنايات والجنح إلى المحاكم المختلطة تقبل مصر حتى تعين أحد رجال القانون من التبعية الإنجليزية في وظيفة النائب العمومي لدى المحاكم المختلطة.

(المادة السادسة)

تقرر الحكومة البريطانية أنها مستعدة للنظر بالاشتراك مع الحكومة المصرية بعد مضي خمس عشرة سنة في مسألة إزالة المساس الحاصل بسيادة مصر على سكان بلادها بسبب ما للأجانب من الامتياز في التشريع والقضاء. وتحتفظ مصر لنفسها بالحق في حمل هذه المسألة، إذا اقتضى الحال، إلى عصبة الأمم بعد الميعاد المذكور.

(المادة السابعة)

في حالة إلغاء قومسيون صندوق الدين العمومي، فإن مصر تعين موظفا ساميا تختاره بريطانيا العظمىقد يكون له ما للقومسيون المذكور الآن من الاختصاصات ويكون تحت تصرف الحكومة المصرية في كافة ما ترغب تكليفه به من الاستشارات والمهمات المالية.

(المادة الثامنة)

لبريطانيا العظمى- إذا رأت لزوما - حتى تنشئ على مصاريفها بالشاطئ الآسيوي لقنال السويس نقطة عسكرية للمساعدة على صد ما عساه يحصل من الهجمات الأجنبية على هذا القنال.

تحديد منطقة هذه النقطة يحصل بعد فهم لجنة مكوّنة من خبراء عسكريين من الطرفين بعدد متساو.

ومن المتفق عليه حتى إنشاء هذه النقطة لا يعطي لبريطانيا العظمى أي حق في التدخل في أمور مصر. ولا يخل أدنى إخلال بما لمصر من حقوق السيادة على تلك المنطقة التي تظل خاضعة لسلطة مصر ومنفذة فيها قوانينها. كما لا يمس بالسلطة المخوّلة لمصر باتفاقية القسطنطينية المحررة في أكتوبر سنة 1888 الخاصة بحرية الملاحة في قنال السويس.

وبعد مضى عشر سنين من تاريخ العمل بهذه المعاهدة يبحث المتعاقدان الأمر لفهم ما إذا كان استبقاء هذه النقطة لم يعد له لزوم، وما إذا لم يكن ممكنا حتى يهجر لمصر وحدها العناية بالمحافظة على القنال. وفى حالة الخلاف يحمل الأمر إلى عصبة الأمم.

(المادة التاسعة)

في حالة ما ترى مصر التي لها حق التمثيل السياسي ألا تعين نائبا مصريا عنها لدى أي بلد من البلاد يعهد بالمصالح المصرية في هذا البلد إلى نائب بريطانيا العظمى، وهويتولى الدفاع عن تلك المصالح وفق آراء وزير الخارجية المصري.

(المادة العاشرة)

يوافق الطرفان بمقتضى هذا على عقد محالفة دفاعية بينهما للأغراض الآتية:

(1) تتعهد بريطانيا العظمى بالاشتراك في الدفاع عن الأراضي المصرية ضد جميع تعدّ يحصل من جانب أي دولة من الدول.

(2) عند حصول تعدّ على المملكة البريطانية من جانب أي دولة أوربية. ولولم تكن سلامة القطر المصري ذاته في خطر مباشر، فإن مصر تتعهد بأن تقوم داخل حدود بلادها لبريطانيا العظمى بجميع ما تحتاجه حربيا من تسهيل سبل المواصلات وأعمال النقل. وشروط أداء هذه المعونة تتحدد بعد باتفاق خاص.

(المادة الحادية عشرة)

تتعهد مصر، فوق ذلك، بألا تعقد أية محالفة مع أية دولة أخرى بدون الاتفاق مقدما مع بريطانيا العظمى.

(المادة الثانية عشرة)

هذه المحالفة معقودة لمدة ثلاثين سنة في نهايتها يمكن للطرفين حتى ينظرا في أمر تجديدها.

(المادة الثالثة عشرة)

مسألة السودان تكون موضوع اتفاق خاص.

(المادة الرابعة عشرة)

كل ما كان مخالفا لهذه الشروط من الأحكام المتعلقة بمصر الواردة بكافة المعاهدات الأخرىقد يكون ملغى ولا عمل له.

(المادة الخامسة عشرة)

تودع هذه المعاهدة بسكرتيرية جمعية الأمم لتسجل بها وتقرر بريطانيا العظمى أنها عن نفسها قابلة من الآن دخول مصر بهذه الجمعية بصفتها دولة حرة مستقلة.

(المادة السادسة عشرة)

يعمل بهذه المعاهدة لمجرد تبادل التصديق عليها من المتعاقدين ويحصل التصديق فيما يتعلق بمصر بناء على قرار بالاعتماد صادر من الجمعية الوطنية التي تدعى لتقرير الدستور المصري الجديد.


المصادر

  • موسوعة مقاتل من الصحراء


تاريخ النشر: 2020-06-04 15:54:07
التصنيفات: القضية المصرية, 1920 في مصر

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

الإكوادور.. نائب المرشح للرئاسة القتيل سيخوض الانتخابات مكانه

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-08-13 06:07:57
مستوى الصحة: 80% الأهمية: 94%

هزيمة الجيش الأوكراني تصبح هزيمة لبايدن

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-08-13 06:08:09
مستوى الصحة: 89% الأهمية: 100%

كيف يمكن قطع دابر الإرهاب الأوكراني في البحر الأسود

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-08-13 06:08:06
مستوى الصحة: 91% الأهمية: 96%

الشعبوية موضة العصر

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-08-13 06:08:14
مستوى الصحة: 90% الأهمية: 90%

الإكوادور: نقل زعيم عصابة هدد مرشحا رئاسيا إلى سجن شديد الحراسة

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-08-13 06:07:45
مستوى الصحة: 85% الأهمية: 87%

سلوتسكي يلتقي وزيرة الخارجية النمساوية السابقة

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-08-13 06:07:50
مستوى الصحة: 89% الأهمية: 89%

العقيد ماتفيتشوك: الجيش الروسي في الطريق نحو خاركوف

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-08-13 06:08:13
مستوى الصحة: 89% الأهمية: 97%

سلسلة هزائم: مستقبل أوكرانيا ضبابي

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-08-13 06:08:04
مستوى الصحة: 82% الأهمية: 100%

دفء إقليمي

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-08-13 06:08:05
مستوى الصحة: 87% الأهمية: 90%

قدر إيران التقارب مع روسيا

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-08-13 06:08:10
مستوى الصحة: 93% الأهمية: 91%

إفريقيا على شفا حرب كبيرة

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-08-13 06:08:15
مستوى الصحة: 78% الأهمية: 87%

ريال مدريد يقترب من حسم صفقة التعاقد مع بديل حارسه كورتوا

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-08-13 06:08:00
مستوى الصحة: 75% الأهمية: 95%

العمل السري الروسي في أوكرانيا

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-08-13 06:08:16
مستوى الصحة: 86% الأهمية: 94%

نافيا أي اتفاق مع ماسك.. زوكربيرغ يؤكد أنه سيعلن موقع النزال

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-08-13 06:07:55
مستوى الصحة: 80% الأهمية: 85%

تقدير أمريكي خاطئ في السعودية!

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-08-13 06:08:08
مستوى الصحة: 83% الأهمية: 89%

تحميل تطبيق المنصة العربية