^[]

عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل، فقيه الأمة، حليف بني زهرة وأحد أوائل المهاجرين حيث هاجر الهجرتين وصلى على القبلتين، وأول من جهر بقراءة القرآن. تولى قضاء الكوفة وبيت المال في خلافة عمر وصدر من خلافة عثمان.

اسمه ونسبه

عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن شمخ بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، أبوعبد الرحمن الهذلي.

عبد الله بن مسعود

هوعبدالله بن مسعود بن غافل الهذلي، وكناه النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا عبدالرحمـن توفي أبوه في الجاهلية، وأسلمت أمه وصحبت النبي -صلى الله عليه وسلم- لذلك كان ينسب الى أمه أحيانا فينطق: (ابن أم عبد)... وأم عبد كنية أمه -رضي الله عنهما-.

أول لقاء مع الرسول

يقول -رضي الله عنه- عن أول لقاء له مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعقبة بن أبي مُعَيْط، فاتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبوبكـر فنطقا: (يا غلام، هل عندك من لبن تسقينـا؟)... فقلت: (إني مؤتمـن ولست ساقيكما)... فنطق النبـي -صلى الله عليه وسلم-: (هل عندك من شاة حائل، لم يَنْزُ عليها الفحل؟)... قلت: (نعم)... فأتيتهما بها، فاعتقلها النبي ومسح الضرع ونادى ربه فحفل الضرع، ثم أتاه أبوبكر بصخرة متقعّرة، فاحتلب فيها فشرب أبوبكر، ثم شربت ثم نطق للضرع: (اقْلِص)... فقلص، فأتيت النبي بعد ذلك فقلت: (فهمني من هذا القول)... فنطق: (إنك غلام مُعَلّم).

إسلامه

لقد كان عبدالله بن مسعود من السابقين في الاسلام، فهوسادس ستة دخلوا في الاسلام، وقد هاجر هجرة الحبشة وهجرة المدينة، وشهد بدرا والمشاهد مع الرسول -صلى الله عليه وسلم، وهوالذي أجهز على أبي جهل، ونَفَلَه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيفَ أبي جهل حين أتاه برأسه.

وكان نحيل الجسم دقيق الساق ولكنه الايمان القوي بالله الذي يدفع صاحبه الى مكارم الأخلاق، وقد شهد له النبـي -صلى اللـه عليه وسلم- بأن ساقه الدقيقة أثقل في ميزان الله من جبل أحد، وقد بشره الرسـول -صلى اللـه عليه وسلم- بالجنة.

فقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن مسعود فصعد شجرةً وأمَرَه حتى يأتيه منها بشيء، فنظر أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ساقه حين صعد فضحكوا من حُموشَةِ ساقه، فنطق النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَمّ تضحكون،يا ترى؟ لَرِجْلُ عبد الله أثقلُ في الميزان يوم القيامة من أحُدٍ).

جهره بالقرآن

وعبد الله بن مسعود -رضي اللـه عنه- أول من جهر بالقرآن الكريم عند الكعبة بعد رسول اللـه -صلى الله عليه وسلم-، اجتمع يوماً أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنطقوا: (والله ما سمعت قريشُ هذا القرآن يُجهرُ لها به قط، فمَنْ رجلٌ يُسمعهم؟)... فنطق عبد الله بن مسعود: (أنا)... فنطقوا: (إنّا نخشاهم عليك، إنّما نريدُ رجلاً له عشيرة تمنعه من القوم إذا أرادوه)... فنطق: (دعوني فإنّ الله سيمنعني)... فغدا عبد الله حتى أتى المقام في الضحى وقريش في أنديتها، حتى قام عبد الله عند المقام فنطق رافعاً صوته.

بسم الله الرحمن الرحيم: {الرّحْمن، عَلّمَ القُرْآن، خَلَقَ الإنْسَان، عَلّمَهُ البَيَان ... فاستقبلها فقرأ بها، فتأمّلوا فجعلوا يقولون ما يقول ابن أم عبد، ثم نطقوا: (إنّه ليتلوا بعض ما اتى به محمد)... فقاموا فجعلوا يضربونه في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله حتى يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه، فنطقوا: (هذا الذي خشينا عليك)... فنطق: (ما كان أعداء الله قط أهون عليّ منهم الآن، ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غداً؟!)... نطقوا: (حسبُكَ قد أسمعتهم ما يكرهون).

حفظ القرآن

أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن مسعود حتى يقرأ عليه فنطق: (اقرأ علي)... نطق: (يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟)... فنطق -صلى اللـه عليه وسلم-: (إني أحب حتى أسمعه من غيري)... نطق ابن مسعود فقرأت عليه من سورة النسـاء حتى وصلت الى.

قوله تعالى: {فكَيْفَ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا ... (النساء -41).

فنطق له النبي -صلىالله عليه وسلـم-: (حسبـك)... نطق ابن مسعود: (فالتفت اليه فاذا عيناه تذرفان).

كان ابن مسعود من فهماء الصحابة -رضي الله عنهم- وحفظة القرآن الكريم البارعين، فيه انتشر فهمه وفضله في الآفاق بكثرة أصحابه والآخذين عنه الذين تتلمذوا على يديه وتربوا، وقد كان يقول: (أخذت من فم رسـول اللـه -صلى اللـه عليه- سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد)... ونطق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (استقرئـوا القرآن من أربعة من عبـدالله بن مسعود وسـالم مولى أبى حذيفة و أبي بن كعب ومعاذ بن جبل)... كمـا كان يقول: (من أحب حتى يسمع القرآن غضاً كما أُنزل فليسمعه من ابن أم عبد)...

قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (استخلفتَ)... فنطق: (إنّي إنْ استخْلِفُ عليكم فعصيتم خليفتي عُذّبتُم، ولكم ما حدّثكم به حُذيفة فصدِّقوه، وما أقرأكم عبد الله بن مسعود فاقْرَؤُوه).

وحين أخذ عثمان بن عفان من عبد الله مصحفه، وحمله على الأخذ بالمصحف الإمام الذي أمر بكتابته، فزع المسلمون لعبد الله ونطقوا: (إنّا لم نأتِكَ زائرين، ولكن جئنا حين راعنا هذا الخبر)... فنطق: (إنّ القرآن أُنزِلَ على نبيّكم -صلى الله عليه وسلم- من سبعة أبواب على سبعة أحرف، وإنّ الكتاب قبلكم كان ينزل -أونزل- من باب واحد على حرف واحد، معناهما واحد).

قربه من الرسول

وابن مسعود صاحب نعلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدخلهما في يديه عندما يخلعهما النبي -صلى الله عليه وسلم- وهوكذلك صاحب وسادة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومطهرته... أجاره الله من الشيطان فليس له سبيل عليه... وابن مسعود صاحب سر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي لا يفهمه غيره، لذا كان اسمه (صاحب السَّواد)... حتى نطق الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (لوكنت مؤمرا أحدا دون شورى المسلمين لأمَّرت ابن أُم عبد).

كما أعطي مالم يعط لغيره حين نطق له الرسول: (إذْنُكَ علي حتى تحمل الحجاب)... فكان له الحق بأن يطرق باب الرسول الكريم في أي وقت من الليل أوالنهار... يقول أبوموسى الأشعري: (لقد رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وما أرى إلا ابن مسعود من أهله).

مكانته عند الصحابة

نطق عنه أمير المؤمنين عمر: (لقد مُليء فِقْهاً)... ونطق أبوموسى الأشعري: (لا تسألونا عن شيء ما دام هذا الحَبْرُ فيكم)... ويقول عنه حذيفة: (ما أعهد أحدا أقرب سمتا ولا هديا ودلا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- من ابن أم عبد).

واجتمع نفر من الصحابة عند علي بن أبي طالب فنطقوا له: (يا أمير المؤمنين، ما رأينا رجلا كان أحسن خُلُقا ولا أرفق تعليما، ولا أحسن مُجالسة ولا أشد وَرَعا من عبد الله بن مسعود)... نطق علي: (نشدتكم الله، أهوصدق من قلوبكم؟)... نطقوا: (نعم)... نطق: (اللهم إني أُشهدك، اللهم إني أقول فيه مثل ما نطقوا، أوأفضل، لقد قرأ القرآن فأحل حلاله، وحرم حرامه، فقيه في الدين عالم بالسنة).

وعن تميم بن حرام نطق: (جالستُ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما رأيتُ أحداً أزهدَ في الدنيا ولا أرغبَ في الآخرة، ولا أحبّ إليّ حتى أكون في صلاحه، من ابن مسعود).

ورعه

كان أشد ما يخشاه ابن مسعود -رضي الله عنه- هوحتى يحدث بشيء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيغير شيئا أوحرفا... يقول عمروبن ميمون: (اختلفت الى عبد الله بن مسعود سنة، ما سمعته يحدث فيها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إلا أنه حدّث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه: نطق رسول الله، عملاه الكـرب حتى رأيت العـرق يتحدر عن جبهتـه، ثم نطق مستدركا: قريبا من هذا نطق الرسـول).

ويقول علقمـة بن قيـس: (كان عبد الله بن مسعود يقوم عشية جميع خميس متحدثا، فما سمعته في عشية منها يقول: نطق رسول الله غير مرة واحدة، فنظرت إليه وهومعتمد على عصا، فإذا عصاه ترتجف وتتزعزع).

حكمته

كان يملك عبدالله بن مسعود قدرة كبيرة على التعبير والنظر بعمق للأمور فهويقول عما نسميه نِسبية الزمان: (إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه)... كما يقول عن العمل: (إني لأمقت الرجل إذ أراه فارغا، ليس في شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة)... ومن حدثاته الجامعة: (خير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، وشر العمى عمى القلب، وأعظم الخطايا الكذب، وشر المكاسب الربا، وشر المأكل مال اليتيم، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يغفر يغفر الله له).

ونطق عبدالله بن مسعود: (لوأنّ أهل الفهم صانوا الفهم ووضعوه عند أهله لسَادوا أهل زمانهم، ولكنّهم وضعوه عند أهل الدنيا لينالوا من دنياهم، فهانوا عليهم، سمعتُ نبيّكم -صلى الله عليه وسلم- يقول: (مَنْ جعلَ الهمومَ همّاً واحداً، همّه المعاد، كفاه الله سائرَ همومه، ومَنْ شعّبَتْهُ الهموم أحوال الدنيا لم يُبالِ الله في أي أوديتها هلك).

أمنيته

يقول ابن مسعود: (قمت من جوف الليل وأنا مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فاتبعتها أنظر إليها، فإذا رسول الله وأبوبكر وعمر، وإذا عبد الله ذوالبجادين المزني قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حفرته وأبوبكر وعمر يدلِّيَانه إليه، والرسول يقول: أدنيا إلي أخاكما... فدلياه إليه، فلما هيأه للحده نطق: اللهم إني أمسيت عنه راضيا فارض عنه... فيا ليتني كنت صاحب هذه الحفرة.

أهل الكوفة

ولاه أمير المؤمنين عمر بيت مال المسلمين بالكوفة، ونطق لأهلها حين أوفده إليهم: (إني والله الذي لا إله إلا هوقد آثرتكم به على نفسي، فخذوا منه وتفهموا)... ولقد أحبه أهل الكوفة حبا لم يظفر بمثله أحد قبله... حتى نطقوا له حين أراد الخليفة عثمان بن عفان عزله عن الكوفة: (أقم معنا ولا تخرج ونحن نمنعك حتى يصل إليك شيء تكرهه منه)... ولكنه أجاب: (إن له علي الطاعة، وإنها ستكون أمور وفتن، ولا أحب حتى أكون أول من يفتح أبوابها).

السقم

نطق أنس بن مالك: دخلنا على عبد اللـه بن مسعود نعوده في سقمه، فقلنا: (كيف أصبَحتَ أبا عبد الرحمن؟)... نطق: (أصبحنا بنعمة اللـه إخوانا)... قلنا: (كيف تجدُكَ يا أبا عبد الرحمن؟)... نطق: (إجدُ قلبي مطمئناً بالإيمان)... قلنا له: (ما تشتكي أبا عبد الرحمن؟)... نطق: (أشتكي ذنوبي وخطايايَ)... قلنا: (ما تشتهي شيئاً؟)... نطق: (أشتهي مغفرة اللـه ورضوانه)... قلنا: (ألا ندعولك طبيباً؟)... نطق: (الطبيب أسقمني -وفي رواية أخرى الطبيب أنزل بي ما ترون).

ثم بكى عبد الله، ثم نطق: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إنّ العبد إذا سقم يقول الرّب تبارك وتعالى: (عبدي في وثاقي)... فإن كان هبط به السقم في فترةٍ منه نطق: (اخطوا له من الأمر ما كان في فترته)... فأنا أبكي أنّه هبط بي السقم في فترةٍ، ولوددتُ أنّه كان في اجتهادٍ منّي).

الوصية

لمّا جاء عبد الله بن مسعود الموتُ دَعَا ابْنَه فنطق: (يا عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، إنّي موصيك بخمس خصال، فاحفظهنّ عنّي: أظهر اليأسَ للناس، فإنّ ذلك غنىً فاضل، ودعْ مطلبَ الحاجات إلى الناس، فإنّ ذلك فقرٌ حاضر، ودعْ ما يعتذر منه من الأمور، ولا تعملْ به، وإنِ استطعتَ ألا يأتي عليك يوم إلا وأنتَ خير منك بالإمس فاعمل، وإذا صليتَ صلاةً فصلِّ صلاةَ مودِّع كأنّك لا تصلي صلاة بعدها).

الحلم

لقي رجل ابن مسعود فنطق: لا تعدم حالِماً مذكّراً: (رأيتُكَ البارحة، ورأيتُ النبـي -صلى اللـه عليه وسلم- على منبر مرتفع، وأنتَ دونه وهويقول: (يابن مسعود هلُمّ إليّ، فلقد جُفيتَ بعدي)... فنطق عبد الله: (آللّهِ أنتَ رأيتَهُ؟)... نطق: (نعم)... نطق: (فعزمتُ حتى تخرج من المدينة حتى تصلي عليّ)... فما لبث إلا أياماً حتى توفي -رضي الله عنه- فشهد الرجل الصلاة عليه.

وفاته

وفي أواخر عمره -رضي الله عنه- قدم الى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم... توفي سنة اثنتين وثلاثين للهجرة في أواخر خلافة عثمان... رضي الله عن ابن أم عبد وأمه صاحبي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعلهما رفيقيه في الجنة مع الخالدين.