الفلسفة البريطانية

عودة للموسوعة

الفلسفة البريطانية

ديڤد هيوم، الفيلسوف الاسكتلندي ذوالتأثير الهائل.

الفلسفة البريطانية تشير إلى التقليد الفلسفي لشعب المملكة المتحدة ومواطنيها في الخارج.


الفلسفة الإنجليزية 1648 - 1715

توماس هوبز 1588 - 1679

المؤثرات التي شكلت شخصيته

ولد هوبز فيخمسة إبريل 1588، ولما يكتمل المدة المقررة للحمل، وتعزوأمه ولادته المبتسرة قبل الأوان إلى فزعها من مجيء الأسطول الأسباني "الأرمادا"، ومن الخطر الذي يتهدد إنجلترا بغزوساحق على أيدي الوثنيين السفاحين. أما الفيلسوف فينسب إلى خروجه غير المرتقب قبل الأوان إلى الحياة نزعة الجبن التي تملكته وغلبت عليه، ولكنه كان أجرأ الهراطقة في عصره. وربما ورث الوالد- وكان قسيساً أنجليكانياً في مامز بري في ولتشير- ابنه بعض نزوع إلى المشاكسة، فان هذا الوالد اشتبك يوماً في شجار على باب كنيسته ثم اختفى، تاركاً أبناءه الثلاثة ليتولى تربيتهم أخ له.

وأثرى هذا الخ وأيسر، والتحق توماس بكلية مجدلن في أكسفورد، هياباً جباناً، ولا ريب، مثله في ذلك مثل أي شاب يجرؤ على اقتحام المغارات المخصصة لأصنام العشيرة. ولم يجد في الفلسفة التي تدرس هناك إلا قليلاً مما يروقه، فتسلى بقراءات خارج المنهج المقرر، وتعهد بطريق مباشر على الآداب الإغريقية واللاتينية. ولما تخرج في سن العشرين أسعده الحظ ليكون مفهماً خاصاً لوليم كافندش الذي أصبح أرل ديفونشير الثاني. وقد ثبت حتى الحماية التي بسطتها عليه هذه الأسرة كانت ذات قيمة كبيرة له أيام هرطقته. وفي 1610 طاف في صحبة تلميذه بأراتى القارة. وعند عودته أشتغل لبعض الوقت سكرتير لفرنسيس بيكون، وربما أسهمت هذه الخبرة المثيرة في تكوين فلسفته التجريبية بكل ما في هذه الحدثة من معنى. ويروي أوبري أنه حوالي هذه الفترة "كان مستر بنجامين جونسون شاعر التاج صديقه الحميم الذي يكثر التردد عليه(1)وكان أغزر فهماً من هوبز. ولم يكن قد أشتد عوده بعد، وسرعان ما عاد هوبز إلى أسرة كافندش، واحتفظ بصلته بها طيلة ثلاثة أجيال، ومن الجائز حتى الفيلسوف اقتبس من هؤلاء الحماة الكرام ذوي المنعة والقوة الآراء المتعلقة بالنظام الملكي والكنيسة التقليدية، وتلك الآراء هي التي غفرت له ميتافيزيقيته المادية وخلصته من الموت حرقاً.

وكان اكتشافه لإقليدس نقطة تحول في حياته العقلية. ذلك أنه وهوفي سن الأربعين، سقط بصره في مخطة خاصة، على كتاب "العناصر" مفتوحاً على المسألة رقم 47 من القسم الأول. وما حتى قرأها حتى صاح "يا إلهي، هذا محال" وأشار شرحها إلى أنها برهان على مسألة سابقة، وهذه على أخرى، إلى غير ذلك، حتى عاد إلى التعاريف الأولية والبديهيات. وابتهج بهذا البناء المنطقي، وأغرم بفهم الهندسة(2)ولكن أوبري بضيف "أنه كان منصرفاً- إنصرافاً كبيراً إلى الموسيقى ومارس العزف على الكمان الكبير". وفي 1629 نشر ترجمة لتيوكيديدس (المؤرخ اليوناني في القرن الرابع ق.م) وكان غرضه السافر المزعوم من ذلك هوحتى يحذر إنجلترا من أخطار الديموقراطية. وفي تلك السنة أستأنف رحلاته، مفهماً آنذاك لأبن أول تلاميذه، أرل ديفونشير الثالث. وربما قوت زيارته لجاليليو(1636) من نزوعه إلى تفسير الكون على أسس ميكانيكية.

وعاد إلى إنجلترا في 1637، ولما أشتد الصراع بين البرلمان والملك شارل الأول، خط رسالة بعنوان "مبادئ القانون الطبيعي والسياسي"، دافع فيها عن السلطة المطلقة للملك، بوصفها أمراً لا غنى عنه للنظام الاجتماعي والوحدة الوطنية. وجرى تداول هذه الرسالة مخطوطة، وربما- كانت تؤدي إلى القبض على المؤلف لولا حتى شارل حل البرلمان. وعندما احتدم النزاع فقد رأى هوبز أنه من الحكمة حتى يعود أدراجه إلى القارة (1640)، وبقى هناك، ومعظم وقته في باريس، طيلة الأحد عشر عاماً التالية. وفي باريس كسب صداقة مرسن وجاسندي، ولكن جلب على نفسه عداوة ديكارت. فإن مرسن نادىه إلى تدوين بعض التعليقات على "تأملات" ديكارت، فاستجاب هوبز في شيء من الكياسة ولكن في كثير من الحدة، ولم يغتفر له ديكارت هذا قط. وعندما نشبت الحرب الأهلية في إنجلترا (1642) أسس المهاجرون الملكيون لأنفسهم مستعمرة في فرنسا، وربما أخذ هوبز عنهم مزيداً من التعاطف مع الملكية، فإنه لمدة عامين (1646slash1748) اشتغل بتدريس الرياضيات لأمير ويلز المنفي، الملك شارل الثاني فيما بعد. واتىت حركة الفروند ضد لويس الرابع عشر في فرنسا- وكانت مثل الثورة في إنجلترا، تهدف إلى الحد من سلطة الملك- فأكدت اقتناعه بأن الملكية المطلقة وحدها هي التي يمكن حتى تحافظ على الاستقرار والأمن الداخلي.

وفي بطء شديد وصل هوبز إلى صياغة محددة واضحة لفلسفته. ويقول أوبري: "أنه سار طويلاً وأعمل الفكر وتأمل، وكان في رأس عصاه قلم ومحبرة، وكان يحمل في جيبه دائماً كراسة، حتى إذا عرضت له فكرة، فسرعان ما كان يدونها على الفور حتى لا تضيع(3)" وأصدر سلسلة من التأليف الأقل قيمة ، التي ليس لها الآن ذكر، ولكنه- في 1651 جمع جميع أفكاره في كتاب يجمع بين طرافة الفكر والأسلوب وعدم المبالاة، هو"لواياثان" (التنين) أو"المادة والشكل"، و"سلطة الدولة دينية ومدنية" (التنين) أو"المادة في تاريخ الفلسفة، وجدير بنا حتى نتوقف عنده في شيء من التروي.


المنطق وفهم النفس

يكاد أسلوب هوبز يقارب أسلوب بيكون في الجودة، ولكنه ليس غنياً بالصور الوضاءة مثله، ولكنه قوي متميز فعال صريح مثله تماماً، مع شيء من التهكم اللاذع بين الحين والحين. وليس فيه زخرف ولا تظاهر بالبلاغة والفصاحة، فما هوإلا تعبير واضح عن فكر واضح، مع اقتصاد حكيم في الوسائل اللفظية. يقول هوبز "إن الحدثات بالنسبة للعقلاء ليست سوى أنضاد "فيشات" أي وسائط للعد والحساب، ولكنها ثروة الأغبياء، التي تضفي قيمة وقدراً، استناداً إلى أرسطوشيشرون أوتوما الأكويني(4)". وبهذا السلاح الجديد- قضي هوبز على كثير من الكلام الطنان الرنان الأجوف الذي لا يحمل معنى. وعندما سقط بصره على تعريف توما الأكويني "للأبدية" بأنها "الحاضر الخالد" هم كتفيه استهجاناً لهذا التعريف على أنه "من البسيط جداً حتى ينطق، ولكن على الرغم من أني قد أسر به، فأني لم أستطع حتى أفهمه قط، وأولئك الذين يستطيعون فهمه أسعد مني حظاً". وعلى كذلك كان هوبز "اسمياً صريحاً" (ممضى الاسمين: ممضى فلسفي يقول بأن المفاهيم المجردة أوالكليات ليس لها وجود حقيقي، وأنها مجرد أسماء ليس غير): فالإنماء أوالأسماء المجردة مثل "الرجل، الفضيلة" هي مجرد أسماء لأفكار تعميمية، ولا تمثل شيئاً مدركاً بالحواس، فكل الأمور لها وجود فردي- أعمال فاضلة فردية، ورجال فرديون....

إنه يحدد مصطلحاته وألفاظه تحديداً دقيقاً. وعلى الصفحة الأولى من كتابه يعهد "لواياثان" بأنه مصلحة مشهجرة أورابطة أودولة. إنه عثر اللفظ في التوراة (سفر أيوب- الإصحاح 41) حيث استخدمها الرب اسماً لحيوان بحري هائل غير ذي نوع محدد، رمزاً للقوة الإلهية، واقترح هوبز حتى يجعل من الدولة نظاماً ضخماً عليه حتى يستوعب جميع النشاط الإنساني ويوجهه. ولكنه قبل حتى يصل إلى قضيته الأساسية ألقى نظرة شاملة على المنطق وفهم النفس بيد لا ترحم.

إن هوبز فهم الفلسفة على أنها ما نسميه الآن فهماً: "فهم الآثار والظواهر المكتسبة من فهم الأسباب، أوبالعكس فهم العلل أوالأسباب الممكنة كما تدلنا عليها فهم آثارها المعروفة لدينا(5)". وتبع بيكون في تسقطه حتى يجني من وراء هذه الدراسة أوهذا- المنهج فوائد عملية عظيمة للحياة الإنسانية. ولكنه تجاهل دعوة بيكون إلى التعليل الاستقرائي، وأخذ "بالاستدلال المنطقي" أي الاستنتاج من التجربة. وفي إعجابه بالرياضيات أضاف "أن الاستدلال المنطقي هوبعينه من الجمع والطرح" أي الجمع بين الصور والأفكار، أوالفصل بينهما. ومضى إلى أننا لا نفتقر إلى التجربة، ولكن الذي نفتقر إليه هوالتعليل السليم لها، أننا إذا استطعنا حتى نقضي على خبث الألفاظ الخالية من المعنى في الميتافيزيقا، وعلى التحيزات التي نقلناها بحكم العادة أوالتعليم أوروح التشيع والتحزب، إننا إذا استطعنا هذا فأي عبء نطرحه على كواهلنا، والعقل على أية حال ليس معصوماً من الخطأ! ولا يمكن إلا في الرياضيات، حتى يزودنا بالحقيقة اليقينية التي لا ريب فيها. "إن فهم النتيجة، التي قلت من قبل أنها تسمى الفهم، ليست مطلقة، بل هي مشروطة. ولا يستطيع أحد حتى يعهد عن طريق التعليل حتى هذا الشيء أوذاك كان أوقد يكون أوسيكون، مما يعهد بشكل مطلق، بل يعهد أنه حينقد يكون هذاقد يكون ذاك، وإذا كان هذا كان ذاك، وحين سيكون هذا سيكون ذاك، أي حتى هذا الشيء أوذاك يعهد مشروطاً"(6).

وكما سبقت هذه العبارة حجة هيوم في أننا نعهد النتائج فقط دون الأسباب، فأن هوبز كذلك تجاوز لوك في فهم النفس الحسي. حتى جميع الفهم تبدأ بالحس "ليس ثمة فكرة في عقل الإنسان إلا تولدت بادئ ذي بدء، تامة أوعلى دفعات، في أعضاء الحس(7)". وهذا علن نفس مادي صريح: لا يوجد شيء خارجنا أوداخلنا- إلا المادة والحركة، وكل الصفات المحسوسة "أوحسية (الضوء، اللون، الشكل، الصلابة، النعومة، الصوت، الرائحة، الطعم، الحرارة، البرودة، هي في الشيء الذي يسببها أويحدثها ليست إلا عدة حركات كثيرة للمادة تؤثر بها على أعضائنا بأشكال مختلفة، كما أنها، فينا نحن الذين تأثرنا بها، ليست إلا حركات مختلفة، لأن الحركة لا تنتج إلا حركة(8)"، فالحركة في شكل تغيير أمر ضروري للحس- إذا إحساسك- بنفس الشيء دائماً يساوي أنك لا تحس بشيء مطلقاً(9). (إلى غير ذلك فأن الرجل الأبيض أوالرجل الملون لا يتنبه أي منهما إلى رائحته لأنها دائماً تحت أنفه).

ومن الحس يتابع هوبز سيره ليستخلص التصور والذاكرة عن طريق تطبيق فريد لما صار قانون الحركة الأول عند نيوتن: أنه إذا بقي جسم ساكناً ما لم يحركه شيء آخر، فإنه يظل ساكناً إلى الأبد، فتلك حقيقة لا يشك فيها أحد. أما إذا كان الجسم متحركاً، فإنه يظل إلى الأبد إلا إذا أوقفه شيء آخر، فإنه على الرغم من حتى السبب واحد في الحالين (وهوعلى التحديد حتى أي شيء لا يمكنه التغيير بذاته) فهذا أمر لا يمكن التسليم به بسهولة.

إذا تحرك الجسم مرة، فإنه يظل يتحرك إلى الأبد (إلا إذا عاق حركته شيء آخر(، وهذا الذي يعطل حركته، أياً كان، لا يستطيع حتى يعطلها دفعة واحدة إنما يعطل حركته تماماً في الوقت المناسب وشيئاً فشيئاً. وكما نرى في الماء، فقد تسكن الريح ولكن الأمواج لا تهدأ إلا بعد فترة طويلة من سكون الريح. وهذا ما يحدث للحركة التي تتم داخل الأجزاء الداخلية في الإنسان، ثم حين يرى أويحلم.... الخ، حيث أنه عندما يزول ويختفي الشيء أوتغلق العين، فإننا نظل نستبقي صورة الأمور التي رأيت، ولوأنها تكون أكثر غموضاً منها حين كنا نراها. وهذا ما يسميه اللاتينيون "خيالاً".... وهوعلى هذا الأساس ليس إلا "حساً يضعف"، فإذا عبرنا عن هذا الضعف، فما يشير على حتى الحس يتضاءل وأنه قديم، وأنه غابر، فإن هذا يسمى "الذاكرة"...... والذاكرة العامرة، أوتذكر أشياء كثيرة يسمى "الخبرة أوالتجربة(10)".

والأفكار تعبير عن تصورات ينتجها الحس أوالذاكرة. والفكر هونتيجة لمثل هذه التصورات. ولا تتحكم الإرادة الحرة في هذه النتيجة، بل إنها تخضع لقوانين ميكانيكية تحكم توارد الخواطر.

إن الأفكار أوالخواطر لا يعقب الواحد منها الآخر اعتباطاً، ولكن يحدث إننا لاقد يكون لدينا تصور لما لن نكن قد أحسسنا به جملة أوتفصيلاً من قبل، فإننا كذلك لن ننتقل من تصور إلى تصور ليس لدينا عهد به في حواسنا من قبل. وهذا هوالسبب: إذا جميع التصورات (الأخيلة والأفكار) إنما هي حركات في داخلنا، وهي بقايا ما تم في حواسنا. وهذه الحركات التي تعاقبت الواحدة منها بعد الأخرى في الحس تستمر أيضاً مجتمعة بعد الحس.... ولكن بما أنه في الحس بالنسبة لشيء واحد بعينه يدرك، قد يأتي أحياناً شيء. وأحياناً يأتي شيء آخر، فقد يحدث عاجلاً أوآجلاً، في تصور شيء ما، ألا نكون على يقين من أننا سنتصور شيئاً بعده. وهذا مؤكداً فقط إذا كان ثمة شيء قد أعقب مثيلاً له من قبل في وقت من الأوقات(11).

وقد تكون هذه السلسة من الأفكار مشوشة أوغير موجهة، كما هوالحال في الأحلام، وقد تكون "مضبوطة أومحددة طبقاً لرغبة أوهدف أوخطة ما". وفي حالة الأحلام نجد حتى الصور الساكنة الهاجعة في المخ "توقظها أوتهيجها أية إثارة في الأجزاء الداخلية في جسم الإنسان". لأن جميع أجزاء الجسم مترابطة، بطريقة ما، بأجزاء معينة في المخ. "أعتقد حتى هناك تبادلاً في الحركة من المخ إلى الأجزاء الحيوية، ومنها ثانية إلى المخ، بهذا لا يولد التصور حركة في تلك الأجزاء فحسب، بل حتى الحركة في تلك الأجزاء كذلك تولد تصوراً شبيهاً بهذا الذي أنتجها(12)". وأحلامنا هي شكل معكوس لتصوراتنا في اليقظة: الحركة ونحن متيقظون بادئة بطرف، وبادئة بالطرف الآخر حين نحلم(13)" والتسلسل المنطقي للصور في الأحلام يرجع إلى عدم وجود أي إحساس خارجي يضبطها أوأي غرض يوجهها.

وليس للإرادة الحرة أي مكان في فهم النفس عند هوبز. والإرادة نفسها ليست موهبة أووجوداً مستقلاً، بل هي مجرد الرغبة الأخيرة أوالنفور الأخير في عملية التدبر (حركتان جسميتان أساسيتان هما الاشتهاء أوالحركة نحوالأمور والنفور أوالحركة بعيداً عن الأمور)، والتدبر تناوب بين حالات الرغبة أوالنفور، وهوينتهي عندما يمكث أحد الدوافع وقتاً كافياً ليتحول إلى عمل أوتصرف ما. "في التدبر نجد حتى الأمور أوالنفور الخير الذي يقترن في الحال بالعمل أوبالإغفال الناتج عنه (عن الاشتهاء أوالنفور) هوما نسميه الإرادة(14)" "إن الشهوة والخوف والأمل وغيرهما من الانفعالات لا تسمى اختيارية، لأنها لا تنبع من الإرادة، بل هي الإرادة نفسها، والإرادة ليست اختيارية(15)" "لأن جميع عمل من أفعال إرادة الإنسان وكل رغبة وكل ميل، إنما ينتج عن سبب ما، وهذا السبب ينتج عن سبب آخر، إلى غير ذلك في سلسلة متصلة (حلقتها الأولى في يد الله أول جميع الأسباب) وكلها تنبع من الضرورة. وعلى هذا فإن الذي يستطيع حتى يدرك الصلة بين تلك الأسباب، قد تبدوله واضحة جلية "ضرورة" إلى جميع أفعال الإنسان الاختيارية(16)". وهناك في الكون بأسره سلسلة متصلة الحلقات من الأسباب والنتائج أوالآثار. وليس هناك شيء طارئ غير متسقط، أوخارق معجز، أومن قبيل الصدفة.

والعالم كله آلة من المادة، متحركة طبقاً لقانون، والإنسان نفسه آلة شبيهة بهذه. والأحاسيس تدخل إليه كأنها حركات، وتولد صوراً وأفكاراً وكل فكرة هي بداية حركة، وتصبح عملاً إذا لم تعقها فكرة أخرى(17). وكل فكرة، مهما تكن مجردة، تحرك الجسم بدرجة ما، مهما تكن غير منظورة. والجهاز العصبي تعبير عن هجريب آلي لتحويل الحركات الحسية إلى حركة عضلية. والأرواح موجودة ولكنها مجرد أشكال دقيقة للمادة(18). والنفس والعقل ليسا غير ماديين، ولكنهما اسمان للعمليات الحيوية للجسم ولأعمال المخ. ولا يحاول هوبز حتى يفسر السبب في حتى الوعي ينموبمثل هذه العملية الميكانيكية من الحس إلى الفكرة إلى الاستجابة. إنه باختزال جميع الصفات المدركة للأشياء إلى صور في "الذهن"، يقترب كثيراً من الموقف الذي اتخذه باركلي فيما بعد في دحض المادية- إذا جميع الحقيقة المعروفة لنا إدراك حسي، وذهني.


جـ - الأخلاق والسياسة

إن هوبز مثل ديكارت قبله، وسبينوزا بعده، تولى تحليل الانفعالات، لأنه يرى فيها مصدر جميع أفعال الإنسان، ويستخدم الفلاسفة الثلاثة جميعهم لفظة "الانفعال" على نطاق واسع لتضم أية غريزة أووجدان أوعاطفة- وبصفة أساسية، الاشتهاء (الرغبة) والنفور، الحب والكراهية، الفزع والخوف، ووراء هذه كلها اللذة والألم- العمليات النفسية التي تحمل أوتخفض من حيوية الكائن الحي. والاشتهاء بداية حركة نحوشيء يبشر باللذة. والحب ضرب من الاشتهاء، موجه نحوشخص. وكل الإندفاعات (كما كان يقول لاروشفوكولد بعد ذلك بأربعة عشر عاماً) هي أشكال من حب الذات، وكلها تنبع من غريزة المحافظة على الذات. فالإشفاق هوتصور المصائب تنزل بنا في المستقبل، يثيره فهمنا بمصائب الغير، والصدقة إرضاء للشعور بالقوة في مساعدتنا للآخرين. والاعتراف بالفضل ينطوي أحياناً على شيء من العداء "أن حصولنا ممن نرى أنه مساولنا على فوائد أومنفعة أعظم مما كنا نأمل منه، ينزع بنا إلى التظاهر بالحب، والحق أنه بغض خفي، وهويضع المرء في موقف المدين اليائس، حتى أنه في حالة تصنعه عن رؤية دائنه، إنما يرغب ضمناً في حتى يمضى هذا الدائن إلى حيث لا يراه المدين أبداً . لأن المنفعة التي حصل عليها منه طوق بها عنقه، وفي هذه المنة أوالفضل عبودية(19)". والنفور الأساسي هوالخوف. والاشتهاء الأساسي هواشتهاء السلطة. "إني أرى في البشر جميعاً نزعة عامة. هي الرغبة الدائمة التي لا تهدأ في السلطة فوق السلطة، وتلك الرغبة لا يخمد أوارها إلا عند الموت(20)". إننا نرغب في الثراء والفهم بوصفها وسائل للسلطة. وفي الأوسمة ومظاهر الحفاوة والتكريم، لأنها مرشد على السلطة، ونحن نريد السلطة لأننا نخشى التعرض للخطر. والضحك تعبير على التفوق والسمووالسلطة.

إن الانفعال بالضحك ليس إلا تألقاً أواعتزازاً مفاجئاً (رضي ذاتياً) ينشأ عن إدراك مفاجئ لبعض السمووالحملة فينا، بالمقارنة بوهن الآخرين وعجزهم، أوبوهننا وعجزنا فيما مضى، لأن الناس يضحكون من حماقاتهم السابقة عندما تخطر ببالهم فجأة، إلا إذا استحضروا معها شيئاً من مواطن الخزي والعار في حاضرهم.... ويكون الضحك أكثر ماقد يكون عارضاً لأولئك الذينقد يكونون على وعي تام بقدراتهم البالغة الضآلة، الذين يضطرون إلى التماس شيء من الراحة في ملاحظة نقائص الآخرين. ومن ثم فإن كثرة الضحك من عيوب الناس مرشد على ضعة النفس. فإن من أروع الأعمال التي ينهض بها ذووالعقول الكبيرة حتى يساعدوا الآخرين ويحرروهم من الذل والازدراء، وألا يقارنوا أنفسهم إلا بأقدر الناس(21).

والخير والشر مصطلحان ذاتيان يختلفان في المضمون، لا من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان فحسب، بل من إنسان إلى إنسان أيضاً. "إن الإنسان يسمي موضوع شهوته أورغبته خيراً، وموضوع كراهيته أونفوره شراً، لأن هاتين الحدثتين تستعملان دائماً في ما يتعلق بالشخص الذي يستخدمها، لأنه ليس ثمة خير أوشر سهل أومطلق، وليس هناك قاعدة عامة للخير أوالشر يمكن استنباطها من طبيعة الأمور ذاتها(22)". وقد تكون الانفعالات خيراً، وقد تؤدي إلى العظمة. "وهذا الذي ليس لديه رغبة قوية.... وفي السيطرة أوالثروة أوالفهم أوالشرف والمهابة. لا يمكن حتىقد يكون لديه خيال واسع أوعقل راجع". إذا ضعف الانفعال غباء، وقوته بشكل غير طبيعي جنون وانعدام الرغبات موت(23).

إن بهجة هذه الحياة لا تكمن في هجوع الذهن في حالة من الرضي والاكتفاء. لأنه ليس هناك ما يسمونه "الغرض الأسمى" و"الخير الأسمى" كما تحدثت عنهما خط الفلاسفة الأخلاقيين القدامى.... فالبهجة هي تقدم الرغبة المستمر من هدف إلى هدف، وتحقيق الهدف السابق يظل طريقاً لتحقيق ما بعده(24).

إن حكم رجال هكذا تكوينهم وميلهم إلى الكسب ، والمنافسة وحدة الأهواء والانفعالات فيهم، ونزعتهم إلى النضال والكفاح، نقول حتى مثل هذا الحكم هوأشد مهام البشر تعقيداً ومشقة، ويجدر بنا حتى نهيئ لمن يتولونه جميع عون أوسلاح من فهم النفس ومن القوة والسلطان. وعلى الرغم من حتى إرادة الإنسان غير حرة فإن للمجتمع ما يبرر تشجيعه لبعض الأعمال ويطلق عليها "أعمالاً فاضلة" ويثيب عليها، على حين يندد بأعمال أخرى، ويقول بأنها "أعمال مرذولة" ويعاقب عليها. وليس ثمة تناقض هنا مع "الحتمية"، فإن هذه الاستحسانات والتنديدات الاجتماعية تضاف، من أجل خير الجماعة ومصالحها، إلى الدوافع الني تؤثر في السلوك. "إن العالم يحكمه الرأي(25)"، فالحكومة والدين والقانون الأخلاقي، هي إلى حد كبير تلاعب بالرأي، للتخفيف من الضرورة ونطاق القوة.

إن الحكومة ضرورية، لا لأن الإنسان شر بالطبيعة- لأن "الرغبات وسائر الانفعالات ليست آثمة في حد ذاتها(26)"- بل لأن الإنسان بطبيعته أكثر نزوعاً إلى الفردية منه إلى الروح الاجتماعية، إذا هوبز هنا لم يتفق مع أرسطوفي حتى الإنسان "حيوان سياسي"، أي مخلوق مهيأ بالطبيعة للاجتماع. إنه على النقيض من ذلك استوعب "حالة طبيعية" أصلية (وهي على ذلك الطبيعة الأصلية للإنسان)، على أنها حالة تنافس وعدوان متبادلين لا يوقفهما إلا الخوف، لا القانون. ويمكننا (كما يقول هوبز) حتى نتصور هذه الحالة الافتراضية إذا لاحظنا العلاقات الدولية في زمننا هذا، فإن الأمم لا تزال إلى حد كبير في "حالة من الطبيعة"، ولم تخضع بعد لقانون أوسلطة مفروضة عليها.

إن الملوك وأصحاب السلطان في جميع الأزمان، بسبب استقلالهم، يعيشون وسط الأحقاد والحذر، يقفون وقفة المصارعين والمجادلين دائماً، أسلحتهم مشروعة، وعيونهم مثبتة جميع منهم على الآخر- أي قلاعهم وحامياتهم ومدافعهم على حدود ممالكهم- يبثون العيون والأرصاد على جيرانهم، وتلك هي وقفة الحرب، لا توجد سلطة عامة، لا يوجد قانون ولا يوجد ظلم ولا جور. والقوة والخداع هما في الحرب فضيلتان أساسيتان(27).

إلى غير ذلك أعتقد هوبز حتى الأفراد والأسرات كانت قبل ظهور التنظيم الاجتماعي، تعيش في حالة حرب دائمة، عملية أومحتملة، "كل إنسان ضد الآخر(28)". ولا تقتصر الحرب على الالتحام في المعركة فقط، بل قد يأتي وقت يظهر فيه بشكل واضح، عزم الإنسان على الاشتباك في معركة(29). ونبذ نظرية فقهاء الرومان وفلاسفة المسيحية في حتى هناك، أوكان هناك إطلاقاً، "قانون طبيعي" بمعنى قوانين الصواب والخطأ، مؤسسة على طبيعة الإنسان بوصفه "حيواناً عاقلاً". وسلم بأن الإنسان كان عقلانياً في بعض الأحيان، ولكنه استوعب أنه "مخلوق ذوانفعالات وأهواء- ورغبة السلطان والقوة فوق جميع شيء- يستخدم العقل أداة للرغبة أوالاشتهاء، ولا يحكمه إلا الخوف من القوة. والحياة البدائية- أي الحياة قبل التنظيم الاجتماعي- كانت بلا قانون، عنيفة مخيفة، "قذرة كريهة وحشية فقيرة(30)".

وفي تصور هوبز أنه من "حالة طبيعية" المفترضة هذه، خرج الناس باتفاق ضمني بين بعضهم بعضاً، على حتى يخضعوا جميعاً لسلطة عامة. وتلك هي نظرية "العقد الاجتماعي التي أصبحت مألوفة شائعة يفضل رسالة روسوالتي تحمل هذا الاسم (1762). ولكنها كانت بالعمل قديمة مطروقة في أيام هوبز. فإن ملتون في رسالته "ولاية الملك والحكام" (1649) كان قد فسر العقد بأنه اتفاق بين ملك ورعاياه- على أنهم يطيعونه، وعلى أنه سيقوم بمهام منصبه على خير وجه، فإذا أخفق هذا، كما نطق ملتون (مثل ما نطق بوكانان وماريانا وكثيرون غيرهما)، كان للشعب الحق في خلعه. واعترض هوبز على النظرية بهذه الصيغة، على أساس أنها لم تؤسس سلطة مخولة حتى تنفذ العقد، أوتحدد كيف من الممكن أن ومتى نقض. وآثر القول بأن هذا الاتفاق مبرم، لا بين الحاكم والمحكومين، بل بين المحكومين الذين اتفقوا فيما بينهم:

إنهم منحوا جميع سلطانهم وقوتهم (أي حقهم في استخدام القوة بعضهم ضد بعض) لرجل واحد أولجماعة من الرجال.... فإذا تم هذا، أتحد الجميع في رجل واحد يسمى الدولة. وهذا هومنشأ اللواياثان الكبير.... بل على الأرجح منشأ "الرب الفاني" الذي ندين له، في ظل "الإله الحي الباقي" بسلامنا والدفاع عنا لأنه بمقتضى هذه السلطة التي خولها إياه جميع فرد في الدولة، له الحق في حتى يستخدم كثيراً من السلطات والقوة اللتين منحتا له، ومن ثم فإنه بالإرهابقد يكون قادراً على تشكيل إرادة الناس جميعاً.... غايته من ذلك حتى يستخدم جميع قوتهم وكل ما يملكون من وسائل. حدثا عثر الضرورة تدعوإلى ذلك، من أجل سلامهم والدفاع المشهجر عنهم. وهذا الذي يمثل هذا "الشخص" ويحمل هذا العبء يسمى ملكاً، وينطق حتى له سلطة ملكية، وكل من عداه من رعاياه(31). وفي شيء من الطيش افترضت النظرية ف هؤلاء الهمج "القذرين المتوحشين" الذين تجاوز ذكرهم، درجة من النظام والعقلانية والاتضاع، وهي درجة تسمح بتنازلهم عن سلطاتهم. وأجاز هوبز في شيء من الحكمة، حتى تنشأ الدولة على أصول بديلة:

ويكمن الوصول إلى هذه السلطة الملكية الحاكمة عن طريقين، أولهما القوة الطبيعية، كما هوالحال حين يعمد رجل ما إلى إخضاع بنيه وذرياتهم لحكومته، لأنه قادر على تدميرهم والقضاء عليهم إذا أبوعليه ذلك، أويخضع أعداءه لإرادته عن طريق الحرب. أما ثانيهما فهوحين يتفق الناس فيما بينهم على الخضوع طواعية واختياراً لرجل أوجماعة من الرجال، ثقة من الناس بأن هذا الرجل أوجماعة الرجال سيتولون حمايتهم ضد الآخرين. ويمكن حتى يطلق على هذا "رابطة سياسية"(32) (الدولة).

ومهما كان الأساس الذي قام عليه الحاكم، فإنه لكيقد يكون حاكماً وملكاً حقاً، لا بد حتىقد يكون ذا سلطة مطلقة، فإنه بدونها لا يستطيع حتى يحقق أمن الفرد أوسلام الجماعة. ومقاومته إنما تعني نقض العقد الاجتماعي الذي أقره ضمناً جميع فرد في الجماعة بقبوله حماية رأس الدولة له. وقد تسلم هذه "الاستبدادية المطلقة" النظرية ببعض قيود وحدود عملية. فيمكن مثلاً الوقوف في وجه الملك إذا أمر إنساناً بأن يقتل نفسه أويبتر عضواً من جسمه ليعطله أويشوهه، أويعترف بجريمة لم يرتكبها، أوإذا لم يعد الحاكم قادراً على حماية رعاياه. "المفهوم إذا التزام الرعايا نحوالملك يبقى ما بقيت سلطته التي يستطيع بها حمايتهم، ولا بقاء لهذا الالتزام إذا فقد السلطان(33)". والثورة دائماً جريمة إلا إذا حققت نجاحاً. إنها دائماً غير مشروعة وغير عادلة، لأن القانون والعدالة كلتيهما يحددهما ويحكمهما الملك، ولكن إذا أقامت الثورة حكومة مستقرة فعالة، فإن على المواطن حتى يلتزم بطاعة السلطة الجديدة.

ولا يحكم هذا الملك بمقتضى الحق الإلهي، حيث أنه يستمد سلطته من الشعب، ولكن يجب حتى تقيد سلطته جمعية شعبية أوقانون الكنيسة. ويجدر حتى تمتد هذه السلطة إلى الملكية، فيجب على الملك حتى يحدد حقوق الملكية (التملك)، وعليه حتى يعيد توزيع الممتلكات الخاصة، حيثما يقدر حتى هذا يحقق المصلحة العامة(34). "والحكم المطلق" ضروري، لأنه إذا كانت السلطة شركة، بين الملك والبرلمان مثلاً، فسرعان ما ينشب النزاع، ثم الحرب الإلهية، فتعم الفوضى وتتعرض الحياة والممتلكات للخطر. وحيث حتى الأمن والسلام هما الضرورتان الأساسيتان للمجتمع، فإنه لا ينبغي حتىقد يكون هناك فصل، بل وحدة كاملة وهجريز تام في السلطات الحكومية. وحيثما توزعت السلطات لاقد يكون هناك ملك، وحيثما لاقد يكون ملك، لا تكون هناك دولة(35).

وبناء على هذاقد يكون الشكل المنطقي للحكومة هوالملكية. ولا بد حتى تكون وراثية، لأن حق اختيار الخلف جزء من سيادة الملك، ونكرر القول بأن البديل لهذا هوالفوضى(36). وقد تصلح الحكومة عن طريق الجمعية ولكن شريطة حتى تكون سلطتها مطلقة، غير خاضعة لرغبات متقلبة لدى شعب غير متفهم. "إن الديموقراطية لا تعدوحتى تكون أرستقراطية خطباء(37)" فما أسهل حتى يهيج زعماء الدهماء مشاعر الشعب، ومن ثم كان لزاماً حتى تمارس الحكومة الرقابة على الخطابة والصحافة، وينبغي حتى تكون هناك رقابة صادقة على المطبوعات والواردات وقراءة الخط(38). ولا يجوز حتىقد يكون هناك جدل عقيم حول الحرية الفردية والآراء الخاصة والضمير. وينبغي حتى يقتلع من الجذور جميع ما يهدد سيادة الملك، ومن ثم السلام العام(39). فكيف يتسنى حكم دولة أوحماية علاقاتها الخارجية إذا بقى جميع فرد حراً في طاعة القانون أومخالفته وفقاً لرأيه الخاص،يا ترى؟


د - الدين والدولة

وكذلك يجب على الملك حتى يحكم دين شعبه، لأن الدين يمكن حتىقد يكون قوة مدمرة متفجرة إذا تشدد فيه الناس. ويقدم هوبز تعريفاً موجزاً: "إن الخوف من القوة الخفية التي يلفقها العقل أوتصورها الأقاصيص، إذا جاز بانتشاره فهو"الدين". وإذا لم يسمح فهو"الخرافة"(40). وهذا يهبط بالدين إلى مجرد الخوف والخيال والانادىء، ولكن في مواضع أخرى نرى هوبز يعزوه إلى التسائل الملهوف عن علل الأمور والحوادث وبداياتها(41). وتقود ملاحقة الأسباب هذه في النهاية إلى الاعتقاد (كما أعترف الفلاسفة الوثنيون) "بأنه لا بد حتىقد يكون هناك "محرك" واحد، أي سبب واحد لكل الأمور، وهوما يعنيه الناس بقولهم الله(42)" ومضى الناس بشكل طبيعي إلى حتى هذا "السبب الأول" كان مثلهم: شخصاً ونفساً وإرادة، ولكنه فقط أقوى منهم بكثير. ونسبوا إلى هذا "السبب" جميع الأحداث التي لم يستطيعوا تبين محدداتها الطبيعية بعد، ورأوا في الأحداث العجيبة معجزات ونبوءات للإرادة الإلهية.

في هذه الأمور الأربعة: فكرة الأرواح، والجهل بالأسباب الثانوية، والتفاني فيما يخشاه الناس، وأخذ الأمور الطارئة على أنها نذر أوبشائر، تنطوي البذور الطبيعية للدين، التي نمت بسبب مختلف أوهام الكثير من الناس وأحكامهم وأهوائهم، نقول نمت حتى أصبحت طقوساً متباينة إلى حد حتى ما يقوم به فرد، يعتبر في معظم الأحوال سخيفاً مرذولاً عند الآخر(43). كان هوبز "ربوبياً" لا ملحداً. فأعترف "بكائن أسمى(44)" ذكي، ولكنه أضاف "قد يعهد الناس... بالطبيعة حتى الله موجود، ولوأنهم لا يدركون ما هو(45). "ويجب ألا ندرك حتى لله شكلاً، لأن جميع شكل محدود، أوله أجزاء، أوله مكان ما هنا أوهناك، "لأن أي شيء له مكان، لا بد حتىقد يكون مقيداً محدوداً"، أوأنه يتحرك أويظل في مكانه، لأن هذا مكانه، لأن هذا ينسب له مكان، كما يجب ألا نقول إلا عن طريق المجاز بأنه يمارس الحزن والندم والغضب والرحمة والحاجة والشهوة والأمل أوأية رغبة أخرى(46). وخلص هوبز إلى حتى "طبيعة الله خافية لا يمكن فهمها(47)" وقد لا يصفه هوبز بأنه روحي غير مادي، لأننا لا نستطيع حتى ندرك شيئاً بلا جسم، ويحتمل حتى جميع "روح" جسدية ولكن بشكل دقيق(48).

وبعد حتى حدد هوبز لكل من الدين والرب مكانه، عرض حتى يستخدمهما أداتين للحكومة ليكونا في خدمتها، ومن أجل هذا أورد سوابق ذوات شأن خطير.

إن المؤسسين والمشرعين الأولين للدول بين "الأمميين (غير اليهود) الذين كانت غاياتهم الإبقاء على طاعة الناس وعلى السلام، عنوا في جميع مكان:

أولاً: بأن يطبعوا في أذهان الناس حتى تلك التعاليم التي اتىوا به بها فيما يتعلق بالدين، لا يجوز الظن بأنها اتىت من عندياتهم، بل أنها اتىت بأمر من بعض الآلهة أوالأرواح، وإلا كانوا (المؤسسون والمشرعون من الطبيعة أسمى وأرقى من مجرد بشر معرضين للفناء، حتى يمكن تقبل قوانينهم في كثير من اليسر. إلى غير ذلك زعم "توما بومبليوس" (ثاني كلوك روما) أنه تلقى الطقوس التي أقامها بين الرومان من الحورية اجريا، كما زعم مؤسس بيرووأول ملوكها أنه وزوجته من أبناء الشمس.

ثانياً: حتى يشيعوا الاعتقاد بأن الأمور التي تغضب الآلهة هي نفسها الأمور التي حرمها القانون(49). ولكيلا يستنتج أحد حتى موسى أستخدم وسائل شبيهة بهذه في نسبة شرائعه لله، يضيف هوبز، في نفور خاص من النار، حتى "الرب بنفسه، بوحي خارق، أقام الدين" بين اليهود. ولكنه يشعر بأنه على حق، بالأمثلة التاريخية، في حتى يوصي بأن يصبح الدين أداة للحكومة، وبناء على هذا الغرض يفرض الملك مبادئ الدين وتعاليمه. وإذا كانت الكنيسة مستقلة فإنهقد يكون هناك ملكان، ومن ثم لاقد يكون ملك أبداً، وتكون الرعية موزعة بين السيدين.

إذا انتحلت السلطة الروحية حق الحكم بأن هذا أوتلك أثم، فإنها تنتحل، نتيجة لذلك، حق الحكم بأن هذا هوالقانون (لأن الإثم ليس إلا مخالفة القانون).... وإذا كانت هاتان السلطتان (الكنيسة والدولة) تناوئ الواحدة منهما الأخرى فإن الدولة تتعرض لخطر كبير هوخطر الحرب الأهلية والتمزق(50).

وفي مثل هذا الصراعقد يكون للكنيسة اليد العليا "لأن أي إنسان وهوفي تام وعيه ورشده لا بد حتى يدين في جميع الأمور. بالطاعة المطلقة، للرجل الذي يعتقد حتى حكمه عليه سينجيه أويقضي عليه". وحين تثير السلطة الروحية نفوس الرعايا "بالخوف من العقاب أوالأمل في الثواب" من هذا النوع الخارق للطبيعة"، وتخنق تفكيرهم وتعطل عقولهم بالحدثات الغريبة القاسية، فلا بد أنها بذلك تسقط الشعب في حيرة، وأما حتى ترهق البلاد بالظلم والجور، وأما حتى تلقي بها في أتون حرب أهلية(51). ويرى هوبز حتى المخرج الوحيد من مثل هذا المأزق الحرج حتى تكون الكنيسة خاضعة للدولة. ولما كانت الكنيسة الكاثوليكية ترى في هذا رأياً آخر، فإن هوبز، في الجزء الرابع من "لواياثان" يهاجمها على أنها ألد وأقوى عدولفلسفته.

ثم يورد هوبز "نقداً أشد" للكتاب المقدس- يرتاب في تأليف موسى للأسفار الخمسة الأولى من التوراة، ويؤرخ "الأسفار التاريخية" في زمان متأخر عما هووارد في النواميس التقليدية. ويرى ألا تتطلب المسيحية من معتنقيها إلا الإيمان "بيسوع المسيح" أما بالنسبة لبقية أركان العقيدة، فيجدر بها حتى تجيز اختلاف الرأي بين الناي في نطاق الحدود الآمنة للنظام العام. ولمثل هذه العقيدة البسيطة المطهرة لا يوفر هوبز مجرد تأييد الحكومة فحسب. بل جميع قوة الدولة لنشرها ما وسعها الجهد. ويتفق مع البابا في حتىقد يكون للدولة دين واحد(52). ويشير على المواطنين بأن يتقبلوا لاهوت مليكهم دون تردد محرج، لأن هذا واجب أخلاقي، كما هوواجب الدولة. "لأن الحال بالنسبة لأسرار ديانتنا هي الحال بالنسبة للأقراص الصحية هند السقمى، إذا بلعت دفعة واحدة كان لها فضل الشفاء، أما إذا مضغت، فإنها في معظم الأحوال تلفظ ثانية ولاقد يكون لها أي تأثير(53)". وانتهى أشد هجوم شنه إنجليزي على المسيحية، بمسيحية قامت وكأنها قانون لا مفر منه لدولة استبدادية مطلقة.


هـ - اصطياد الدب

اتى في الفقرة الأخيرة من "لواياثان": "إلى غير ذلك أختم دون تحيز، حديثي عن الحكومة المدنية والدينية التي تضطرب بفوضى العصر الحاضر... وليس لي من هدف إلا حتى أضع تحت أنظار الناس العلاقة المتبادلة بين الحماية والطاعة".

ولم يتحقق الناس من عدم التحيز على نطاق واسع. فإن المهاجرين الذين تجمعوا حول شارل الثاني في فرنسا رحبوا بدفاع هوبز من النظام الملكي، ولكنهم استنكروا ماديته على أنها حمق وطيش إذا لم تكن تجديفاً، وعراهم الأسى والأسف لما استنفد فيلسوفهم العنيد من صفحات في مهاجمة الكنيسة الكاثوليكية، على حين كانوا لفورهم يلتمسون العون من ملك كاثوليكي. أما رجال الدين الأنجليكانيون الذين كانوا بين اللاجئين إلى فرنسا من وجه البيوريتانيين المنتصرين، فقد تعالت صيحاتهم ضد الكتاب إلى حد حتى هوبز "أمر ألا يعود إلى بلاط شارل الثاني(54)". ولما ألفى هوبز أنه بات بلا صديق ولا صاحب، وبلا حماية في فرنسا، قرر حتى يتصالح مع كرومول ويعود إلى إنجلترا. وطبقاً لما رواه الأسقف بيرنت، أدخل هوبز بعض تعديلات على نصوص اللواياثان "إرضاء للجمهوريين(55)" وليس هذا مؤكداً، ولكن المؤكد، على أية حال، حتى نظرية الثورة غير ذات الأصل الشرعي، والتي بررها نجاحها، التأمت بشكل مبتور وكأنها ترقيع، مع نظرية الطاعة المطلقة لحاكم مطلق. إذا كتاب "العرض والنتيجة" النهائيتان الذي يظهر وكأنه تفسير متأخر اتى بعد أوانه، شرح الظروف التي يمكن فيها لمواطن كان يدين بالولاء لملك من قبل، حتى يخضع في الوقت المناسب، وفي لباقة، للنظام الجديد الذي كان قد أطاح بالملك. ونشر الكتاب في لندن في 1651 بينما كان هوبز في باريس. وفي آخر هذا العام، وسط شتاء قاس، عبر البحر إلى إنجلترا، حيث أوى إلى ملاذ طيب عند أرل ديفونشير الذي كان قد استسلم منذ أمد طويل لبرلمان الثورة. وأعرب هوبز ولاءه وخضوعه للحكم القائم، فلقي قبولاً، ومن ثم أنتقل الفيلسوف إلى دار في لندن، مستعيناً بمعاش ضئيل أجراه عليه أرل ديفونشير، "لأن الافتقار إلى حديث الفهم والفهماء كان أشد ما يضايق الفيلسوف في الريف(56)". وكان آنذاك في الثالثة والستين من العمر.

وشيئاً فشيئاً، حدثا عثر الكتاب قراء، تكاثر النقاد على المؤلف أسراباً. فإنبرى رجال الدين الواحد تلوالآخر للدفاع عن المسيحية، وتساءلوا: من هو"وحش مامزبري" الذي قام يتحدى أرسطووأكسفورد والبرلمان والله؟. وكان هوبز جباناً ولكنه مقاتل، وفي 1655 أثبت من حديث في "أصول الفلسفة" آراءه في المادية والحتمية. وفي كتاب "اصطياد اللواياثان (1658) نصب جون برامهول، أسقف دري العلامة، شراكه لهوبز وسدد الضربات إليه جديداً، ونطق أسقف آخر "أن هوبز لا يزال في الشرك(57)". واستمرت الهجمات في جميع عام تقريباً حتى قضى الفيلسوف نحبه. ولما اعتزل أرل كلارندون منصبه (وكان قاضي القضاة) تسلي في منفاه بنشر "رأى وعرض موجزان للأخطاء الخطيرة المؤذية في الكنيسة والدولة في كتاب مستر هوبز- لواياثان" (1676). وفي 322 صحيفة تابع تقنين المجلدات بشكل منتظم، وهويقرع الحجة بالحجة في نثر مشرق رفيع. وتحدث كلاوندون بوصفه رجلاً ذا خبرة طويلة في المناصب السياسية، وسخر من فلسفة هوبز على أنه رجل لم يسبق له حتى تقلد مناصب ذات مسئولية، حتى يلطف من نظرياته عن طريق الممارسة والتجربة، وتمنى لوحتى "مستر هوبز أتيح له حتى يتبوأ مقعداً في البرلمان أوفي المجلس، أوفي دور القضاء أوأية وحكمة أخرى، حيث كان يحتمل حتى يتبين حتى تأملاته في عزلته، مهما تكن عميقة، واتزانه المتعجرف الزائد عن الحد ببعض أفكار فلسفية، بل حتى ببعض قواعد الهندسة، نقول يتبين حتى هذا كله قد ضلله وحاد به عن جادة الصواب في بحثه في السياسة(58).

ولم تكن جميع الحملات على هذا النسق من الهدوء والاعتدال. وفي 1666 أمر مجلس العموم إحدى لجانه "بكتابة تقارير عن الخط التي تنزع إلى الإلحاد والتجديف وانتهاك حرمة المقدسات أوتتناول بالتعريض لسمة الله وصفاته. وبخاصة الكتاب الذي نشر باسم "هوايت" (قسيس كاثوليكي سابق إرتاب في خلود النفس)، وكتاب هوبز، "لواياثان(59)". يقول أوبري "كان هناك تقريراً (سليم يقيناً) بأن بعض الأساقفة في البرلمان قدموا اقتراحاً بإحراق الرجل الطيب العجوز بجريمة الهرطقة(60)". وأعدم هوبز جميع ما كان يمكن حتى يورطه أويدينه بعد ذلك من أبحاثه التي لم تنشر، ثم خط ثلاث محاورات حاول فيها حتى يبرهن بأسلوب العالم المتفقة على حتى أية محكمة في إنجلترا لا تستطيع حتى تحاكمه بتهمة الهرطقة.

وهك الملك الذي أستعاد عرشه لإنقاذ الفيلسوف. ذلك حتى شارل الثاني بعد وصوله إلى لندن بزمن قصير، رأى هوبز في الشارع، وعهد فيه مفهمه السابق، ورحب به في البلاط. وكان بلاط عودة الملكية ينزع بالعمل إلى شيء من التشكك الديني ويدافع عن الملكية المطلقة، ومن ثم عثر في فلسفة هوبز بعض العناصر التي تتسار مع الأفكار السائدة في هذا البلاط. ولكن رأسه الأصلع وشعره الأشيب وزيه الشبيه بزي اللبيوريتانيين، جميع أولئك منادىة للسخرية. وأطلق عليه الملك شارل نفسه أسم الدب، وحدثا اقترب منه نطق: "ها قد اتى الدب لنقدم له الطعم ونغويه(61)". ومع ذلك استساغ الملك إجاباته البارعة وسرعة بديهيته، وأمر برسم صورة للفيلسوف العجوز، وتعليقها في حجراته الخاصة، وخصص له معاشاً سنوياً قدره مائة جنيه، ولم يكن الراتب يدفع بانتظام، ولكنه مع ذلك، بالإضافة إلى خمسين جنيهاً أخرى في السنة من أسرى كافندش، كان كافياً لسد حاجيات الفيلسوف البسيطة. وبصفة أوبري بأنه كان عليلاً في شبابه، موفور الصحة نشيطاً في شيخوخته، ومارس لعب التنس حتى بلغ الخامسة والسبعين. فإذا لم يتيسر ملعب التنس، عمد إلى المشي لفترة طويلة في خفة وسرعة، حتى "يتصبب منه العرق، وعندئذ ينقد الخادم بعض النقود لتدليكه". وكان معتدلاً في أكله وشربه، وامتنع عن أكل اللحم وشرب الخمر بعد السبعين. وكان يفاخر بأنه "كان قد أفرط في حياته مائة مرة" ولكن أوبري حسب حتى هذا الإفراط لم يحدث لأكثر من مرة في جميع عام، ولذلك لم يكن شيئاً فظيعاً. ولم يتزوج الفيلسوف قط، ولكن يظهر أنه كان له ابنة غير شرعية وفر لها سبل العيش الكريم بسخاء(62). وكان يقرأ قليلاً في سنيه الأخيرة، "وتعود حتى يقول أنه إذا كان قد قرأ قدر الآخرون لما عهد أكثر مما عهدوا". وفي الليل عندما كان يأوي إلى الفراش، والأبواب موصدة، وهوواثق حتى أحداً لا يسمعه، كان يغني بصوت عال (لا لأن صوته رخيم ولكن من أجل صحته)، حيث أعتقد بأن الغناء يفيد رئتيه ويؤدي إلى إطالة العمر(63). ومهما يكن من أمر، فإنه أصيب منذ 1650 بشلل ارتجافي في يديه، واشتدت به هذه العلة حتى كادت كتابته في 1666 حتى تكون غير مقروءة.

وعلى الرغم من هذا استمر هوبز يخط. وتحول من الفلسفة إلى الرياضيات، وهنا انزلق في غير ما حرص ولا حذر، إلى خلاف من عالم خبير هوجون واليس الذي انتقص من قيمة انادىء الرجل العجوز بأنه كشف تربيع الدائرة. وفي 1670، وهوفي الثانية بعد الثمانين نشر كتابه "بهيموث" وهوتعبير عن تاريخ الحرب الأهلية في إنجلترا، كما خط عدة ردود على ناقديه، وترجم إلى اللاتينية كتابه "لواياثان" ترجمة رائعة. وفي 1675 خط سيرة حياته نظماً باللاتينية، كما نظم في نفس العام الألياذة والأوديسية شعراً بالإنجليزية، حيث "لم أجد عملاً أؤديه أفضل من هذا".

وفي تلك السنة، حيث بلغ السابعة والثمانين، عاد من لندن إلى الريف حيث قضي أيام حياته في ضيعة آل كافندشي في دربيشير. وفي تلك الأثناء اشتد عليه الشلل، كما عانى من عسر البول. ولما انتقل أرل كافندشي آنذاك من تساتسورت إلى هاردويك هول أصر هوبز على مرافقته. وثبت حتى الرحلة مرهقة، وبعدها بأسبوع انتشر الشلل في جسمه ولم يعد قادراً على الكلام. وفي أربعة ديسمبر 1679 فاضت روحه بعد حتى تناول الأسرار المقدسة، أنجليكانياً مخلصاً، وقد بلغ من العمر اثنين وتسعين عاماً إلا أربعة أشهر.


و- النتائج

كان فهم النفس الذي اتى به هوبز رائعة الاستنتاج من مقدمات غير وافية، وقد يظهر منطقياً لأول وهلة، ولكنه مفكك الأوصال مهلهل بما فيه من فروض غير دقيقة وبما صوب منها مزيد من التحقيق والتمحيص والحتمية منطقية، ولكن قد يحددها طراز منطقناً ويشكلها معالجتنا للأشياء لا الأفكار. ووجد هوبز مشقة في حتى يتصور حتى أي شيء غير مادي، ويبدوأنه من الصعب بنفس القدر الذي نتصور حتى الفكر والشعور ماديان، ومع ذلك فإن هذه هي الحقائق المعروفة لنا بطريق مباشر- وكل ما عداه فرضيات. وانتقل هوبز من الشيء المدرك بالحواس إلى الإحساس إلى الفكرة دون حتى يلقي ضوءاً كافياً أويوضح تماماً العملية الخفية التي يولد بها الشيء المادي ظاهرياً الفكر غير المادي ظاهرياً. إذا فهم النفس الميكانيكي يترنح أمام الوعي.

وعلى الرغم من ذلك فإنه في مجال فهم النفس أسهم هوبز أكثر ما أسهم في تراثنا. فقضي على "الأرواح" الميتافيزيقية مثل "الملكات" التي اتىت بها المذاهب السكولاسية (مذاهب العصور الوسطى) ولوحتى هذه يمكن على الفور تفسيرها، لا على أنها كيانات عقلية. بل مظاهر للنشاط العقلي. وأرسى قواعد المبادئ الأكثر وضوحاً في تداعي المعاني والخواطر، ولكنه انتقص من قيمة الفرض والانتباه في تحديد انتقاء الأفكار وتسلسلها وتشبثها. وأود وصفاً ناجحاً للتروي والاختيار. ولكن تحليله للانفعالات ودفاعه عنها خلاصة رائعة، ردت إلى سبينوزا الفضل الذي كانت مدينة به لديكارت. ويفضل أبحاث فهم النفس هذه، طور لوك كتابه الأكثر دقة وتفصيلاً "رسالة في العقل البشري". وفي الرد على هوبز، (لافلمر)، كان تطوير لوك لرسالته عن الحكومة.

وأعادت فلسفة هوبز السياسية صياغة ميكيافللي بلغة شارل الأول، ونبعث هذه الفلسفة من الاستبدادية المطلقة الموفقة التي انتهجها هنري الثامن وإليزابث في إنجلترا، وهنري الرابع وريشيليوفي فرنسا، كما أنه لا ريب في أنها استمدت بعض القوة من مخالطته لأصدقائه الأدواق والملكيين المهاجرين. ومن حيث الأثر المباشر بدا حتى لهذه الفلسفة ما يبررها، في العودة السعيدة لملك من آل ستيوارت ما زال يدعى ويطالب بسلطان مطلق غير محدود، وينهي فترة من الفوضى المدمرة. ولكن بعض الإنجليز النابهين أحسوا بأنه إذا كانت موافق الهمجيين "القذرين المتوحشين" كافية لإقامة حكومة، فإنه موافقة الناس، وهم في حالة يفترض أنها أكثر تقدماً ورقياً، قد يحدث من شانها حتى تكبح جماح هذه الحكومة أوتطيح بها. إلى غير ذلك نجد في الثورة الجليلة 1688 حتى فلسفة الحكم الاستبدادي المطلق سقطت أمام إعادة البرلمان توكيد سيادته، وسرعان ما حل مكانها تحررية "ليبرالية" لوك التي تدعوإلى تحديد السلطات والفصل بينها. وبعد ديمقراطية القرن التاسع عشر النسبية، التي نمت في إنجلترا التي يحرسها القنال، وفي أمريكا التي تحميها البحار، عادت استبدادية مطلقة معدلة في دول دكتاتورية تمارس رقابة حكومية على الحياة والممتلكات والصناعة والدين والتعليم والمطبوعات والفكر. وتخطت الاختراعات الجبال والخنادق، واختفت الحدود، وتلاشت العزلة القومية والأمن القومي. إذا نظام الحكم المطلق ابن الحرب، والديمقراطية ترف السلم.

ولسنا ندري هل كان "لحالة الطبيعة" التي نطق بها هوبز، وجود يوماً ما، فربما كان النظام الاجتماعي سابقاً للإنسان، فالقبيلة سبقت الدولة، والعهد أقدم وأوسع وأعمق من القانون. والأسرة هي أساس بيولوجي لا يثار ينمي الذات (الأنا) وولاداتها. وربما أصبح "فهم الأخلاق" الذي اتى به هوبز أكثر ملائمة لوأنه عمد إلى تنشئة أسرة، أما حتى يهجر للدولة تحديد الأخلاقيات (ولوحتى هذا انتقل إلى النظم الدكتاتورية) فمعناه تدخير إحدى القوى التي تعمل على تحسين الدولة والأخذ بيدها. إذا الحس الخلقي يوسع في بعض الحيان دائرة التعاون أوالإخلاص والحب الشديد، ثم يستحث القانون على توسيع مجال حمايته تبعاً لذلك. وفي المستقبل البعيد قد يتسنى لدولة حتى تكون مسيحية، كما كان الحال يوماً مع أشوكا الذي كان بوذياً.

وبرز أقوى تأثير لفلسفة هوبز في "ماديته". وسرت "أفكار هوبز" من الجماعات المفكرة إلى طبقات المهنيين ورجال الأعمال. وفي هذا نطق بنتلي الغضوب 1693 "لقد زخرت بها الحانات والمقاهي بل وستمنسر هول (البرلمان) والكنائس ذاتها كذلك(64)". وتقبلها كثير من رجال الحكومة فيما بينهم وبين أنفسهم، ولكنهم في العلن حجبوها باحترام أبدوه للكنيسة الرسمية على أنها شكل مفيد للانضباط الاجتماعي لا يقوم على تدميره إلا الحمقى والأغبياء. وأثرت هذه الفلسفة المادية في فرنسا في تشكك بيل، وأتت عليها تطورات أشد جرأة عند لامتري ودي هولباخ وديدرو.

وكان بيل بعد هوبز من أعظم عباقرة القرن السابع عشر(65). ومهما أصاب من مدح أوقدح فقد اعترفوا بأنه أقوى فيلسوف أنجبنه إنجلترا منذ عهد بيكون، وأول إنجليزي يعرض بحثاً منهجياً أساسياً في النظرية السياسية. وإنا لندين له بفضل واضح، ذلك أنه صاغ فلسفته في ترتيب منطقي وف ينثر مشرق. وإننا إذ نقرأ هوبز وبيكون ولوك، أوفونتفل وبل وفلتير لندرك من حديث ما أنسانا الألمان إياه، من أنه ليس من الضروري حتىقد يكون الغموض هوالعلامة المميزة للفيلسوف، وأنه يجدر بكل فن حتى يتقبل الالتزام الأدبي والأخلاقي واضحاً أوخامداً.

يوتوبيا هارنگتون

في الوقت الذي دافع فيه هوبز عن ملكية مزعجة موجعة، اقترح جيمس هارنجتون يوتوبيا ديموقراطية، والآن وقد كانت الكشوف الجغرافية والتجارة تفتح آفاقاً سحيقة من الكرة الأرضية، واتىت الأساطير إلى أوربا مع جميع بضاعة من وراء البحار، فقد كان من اليسير على أرباب الخيال والقلم حتى يسبحوا في الخيال إلى ركن سعيد على الخريطة-إلى القمر أوإلى الشمس مثل سيرانودي برجراك وتوماسوكمانللا-ركن قد تخزي أعرافه السياسية والاجتماعية طغيان الناس الذين تظلهم "المدنية" وبؤسهم. إذا إعجاب عصر النهضة بالقديم قد أفسح المجال لقصص خيالية عن دول مثالية بشكل أوبآخر في أرض بعيدة لم يعتريها فساد. إلى غير ذلك قدم هارنجتون في 1656 إلى مقاهي لندن "الاقيانوسة".

ولد هارنجتون في بيت كريم، وكان طبيعياً حتى ينحاز إلى فلسفة سياسية تناصر صغار مالكي الأرض في إنجلترا. وبعد تخرجه في أكسفورد طاف بإراتى القارة، وأعجب بجمهورية الأراضي الوطيئة، وخدم في جيشها، وزار البندقية، وتأثر بنظمها الجمهورية، ورأى البابا وأبى حتى يقبل إصبع قدمه، ولما عاد إلى إنجلترا اغتفرت له جميع خطاياه حين ذكر لشارل الأول إنه لم يستطع حتى يفكر تقبيل قدم أي سيد أجنبي بعد حتى تجاوز له تقبيل يد ملك إنجلترا. وعندما شارل عين هارنجتون لملازمته. فأحب السجين البائس، ولكنه أوضح له حتى "الجمهورية" أمر مرغوب فيه. ولازمه حتى النهاية، وكان على المنصة ساعة إعدام شارل، ويقولون أنه كاد يموت جزعاً وحزناً(66). وهدأ من روعه مولد "الجمهورية الإنجليزية"، فأنصرف إلى شرح آرائه الجمهورية في شكل روائي. ولكن بينما كان هرنجتون يخط، غير كرومول الجمهورية الجديد إلى حامية شبه ملكية، وحين كانت "دولة الأوقيانوسة" في طريقها إلى طبع أمر "الحامي" بوقف العمل فيها. وهنا تدخلت ابنة كرومول الأثيرة لديه، السيدة كلايبول، من أجل الكتاب، وأهداه المؤلف إلى أبيها، وخرج إلى النور في 1656.

إن "الأوقيانوسة" هي إنجلترا بالشكل الذي كان المؤلف يأمل من كرومول حتى يعيد تشكيلها فيه. إنه يضع مبدأ فصل تفصيلاً بعد قرنين من الزمان ليصبح التفسير الاقتصادي للتاريخ. ويقول هرنجتون بأن السيطرة السياسية تتبع، بشكل طبيعي وبحق، السيطرة الاقتصادية، وبهذا الانسجام وحده يمكن لأية دولة حتى تنعم بالاستقرار. "على قدر ماقد يكون التناسب في ملكية الأرض تكون طبيعة الإمبراطورية- أي الحكومة(67)". فإذا امتلك فرد واحد الأرض كلها (كما هوأقلية لأصبحت الحكومة "ملكية مختلطة" تؤيدها كما تحد من سلطانها الأرستقراطية. "وإذا كان جميع الناس ملاكاً للأرض، أوإذا وزعت الأرض بينهم، بحيث لا يطغى فرد أومجموعة أفراد، فإن الإمبراطورية أي الحكومة (دون فرض بالقوة) تكون دولة جمهورية(68)" ورد هانجتون على هوبز الذي مضى إلى حتى جميع الحكومات تستند إلى القوة، رد عليه بأنه لا بد من إطعام الجيوش وتسليحها، ومن ثم تنتقل السلطة إلى أولئك الذين يوفرون المال اللازم لهذا وذاك(69). حتى أي تغيير في توزيع الملكية. وعلى هذا الأساس فسر هارنجتون فوز البرلمان الطويل، حيث كان يمثل صغار الملاك على الملك الذي كان يمثل كبارهم.

وللحيلولة دون حتى تصبح الحكومة أوليجاركية من ذوي الضياع الكبير، اقترح هارنجتون قانوناً "لإعادة توزيع الأراضي توزيعاً عادلاً" يحدد للفرد الواحد أرضاً لا تدر أكثر من ألفي جنيه في العام. إذا الديموقراطية العملية تتطلب التوسع في توزيع الملكية، وخير ديموقراطية هي التيقد يكون فيها لكل مالك أرض دورة عمل في الحكومة وفي الجمهورية الإنجليزية الحقة يمكن للمواطنين حتى يرسلوا ملاك الأراضي ليعملوا في جمعية شعبية وسناتو(مجلس الشيوخ). والسناتووحده يقترح القوانين، والجمعية وحدها تقرها أوترفضها. ويسمى أعضاء السناتوالمرشحين للوظائف العامة، وينتخب المواطنون من هذه القائمة الحكام بالاقتراع السري(70). وفي جميع عام يحل محل ثلث أعضاء الجمعية والسناتووالحكام أفراد آخرون في انتخاب جديد. وفي هذه الدورة يتسنى لكل ملاك الأرض حتىقد يكون لهم في النهاية دور للعمل في الحكومة. حتى هذا الانتخاب الشعبي يحمي المجتمع من المحامين الذين يخدمون المصالح الخاصة، ومن رجال الدين-"وهم الأعداء السافرون الألداء لسلطة الشعب(71)". ولسوفقد يكون هناك تعليم عام تام وفي مدارس وكليات وطنية، وحرية تامة مطلقة في العقيدة الدينية.

"وكانت النظرية أخاذة جذابة جداً. "كما نطق أوبري. وسرعان ما وجدت مؤيدون متحمسين لها. وجمع هارنجتون بعضهم (ومن بينهم أوبري) في أحد نوادي "روتا" Rota (1659) حيث أهاجوا الشعور العام للمطالبة بتشريع برلماني يقر هذه الجمهورية الدورية التي أقترحها هارنجتون الذي نسب الانهيار الذي أصاب الدولة آنذاك إلى عجزها عن مصادرة الضياع الكبيرة وإعادة توزيع الأرض على بمساحات أصغر، وكان هذا سبباً في احتفاظ النبلاء بقوتهم وسلطانهم. وبقاء الشعب على حاله من الفقر والضعف، على أساس حتى ملكية الأرض هي التي تفرض الحكومة، وأن عودة الملكية الأوليجاركية أمر لا مفر منه إذا لم يقر البرلمان قانون "إعادة توزيع الأراضي". ويقول أوبري: "ولكن القسم الأكبر من رجال البرلمان كانوا يمقتون جميع المقت مشروع "دورة العمل بالاقتراع العام، لأنهم كانوا طغاة ملعونين مولعين بسلطتهم وقوتهم(72)"، وآثروا حتى يستدعوا شارل الثاني. وحيث استمر هارنجتون بنشر دعوته، حتى بعد عودة الملكية، فإن الملك أمر بإيداعه برج لندن (السجن) بتهمة التآمر (1661). ولما بذلت المساعي لإخلاء سبيله بمقتضى "التحقيق في قانونية حبس المتهم"، نقلوه إلى معتقل أكثر تضييقاً وأحكاماً في جزيرة بعيدة عن بليموث، وهناك أصابته نوبات من الجنون. وأطلق سراحه ولكنه لم يسترد صحته قط. وكانت "اليوتوبيا" التي نادى بها هارنجتون عملية أكثر من معظم "المدن الفاضلة المثالية"، وتحقق قدر كبير منها. وربما كانت إحدى نقاط الضعف فيها أنها افترضت حتى الأرض هي الشكل الوحيد للثروة. إذا هارنجتون ذكر سلطان المال في التجارة والصناعة، ولكنه لم يتسقط أولم ينبأ بتبوئه السلطة السياسية، وربما كان قد أحس بأنه حتى الثروة التجارية والصناعية لا بد خاضعة في خاتمة المطاف لملاك الأرض. وكان التوسع في حق الانتخاب وفي الاقتراع السري يتفق مع آماله المرجوة، وعلى الرغم من حتى بريطانيا رفضت فكرته في "دورة العمل والوظائف"، على أنها تبديد سنوي للخبرة والتجربة فإن الولايات المتحدة أخذت في التجديد الدوري لجزء من الكونجرس الأمريكي، ووافق لوك ومنتسكيووأمريكا على نظريته في الفصل بين السلطات في الحكومة. فلا تيأسوا أيها الحالمون، فلعل الزمان يفاجئكم بتحقيق أحلامكم ويحول شعركم إلى نثر، أووهمكم إلى واقع ملموس.


الربوبيون

وكما أضرت الحروب الدينية بالعقيدة الدينية في فرنسا، فإن الحرب الأهلية في إنجلترا أسهمت في إثارة الشكوك اللاهوتية. وأشاعت ذكريات الحكم البيوريتاني الزندقة والمروق عن الدين حتى بات أمراً مألوفاً بين الملكيين المنتصرين، كما جعلت الإلحاد يقترن بالمرح الصاخب والبذاءة في بلاط الملكية العائدة. واشتبه في إلحاد أرل شافتسبري الول ودوق بكنجهام الثاني وأرل روشستر الثاني، كما أشتبه في إلحاد هاليفاكس وبولينيروك بعد ذلك.

وأدى اتساع دائرة المعارف الجغرافية والتاريخية والفهمية وانتشارها إلى ازدياد موجة التشكك. وفي جميع يوم، كان أحد السائحين أوالمؤرخين يطلع على الناس بأنباء أمم عظيمة دياناتها وأخلاقها عن المسيحية بشكل مثير فظيع، ولكنها عادة فاضلة مستقيمة مثلها. ويندر حتى كانت نزاعة إلى القتل متعطشة إلى سفك الدماء مثل المسيحية. كما بدا حتى النظرة الميكانيكية إلى العالم التي رسمها ديكارت التقي الورع، ونيوتن العالم البصير، نقول بدا حتى هذه النظرة تصرف النظر عن دور العناية الإلهية" في تسيير الكون، وكان اكتشاف القانون في الطبيعة يجعل من المعجزات أمراً غير مستساغ غير مقبول. وأسهم الفوز البطيء الذي أحرزه كوبرنيكس، والمحاكمة المثير التي عانى منها جاليليو، في تزعزع الإيمان وتقويض أركانه. بل حتى المحاولة الجريئة التي قام بها كثير من رجال اللاهوت المسيحيين لشرح العقيدة على أساس من العقل، أضعفت العقيدة. ويقول أنطوني كولنز: لم يكن ثمة أحد يشك في وجود الله، حتى اتىت "محاضرات بويل" وأخذت على عاتقها إثبات وجوده(73).

إن تفنيد الإلحاد كان شاهداً على انتشاره. وفي 1672 خط سيروليم تمبل "عن أولئك الذين يبدون أنهم أذكياء لأنهم يذكرون أشياء نطقها الجاهل في نفسه، كما اتى على لسان داود(74)" وفي نفس العام نطق سير تشارلز ولزلي "إن المروق عن الدين كان أمراً واقعاً في جميع عصر، ولكن يظهر حتى الدفاع عنه صراحة وعلانية من خصائص هذا العصر(75)". ويقول رئيس الشمامسة صمويل باركر 1681:

...... إذا الجهال وغير المتفقهين منا أصبحوا أكبر المتظاهرين بالتشكك والكفر... وأصبح الإلحاد والمرق عن الدين في النهاية شائعين شيوع الرذيلة والفسوق. وفلسف الأجلاف والميكانيكيون لأنفسهم مبادئ بعيدة عن التقوى، وقرأوا دروسهم في الإلحاد على الناس في الشوارع والطرقات العامة، وإنهم لقادرون على حتى يستخلصوا من كتاب "لواياثان" أنه ليس هناك إله(76)".

وبين الطبقات المتفهمة التمس الشك حلاً وسطاً في التوحيد-الدين الطبيعي-والربوبية. وأرتاب التوحيديون في المساواة بين المسيح والأب، ولكنهم عادة ارتضوا الكتاب المقدس نصوصاً إلهية. وآثر المدافعون عن الدين الطبيعي عقيدة مستقلة عن الأسفار المقدسة ومحصورة في المعتقدات التي رأوا أنها شاملة كلية-في الله وفي الخلود. أما الربوبيون، الذين قاموا بحركتهم أساساً في إنجلترا، فإنهم طالبوا فقط بالإيمان بالله الذي اعتبره أحياناً مفهوماً تجريدياً غير مشخص، مرادفاً للطبيعة، أو"الدافع الأصلي" لإله الدنيا التي نطق بها ديكارت ونيوتن. وبرزت لفظة "ربوبي" Deist في 1627 في "رسالة إلى ربوبي" لرئيس الشمامسة إدوارد ستللنجفليت، ولكن مطبوعات الربوبيين كانت قد بدأت لورد هربرت شربري "الحقيقة" 1624.

وتابع تشارلز بلونت، أحد مريدي لورد هربرت، رسالته في كتاب "النفس البشرية" (1679). وكانت حجته حتى جميع ديانة أسست إنما كانت من خلق أوابتداع دجالين أفاكين سعوا إلى السلطة السياسية أوالكسب المادي، وأن الجنة والجحيم كانت من بين المخترعات البارعة التي اصطنعوها للتحكم في الأهالي واستغلالهم. إذا الروح تموت مع الجسد. إذا الإنسان والحيوان متشابهان إلى حد أنه "من رأى بعض الكتاب حتى الإنسان ليس إلا قرداً مصقولاً". وفي "عظمة ديانا آلهة أهل أفسوس" أو"منشأ الوثنية" (1680) جعل بلونت من القساوسة أدوات في أيدي الطبقات الغنية التي سمنت واكتنزت بفضل كدح الشعب الصابر وسذاجته. وفي دقة ماكرة مؤذية ترجم بلونت كتاب فيلوستراتوسي "حياة أبوللنيوس أوف تيانا"، وحدد أوجه الشبه بين المعجزات المنسوبة إلى صانع الأعاجيب الوثني والمعجزات المنسوبة إلى المسيحيين، وأوحى برفق إلى التشكك فيها وعدم تصديقها جميعاً على حد سواء.وفي "بيان موجز عن ديانة الربوبيين-(1686) اقترح بلونت ديانة خالية من أي عبادة أوطقوس، اللهم إلا عبادة الله بحياة فاضلة قائمة على الأخلاق". وفي "وحي العقل"(1693) أوضح بلونت حتى اللاهوت المسيحي قام أول الأمر على توقيع خاطئ لانتهاء العالم في وقت قريب أومبكر، وسخر من قصص الكتاب المقدس عن الخليقة، ومن مولد حواء من ضلع آدم، ومن الخطيئة الأصلية، ومن إيقاف يشوع الشمس، على أنها جميعاً سخافات صبيانية. وأومأ إلى حتى "الاعتقاد بأن أرضنا الحديثة (جسم مظلم تافه في الكون، أصغر شأناً من النجوم الثابتة في الحجم والمنزلة معاً) هي قلب هذا الكون الشاسع الضخم وأعظم أجزائه سمواً وحيوية، إنما هواعتقاد غير منطقي وغير عقلاني، يتعارض مع طبيعة الأمور". وحاول كتاب آخر غفل من اسم المؤلف، منسوب إلى بلونت بصفة غير مؤكدة، عنوانه "معجزات لا خرق لقوانين الطبيعة (1683)"، حاول تفسير كثير من قصص المعجزات بأنها أفكار خاطئة راودت العقول البسيطة عن الأسباب والأحداث الطبيعية، وأضاف الكتاب نفسه حتى الكتاب المقدس إنما خط "ليثير مشاعر التقى والورع"، لا ليفهم الفيزياء، وينبغي تفسيره على هذا الأساس: "إن جميع ما مناف للعقل، وكل ما مناف للعقل سخيف يدعوإلى السخرية وينبغي رفضه(77)" على حتى بلونت نفسه لم يعبد العقل إلى النهاية، إذا صدقنا ما يروى من أنه اغتال نفسه (1693) لأن القانون الإنجليزي لم يكن ليجيز له الزواج من أخت زوجته المتوفاة.

وتابع جون تولاند الحملة. وبحكم مولده في إيرلندة نشأ كاثوليكياً، ولكنه أرتد إلى البروتستانتية في شبابه. ودرس في جلاسجووليدن وأكسفورد. وفي سن السادسة والعشرين أصدر كتاباً غفلا من اسم المؤلف "المسيحية لا تكتنفها أسرار" (1696) وصفه بأنه "رسالة توضح أنه ليس في الإنجيل شيء ينافي العقل "أويسموفوق العقل". ومذ تقبل بقبول حسن كتاب لوك الحديث "بحث في العقل البشري" حيث أثبت حتى الإحساس هوأصل جميع الفهم، فإنه أي جون تولاند، خرج منه بعقلانية متطرفة. أنا أعتقد حتى "العقل" هوالأساس الوحيد لكل حقيقة يقينية، ولا يستثنى من مجال درس هذا العقل أي وحي أكثر مما يستثنى الظواهر العادية للطبيعة "..... إذا الاعتقاد بألوهية الأسفار المقدسة أومعنى أية بترة فيها، دون برهان عقلاني أوحجة دامغة قوية، إنما هوسذاجة أوسرعة تصديق جديرة باللوم... ومن المألوف حتى يميل بعض الناس إلى سرعة التصديق عن جهل وعن عمد، لكن الأكثر من هذا حتى ما يتسقطون من نفع هوالذي يدفعهم إلى سرعة التصديق(78).

وكان هذا بمثابة إعلان للحرب. ولكن تولاند في سياق حديثه بعد ذلك حمل غصن الزيتون، حيث أردف حتى المبادئ المسيحية الأساسية عقلانية باستثناء تحول خبز القربان والخمر إلى جسد المسيح ودمه. وعلى الرغم من ذلك لم يسكتوا على هذا التحدي، فقد اجتمع كبار المحلفين في مدلسكس ودبلن عبر بحر أيرلندة ليستنكروا الكتاب، فأحرق بصفة رسمية أمام أبواب البرلمان الأيرلندي، وحكم على تولاند بالسجن، ولكنه هرب إلى إنجلترا، ولما عجز عن إيجاد عمل له فيها، هاجر إلى القارة. ولبعض الوقت لقي ترحيباً لدى صوفيا هانوفر وابنتها صوفيا شارلوت ملكة بروسيا.

وإلى صوفيا شارلوت هذه وجه تولاند "رسائل إلى سيرينا" (1714). وفي إحداها حاول حتى يتعقب أصل عقيدة الخلود ونموها، وكانت هذه إحدى المحاولات الأولى في التاريخ الطبيعي للمعتقدات الخارقة للطبيعة. وفي رسالة ثانية عارض تولاند الرأي القائل بأن المادة في حد ذاتها جامدة لا حركة فيها، ونطق حتى الحركة صفة أساسية للمادة ملازمة لها، وليس ثمة جسم في سكون مطلق. وكل الظواهر المدركة بالحواس إذا هي إلا حركات في المادة، بما في ذلك الأفعال التي يأتيها الحيوان، وقد يصدق هذا على الإنسان كذلك(79). ومهما يكن من أمر فإن تولاند عرض نفسه هنا للخطر، فإن مثل هذه الأفكار ينبغي حتى لا تنشر علانية، حيث يجب هجر الجمهور غير المتفهم على معتقداته التقليدية دون إزعاج أوتشويش، باعتبار حتى هذا وسيلة للسيطرة عليه أوالتحكم فيه من الناحيتين السياسية والاجتماعية. ويجدر حتىقد يكون التفكير الحر واجب الأقلية المتفهمة وامتيازاً مقصوراً عليها، وينبغي ألاقد يكون ثمة رقابة على هذه الأقلية "فلندع جميع الناس يتحدثون بما يفكرون فيه كما يحلولهم، دون حتى يوصموا بالعار أويعاقبوا إلا على ما يأتون من أعمال سيئة ضارة(80)". وظاهر حتى تولاني هوالذي ابتكر مصطلحي "المفكر الحر" و"المؤمن بوحدة الوجود"(81) (القائل بأن الله والطبيعة شيء واحد، وأن الكون المادي والإنسان ليسا إلا نظاهر للذات الإلهية).

ويوحي بحثه "ابن الناصرة" (1718) بأن المسيح لم يكن يقصد الفصل بين أتباعه وبين اليهودية، وأن المسيحيين اليهود الذين ظلوا يتبعون شريعة موسى وكانوا يمثلون "الخطة الأصلية الحقة للمسيحية" وهناك رسالة صغيرة "الإيمان بوحدة الوجود" شرح فيها ممضى وطقوس جمعية سرية وهمية. وربما كان تولاند عضواً في Mother Grand Dlodge الماسونيين الأحرار التي أسست في لندن 1717. إذا هذه الجمعية كما وصفها تولاند نبذت جميع الوحي الخارق للطبيعة، وقدمت ديناً جديداً يتفق مع الفلسفة، ونطقت بالتماثل بين الله والكون، واستبدلت بالقديسين في التقويم المسيحي أبطال الحرية والفكر. وأجازت الجمعية لأعضائها القيام بالعبادات العامة المألوفة ما داموا، عن طريق نفوذهم السياسي يستطيعون الحيلولة دون حتىقد يكون التعصب أمراً مؤذياً ضارياً(82).

وزاول تولاند أعمال مختلفة لفترات متبترة، وركن تولاند إلى حياة الفقر والعوز، لم ينقذه منها من الموت جوعاً إلا لورد مولزورث والفيلسوف شافتسبري. واحتمل في صبر وجلد حملات التفنيد التي شنت على خطه (54 مرة في ستين عاماً). وزعم حتى الفلسفة أسبغت عليه "هدوءاً تاماً"، وحررته من "فزع الموت(83). وفي سن الثانية والخمسين أصيب بداء عضال يستعصي البرء منه (1722) وخط بنفسه تعبير قصيرة ملؤها الزهووالفخر لتنقش على قبره:

هنا يرقد جون تولاند الذي ولد.. بالقرب من لندندري.... نهل من مختلف الآداب والمعارف، وكان ملماً بأكثر من عشر لغات، وكان نصير الحق والمدافع عن الحرية، لم يربط نفسه بإنسان، ولم يتملق إي إنسان، ولم يحد تحت تأثير التهديد أوتحت ضغط البؤس والفاقة عن نهجه المرسوم الذي سار عليه حتى النهاية، مضحياً بمصلحته في سبيل السعي وراء الخير العام، إذا نفسه متحدة مع الأب الذي في السماء الذي اتى منه في البداية، وليس ثمة أدنى شك أنه سيحيا ثانية في الخلود، ومع ذلك فإنه لنقد يكون هناك تولاند آخر.... لأن سائر الناس يفترض أن يسترشدون بكتاباته(84).

وحمل أنطوني كولنز أمانة ممضى الربوبية بعد تولاند، في براعة وتواضع أكثر. وكان خير عون له في مهمته أنه كان ثرياً، وأن له بيتاً في الريف وآخر في المدينة، فلم يكن لينبذ لأنه معدم يتضور جوعاً. وكان ذا سلوك قويم، وخلق ليس فيه مطعن. خط إليه لوك الذي عهده جميع الفهم: "إن حب الحق من أجل الحق وحده هوالجانب الأساسي في الكمال الإنساني في هذه الدنيا، ومنبت جميع الفضائل، وإذا لم أكن مخطئاً، فإنك جمعت منها قدر ما وجدته في أي إنسان(85)". إذا كتاب كولنز "بحث في التفكير الحر" (1713) أحسن شرح للربوبية في هذا العصر.

إنه عهد التفكير الحر بأنه "استخدم الفهم في إيجاد معنى لأية قضية أياً كانت، والتأمل في طبيعة الدليل، لها أوضدها، والحكم عليها وفقاً لنقاط القوة أوالضعف الظاهرة في الدليل" "وليس ثمة وسيلة أخرى للكشف عن الحقيقة(86)". إذا تباين المذاهب والتفسيرات المتناقضة لنصوص الكتاب المقدس لتضطرنا إلى قبول حكم العقل، فلمن نتحكم بعده اذن، اللهم إلا حتى نحتكم إلى القوة؟. وكيف يتسنى إلا طريق البينة والتأمل والاستنتاج، حتى نقرر أي الأسفار في الكتاب المقدس حجة موثوقة، وأيها يطرح جانباً على أنها مشكوك في صحتها. وينقلا كولنز عن أحد رجال الدين حتى أحصي ثلاثين ألف قراءة مختلفة اقترحها الفهماء لنصوص العهد الجديد (الإنجيل) وحده. ويشير إلى ريتشارد سيمون ونقده المتعلق بنصوص الأسفار المقدسة(87).

ويحاول كولنز حتى يرد على الاعتراضات التي آثارها المحاذرون من الرجال ضد الفكر الحر: حيث مضىوا إلى حتى معظم الناس لم يؤتوا القدرة على حتى يفكروا تفكيراً حراً لا يضر ولا يؤذي في أمهات المسائل الأساسية، وأن مثل هذه الحرية قد تؤدي إلى انقسامات لا نهاية لها في الرأي وفي الشيع والمذاهب، ومن ثم تؤدي إلى الخلل والاضطراب في المجتمع، وأن حرية التفكير قد تفضي إلى الإلحاد في الدين والفجور والخلاعة في الخلق. ويضرب كولنز اليونان القديمة وهجريا الحديثة مثلاً للنظام الاجتماعي الذي يحتفظان به على الرغم من حرية الرأي واختلاف الأديان. وينكر حتى حرية الفكر تؤدي إلى الإلحاد. ويقتبس عن بيكون قوله المأثور بأن الفكر الضيق ينزع بنا إلى الإلحاد، وبأن التفكير الواسع يصرفنا عنه، ويؤيد كولنز حكمة بيكون، ثم يضيف في إخلاص واضح، حتى الجهل "هوأساس الإلحاد، والتفكير الحر هوعلاجه(88)". ويعدد المفكرون الأحرار الذين كانوا "أفضل الناس في جميع العصور": سقراط، أفلاطون، أرسطو، ابيقور، بلوتارك، فارو، كاتوالوقيب، كاتوأوتيكا، شيشرون، سنكا، سليمان، الرسل، أوريجن ارازمز، مونتاني، بيكون، هوبز، ملتون، تللوستون، ولوك. وهنا وعند تولاند أيضاً، نجد نموذجاً لقائمة أوجست كونت عن أعلام ممضى الوضعية، ويرى كولنز أنه في الإمكان وضع قائمة أخرى تضم أعداء الأفكار الحرة الذين جلبوا الخزي والعار على الإنسانية بقساوتهم الوحشية بحجة تمجيد الله.

وأنيرت له المنابر والجامعات وأمطرته وابلاً من الردود، ونطقت حتى كولنز رأى حتى التعقل يحتاج الترحال. أنه من الممكن تأثر أثناء إقامته في هولندا بآراء سبينوزا وبيل، ولدى عودته إلى إنجلترا أثار عاصفة أخرى بكتابه "بحث في الحرية الإنسانية" (1715) الذي بسط فيه ببيان قوي واضح موضوع "الجبرية" أوالإيمان بالقضاء والقدر، حيث عثر كولنز نفسه مفكراً حراً عباً لإرادة غير حرة. وبعد ذلك بتسع سنين أثار جواللاهوت برسالته "بحث في أسس الدين المسيحي وتفسيره". واقتبس عن الرسل وعن بسكال ما بنوا به شرحهم للمسيحية على نبوءات العهد القديم التي حققتها الشريعة الجديدة فيما يبدو، وجادل في حتى هذه النبوءات لم تتضمن أية إشارة إلى المسيحية والمسيح. ورد عليه خمسة وثلاثون من رجال اللاهوت في خمس وثلاثون رسالة. وكان الخلاف ما زال محتد ما حين وصل فولتير إلى إنجلترا 1726، وطابت به نفسه في عبث مزعج، ونقله إلى فرنسا حيث عثر طريقه إلى "الاستنارة" المتشككة.

وواصل حركة الربوبية في إنجلترا وليم هويستون، ماتيوتندال، توماس تشب وكونيرز مدلتون، وانتقلت عن طريق بولنريك والفيلسوف شافتسبري إلى جيبون وهيوم. ولم تعد مقبولة عند الطبقات الحاكمة مذ ارتابوا في إنها تشجع الأفكار الديموقراطية، ولكن أثرها المباشر كان ملموساً في تزعزع عابر في العقيدة الدينية. وفي 1711 حمل إلى مجلس اللوردات تقرير رسمي عن هذا الموضوع. من المجلس الكنسي والإنجيلي في مقاطعة كنتربري. ويصف التقرير سعة انتشار الكفر والدنس، والشكوك في الخلود، وانتقاص من قدرة القساوسة على أنهم دجالون(89). وفي مطلع القرن الثامن عشر في إنجلترا "هبط الدين إلى الربوبية(90)"، وهنا في هذه الأزمة هب نفر من ذوي العقول الجبارة في بريطانيا في قوة ونشاط للدفاع عن المسيحية.


المدافعون عن العقيدة

كان معظم هؤلاء المدافعين مستعدين للقاءة مهاجميهم على أساس من العقل والفهم والتاريخ، وقد كشف هذا في حد ذاته عن روح العصر.

وقاد تشارلز لزلي الدفاع برسالته "منهج قصير سهل مع الربوبين" (1697) قصد به في الأصل حتىقد يكون ردأ على بلونت. وحاول حتى يدلل على حتى شواهد صحة قصص الكتاب المقدس هي من نفس طبيعة الشواهد على أعمال الإسكندر وقيصر، وأنها مقنعة مثلها تماماً. كما حتى المعجزات ثبتت ببيانات كثيرة موثوقة يعتد بها، قدر ما تعتبره المحاكم الإنجليزية أدلة كافية، وما كان الكهنة ليقنعوا الناس بمعجزات مثل "انشقاق ماء البحر الأحمر" لولم يؤيدهم في ذلك كثير من شهود العيان. وأنهى لزلي بحثه بتصوير اليهودية بأنها ميثاق بدائي نسخه ظهور المسيح، والوثنية بأنها مجموعة من الخرافات الصبيانية إلى حد لا يقبله العقل. والمسيحية وحدها هي التي صمدت أمام البينات والعقل .

أما صمويل كلارك الذي ألم بقدر كبير من الرياضيات والفيزياء، يكفي للدفاع عن نيوتن ضد ليبنز، فإنه أخذ على عاتقه إثبات الدين المسيحي ببراهين في دقة الهندسة وقساوتها. وفي محاضرات بويل للدفاع عن المسيحية في 1704، صاغ كلارك سلسلة من اثنتي عشرة قضية تثبت، في تقديره، وجود الله في جميع زمان ومكان، وأنه قدير عليم كريم. وأن سلسلة الكائنات والأسباب المحتملة أوالمعتمدة على غيرها لتفرض علينا حتى نعتبر أمراً مفروغاً منه وجود كائن مستقل لا غنى عنه هوالسبب الأول لكل الأسباب. ولا بد حتىقد يكون الله متحلياً بالذكاء لأن الذكاء من صفات المخلوقات، وأنقد يكون الخالق أعظم كمالاً من المخلوق، ولا بد حتىقد يكون الله حراً، وإلا كان ذكاؤه عبودية لا معنى لها. جميع هذا بطبيعة الحال، لم يضف جديداً إلى الفلسفة القديمة أوفلسفة العصور الوسطى. ولكن في السلسلة الثانية من محاضراته، عرض كلارك حتى يثبت "صدق الوحي المسيحي وأنه حقيقة لا ريب فيها". فنطق بأن المبادئ الأخلاقية مطلقة مثل قوانين الطبيعة، وأن طبيعة الإنسان المنحرفة يمكن على أية حال توجيهها إلى الامتثال لقواعد الأخلاق عن طريق واحد هوغرس المعتقدات الدينية، ومن ثم كان لزاماً حتى ينزل الله علينا الكتاب المقدس وفكرة الجنة والنار. ويضيف التاريخ، بسخريته المألوفة حتى الملكة آن فصلت كلارك، وكان الكاهن الخاص لها، بتهمة ارتيابه في التثليث. وفي العهد التالي لحكم آن، كما يقول الشيطان الماكر فولتير، حيل بين كلارك وبين الوصول إلى منصب رئيس أساقفة كنتربري لأن أحد الأساقفة وشي به عند الأميرة كارولين، حين نطق بأن كلارك أفهم الرجال في إنجلترا، ولكن به عيباً واحداً، ذلك أنه غير مسيحي(91).

وكان بنتلي الأوسع فهماً قد أوضح بالعمل "حماقة الإلحاد وبعده عن التعقل" في "محاضرات بويل" 1692slash1693. وبعد ذلك بعشرين عاماً أثاره كتاب كولنز فأصدر "بعض ملاحظات على البحث الأخير في حرية التفكير". وتضمن هذا الكتاب بالدرجة الأولى عرضاً لأخطاء في درس كولنز. وبدت الحجة دامغة والجدل عنيفاً، وقرر مجلس جامعة كمبردج بالإجماع تقديم الشكر إلى بنتلي. ورأى جوناتان سويفت الذي كان آنذاك ملتحقاً بخدمة بولنبروك وهو"ربوبي"، حتى كولنز يستحق مزيداً من العقاب لأنه كشف سراً يحتفظ به جميع أفاضل الرجال لأنفسهم وسقط عليه هذا العقاب في منطق بعنوان "بحث مستر كولنز في حرية التفكير بسط في لغة إنجليزية سهلة... ليستخدمه الفقراء" وسخر من الحجج التي ساقها كولنز في مبالغات فكاهية، وأضاف قوله: حيث حتى معظم الناس حمقى أغبياء فأنه لما يجلب الكوارث حتى نهجرهم أحراراً في التفكير، "إن معظم بني الإنسان مؤهلون للطيران قدر أهليتهم للتفكير(92)"-وتلك عملية متسقطة في أيامنا هذه أكثر مما كان يقصد سويفت. واتفق مع هوبز في حتى الدكتاتورية حتى في الروحانيات هي البديل الوحيد عن الفوضى. وقد رأينا حتى الأنجليكانيين الأيرلنديين مضىوا إلى حتى الكاهن العابس المكتئب يمكن حتىقد يكون مطراناً ممتازاً إذا آمن بالله.

أما أفلاطونيوكمبردج فقد دافعوا عن المسيحية بأسلوب أقل براعة وأشد إخلاصاً. إنهم ارتدوا إلى أفلاطون وفلوطين يلتمسون جسراً بين العقل وبين الله، ولم يستعينوا على إيضاح إيمانهم والتعبير عنه بالحجج والجدل قدر استعانتهم بالنزاهة والتقوى في حياتهم. وغمرهم إحساس قوي بالفضيلة والقدسية في أسمى مراتبها، حتى بدا هذا لهم أبلغ مرشد وأقربه على العقل. ومن ثم زعم أول زعمائهم بنجامين هوتشكوت "أن العقل صوت الله(93)".

مضى هنري مور العضوالبارز في هذه الجماعة التي ذاع صيتها حيناً، إلى ما رواء فلسفات أوربا، إلى فكرة هندية تقريباً عن الفراغ، أوالتفاهة الواقعية للفهم الحسية، وعدم قدرتها على إشباع تطلع النفس المنفردة المنعزلة إلى بعض الرفقة أوالمغزى في الكون. ولم يرتح هنري مور إلى ميكانيكة الكون التي نطق بها ديكارت. ولكن أشبعت حاجته الأفلاطونية الحديثة والمتصوفون اليهود وجاكوب بوم. وتساءل "هل فهم الأمور هي حقاً أسمى مصدر لسعادة الإنسان، أي شيء آخر أعظم وأقدس، أوإذا افترضنا أنه كذلك، فهل تلتمس السعادة في التلهف والإقبال على قراءة الخط، أوالتأمل وإمعان النظر في الأمور، أوفي تطهير العقل من جميع ألوان الرذيلة. أياً كانت(94)". وعقد العزم على تطهير نفسه من جميع أنانية أوانشغال بأمور الدنيا، أوفضول عقلي. "فلما خمدت عندي هكذا هذه الرغبة الجامحة في فهم الأمور، ولم تتق نفسي إلا إلى هذه الطهارة والبساطة في العقل وحدها، أشرقت جميع يوم بين جوانحي ثقة أعظم مما تسقطت يوماً ما، حتى في الأمور التي كنت أرغب أشد الرغبة في معهدتها من قبل(95)". ويقول هنري مور أنه مذ طهر نفسه جسماً وروحاً بهذا الشكل، فقد فاحت من جسمه في فصل الربيع رائحة زكية، وأن البول عنده كان له عبير البنفسج(96).

ومذ تطهير هنري على هذا النحو، فقدا بدا أنه يحس بحقيقة الروح في نفسه على أنها أعظم اختبار ممكن إقناعاً للإنسان، ومن هذا الاقتناع انتقل على الفور إلى الاعتقاد بأن العالم معمور بأرواح أخرى على درجات تصاعدية، من أدناها إلى الله سبحانه وتعالى. ومضى إلى حتى جميع حركة في المادة هي من عمل نوع من الأرواح. وبدلاً من الحيز المادي الذي نطق به هوبز، اتى هنري مور بكون روحاني ليست المادة فيه إلا وسيلة أوأداة للروح. وانتشرت بين آن وآخر هذه "الروح" المفعمة بالحيوية فيما وراء مستقرها، وإلا كيف من الممكن أن يمكن بغير هذا تفسير المغناطيسية والكهرباء والجاذبية،يا ترى؟ وتابع مور بحثه، وارتضى فكرة وجود الشياطين والسحرة والأشباح. وكان رجلاً لطيفاً غير أناني، رفض جميع المناصب الرفيعة الدنيوية التي عرضت عليه، وظل على علاقته الودية بهوبز الذي يدين بالمادية، والذي نطق أنه إذا عثر يوماً حتى آراءه الخاصة يتعذر الدفاع عنها فإنها "لا بد حتى يعتنق فلسفة الدكتور مور(97)".

أما رالف كودورث، أفهم الأفلاطونيين في كمبردج، فإنه أخذ على عاتقه حتى يثبت حتى آراء هوبز هشة يسهل دحضها. إذا رسالة "الجهاز العقلي الحقيقي للكون" (1378) تحدث هوبز حتى يفسر لماذا، بالإضافة إلى مختلف الحركات الحسية والعضلية التي اختزل إليها جميع عمليات الذهن، هناك أيضاً، في أحوال كثيرة، إدراك لهذه الحركات، وكيف تجد أي فلسفة مادية مجالاً أووظيفة للوعي أوالشعور،يا ترى؟ وإذا كان جميع شيء مادة متحركة، فلماذا لا يخدم الجهاز العصبي جميع شيء عن طريق الإحساس والاستجابة، كما هوالحال في الأفعال المنعكسة اللاإرادية، ولا يزعجه الشعور الزائد أوغير الضروري،يا ترى؟ كيف من الممكن أن يمكن حتى ننكر حقيقة الشعور وواقعه-بل أولويته وأهميته-وهوالذي لا يتسنى بدونه فهم أية حقيقية كانت،يا ترى؟ ليست الفهم وعاء سلبياً غير فعال للأحاسيس، إنها تحول نشيط فعال للأحاسيس إلى أفكار(98). وهنا في كلام كودورث نرى أنه يستبق بزمن طويل، رد باكلي وكانت على هوبز وهيوم.

ولم يكن جوسف گلانڤيل، كاهن شارل الثاني، من الناحية الجغرافية، واحداً من الأفلاطونيين في كمبردج، ولكنه أتفق معهم اتفاقاً قوياً. وفي "غرور الدوجماتية" (التمسك برأي دون مرشد كاف) 13661 ألصق جوزيف جريمة الدوجماتية بالفهم والفلسفة، محتجاً بأنهما أقاماً نظماً تتسم بالتكلف والمبالغة الحمقاء لوضع النظريات والمبادئ، على أسس مزعزعة غير آمنة. وعلى هذا فإن فكرة العلة أوالسبب (التي ظنها جلانفيل أساسية لا غنى عنها للعلوم) افتراض غير معقول ولا مبرر له. فنحن نعهد التعاقبات والعلاقات والمناسبات، ولكن ليست لنا أي فكرة عما هوالحال في شيء يحدث أثراً في نفسه أوفي شيء آخر (هاجس آخر لهيوم). ويقول جلانفيل: تصور مدى جهلنا بالأمور الأساسية جداً-طبيعة النفس ونشأتها، وعلاقتها بالجسم "كيف يتحد الفكر مع كومة من الطين،يا ترى؟ إذا تجمد الحدثات في المناطق الشمالية، وحدوث هذا الاتحاد العجيب، أمران لا يمكن تخيلهما أوتصديقهما، سواء بسواء. إذا تعليق بعض الأثنطق في أجنحة الريح يظهر أمراً أيسر كثير حتى يدركه العقل(99)".

واستبق جلانفيل برجسون في أنه يسم العقل بأنه ذوبنية مادية ألف التعامل مع المادة إلى حد فقدان القدرة على التفكير في حقائق أخرى لا "بالرجوع إلى الصور المادية(100)". إلى أي حد نجد حواسنا عرضة للخطأ: إنها تظهر الأرض وكأنما هي ساكنة في الفضاء، على حين يؤكد لنا الفهماء المحدثون أنها مشوشة الذهن بمجموعة مختلفة من الحركات المتزامنة. وحتى من افتراض حتى حواسنا قد خدعتنا، فما أكثر ما نخطئ في الاستنتاج من مقدمات سليمة. إذا مشاعرنا تضللنا المرة بعد المرة. "وما أسهل حتى نؤمن بما ترغب فيه". وغالباً ما تسيطر بيئتنا العقلية على تفكيرنا:

إن للأفكار أجواءها وتنوعاتها الوطنية.... إذا هؤلاء الذين لم يختلسوا النظر قط إلى ما وراء المعتقدات العامة التي أشرتها أفهامهم البسيطة منذ البداية، موقنون يقيناً راسخاً بصدق ما تلقوه وتفوقه نسبياً على غيره.... أما النفوس الكبيرة التي جاست خلال أجواء الفكر المتنوعة (وهنا ولدت تعبير مشهورة) فإنهم أشد حرصاً وأكبر محاذرة فيما يتخذون من قرارات وأكثر اقتصاداً وتريثاً في الفصل في الأمور(101).

وعلى الرغم من هذه التحذيرات للعلوم، كان جلانفيل عضواً غيوراً في الجمعية الملكية ودافع عنها ضد اتهاماتها بالمرق عن الدين، وأثنى على منجزاتها، وتطلع إلى عالم زاخر بالأعاجيب يأتي به البحث الفهمي:

لا يخامرني شك في حتى أعقابنا سيجدون أشياء كثيرة هي الآن مجرد إشاعات قد تأكد لهم حقائق عملية. وبعد عدة أجيال من الآن، قد لا تبدورحلة إلى الأنطقيم الجنوبية المجهولة، لا بل إلى القمر، أشد غرابة من رحلة إلى أمريكا. وسوفقد يكون أمراً عادياً لمن يأتون بعدنا حتى يشتروا جناحين ليطيروا إلى المناطق النائية مثلما نشتري اليوم حذاء عالي الساق للركوب في رحلة. كماقد يكون التشاور مع أنطقيم الأنديز البعيدة بوسائل مريحة أمراً مألوفاً للأجيال القادمة مثلما هومألوف لدينا الآن حتى نتبادل الرسائل الأدبية. إذا إعادة الشعر الأشيب لليافعين وتجديد الحيوية المستنزفة قد يحدث من الميسور على مر الزمن تحقيقهما دون معجزة، كما حتى ليس من المستبعد في زراعة المستقبل حتى تتحول الأرض القفر الآن إلى جنة(102).

ويجدر بنا حتى نضيف إلى ما تجاوز حتى جلانفيل، مثل كودورث وهنري مور آمن بالسحرة. إذا هؤلاء احتجوا بأنه إذا كان هناك عالم روحي وعالم مادي سواء بسواء، فلا بد من وجود الأرواح والأجسام في الكون. وبناء على الخطر الكامن في الأمور فلا بد حتى تكون بعض هذه الرواح شيطانية شريرة. وإذا كان الأتقياء الورعون يتصلون بالله أوالقديسين أوالملائكة، فلماذا لا يتصل الأشرار بالشيطان وعفاريته،يا ترى؟ ونطق جلانفيل إذا آخر خدعة للشيطان حتى ينشر الاعتقاد بعدم وجوده. "إن هؤلاء الذين لا يتجرأون على القول بصراحة بأنه لا يوجد إله، يقنعون (كخطوة مقبولة أونقطة بداية) بأن ينكروا حتى هناك أرواحاً وسحرة(103)" إذا الشيطان يجب إنقاذه من أجل الله.


جون لوك 1632 - 1704

أ - سيرة حياته

ولد أعظم فلاسفة العصر أثراً في رنجتون بالقرب من برستول، في نفس العام الذي ولد في سبينوزا. ونشأ وترعرع في إنجلترا التي قامت فيها ثورة دامية وقتلت مليكها، وأصبح الصوت المنادي بثورة سلمية وعصر يسوده الاعتدال والتسامح، ومثل التسوية الإنجليزية في أحكم صورة وأفضلها. كان أبوه محامياً بيوريتانياً ناصر مع شيء من التضحية قضية البرلمان، وشرح لابنه نظريتي سيادة الشعب والحكومة النيابية، وبقي لوك مخلصاً لهذه الدروس مؤمناً بها، شاكراً معترفاً بفضل أبيه في تعويده على الرصانة الدروس مؤمناً بها، شاكراً معترفاً ليدي ماشام عن والد لوك أنه:- سلك معه في صغره نهجاً تحدث عنها الابن فيما بعد في استحسان بالغ. ذلك أنه كان قاسياً عليه بإبقائه في رعب شديد منه، وعلى أبعد منه، حين كان صبياً. ولكنه كان يخفف من هذه القسوة شيئاً فشيئاً حتى استوى جون رجلاً، آنس منه رشداً ومقدرة فعاش مع صديقاً حميماً(104).

ولم يقر لوك لمفهميه بمثل هذا الفضل. وفي مدرسة وستمنستر أرهق باللاتينية واليونانية والعبرية والعربية، ومن الجائز أنه لم يسمح له بشهود إعدام شارل الأول (1649) في ساحة قصر هويتهول القريب من المدرسة، ولكن هذه الحادثة هجرت أثراً في فلسفته. وعوقت اضطرابات الحرب الأهلية التحاقه بكلية كريست في أكسفورد حتى بلغ العشرين من عمره. وهناك تفهم أرسطومصوغاً في قوالب سكولاسية باللاتينية، كما تفهم مزيداً من اليونانية، وبعض الهندسة والبلاغة، وكثيراً من المنطق وفهم الأخلاق، لفظ معظمها فيما بعد، على انها عتيقة مهجورة موضوعاً. غير مستساغة ولا مقبولة شكلاً. وبعد حصوله على درجة الماجستير (1658) بقي بكليته باحثاً في الدراسة العليا، يفهم ويحاضر. وسقط لبعض الوقت في غرام "سلبني عقلي(105)"، ثم استرد عقله وخسر عشيقته. ولم يتزوج لوك قط، مثله في ذلك مثل جميع فلاسفة هذا العصر تقريباً- ماليرانش، بل، فونتنل، هوبز، سبينوزا، ليبنتز. ونصحوه بالالتحاق بإحدى وظائف الكنيسة، ولكنه تردد ونطق: "إذا رقيت إلى مكان قد لا أستطيع حتى أملأ فراغه فإن الهبوط منه لنقد يكون إلا سقوطاً مروعاً يسمع له دوي شديد(106)".

وفي 1661 توفي والده بالسل، تاركاً له ثروة ضئيلة ورئتين ضعيفتين. ودرس الطب ولكنه لم يحصل على درجة فيه إلا في 1674. وفي الوقت نفسه قرأ ديكارت، وأحس بسحر الفلسفة حين تحدثت في جلاء ووضوح. وساعد روبرت بويل في تجاربه المعملية، وملأه الإعجاب بالمنهج الفهمي. وفي 1667 تلقى دعوة للحضور والإقامة في قصر أكستر ليكون طبيباً خاصاً لأنطوني آشيلي كوبر الذي سرعان ما أصبح أرل شافتسبري الأول، وعضوالوزارة أيام شارل الثاني، ومنذ هذا التاريخ إلى ما بعده، وعلى الرغم من احتفاظه رسمياً بمنصبه في أكسفورد حتى 1683، عثر لوك نفسه غارقاً في خضم السياسة الإنجليزية حيث شكلت أحداثها ورجالاتها أفكاره.

وأنقذ لوك، الطبيب، حياة شافتسبري حيث أجرى له عملية بارعة لاستئصال ورم خبيث (1668). وساعد في المفاوضات لإتمام زواج ابن شافتسبري، وسهر على زوجة ابنه أثناء الوضع، وأشرف على تعليم حفيده، خليفته في الفلسفة. ويذكر هذا الحفيد، أرل شافتسبري الثالث أن:

مستر لوك حظي بتقدير كبير لدى جدي، حتى وأنه وقد عهد بالتجربة أنه عظيم في الطب، رأى حتى هذا جانب صغير من جوانب عظمته، وشجعه على الاتجاه بأفكاره إلى منحى آخر، ولم يسمح له بمزاولة الطب إلا في أسرته أومن قبيل العطف أوالرحمة بصديق حميم. وهيأه لدراسة المسائل الدينية والمدنية التي تهم البلاد، وكل مل يتصل بمهمة الوزير في الدولة. وقد أحرز في هذا نجاحاً كبيراً حدا بجدي إلى حتى يتخذ منه صديقاً يسأله المشورة في أية قضية من هذا النوع(107). ولمدة عامين (1673- 1675) اشتغل لوك سكرتيراً لمجلس التجارة والزراعة (المستعمرات) الذي كان يرأسه شافتسبري. وساعده على وضع دستور لكارولينا التي أسسها شافتسبري وكان أكبر ملاك الأرض فيها. ولم تطبق هذه "النظم الأساسية" في المستعمرة بصفة عامة، ولكن حرية الضمير التي تضمنتها هذه النظم لقيت قبولاً حسناً إلى حد كبير لدى المستوطنين الجدد(108). ولما تخلى شافتسبري عن مهامه السياسية 1675 جال ولك ودرس في فرنسا حيث التقى هناك بفرانسوا برنييه الذي أظهره على فلسفة جاسندي التي عثر فيها رفضاً معقولاً "للأفكار الفطرية" وهي مقارنة عقل الطفل الذي لم يولد باللوح النظيف الخالي من أي شيء، والجملة المأثورة التي نقلت فيما بعد عبر القنال الإنجليزي: "ليس ثمة شيء موجود في العقل إلا كان موجوداً أولاً في الحواس".

وفي 1679 عاد لوك إلى إنجلترا وإلى شافتسبري، ولكن الأرل زج بنفسه أكثر فأكثر في غمار الثورة، فآوى لوك إلى أكسفورد حيث أستأنف الدرس والبحث. وأثار القبض على شافتسبري وهربه من السجن ثم فراره إلى هولندا شبهات الملكيين حول أصدقائه. وانبث الجواسيس في أكسفورد للقبض على لوك متلبساً بما يمكن حتىقد يكون أساساً لتقديمه إلى المحاكمة(109). فلما أحس بالخطر وتنبأ باعتلاء عدوه جيمس الثاني عرش إنجلترا، فإنه كذلك لجأ إلى هولندا (1683). على حتى ثورة دوق مونموث القصيرة الأجل التي ماتت في مهدها (1681) استنفرت الملك جيمس الثاني إلى حتى يطلب من الحكومة الهولنديه تسليم خمسة وثمانين لاجئاً إنجليزياً بتهمة اشتراكهم في المؤامرة لقلب عرش الملك الجديد. وكان من بينهم لوك، فاختبأ وأتخذ اسماً زائفاً. وبعد سنة أوفد إليه جيمس عرضاً بالعفوعنه ولكنه آثر البقاء في هولندا. وأقام في أوترخت وامستردام وروتردام، حيث لم يستمتع بصداقة الإنجليز اللاجئين فحسب، بل سعد كذلك بصداقة الفهماء الهولنديين مثل جين لي كلرك وفيليب فان لمبروخ، وكلاهما من زعماء اللاهوت الأرميني المتحرر. وفي هذا الوسط عثر لوك تشجيعاً كبيراً لآرائه في سيادة الشعب والحرية الدينية. وهناك خط "بحث في العقل الإنساني"، والمسودات الأولى لأبحاثه في التعليم والتسامح الديني. وفي 1687 اشهجر في مؤامرة لإحلال وليم الثالث محل جيمس الثاني على عرش إنجلترا(110). فلما نجحت حملة نائب الملك في هذه المغامرة أبحر لوك إلى إنجلترا (1689) على نفس السفينة التي أقلت الملكة المقبلة ماري(111). وقبل مغادرة هولندا خط باللاتينية إلى لمبورخ رسالة تفيض بأحر العواطف. مما يدحض أويصبح ما افترض من حتى اعتداله المألوف نبع من برودة طبعه:

إني إذا أرحل عنكم، أكاد أشعر إني أفارق بلادي وعشيرتي وأهلي فإن جميع شيء يتعلق بالقرابة والسنة الحسنة والحب والشفقة- جميع ما يربط الناس بعضهم ببعض بوشائج قوى من رابطة الدم- وجدته بينكم موفوراً. إني أهجر ورائي أصدقاء لا سبيل إلى نسيانهم أبداً. ولن أودع الرغبة في سنوح الفرصة لأستمتع ثانية بالرفقة الحقه لأصدقاء، لم اشعر وأنا بينهم بأي حنين أورغبة، حيث كنت بعيداً عن ارتباطاتي الخاصة، وأعاني من أشياء كثيرة، أما أنت يا أفضل الرجال وأعزهم وأنبلهم، فإني حين أفكر في فهمك وحكمتك وشفقتك وصراحتك وإخلاصك ورقتك ودماثة خلقك، يتضح لي إني وجدت في صداقتك أنت وحدك ما يجعلني أبتهج دوماً لأني أرغمت على قضاء هذا الكثير من السنين في رحابك(112).

وفي إنجلترا التي تولى فيها أصدقاء لوك منطقيد الحكم، تقل الفيلسوف عدة مناصب رسمية. ففي 1690 كان مفوض الاستئناف، وفيما بين 1696- 1700 كان مفوض التجارة والزراعة، وكان صديقاً حميماً لجون سومرز النائب العام، وشارل مونتاجوأرل هاليفاكس الأول، وايزاك نيوتن الذي ساعده لوك في إصلاح العملة. وبعد 1691 قضى معظم وقته في أوتس مور في أسكس مع سير فرانسيس ماشام وقرينته ليدي داماريس ماشام إحدى بنات رالف كودورث. وظل في هذا الركن الهادئ يخط وينقح ما خط حتى وافته المنية.

ب - الحكومة والملكية

كان لوك قد بلغ السادسة والخمسين من العمر حيث عاد من منفاه. ولم يكن قد نشر سوى بعض منطقات قليلة الشأن، وخلاصة بالفرنسية "للمنطق" في المخطة العالمية التي كان يصدرها لي كلارك (1688) ولم يكن يعهد عن اشتغاله بالفلسفة إلا نفر قليل من أصدقائه. وما هي إلا سنة واحدة، هي "سنة العجائب" حتى دفع إلى المطبعة ثلاثة خط سمت به إلى مصاف الشخصيات البارزة الكبرى في عالم الفكر في أوربا. وظهرت "رسالة عن التسامح" في مارس 1689، في هولندا، ثم ترجمت إلى الإنجليزية في الخريف. وأعقبتها في 1690 "برسالة ثانية عن التسامح". وفي فبراير 1690 أصدر منطقيه عن "الحكم المدني"، وهما حجر الزاوية في النظرية الحديثة للديموقراطية في إنجلترا وأمريكا، وبعد شهر واحد أخرج كتابه "بحث في العقل الإنساني"، وهوأعظم المؤلفات أثراً في فهم النفس الحديث. وعلى الرغم من إتمامه هذا الكتاب الأخير قبل مغادرته هولندا فإنه عجل بطبع منطقي "الحكم المدني" قبله، لأنه كان تواقاً إلى تزويد "الثورة الجليلة 1688slash1689 بأساس فلسفي. وقد أثبت هذا الهدف صراحة في مقدمة الموضوع الأول "لتثبيت عرش منقذنا العظيم مليكنا الحالي وليم الثالث، وتدعيم حقه الشرعي أمام الناس.... وأبرز عمل الشعب الإنجليزي في نظر العالم، ذلك الشعب الذي أنقذ حبه لحقوقه الطبيعية العادلة وتصميمه على المحافظة عليها، أنقذ الأمة التي كانت شفا العبودية والدمار(113)".

وكان الموضوع الأول والأصغر رداً على "دفاع عن السلطة الطبيعية للملك" الذي كان سير روبرت فيلمر قد ألفه حوالي 1642 تدعيماً لحقوق شارل الإلهية، والذي لم يكن قد وصل إلى المطبعة إلا مؤخراً (1680) في ذروة حكم شارل الثاني المطلق المنتصر. ولم يكن هذا الكتاب أحسن ما دبج قلم سير روبرت، فإنه نشر في 1648 دون حتى يذكر أسمه، "فوضى الحكم المختلط المحدد" الذي استبق به آراء هوبز. وعلى الرغم من إيداع فيلمر السجن لدفاعه عن قضية خاسرة فإنه دافع عنها ثانية في "ملاحظات على كتاب السياسية لأرسطو" الذي نشر غفلاً من اسم المؤلف في 1652، قبل وفاته بعام واحد.

صور فيلمر الحكومة بأنها امتداد للأسرة. وأودع الله السيادة في الأسرة الإنسانية الأولى، في آدم الذي أنحدر من الآباء. وعلى أولئك الذين (مثل خصوم فيلمر) يؤمنون بأن الكتاب المقدس منزل من عند الله، حتى يسلموا بأن الأسرة الأبوية وسلطة الأب. أقرهما الله. وانتقلت هذه السيادة من الآباء إلى الملوك. وكان الملوك الأوائل آباء، وكان سلطانهم شكلاً من حكم الآباء، مشتقاً منه، فالملكية إذن ترجع إلى آدم، ومن ثم إلى الله. وسيادة الملوك، إلا إذا أمروا بخرق صريح للقانون الإلهي، مقدسة مطلقة. والتمرد عليها خطيئة وجريمة في وقت معاً(114).

وعلى نقيض النظرية التي تقول بأن الإنسان ولد حراً، يقول فيلمر بأن الإنسان ولد خاضعاً لعادات الجماعة وقوانينها، وللحقوق الطبيعية والشرعية للوالدين على أولادهم. "إن الحرية الطبيعية" خرافة رومانسية. وأنها لخرافة أيضاً حتى الحكومة قامت برضا أفراد الشعب واتفاقهم. "والحكومة النيابية" خرافة أخرى. فالممثل لا يختاره إلا أقلية ضئيلة نشيطة في جميع دائرة انتخابية(115). وكل حكومة هي من أغلبية عن طريق أقلية. ومن طبيعة الحكومة حتى تكون فوق القانون. فللهيئة التشريعية، بمقتضى تعريفها، سلطة سن القوانين وتغييرها أوإلغائها. "وأنا لنخدع أنفسنا إذا راودنا الأمل يوماً في حتى تحكمنا سلطة غير استبدادية(116)" وإذا كان للحكومة حتى تعتمد على إرادة المحكومين، فسرعان ما ينتهي الأمر إلى عدم وجود حكومة البتة، فإن جميع فرد أومجموعة أفراد ستزعم لنفسها الحق في العصيان والتمرد وفقاً لما يمليه "الضمير". وتلك هي الفوضى أوحكم الرعاع". وليس هناك طغيان يمكن حتى يقاس بطغيان الجماهير(117)".

وأحس لوك حتى مهمته الأولى، وهوالمدافع عن الثورة الجليلة حتى يدحض حجج فيلمر. ونطق "أنه لم يكن هناك يوماً مثل هذا الهراء المرتجل دون تروبمثل هذه الكثرة في لغة إنجليزية رنانة" كما اتى في منطقات سير روبرت(118). ليس لي حتى أتحدث بمثل هذه الصراحة على رجل لم يعد يستطيع حتى يرد"، لولم يعتنق المنبر السنين الخوالي علانية نظريته ويجعل منها عقيدة مقدسة رائجة في هذا العصر"- يعني لولم يعتنق رجال الكنيسة الأنجليكانية نظرية حقوق الملوك الإلهية حتى في عهد الملك الكاثوليكي جيمس الثاني، وانتقل لوك، في تهكم هازل، لاذع أحياناً، ليفترض على حتى فيلمر أرجع سلطة الملك إلى ما افترض من سلطة آدم وآباء التوراة، ولسنا في حاجة إلى تتبعه في طول دحضه للكتاب المقدس. ونحن اليوم نبرر خلافاتنا السياسية بوسائل أخرى غير الأسفار المقدسة حتى شائناً من تفكير فليمر لا يزال باقياً بعد حتى تناوله لوك بهذه الطريقة الخشنة- المحاولة مهما كانت خاطئة في تفصيلها لإلقاء الضوء على طبيعة الحكومة بالتماس أصولها في التاريخ، حتى في البيولوجيا. ومن المحتمل حتى فليمر ولوك كليهما انتقصا من قدر الدور الذي لعبه الغزووالقوة في إقامة الدول.

وفي الموضوع الثاني من "الحكم المدني" تحول لوك إلى مهمة البحث لحكم وليم الثالث في إنجلترا عن سند أقوى من الحق الإلهي الذي يعيد لسوء الحظ السلطة إلى جيمس الثاني. إذا لوك حين اسندج ارتقاء وليم العرش من رضا المحكومين افترض أكثر مما استطاع إثباته بالتاريخ: إذا الشعب لم يكن قد أعرب قبوله غزووليم لإنجلترا، كما حتى النبلاء أوأبناء الطبقة الأرستقراطية الذين كانوا قد وضعوا الخطة لهذا الغزولمقد يكونوا فكروا في الحصول على موافقة الشعب، ولم يفكروا إلا في تجنب مقاومته، ومع ذلك فإن لوك في التماسه سنداً من الفلسفة لسلطة وليم، أتى بدفاع مؤثر عن سيادة الشعب. وفي سبيل دفاعه عن الملك الحاكم بسط نظرية الحكومة النيابية، وفي سياق عرضه الأساسي المنطقي لحركة الأحرار (الهويجز) والمدافعين عن حق التملك، صاغ إنجيل الحرية السياسية، وأنهى هيمنة هوبز على الفلسفة السياسية الإنجليزية.

وحذا لوك حذوهوبز في افتراض "حالة طبيعية" بدائية. قبل نشوء الدول. وشكل- مثل هوبز وفليمر- التاريخ وفقاً لأغراضه ولكنه على عكس هوبز، تصور حتى الأفراد في "الحالة الطبيعية" كانوا أحراراً متساوين، واستخدم هذه اللفظة، كما استخدمها جفرسون حين نسج من منواله، لتعني أنه ليس لأحد بالطبيعة "حقوق" أكثر مما لسواه، وهويبيح للإنسان في "الحالة الطبيعية" غرائز معينة بمثابة إعداد سايكولوجي للمجتمع، ويأتي لوك أحياناً بافتراضات لطيفة "من حيث حتى جميع إنسان حر بالطبيعة، فليس في إمكان أي شيء حتى يخضعه لأية سلطة دنيوية إلا برضاه وموافقته...(119)" ولم يكن "الطور الطبيعي" في هذه النظرية- كما صوره هوبز- حرباً بين الناس بعضهم بعضاً، لأن "سنة أوقانون الطبيعة" أيد حقوقهم بوصفهم حيوانات عاقلة. ومضى لوك إلى أنه بمقتضى العقل توصل الناس إلى اتفاق "عقد اجتماعي"، الواحد منهم مع الآخر تنازلوا فيه عن حقوقهم الفردية في القضاء والعقاب، لا لملك، بل للجماعة ككل. وعلى هذا تكون الجماعة هي السيد أوالحاكم الحقيقي، وهي تتخذ بأغلبية الأصوات رئيساً أعلى ينفذ مشيئتها(120). ويمكن حتى يسمى ملكاً، ولكنه مثل أي مواطن آخر ملتزم بطاعة القوانين التي تسنها الجماعة. فإذا سعى (مثل جيمس الثاني) إلى خرقها أوالمراوغة في تطبيقها، كان للجماعة الحق في سحب السلطة التي منحاه إياه.

والحق حتى لوك لم يكن يدافع عن وليم ضد جيمس، بل عن البرلمان (المنتصر الآن) ضد أي ملك، إذا أعلى سلطة في الدولة ينبغي حتى تكون السلطة التشريعية، التي يجب حتى تختارها الأصوات الحرة غير المشتراة. ويجدر حتى تسقط القوانين أشد العقوبة على جميع محاولة لشراء أصوات المواطنين أوالمشرعين. ولم يتنبأ لوك بأن وليم الثالث الذي أحب الفيلسوف به قد يضطر إلى شراء أصوات أعضاء البرلمان، وأن الأسرات القوية قد تستمر لمائة وأربعين عاماً بعده تتحكم في أصوات "المدن الفاسدة القابلة للرشوة" أوتقرر مصيرها. وينبغي حتى تكون السلطة التشريعية مستقلة تمام الاستقلال عن السلطة التطبيقية، وأنقد يكون جميع من جهازي الحكومة هذين رقيباً على الآخر.

ويقول لوك "ليس للحكومة من هدف إلا صيانة الملكية (حق التملك)(121)" لقد كانت هناك شيوعية بدائية، حين نما الطعام دون زراعة، واستطاع الإنسان حتى يعيش دون كد ولا كدح، ولكن عندما بدأ العمل انتهت الشيوعية، لأن الإنسان أخذ لنفسه، ملكاً خاصاً به، أي شيء ذا قيمة أضفاها عليه جهده هو. فالعمل إذن هومصدر "99%" من جميع القيم المادية(122). (وهنا قدم لوك للاشتراكية الحديثة على غير قصد منه إطلاقاً، أحد مبادئها الأساسية). إذا المدنية تنموعن طريق العمل، ومن ثم عن طريق نظم الملكية بوصفها نتاج العمل. ومن الناحية النظرية ليس لإنسان لأن يمتلك أكثر مما يستطيع استخدامه(123). ولكن اختراع النقود مكنه من بيع فائض نتاج عمله، مما لم يستطع الانتفاع به، وعن هذا الطريق ساد التفاوت الكبير أوعدم المساواة في الملكية بين الناس- وربما كنا نتسقط، عند هذه النقطة، من لوك حتى ينتقد هجريز الثروة، ولكنه بدلاً من ذلك نظر إلى الملكية مهما كان سوء توزيعها، على أنها أمر طبيعي مقدس، فاستمرار النظام الاجتماعي والمدنية يستلزم حتى تكون حماية الملكية أسمى غرض للدولة. "وليس في مقدور السلطة العليا حتى تستولي على أي جزء من أملاك الإنسان إلا بموافقته ورضاه(124)".

وعلى هذا الأساس لم يقر أية ثورة تنطوي على التجريد من الملكية. ولكنه بوصفه نبي الثورة الجليلة وصوتها لم يستطع حتى ينكر "الحق في قلب الحكومة(125)". إذا الشعب في حل من الطاعة إذا كان ثمة محاولات غير مشروعة للاعتداء على حرياته وممتلكاته، "لأن" هدف الحكومة هوالصالح العام للبشر. وأيهما أفضل لبني الإنسان: تعرض الناس دائماً للرغبة الجامحة في الطغيان، أوحتى يتعرض الحكام أحياناً للمقاومة إذا أسرفوا في استخدام سلطتهم واستغلالها في القضاء على ممتلكات الشعب، لا في المحافظة عليها(126)؟" وعلى حين أجاز بعض الهيجونوت والفلاسفة اليسوعيين الثورة لحماية الدين الحق الواحد، نجد لوك لا يقرها إلا لحماية الممتلكات. إذا النزعة الدنيوية كانت تغير من مركز القداسة وتعريفها.

وظل تأثير لوك على الفكر السياسي مسيطراً حتى ظهور كارل ماركس. وكانت فلسفته عن الدولة ملائمة لحكم الأحرار (الهويجز) وللخلق الإنجليزي إلى حد تجاهل أخطائها طيلة قرن من الزمان باعتبارها هنات هينات في عهد أعظم (مجنا كارتا) جليل الشأن للبرجوازية. إنها لم تضف هالة على 1689 فحسب، بل، مع تجاوز مشهود، كذلك على 1776 و1789- أعني المراحل الثلاث لثورة العمل ضد المحتد. والمال ضد الأرض. ويسخر النقاد اليوم من لوك اشتقاقه للحكومة من رضا الأفراد الأحرار وموافقتهم في الطور الطبيعي، كما سخر هومن فليمر اشتقاقه الحكومة من الآباء ومن آدم ومن الله. إذا "الحقوق الطبيعية" مشبوهة ونظرية، والحق الطبيعي الوحيد في المجتمع ليس فيه قانون هوالقوة المتفوقة، كما هوحادث الآن بين الدول. أما في المدنية فالحق هوالحرية التي يرغب فيها الفرد ولا تكون ضارة بالجماعة "وقد يوجد حكم الأغلبية في الجماعات الصغيرة في الأمور غير الحيوية" وتمارس الحكم عادة أقلية منظمة. والحكومات الآن تضطلع بالتزامات أكبر من مجرد حماية الملكية.

ومع ذلك فإن تحقيق هذه الرسالة الثانية يظل إنجازاً عظيماً. إنه وسع من قيمة فوز البرلمان و"الأحرار Whigs على "المحافظين" Tories، حتى صاغ من هذا الفوز نظرية الحكومة النيابية المسئولة. تلك النظرية التي ألهبت مشاعر الشعوب الواحد منها بعد الآخر في تسلمها مراقي الحرية. ونبذت إنجلترا فكرة السلطات التي اتى بها لوك، وأخضعت الحكومة بأسرها للسلطة التشريعية، ولكن نظريته كانت تهدف إلى الحد من قوة السلطة التطبيقية. وقد تحقق هذا الهدف تحقيقاً كاملاً. حتى كثيراً من ثقته في حصافة الناس ولباقتهم، واعتداله في تطبيق النظرية على الممارسة أوالفهم على العمل، أصبح منهجاً قياسياً ذا قيمة معترف بها في السياسة الإنجليزية، جعل الثورة أمراً تدريجياً دقيقاً لا يكاد يدرك، بينما هي حقيقة واقعة.

وانتقلت آراء لوك من إنجلترا إلى فرنسا مع فولتير في 1729، واعتنقها مونتسكيوعند زيارته لإنجلترا 1729slash1731، وكان لها صدى عند روسووغيره قبل الثورة الفرنسية وفي أثنائها، وبرزت باحلى معانيها في "إعلان حقوق الإنسان" الذي أصدرته الجمعية التأسيسية 1789. وعندما ثار مستعمروأمريكا في وجه جورج الثالث حين استعاد قوة الملك وسلطانه، نراهم اقتبسوا آراء لوك وصيغه بل ألفاظه تقريباً في "إعلان الاستقلال" الذي أصدروه. كما حتى الحقوق التي أثبتها لوك أصبحت "وثيقة الحقوق" في التنقيحات العشرة الأولى للدستور الأمريكي. أما نظريته في فصل السلطات، كما وسعها منتسكيولتضم السلطة القضائية، فقد أصبحت عنصراً أساسياً في شكل الحكومة الأمريكية، كما أخذت عنايته البالغة بالملكية طريقها إلى التشريع الأمريكي، وأثرت منطقاته عن التسامح في الآباء المؤسسين في فصل الكنيسة عن الدولة وإقرار الحرية الدينية ويندر حتى نجد في تاريخ الفلسفة السياسية رجلاً بمفرده كان له مثل هذا الأثر الخالد الباقي.


جـ - الذهن والمادة

كان تأثير لوك شاملاً وعميقاً في فهم النفس قدر تأثيره في نظرية الحكم المدني. وظل يخط رسالته عن "العقل الإنساني" منذ 1670 ويتميز هذا البحث بأنه دفع به إلى المطبعة بعد عشرين عاماً قضاها في مراجعته وتنقيحه، ثم تسلم عن هذه التحفة الرائعة في فهم نفس التحليلي ثلاثين جنيهاً. ويعزولوك نفسه مشروعه في هذا البحث إلى مناقشة جرت في لندن 1670: اجتمع في حجرتي خمسة أوستة من الأصدقاء، وكنا نناقش موضوعاً بعيداً عن هذا جميع البعد، وسرعان ما وجدنا أنفسنا في مأزق نتيجة الصعوبات التي اعترضتنا من جميع النواحي، وبعد حتى تملكتنا الحيرة لبعض الوقت دون الوصول إلى حل قريب لهذه الشكوك... خطر ببالي أننا نهجنا نهجاً خاطئاً. وأننا قبل حتى نشرع في التحقيق في طبيعة هذا الموضوع، كان لزاماً علينا حتى نختبر قدراتنا نحن، ونرى حتى "الموضوعات" تصلح، أولا تصلح أفهامنا لمعالجتها، وعرضت هذا على الرفاق الذين وافقوا جميعاً من فورهم، ومن ثم اتفقنا على حتىقد يكون هذا أول ما نبحث فيه. وكانت بعض الأفكار السريعة المهوشة التي عرضتها في اجتماعنا التالي، هي المدخل الأول لهذا المبحث(127).

ومن الواضح حتى الذي حفز لوك إلى كتابة "منطق عن العقل الإنساني" هوالخلاف الذي نشب بين الأفلاطونيين في كمبردج من الذين حذوا هنا حذوالفلاسفة السكولاسيين- في أننا نستمد أفكارنا من الله ومن المثل الأخلاقية العليا، لا من التجربة والخبرة، بل من الاستبطان، وأن هذه الأفكار فطرية أصيلة فينا، وجزء من جهازنا العقلي، مهما كنا غير واعين عند الولادة. وهذه الفكرة، لا بيانات ديكارت الثانوية عن "الأفكار الفطرية"، هي التي أدت بلوك إلى النظر في مسألة هل هناك أية أفكار لم تكن وليدة تأثيرات العالم الخارجي(128). وخلص لوك إلى القول بأن جميع الفهم بما في ذلك أفكارنا عن الله وعن الصواب والخطأ مستمدة من الخبرة، وليست جزءاً من الهجريب الفطري للعقل. وعهد أنه في محاولته للبرهنة على هذه النظرية التجريبية قد يسئ إلى كثير من معاصريه الذين أحسوا بأن الأخلاق تتطلب مساندة الدين لها، وأن الأخلاق والدين كليهما ينهار ويضعف إذا نبعت أفكارها الأساسية من منبع أقل شرفاً من الله سبحانه وتعالى. وطلب إلى قرائه حتى يتجملوا بشيء من الصبر معه، أما هومن جانبه فقد كان قاب قوسين أوأدنى من منزلق المناقشة الخطيرة، في روح من الشك المتواضع. "أنا لا أزعم أني ألقي درساً، بل أنا أسأل(129)". وفي إيجاز، اعترف بأنه كان "كسولاً مشغولاً إلى حد بالغ(130)".

ولكنه على الأقل استطاع حتى يحدد مصطلحاته، وهويعترض على "الغموض المتكلف عند بعض الفلاسفة(131)". إذا معهدتنا الدقيقة بما تدل عليه وتعنيه ألفاظنا قد ينهي.... النزاع... في كثير من الأحوال(132)". وينبغي التسليم بأن ممضى لوك في هذه النقطة يفضل ممارسته له. أنه يعهد "العقل" بأنه "قوة الإدراك الحسي"، ولكنه يستخدم الإدراك الحسي ليضم: (1) إدراك الأفكار في عقولنا. (2) وإدراك معاني الألفاظ، (3) وإدراك التوافق أوالتنافر بين الأفكار(133). ولكن ما هي الفكرة،يا ترى؟ إذا لوك يستخدم هذا الاصطلاح ليعني: (1) تأثير الأمور الخارجية على حواسنا(وهوما يجب حتى نسميه الإحساس)، أو(2) الوعي الداخلي بهذا التأثير (وهوما يجب حتى نسميه الإدراك الحسي)، أو(3) صورة الفكرة أوالذكرى المتصلة بها (وهوما يجب حتى نسميه الفكرة)، أو(4) "الحركة التي تجمع صوراً منفردة كثيرة لتكون مفهوماً عاماً أومجرداً أوشاملاً لمجموعة من الأمور المتشابهة. إذا لوك لا يوضح دائماً في أي معنى يستخدم اصطلاحه المزعج ".

لكن لوك يبدأ بنبذ "المبادئ الفطرية". حتى هناك رأياً ثابتاً لدى الناس بأن هناك في العقل بعض "مبادئ فطرية معينة، أوبعض مفاهيم غامضة أولية مطبوعة في ذهن الإنسان تتلقاها النفس منذ بداية نشأتها، وتأتي بها معها إلى الدنيا". ويأخذ في إيضاح "بطلان هذه الفرضية(135)". أنه لا ينكر "النزعات" الفطيرة0التي سميت فيما بعد الانتحاء (النزعة إلى الحركة استجابة لمنبه ما) أوالأفعال المنعكسة اللاإرادية أوالغرائز، ولكن هذه في رأيه عادات سيكولولجية، وليس أفكاراً. وحذا حذوهوبز فوصف مثل هذه العمليات بأنها "سلاسل من الحركات في روح الحيوانات، إذا انطلقت استمرت في المراحل التي اعتادت عليها، والتي تصبح بعد كثرة ارتيادها طريقاً ممهداً، كما تصبح الحركة فيه سهلة، وكأنها طبيعية" أوفطرية(136).

وهويميل إلى حتى يجوز توارد الخواطر في أنها طرق سيكولوجية. وكان ديكارت فقد مضى إلى حتى فكرة الله فطرية أصيلة فينا، ولكن لوك ينكر هذا الرأي. فإن بعض القبائل وجدت دون حتى تكون لديها فكرة عدالة، كما إذا بعض الذين يعتنقونها تتباين لديهم المفاهيم أوالصور عن الآلهة إلى حدقد يكون معه من الحكمة حتى نرفض فكرة "نشوئها بالفطرة أوبالسليقة"، وأن نبني إيماننا بالله على "لآيات البينات على كمال حكمته وقدرته... فيما خلق وأبدع(137)"- أعني الخبرة. وبالمثل ليس هناك "مبادئ عملية فطرية"- ليس هناك مفاهيم فطرية عما هوصواب وما هوخطأ. فالتاريخ يوضح لنا مجموعة متباينة، عظيمة أحياناً متناقضة أحياناً أخرى، من الأحكام الخلقية، مما لا يمكن معه اعتبارها جزءاً من التراث الطبيعي للإنسان، بل هي تراث اجتماعي يختلف من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان(138).

وبعد حتى تخلى لوك عن "الأفكار الفطرية" اتى ليتساءل: كيف من الممكن أن تولد أوتنشأ الأفكار،يا ترى؟ "فلنفترض حتى العقل (عند الولادة)، كما يمكن حتى ينطق، صفحة بيضاء خالية من أي رسم أونقش، ومن أية أفكار، فكيف يتأتى تزويده؟.... وعلى هذا السؤال نجيب بحدثة واحدة، من الخبرة، وعليها تبنى جميع الفهم، ومنها تستمد في النهاية(139)". فكل الأفكار مستمدة أما من الإحساس والانعكاس على نتاج إحساسنا. والأحاسيس كلها مادية، ونتائجها العقلية هي الإدراك الحسي، وهو"أولى مواهب العقل"(140).

ولم يجد لوك سبباً للارتياب في إمكان حصولنا على فهم حقيقية سليمة عن العالم الخارجي، ولكنه قبل الرأي الذي أستقر منذ أمد طويل، ألا وهوالتمييز بين الصفات الأولية والصفات الثانوية للأشياء المدركة. أما الصفات الأولية "وهي التي لا يمكن فصلها عن الجسم إطلاقاً، في أية حالة مهما كانت" مثل: الصلابة، الامتداد، الشكل، العدد، والحركة أوالسكون. أما الصفات الثانوية "فليست شيئاً في هذه الأمور نفسها، بل مجرد قوى تحدث فينا إحساسات متعددة بصفاتها الأولية". فالألوان والأصوات والطعوم والروائح صفات ثانوية تحدث فينا بكتلة هذه الأمور وشكلها ونسيجها أوحركتها. أما الأمور نفسها فليس لها لون ولا وزن ولا طعم ولا رائحة ولا صوت ولا حرارة. وكان هذا التمييز قد ظهر منذ البرتوس ماجنوس وتوما الأكويني (القرن 13)، وقد قبله ديكارت وجاليليووهوبز وبويل ونيوتن، ولكن عرض لوك لفكرة التمييز هذه وتوكيده لها هيأ لها انتشاراً واسعاً من جديد. فقد تصور الفهم الآن حتى العالم الخارجي محايد صامت غير متحيز، فقدت أزهاره وثماره عطرها ونكهتها. وربما هبط هذا المفهوم بالشعر إلى الشعر المنثور في "العصر الأوجستي"- أوائل القرن الثامن عشر في إنجلترا، عهد الملكة آن، ولكنه اكتشف في آخر الأمر حتى الصفات المحسة حقيقة مثل الأجسام نفسها، وثارت الرومانسية لنفسها من الكلاسيكية حيث جعلت المشاعر أسمى حقيقة.

وأدى تحليل الشيء أوالجسم إلى صفات، على هذا النحو، إلى هذا السؤال: ما الجوهر الذي يظهر حتى الصفات الأولية تلازمه باعتبارها جزءاً منه،يا ترى؟ وأعترف لوك بأننا لا نعهد من هذا الجوهر الخفي الغامض شيئاً إلا صفاته، فإذا نزعت هذه الصفات فإن الجوهر- أي الأساس الضمني أوالمفهوم ضمنا لهذه الصفات- يفقد جميع معنى له، وظاهراً أيضاً أنه يفقد وجوده(141). وهنا يتدخل باركلي: إذا كنا لا نعهد إلا صفات الأمور أوالأجسام، ونعهد حتى هذه الصفات هي مجرد أفكار، فكل الحقيقة اذن إدراك حسي، وعندئذ يصبح لوك، بطل التجريبية العظيم- الخبرة هي مصدر جميع الفهم- يصبح مثالياً يحيل المادة إلى فكرة: أضف إلى ذلك حتى "العقل" افتراضي مثل الجوهر أوالجسم أوالمادة تماماً. وفي فقرة مشهورة يتجاوز لزك باركلي ويسبق هيوم:

ونفس الشيء يحدث فيما يتعلق بعمليات الذهن، مثل التفكير والاستنتاج والخوف وغيرهما، التي لا نخلص إلى القول بأنها توجد من نفسها ولا نعي كيف من الممكن أن تتبع الجسم أوكيف من الممكن أن يمكن حتى يحدثها الجسم، ولكنا نميل إلى الظن بأنها نشاط جوهر ما نسميه الروح، بواسطتها، ولوأنه من الواضح أنه ليس لدينا فكرة أومفهوم آخر من المادة إلا أنها شيء توجد هذه الصفات المحسوسة التي تؤثر على حواسنا، فأنه كذلك بافتراض جوهر فيه التفكير والفهم والشك والقدرة على الحركة وغيرها، فيكون لدينا فكرة واضحة عن الروح كما هوالحال بالنسبة للجسم: الأولى يفترض (دون حتى نعهد ماهيتها)، إنها جوهر لتلك الأفكار البسيطة التي نستمدها من الخارج، والآخر يفترض (مع نفس القدر من الجهل بماهيته) أنه جوهر لهذه العمليات التي نمارسها في داخل أنفسنا(142).

وحيث أقر حينئذ "بأن فكرتنا عن الجوهر غامضة، أوليس لدينا فكرة إطلاقا عنه في "العالمين" (الخارجي والداخلي) كليهما، وأن الأمر لا يعدو" حتىقد يكون افتراض الجهل بما يدعم هذه الأفكار التي نسميها أحداثاً، فإن لوك يخلص إلى أنه في كلتا الحالتين يسوغ لنا الاعتقاد بوجود جوهر، على الرغم من أننا لا يمكن حتى نعهده: في مادة وراء الصفات المحسوسة أوأنها تبعثها، وفي عقل وراء الأفكار أويحتويها- عامل روحي يؤدي مختلف عمليات الإدراك والتفكير والشعور والإرادة(143).

ومهما يكن من أمر العقل، فإن عملياته كلها من نوع واحد- حركة الأفكار أونشاطها. ويرفض لوك فكرة السكولاسية عن "المواهب" في العقل، مثل التفكير والشعور والإرادة. فالتفكير هواتحاد الأفكار أوالجمع بينها، والشعور هوترجيح فكرة سيكولوجية أوصداها، والإرادة فكرة تنطلق إلى العمل أوالتصرف، مثلما تنزع جميع الأفكار إلى العمل إلا إذا عوقتها فكرة أخرى .ولكن كيف من الممكن أن يمكن حتى تصبح العملية "الروحية" عملية فسيولوجية وحركة مادية،يا ترى؟ إذا لوك يقبل كارهاً ثنائية الجسم المادي والعقل غير المادي، ولكنه في فترة من فترات الطيش يوحي بأن العقل يمكن حتىقد يكون شكلاً من "المادة". وهناك في هذا الصدد تعبير مأثورة عن لوك:

من الممكن أنه لنقد يكون في مقدورنا أبداً حتى نعهد حتى مجرد كائن مادي يفكر أولا يفكر، وحيث أنه يستحيل علينا، بالتأمل في أفكارنا نحن، دون وحي أوإلهام، حتى نكتشف هل زودت القدرة الإلهية بعض أنواع المادة المالية بطبعها، بالقدرة على الإدراك والتفكير، أوأنها (أي القدرة الإلهية) ضمت إلى المادة الميالة على هذا النحو، أوثبتت فيها جوهراً مفكراً غير مادي، فإنه بالنسبة لأفكارنا، ليس يبعد عن الفهم حتى ندرك حتى الله قادر إذا شاء حتى يضيف إلى المادة "موهبة للتفكير"، أكثر من أنه سبحانه وتعالى يمكن حتى يضيف إليها جوهراً آخر فيه موهبة للتفكير.. إذا من يرى كيف من الممكن أن أنه من الصعب، في أفكارنا، توافق الإحساس مع المادة الممتدة، أوتوافق الوجود مع شيء ليس له امتداد إطلاقاً، يفترض أن يقر ويعترف بأنه بعيد جميع البعد عن فهم ماهية نفسه على وجه اليقين... وهذا الذي يطلق لنفسه العنان ليتأمل في حرية... يندر حتى يجد في عقله القدرة على تحديد موقفه تحديداً تاماً من "مادية النفس" سلباً أوإيجابياً(145).

وعلى الرغم من حتى لوك كان قد تغلب بالعمل على الجانب المادي من المعضلة، فإن الإيحاء باحتمال صدقه أوحقيقته، بالنسبة لتيار الفكر في ذاك العصر، أساء إلى الدين القويم إلى حد حتى مائة من المدافعين عن الديانة هاجموه بتهمة أنه أيد "في طيش وتهور" آراء الملحدين. ولم يلقوا بالاً لاحترامه وإجلاله للوحي، ولبيانه القديم "أن الرأي الأرجح والأكثر احتمالاً هوان الشعور مرتبط بجوهر فرد غير مادي، وهوحب هذا الجوهر والتعلق به(146)"، وربما تنبأ هؤلاء المدافعون بأن لامتري وهولباخ وديدرووغيرهم من فلاسفة المادية قد يرون في كلام لوك نزوعاً خفياً إلى وجهة نظرهم.. واتهمه الأسقف ستللنجفليت بمثل هذه النزعة المادية على وجه التحديد، وأنذره بأنها تعرض اللاهوت المسيحي كله للخطر. وتناسى لوك حرصه العهود، وأكد من حديث وبقوة، احتمال صدق الفرضية المادية وظل على خلاف بشأنها مع ستللنجفليت وغيره حتى 1697.

على حتى منطق "العقل الإنساني "على الرغم من نقاده وما فيه من تناقضات وغموض وإبهام، وغير ذلك من الأخطاء، تزايدت قيمته وأهميته وأثره عاماً بعد عام. وتهافت الناس على طبعاته الأربع في الأربعة عشر عاماً التي انقضت بين ظهوره ووفاة مؤلفه لوك. وظهرت له الطبعة بالفرنسية في عام 1700 ، وتقبلوه هناك في إعجاب حماسي. وأصبح حديث الناس في قاعات الاستقبال في إنجلترا. وأكد ترسترام شاندي لسامعيه حتى الرجوع إلى "الموضوع" يمكن أي إنسان من "الابتعاد بنفسه عن التفكير في الميتافيزقيا(147)". وكان تأثيره على باركلي وهيوم عظيماً إلى حد أننا نستطيع حتى نؤرخ بظهوره تحول الفلسفة البريطانية من الميتافيزقيا إلى الفهم. وربما كان لوك ماثلاً في ذهن بوب حين خط "أن الدراسة السليمة للجنس البشري هي الإنسان".

وفي 1700 ظهرت طبعة بالفرنسية للمنطق، ولقيت هناك ترحيباً حماسياً بالغاً. وخط فولتير يقول: "بعد حتى صاغ بعض السادة المفكرين أسطورة رومانسية عن النفس، ظهر رجل واحد حكيم حقاً، وأمدنا بتاريخها السليم في أعظم حالة من التواضع يمكن تصورها. إذا مستر لوك قد كشف للإنسان تشريح النفس، كما لوحتى بعض فهماء التشريح يشرحون الجسم(148)". ونعود فنقول "إن لوك وحده" بسط العقل الإنساني في كتاب لا يضم إلا حقائق وهوكتاب بلغ حد الكمال والإتقان- لأن هذه الحقائق مبسوطة فيه بأحلى بيان(149)" وبات الموضوع الإنجيل السيكولوجي لعصر الاستنارة في فرنسا. وتبنى كونديللاك "الممضى الحسي الذي اتى به لوك وتوسع فيه ومضى إلى حتى شيئاً لم يستجد في فهم النفس فيما بين أرسطوولوك(150)- وهذا إجحاف واضح بالفلاسفة السكولاسيين (العصور الوسطى) وهوبز وينسب دالمبرت، في "بحث تمهيدي في دائرة المعارف" إلى لوك الفضل في خلق الفلسفة الفهمية، كما خلق (في رأيه) نيوتن الفيزياء الفهمية. وعلى الرغم من مجاهرات الموضوع بالمعتقد القويم، فإنه مهد لتجريبية عقلانية، سرعان ما نبذت النفس باعتبارها فرضية غير ضرورية، وانطلقت إلى تطبيق نفس التفكير بالنسبة لله سبحانه وتعالى.


د - الدين والتسامح

لم يتعاطف لوك نفسه مع مثل هذا التطرف، ومهما يكن من أمر شكوكه الخاصة، فإنه أحس، كأي رجل إنجليزي مهذب، بأن السلوك القويم والخلق الكريم يتطلبان من الكنيسة المسيحية دعماً شاملاً. وإذا كانت الفلسفة تنزع عن الناس إيمانهم بعدل الهي كامن وراء جور الحياة وشقائها، فماذا عساها تقدم لتقوية آمال الناس والإبقاء على شجاعتهم،يا ترى؟ تقدم بطيء نحويوتوبيا ديموقراطية،يا ترى؟ ولكن في مثل هذه اليوتوبيا هلا يبتدع الجشع الطبيعي في الناس وعدم المساواة بينهم وسائل جديدة ليستخدم الدهاة والأقوياء غيرهم من البسطاء والضعفاء أويسيئوا استغلالهم؟.

وكان أول همه حتى "يضع المقاييس والحدود بين العقيدة والعقل". وعمد إلى تحقيق هذا في الفصل الثامن عشر من الباب الرابع من الموضوع. "إني أجد جميع شيعة تحاول جهدها، بقدر ما يسعفها العقل، حتى تفيد منه عن طيب خاطر، وحيثما يخفق العقل تصرخ وتصيح بأعلى صوت: تلك مسألة إيمان وعقيدة فوق العقل(151)". إذا جميع ما أوحى به الله حق على وجه اليقين(152)". ولكن التأمل وحده في الدليل المتاح هوالذي ينبئنا إذا كانت الأسفار المقدسة هي حدثة الله، "وليس ثمة قضية يمكن تقبلها على أنها وحي إلهي، إذا كانت تناقض معهدتنا الأكيدة البديهية(153)". وإذا كان في مقدورنا تقرير مسألة ما بمثل هذه الملاحظة المباشرة، فإن معهدتنا تسموعلى أي وحي مزعوم، لأنها أوضح وأكثر توكيداً من أي توكيد بأن هذا الوحي الذي نحن بصدده إلهي حقاً. ومهما يكن من أمر "فهناك أشياء كثيرة لدينا عنها أفكار غامضة ناسيرة، أوليس لدينا عنها أفكار البتة، وثمة أشياء أخرى لا نستطيع بالاستخدام الطبيعي لمواهبنا، الوصول إلى فهم شيء عن وجودها في الماضي أوالحاضر أوالمستقبل، مطلقاً، ولكزنها فوق العقل، فإنها إذا كشفت، تكون "المادة السليمة للعقيدة والإيمان(154)". ويخلص لوك إلى القول: "ليس هناك شيء يناقض أوامر العقل الواضحة البديهية أولا يلتئم معها، يحق له حتى يشجع أويؤكد على أنه مسألة عقيدة لا ولج للعقل فيها(155)" "وثمة أمارة لا تخطئ" على حب الحق. "ألا نهلل ونرحب بأية قضية في توكيد أكبر مما تجيزه الأدلة التي تقوم عليها القضية(156)". "وينبغي حتىقد يكون العقل أول حكم ومرشد لنا في جميع شيء(157)".

ومن ثم نشر لوك في 1695 "معقولية المسيحية كما تنقلها الأسفار المقدسة". وأعاد قراءة العهد الجديد، كما يمكن حتى يقرأ الإنسان كتاباً جديداً، طارحاً جميع التعاليم والتعليقات جانباً (كما نطق). وسيطر عليه نبل السيد المسيح المحبب إلى النفس، وجمال جميع تعاليمه تقريباً، باعتبارها خير آمال الإنسان وأكثرها إشراقاً. وإذا كان ثمة شيء يمكن حتىقد يكون رسالة إلهية فإن هذه القصص وذاك الممضى تبدووكأنهما من عند الله. ورأى لوك حتى يتقبلها جميعاً على أنها مقدسة، بل حتى يقرها أيضاً، في جميع أساسياتها، باعتبارها متفقة جميع الاتفاق مع العقل.

ولكن بدا له حتى هذه الأساسيات أكثر اعتدالاً وبساطة من اللاهوت المعقد في المواد التسع والثلاثين، أواعتراف وستمنستر أوممضى أثناسيوس. واقتبس من الإنجيل فقرة بعد فقرة، لا تطلب كلها من المسيحي إلا حتى يؤمن بالله وبأن المسيح رسول من عند الله. وهنا- كما يقول لوك ديانة بسيطة صريحة واضحة، صالحة لكل إنسان، لا تعتمد على أي فقه أولاهوت. وفيما يتعلق بوجود الله، فقد شعر لوك "بأن أعمال الطبيعة بكل دقائقها أوفى مرشد على وجود الله(158)" وحاول لوك من وجوده هونفسه حتى يبرهن على "سبب أول"، وانتهى إلى حتى مثل هذه الخصائص لا بد حتى تنسب أيضاً إلى الله، والله "عقل سرمدي خالد(159)" وحينما شكا نقاد لوك من أنه أغفل بعض التعاليم الحيوية مثل خلود النفس والعذاب المقيم والنعيم المقيم، أجاب بأنه في الاعتراف بالمسيح ارتضى تعاليمه التي ضمت تلك الآراء والتعاليم. ومن ثم خرج لوك من الباب الذي ولج منه.

ومهما يكن من أمر، فإن لوك ألح على حتى تتمتع بالحرية الكاملة في إنجلترا جميع المذاهب المسيحية فيما خلا الكثلكة. وكان قد خط منطقاً عن التسامح في 1666. وعندما ارتحل إلى هولندا 1683 عثر هناك من حرية العبادة أكثر مما كان في إنجلترا. ولا بد أنه قرأ أثناء أقامته في هولندا دفاع بيل القوي عن التسامح الديني(1686). وحركت مشاعره هجرة الهيجونوت واضطهادهم (1685) فخط إلى صديقه لمبروخ رسالة استحث نشرها. فطبعت باللاتينية 1689 تحت عنوان "رسالة في التسامح" وظهرت ترجمتها إلى الإنجليزية قبل نهاية العام. واستنكرها أحد أساتذة أكسفورد، فدافع عنها لوك، وكان آنذاك في إنجلترا، في رسالة ثانية وثالثة" عن التسامح في 1690slash1692. ولم يحقق قانون التسامح الذي صدر في 1689 من مقترحات لوك إلا قليلاً جداً، ذلك حتى القانون استبعد الكاثوليك والتوحيديين واليهود والوثنيين وحظر تولي الشئون العامة على المخالفين. إذا لوك أيضاً أتى باستثناءات فلم يكن ليتسامح مع الملحدين حيث رأى أنهم غير أهل للثقة ما داموا لا يخشون إلهاً ولا ديانة تسقط عذاباً مادياً، بالتضحية بالإنسان مثلاً، ولم يتسامح مع ممضى يحتاج الولاء لسلطة أجنبية، ومفهوم أنه كان يعني الكثلكة(160). ونادى صراحة إلى التسامح مع المشيخيين والمستقلين، وأنصار تجديد العماد، والأرمينيين والكويكرز. ولم يتجاسر على القول بالتسامح مع التوحيديين ولوحتى أرل شافتسبري الأول الذي قضي نحبه في أمستردام 1683 كان قد ذكر أنه قد استقى ممضى الأرمينيين والتوحيديين من سكرتيره لوك(161).

ونطق لوك بأن القانون ينبغي حتى يهتم فقط بالحافظة على النظام الاجتماعي. فإن القانون الحق في القضاء على جميع ما من شأنه العمل على التخريب في الدولة، ولكن ليس له ولاية ولا سلطان على نفوس الناس، وليس لآية الكنيسة سلطة لإرغام الناس على مشايعتها.. فما أسخف حتى يعاقب الناس في الدنمرك لأنهم غير لوثريين، أوفي جنيف لأنهم لا يتبعون ممضى كلفن، أوفي فيينا لأنهم لا يعتنقون الممضى الكاثوليكي. وفوق جميع شيء، أي فرد أوأية جماعة أتيح لها إدراك الحقيقة كاملة عن حياة البشر ومصير الإنسان،يا ترى؟ ولحظ لوك حتى معظم الديانات تنادي بالتسامح في أيان ضعفها، ولكنها تأباه في أيام قوتها.. ورأى حتى الاضطهاد مصدره شهوة السلطان والسيطرة، والحقد المقنع في ثياب الغيرة الدينية. والاضطهاد يصنع المنافقين، أما التسامح فإنه يشجع الفهم والحق، وكيف يعمد المسيحي إلى الاضطهاد والتعذيب والإساءة، وقد أخذ على نفسه عهداً بالبر والإحسان ومحبة الناس،يا ترى؟ وواصل لوك حملته من أجل التسامح حتى غابت شمس حياته.

وكان منهمكاً في كتابة رسالة رابعة في نفس الموضوع حين وافته المنية. وعاجله الموت 1704 بينما كان جالساً يصغي إلى ليدي ماشام تتلوالمزامير.

وحتى قبل موته كان قد وصل في مجال الفلسفة إلى مكانة لم يسم عليها إلى نيوتن في ميدان العلوم. وتحدثت عنه بالعمل بأنه "الفيلسوف" وعلى حين ختم حياته على تقوى قوية تقليدية تقريباً، فإن خطه التي لم تكن لتتغير مع الزمن، انتقلت عن طريق الطبعات والترجمات الكثيرة إلى فكر أوربا المتفهمة المثقفة. نطق شبنجلر: "إن الاستنارة الغربية من أصل إنجليزي ونبعت كلا عقلانية القارة من لوك(162)". وليست كلها بطبيعة الحال. ولكن فيمن يمكن للمرء الآن حتى يغامر بمثل هذه المبالغة أوالإغراق؟.

شافتسبري 1671-1713

كان أنطوني آشلي كوبر، أرل شافتسبري الثالث، تلميذ لوك. مفخرة مفهمه. لا لأن لوك كان مسئولاً عن أسلوبه، فإن العالم النفساني البحاثة خط نثراً مبتذلاً، بسيطاً واضحاً عادة (وهنا يكمن الخطر)، ولكنه قلما كان نثراً جميلاً، فإن شافتسبري ذا الفراغ والجدة، خط في تهذيب واثق، ونادىبة متسامحة، ورشاقة غالية (فرنسية) تقريباً-فقد تنازل السيد الإقطاعي الإنجليزي حتىقد يكون فيلسوفاً. ويجدر بنا حتى نقف عنده قليلاً لأنهقد يكون مؤسس فهم الجمال في الفلسفة الحديثة، وبإنقاذه الوجدان والتعاطف من أيدي هوبز ولوك، غذى فيض العاطفة الذي بلاغ ذروته عند روسو.

وتحت إشراف لوك، وعلى نهجه في تعليم اللغة بالمحادثة، مكنت اليزابث بيرش التي كانت تحذق اليونانية واللاتينية، أنطوني من قراءة كلتا اللغتين بسهولة وهوفي سن الحادية عشرة، ثم التحق بمدرسة ونشستر، وتجول لمدة ثلاثة أعوام تفهم في أثنائها الفرنسية وأساليب الحياة الفرنسية، ومال إلى الفن ميلاً لا بد أنه بدا غير لائق بلورد إنجليزي. ودخل البرلمان لمدة عام واحد-وهذا كاف جداً ليظهره على "جور وفساد الحزبين كليهما(163)". ولكن دخان لندن زاد من وطأة الربوعليه فعاد أدراجه إلى هولندا، حيث عثر الجوالفكري نابضاً بفلسفة سبينوزا وبيل، ومذ حصل على لقب أرل 1690 فإنه قضي بقية أيام حياته في ضيعته الريفية. وتزوج قبل وفاته بأربع سنوات، وكم كانت دهشته حين عثر أنه سعيد كما كان من قبل(164). وفي 1711 نشرة مجموعة منطقاته تحت عنوان تام "خصائص الإنسان، العادات، الآراء، العصر الحاضر. ولم يمتد به الأجل لأكثر من اثنين وارعين عاماً، حيث فارق الحياة في 1713.

ولم يكن متسقطاً من رجل ورث هذا الثراء العريض على الأرض حتى يعنى بأمر السماء أويقلق باله من أجلها. إنه استنكر "الغيرة"-التي كان زمانه يعني بها التعصب-غيرة الإنجليز الذين ظنوا إنهم إنما ينطلقون بالوحي الإلهي. إذا أية عاطفة جامحة أوكلام عنيف في رأي شافتسبري دلالة على سوء التربية، ولكنه رأى أنه من الحكمة حتى يسخر منهم أكثر من حتى يعذبهم. والحق أنه بدا له حتى الظرف والنادىبة اللتين جعلهما موضوع رسالته الأصلية الخلاقة، هما خير مدخل لأي شيء، حتى اللاهوت. واتفق مع بيل على حتى الملحدين مواطنون مهذبون، وأنهم أساءوا إلى الدين والأخلاق أقل مما عملت وحشية العقائد التي سيطرت واستغلت نفوذها. واعترض على "عبادة وحب اله قلب حول شديد الغيظ، عرضة للحنق والغضب، مهتاج محب للانتقام... يشجع الخداع والخيانة بين الناس، يرضى على قلة من الناس ويقسوعلى سائر الناس(166)". وعجب مما كان لمثل هذا المفهوم عن المعبود من أثر على خلق الإنسان وسلوكه. ومضى إلى أنه من الخسة والجبن ألا يتحلى الإنسان بالفضيلة إلا أملاً في الثواب أوخوفاً من العقاب. فالفضيلة لا تكون حقيقية صادقة إلا إذا تحلى بها المرء من أجلها هي. ومهما يكن من أمر، وما دام الإنسان هوعلى ما عليه، فمن الضروري حتى يغرس في نفسه الإيمان بمثل هذا الثواب والعقاب في المستقبل(167). "إنه من صادق الإنسانية والشفقة إخفاء الحقائق الهامة عن القلوب الواهنة.... وقد يحدث لزاماً ألا يتحدث العقلاء إلا رمزاً(168)"، إلى غير ذلك دافع شافتسبري عن الكنيسة رسمية، وحاول حتى يوفق بين الإيمان بوجود إله واحد في الفلسفة متفائلة أوجزت الرذيلة في أنها هوى إنساني(169). ومع ذلك فإن الكساندر بوب رأى حتى كتاب "خواص الإنسان" أساء إلى الديانة المنزلة في إنجلترا أكثر مما أساءت جميع مؤلفات الكفار السافرين غير المتحفظين(170).

واتفق شافتسبري مع أرسطوولوك على ان السعادة هي الهدف المشروع لأفعال الإنسان، وعهد الفلسفة بأنها "دراسة السعادة(171)". ولكنه عارض الهبوط بكل الدوافع الإنسانية إلى مجرد أنانية أومصلحة شخصية، وطبقاً لهذا التحليل (الذي بسطه هوبز ولاروشفوكول حديثاً):

يكون التلطف والكرم الإنساني تجاه الغرباء أوالناس في وقت الشدة، مجرد أنانية أكثر تعمداً. والقلب المخلص الأمين قلب أشد مكراً، والأمانة والود مجرد حب للذات، ولكنه حب أحسن تنظيماً وضبطاً. وحب الأقارب والأبناء والذرية إنما هوحب خالص للنفس وللدم المباشر للإنسان... والشهامة والشجاعة، لا ريب، تكيف أوتعديل لحب النفس الكامل هذا(172). وعلى عكس هذا الرأي، زعم شافتسبري حتى الطبيعة الإنسانية مزودة بشكل مضاعف بغرائز للنفع الشخصي، وغرائز للعيش في جماعة. وأتعقد حتى المجتمع والدولة ما نشأتا عن العقد الاجتماعي. بل عن "مبدأ القطيع" أونزعة التزامل... وهي نزعة طبيعية قوية في معظم البشر(173)وهناك "عواطف طبيعية قائمة في حب الجنس البشري. وفي محاولة إرضائه، والشعور الودي نحوه والتعاطف معه.... وتوافر هذه العواطف في بالغ قوتها معناه توافر الوسائل الأساسية للمتعة الذاتية، أما الافتقار إليها فهوالتعاسة والسقم المحققان(174)". وكون المرء "طيباً صالحاً" معناه توجيه جميع ميوله ونزعاته توجيهاً مستقيماً ثابتاً نحوخير الجماعة، وحدثا كبرت الجماعة التي توحي بهذه المشاعر وتبثها، حسنت حال النسا فيها. والشعور بهذا التعاطف الاجتماعي هوالوعي الأخلاقي. وهذا شيء فطري، لا من حيث المتطلبات النوعية (التي تختلف من جماعة إلى جماعة) ولكن من حيث أساسه الغريزي، "الإحساس بالصواب والخطأ، وهوفنياً أمر طبيعي مثل الميل الطبيعي نفسه، وهومن أول المبادئ في تكويننا(175)".

وانتقل شافتسبري من فهم الأخلاق إلى فهم الجمال بالمطابقة بينهما. فالطيب والجميل شيء واحد، فالخلق الحسن "هوتذوق الجمال واستساغة جميع ما مهذب محتشم"، ومن ثم نتحدث عن أعمال معادية لمصلحة المجتمع بأنها قبيحة، حيث أنها تسيء إلى هذا التناسق بين الجزء والكل، وهوصلاح وجمال معاً. ويستطيع المرء حتى يجعل من حياته عملاً من أعمال الفن-من الوحدة والتناسق-بتنمية إحساس جمالي ستكون الأخلاقيات فيه أحد العناصر، والرجل "الذي نشأ خير تنشئة" (هكذا افترض الأرستقراطي شافتسبري) يعمل هذا. وهوبحكم تربيته وتدريبه "لا يقبل حتى يأتي عملاً نكراً أووحشياً(176)" إذا ما تشكل لديه من ذوق طيب لا بد حتى يوجهه في السلوك وفي الفن معاً. والحق أيضاً لون من الجمال فهوتناسق أجزاء الفهم مع الكل. ومن هنا نحا شافتسبري نحوالكلاسيكية في الفن. وبدأ له الشكل والوحدة والتناسق أساسيات التفوق في الشعر والعمارة والنحت، وهي أقل ضرورة وامتياز في الرسم بالألوان منها في الرسم العادي. وكان في العصر الحديث أول من جعل الجمال مسألة أساسية في الفلسفة، وهوالذي بدأ البحث الذي بلغ ذروته، في أواخر القرن الثامن عشر بلورد كامس وبيرك.

كان هذا جانباً من تأثير شافتسبري، وهناك جوانب أخرى كثيرة. إذا توكيده على الوجدان أثر على الحركة الرومانتيكية، وبخاصة في ألمانيا، عن طريق لسنج وشيلر وجوته وهردر-الذين أسموه "أفلاطون أوربا المحبوب(177)" وظهر هذا الأثر في فرنسا في ديدروكما ظهر في روسو. أما تفسيره للدين بأنه ضعيف من الناحية النظرية، ولكنه أمر لا يستغني عنه من الناحية الأخلاقية، فقد كان له أثر في أفكار كانت العملية. وظهر توكيده على التعاطف مرة ثانية باعتباره أساس الأخلاق، عند هيوم وآدم سميث. وأسهمت أفكاره عن الفن في تشكيل نشوة ونحدثان الأصيلة الممتازة. إنه بدأ حياته تلميذاً لجون لوك المفكر والذي لم يعن كثيراً بالجماليات فأصبح (وربما بحكم المقاومة الطبيعية في جميع جيل لمنشئه) فيلسوف الوجدان والعاطفة والجمال. وحيث كان يحب الأسلوب الكلاسيكي في الفن، فقد أصبح مصدر إحياء الرومانتيكية في قارة أوربا، ولوحتى الشعر والعمارة في إنجلترا تبعتا نزعته الكلاسيكة. وكان له الفضل والفخر في أنه جعل الفلسفة تشرق برقة الأسلوب ورشاقته مما أعاد إلى الذاكرة أفلاطون، ولم ينافسه في هذا بعد ذلك إلا باركلي.


جورج بركلي 1685-1753

ولد في ديرت كاسل في مقاطعة كيلكني. وفي سن الخامسة عشرة التحق بكلية ترنتي في دبلن. وفي سن العشرين أسس نادياً لدراسة "الفلسفة الجديدة"، ويقصد بها لوك. وفي الحادية والعشرين بدأ في "الكتاب العادي" وتلك فكرة كان يأمل من ورائها حتى يقضي على "المادية" إلى الأبد: أي أنه ليس ثمة شيء موجود إلا إذا كان مدركاً بالحواس، ومن ثم فإن العقل هوالحقيقة الواقعة، والمادة أسطورة أوخرافة:

كما كان ممضى المادة أوالجوهر المادي، السند والنادىمة الأساسيتان للتشكك، فإنه على نفس الركيزة أقيمت المبادئ البعيدة عن التقى والورع في الإلحاد والمروق عن الدين.... وكم كان الجوهر المادي صديقاً حميماً للملحدين في جميع العصور، ممن لسنا في حاجة لذكرهم. حتى جميع نظمهم الرهيبة البشعة تعتمد عليه اعتماداً سافراً أساسياً، حتى إذا ما انهارت يوماً هذه الركيزة، أوحجر الزاوية في ممضىهم، فإن جميع الكيان لم يلبث حتى أنهار، مما لا يستحق معه حتى نلقي نظرة خاصة إلى حماقات جميع شيعة من هؤلاء الملحدين(178).

إلى غير ذلك في السنين السبع التالية، وقبل حتى يتم التاسعة والعشرين أصدر بارلكي أبرز أعماله: "بحث عن نظرية جديدة للرؤية" (1709)، رسالة عن أصول العقل البشري (1710)، "ثلاث محاورات بين هيلاسي وفيلونوس في معارضة المتشككين والملحدين" (1713). وكانت الرسالة الأولى إضافة رائعة إلى فهم النفس والبصريات، كما هزت الرسالتان الخيرتان الفلسفة من الأعماق.

ونبعث رسالة الرؤية من بترة لجون لوك يروي فيها كيف من الممكن أن حتى وليم مولينكس (مدرس في كلية ترنتي، دبلن) أثار أمامه مسألة: هل يستطيع إنسان ولد أعمى، حتى يميز بعد استرداد بصره، بالبصر وحده، بين جسم كروي وآخر مكعب إذا كان كلاهما من نفس المادة وفي نفس الحجم. واتفق رأي مولينكس ولوك سلباً. واتفق باركلي معهما وأضاف تحليله الخاص. إذا البصر لا يهيئ لنا إدراكاً حسياً للبعد والحجم والمواقع أوالحركات النسبية للأجسام، إلا بعد التسليمات التي تجريها حاسة اللمس، وعن طريق التجارب المتكررة يصبح هذا التسليم لحظياً تقريباً، وعندئذ يزودنا البصر بمثل هذا الحكم على شكل الأجسام المرئية وبعدها ومكانها وحركتها، كما لوأننا لمسناها:

إن الإنسان الذي ولد أعمى، ثم أعيد إليه بصره، لنقد يكون لديه في أول الأمر فكرة عن البعد عن طريق البصر فإن الشمس والنجوم، وأبعد الأجسام وأقربها على حد سواء، تبدوفي عينه، بل في عقله، فالأجسام التي تدخل عن طريق البصر، لا تبدوله (كما هي في الحقيقة) إلا مجرد طائفة جديدة من الأفكار والأحاسيس، جميع منها قريب الإحساس بالألم واللذة أوأشد الأحاسيس الداخلية في النفس.. أما حكمنا على الأجسام المدركة بالبصر، على أي بعد، أوبدون العقل، فإنه حكم مبني تماماً على التجربة(180).

فالفضاء حينئذ هجريب عقلي، إنه أسلوب للعلاقات التي تبنى عن طريق الخبرة للتوفيق بين مدركاتنا بالبصر وباللمس. وأكدت العمليات التي وردت في تقارير الجمعية الملكية (1709-1728) وجهة النظر هذه: فإن فرداً مولوداً أعمى، أعيد إليه بصره عن طريق جراحة أجريت له، كان في أول الأمر "أبعد ماقد يكون عن الحكم على الأبعاد، إلى حد أنه افترض حتى جميع الأجسام أياً كانت لمست عينيه... ولم يدرك شكل أي شيء، ولم يميز بين الأمور، مهما اختلفت في الشكل أوالحجم(181)".

وكان كتاب "أصول الفهم الإنسانية" نتاجاً رائعاً جديراً بالذكر لفتى في الخامسة والعشرين. ومرة أخرى تعرض باركلي لمنطق لوك. إذا كانت جميع الفهم تأتي عن طريق الحواس، وليس ثمة شيء له حقيقية واقعة لدينا إلا إذا كنا ندركه أوقد أدركناه إدراكاً حسياً، "موجود أي أنه مدرك". وكان لوك كان قد مضى إلى حتى المدركات قد أحدثتها أشياء خارجية تضغط على أعضاء الحس فينا. وهنا تساءل باركلي: كيف من الممكن أن تعهد حتى مثل هذه الأمور (الخارجية) موجودة،يا ترى؟ ألسنا نرى في أحلامنا أفكاراً واضحة مشرقة. وضوح وإشراق ما نراه منها في اليقظة. حتى لوك حاول حتى ينقذ استقلال الحقيقة الواقعة للأشياء بالتمييز بين صفاتها الأولية والثانوية، فهذه الخيرة ذاتية "في العقل"، والصفات الأخرى-الامتداد، الصلابة، الشكل، العدد، الحركة، السكون-موضوعية، توجد في جوهر خفي غامض اعترف لوك بأنه لا يعهد عنه شيئاً، ولكنه، هووالعالم بأسره، جعلوه "والمادة" شيئاً واحداً. والآن أعرب باركلي حتى الصفات الأولية ذاتية مثل الثانوية تماماً، وأننا لا نعهد امتداد الأمور وصلابتها وشكلها وعددها وحركتها وسكونها، إلا عن طريق الإدراك الحسي، وأن الصفات الأولية، بناء على ذلك، ذاتي أيضاً، أي أنها أفكار. والعالم بالنسبة لنا طائفة من المدركات الحسية، "إن العقل هوالذي يشكل هذه المجموعة المتنوعة من الأجسام التي يتألف منها العالم المرئي، ولا يتأتى لأي منها حتىقد يكون موجوداً لفترة أطول مما هومدرك(182)انزع عن "المادة" صفاتها الأولية والثانوية معاً، تصبح المادة عدماً لا معنى له. وعندئذ يهجر "المادي" ليلعق عدماً(183).

وكان باركلي على وعي تام بأن آخرين، فضلاً على الماديين قد يعترضون على تبخر العالم الخارجي بمثل هذه البراعة الخادعة. ولم يعجز عن الرد حين سئل: هل يتوقف وجود أثاث المنزل في حجراتنا إذا لم يوجد من يدركه أويراه(184). إنه لم ينكر حقيقة عالم خارجي لمدركاتنا(185)، وكل ما أنكره هو"مادية" العالم. ويمكن حتى تستمر الأمور الخارجية موجودة ولولم ندركها أونراها، وما ذاك إلا لأنها موجودة باعتبارها مدركات في عقل الله(186)، واستطرد يقول إذا احساساتنا في الحقيقة تسببها، لا المادة الخارجية، بل القوة الإلهية التي تؤثر في حواسنا. والروح فقط هي التي تؤثر في الروح. والله هوالمصدر الوحيد لكل أحاسيسنا وأفكارنا(187).

ومضى معاصروباركلي إلى حتى هذا لهوإيرلندي، وخط لورد تشسترفيلد إلى ابنه:-

أن الدكتور باركلي الرجل الفاضل العبقري العالم، ألف كتاباً ليثبت أنه ليس هناك شيء مما يسمونه المادة، وأنه لا يوجد شيء إلا فكرة... وحججه مفحمة، بكل معنى الحدثة، ولكني أبعد ما أكون عن الاقتناع بها، إلى حد أني مصمم على حتى آكل وأشرب وأمشي وأركب، حتى أحفظ تلك "المادة" التي أتصور خطأ، في الوقت الحاضر، حتى جسمي يتكون منها، على أحسن حالة ممكنة(188).

وكل العالم يعهد ما بذل دكتور جونسون من جهد عظيم في الرد على دكتور باركلي:

يقول بوزول: بعد خروجنا من الكنيسة، وقفنا لبعض الوقت معاً نتحدث عن سفسطة الأسقف باركلي أومغالطته البارعة لإثبات عدم وجود المادة، وأن جميع شيء في الكون مجرد أفكار، ولاحظت أنه على الرغم من أننا قانعون بأنها غير سليمة، فإنه من المتعذ1ر دحضها. وأن أنسي لن أنسي اندفاع جونسون في الرد، وهويضرب بقدمه وبقوة شديدة حجراً كبيراً حتى أزاحه فارتد وسمع له صوت، ونطق: "إني أدحضها هكذا(189)".

وربما كان من الجائر بطبيعة الحال حتى يوضح باركلي للرجل العظيم (دكتور جونسون) حتى جميع ما عهد عن الحجر، بما في ذلك الألم الذي أصاب إصبع قدمه، كان ذاتياً: مجموعة من المدركات الحسية تسمى حجراً، مختلطة مع طائفة أخرى من الأحاسيس السمعية تسمى بوزول، ومجموعة من الأفكار التي تفهمتها والتي أشرب بها تسمى فلسفة، ولدت كلها استجابة أنتجت طاقة أخرى من الأحاسيس. واتفق هيوم مع بوزول وتشسترفيلد في حتى حجج باركلي "لا تدع مجالاً لأي رد، ولا تؤدي إلى اقتناع"(190). ورأى هيوم حتى لغز باركلي ساحر، ولكنه استخلص منه نتيجة مدمرة. وسلم بأن "المادة" تتلاشى عندما نسلبها صفاتها التي تنسبها إليها مدركاتنا الحسية ولكنه أوحى بأن نفس الشيء قد ينطق عن "العقل". ولقد رأينا عرض لوك المسبق لهذه النقطة. لكن باركلي تنبأ بها أيضاً. فإنه في المحاورة الثالثة جعل هيلاس يتحدى فيلونوس:

أنت تعهد، حقاً بأنك ليس لديك أية فكرة عن نفسك.... وتسلم مع ذلك بأن هناك جوهراً روحياً، وعلى الرغم من أنه ليس لديك أية فكرة عنه، بينما تنكر إمكان وجود جوهر مادي، لأنه ليس لديك أي مفهوم أوفكرة عنه. فهل هذا من الإنصاف في شيء؟.... أما أنا فيبدولي، طبقاً لكيفية تفكيرك، وبناء على مبادئك، حتى هذا يستتبع أنك مجرد جهاز من أفكار عائمة، دون جوهر يساندها. حتى الحدثات لا يمكن استخدامها دون معنى وحيث أنه ليس في الجوهر الروحي معنى أكثر مما هوفي الجوهر المادي، فيجب تسفيه كليهما سواء بسواء(191). ويرد فيلونوس (نصير العقل) على هيلاس (الذي يمثل المادة): كم من مرة يجب حتى أعيد وأكرر أني اعهد أوأني أعي وجودي وجوهري، وإني أنا نفسي، لا أفكاري، بل شيء آخر عنصر مفكر فعال يدرك بالحواس، ويعهد، ويريد، ويعمل حول الأفكار. أنا أعهد أني بالذات، استوعب الألوان والأصوات، وأن اللون لا يدرك الصوت، ولا الصوت يدرك اللون، وأني لذلك عنصر فرد، متميز عن اللون والصوت(192).

ولم يقتنع هيوم بهذا الجواب، وانتهي إلى حتى باركلي، طوعاً أوكرهاً، دمر المادة والروح كلتيهما، وأن كتابات الأسقف اللامع الذي تطلع إلى الدفاع عن الدين، "تشكل أحسن دروس التشكك التي يمكن العثور عليها عند الفلاسفة القدامى والمحدثين على حد سواء، ودون استثناء بيل(193)".

وعمر باركلي أربعين عاماً بعد نشر رسائله الثلاث. وفي 1724 عين رئيساً لكاتدرائية دري. وفي 1728 أبحر، بناء على وعد من الحكومة بإمداده بمعونة مالية، إلى برمودا لينشئ فيها كلية "لتقويم عادات الإنجليز في مزارعنا في الغرب-المستعمرات-، ونشر الإنجيل بين الأمريكيين الهمجيين-(194). ووصل إلى نيوبورت في رود أيلند ينتظر ورود المنحة الموعودة وقدرها عشرون ألفاً من الجنيهات التي لم يصل منها شيء. وهناك ألف كتاب "الفيلسوف الصغير" ليضع حداً لكل الشكوك الدينية. وهجر بصماته على ذهن جوناثان ادواردز، وخط بيتاً مشهوراً "أن الإمبراطورية تشق طريقهما غرباً". وبعد ثلاث سنوات من تسقطات لا طائل تحتها عاد إلى إنجلترا. وفي 1734 عين أسقفاً في كلوين. وقد رأينا كيف من الممكن أن حتى فانيسا صديقة سوبفت جعلته أحد منفذي وصيتها وهجرت له نصف ثروتها. وفي 1744 نشر رسالة غريبة "مزايا ماء القطران" الذي قدمه إليه هؤلاء الهمجيون الذين تجاوز ذكرهم، والذي أوصى به الآن علاجاً للجدري. وقضي نحيه في أكسفورد في 1753 بعد حياة دامت ثمانية وستين عاماً.

ولم يبزه أحد في إثبات عدم واقعية الواقع. وفي جهوده لاستعادة الإيمان الديني وتطهيره البلاد من مادية هوبز التي كانت تلوث إنجلترا وتفسدها، قلب الفلسفة رأساً على عقب، وجعل "كل طبقات السماء وكل ما على الأرض.... جميع تلك الأجسام التي تؤلف هيكل الجبار للعالم بأسره(195)"، موجودة بالنسبة للإنسان، باعتبارها مجرد أفكار في عقله. وكانت مغامرة محفوظة بالمخاطر، وربما ارتاع باركلي نفسه إذا عثر هيوم وكانت يقتبسان من مبادئه التقية الورعة نقداً للعقل لم يهجر أية تعاليم أساسية في صرح الدينة المسيحية العريقة الحبيبة إلا زعزع أركانها. أننا لنعجب بدقة نسيج العنكبوت الذي اتى به، ونسلم بأنه منذ أفلاطون لم يخط أحد مثل هذا الهراء الخلاب. وسنرى أثره في جميع مكان من بريطانيا وألمانيا في القرن الثامن عشر، وكان الأثر أقل في فرنسا، ولكنه تعاظم في تعويذة نظرية المعروفة غير المفهومة عند أتباع كانت في القرن التاسع عشر. وحتى في يومنا هذا لم تقرر الفلسفة الأوربية بعد قراراً حاسماً وجود العالم الخارجي. وحتى توطن هذه الفلسفة نفسها على أقصي احتمال في هذا المجال، وتقابل مشاكل الحياة والموت، فإن العالم يفترض أن يغفلها ويتغاضى عنها.

أن هذه الفترة كانت في حقيقتها أزهى فترات الفلسفة الإنجليزية. حتى الناقوس الذي كان فرانسيس بيكون قد دقه لدعوة المفكرين للعمل بعضهم مع بعض، كان قد سمع بعد حتى خمد أوار الحرب الأهلية. وكان هوبز جسراً فوق هذا الفراغ الغبي، وكان نيوتن الرافعة التي حرك عليها نيوتن اللاهوت. وكان لوك القمة التي تحدرت منها مسائل الفلسفة الحديثة في رؤية صافية واضحة. ومن هذا الرباعي الإنجليزي الذي سرعان ما أغراه هيوم الحكيم الغريب بالإثم، ولج إلى فرنسا وألمانيا تأثير قوي. ولم يكن المفكرون الفرنسيون في تلك الفترة على نفس القدر من العمق والأصالة مثل الإنجليز، ولكنهم أكثر لمعاناً وإشراقاً، من ناحية لأنهم "غاليون"، ومن ناحية أخرى لأن الرقابة الأشد صرامة أرغمتهم على إفراغ همهم في الشكل، ووضع حكمتهم في الرقة والظرف. ثم اتى فولتير إلى إنجلترا 1726، فلما عاد حمل في جعبته أفكار نيوتن ولوك بعد ذلك فهم إنجلترا وفلسفتها أسلحة لتمحوضلالة الخرافة والغموض والجهل. إذا قابلة إنجليزية سهرت على ولادة الاستنارة الفرنسية.

ديڤد هيوم

ديڤد هيوم (1711–1776) was a Scottish philosopher, economist, and historian. His major works, A Treatise of Human Nature (1739–1740), the An Enquiry concerning Human Understanding (1748), An Enquiry Concerning the Principles of Morals (1751), and Dialogues Concerning Natural Religion (1779) remain widely influential. His ideas regarding free will and determinism, causation, personal identity, induction, and morality still inspire discussion.

Hume famously described the problem of induction. He argues that inductive reasoning cannot be rationally employed, since, in order to justify induction, one would either have to provide a sound deductive argument or an inductively strong argument. But there is no sound deductive argument for induction, and to ask for an inductive argument to justify induction would be to beg the question.

Hume's problem of causation is related to his problem of induction. He held that there is no empirical access to the supposed necessary connection between cause and effect. In seeking to justify the belief that A causes B, one would point out that, in the past, B has always closely followed A in both space and time. But the special necessary connection that is supposed to be causation is never given to us in experience. We only observe a constant conjunction of events, with no necessity whatsoever.

In personal identity, Hume was a bundle theorist. He said that there is no robust self to which properties adhere. Experience only shows us that there is only a bundle of perceptions.

أدم سميث

Adam Smith (1723–1790) was a Scottish moral philosopher and a pioneer of political economics. Smith wrote The Theory of Moral Sentiments and An Inquiry into the Nature and Causes of the Wealth of Nations. The latter, usually abbreviated as The Wealth of Nations, is considered his magnum opus and the first modern work of economics. Smith is widely cited as the father of modern economics.

Smith studied moral philosophy at the University of Glasgow and the University of Oxford. After graduating, he delivered a successful series of public lectures at Edinburgh, leading him to collaborate with David Hume during the Scottish Enlightenment. Smith obtained a professorship at Glasgow teaching moral philosophy, and during this time he wrote and published The Theory of Moral Sentiments.

القرن 19

جرمي بنتام

جرمي بنتام (1748–1832) is well known for beginning the tradition of classical utilitarianism in Britain. Utilitarianism is a consequentialist theory of normative ethics which holds that an act is morally right if and only if that act maximizes happiness or pleasure. Classical utilitarianism is said to be hedonistic because it regards pleasure as the only intrinsic good and pain as the only intrinsic evil.

جون ستوارت مل

جون ستوارت مل (1806–1873) was an influential contributor to social theory, political theory, and political economy. His conception of liberty justified the freedom of the individual in opposition to unlimited state control.

Mill also continued Bentham's tradition of advancing and defending utilitarianism. Mill's book Utilitarianism is a philosophical defense of utilitarianism. The essay first appeared as a series of three articles published in Fraser's Magazine in 1861; the articles were collected and reprinted as a single book in 1863.

هنري سدج‌ويك

هنري سدج‌ويك (1838–1900) also focused on utilitarian ethics and was one of the founders and first president of the Society for Psychical Research, was a member of the Metaphysical Society, and promoted the higher education of women. The Methods of Ethics is a book on utilitarianism written by Sidgwick that was first published in 1874. The Stanford Encyclopedia of Philosophy indicates that The Methods of Ethics "in many ways marked the culmination of the classical utilitarian tradition." Well-known contemporary utilitarian philosopher Peter Singer has said that the Methods "is simply the best book on ethics ever written."

المثالية البريطانية

As an area of absolute idealism, British idealism was a philosophical movement that was influential in Britain from the mid-nineteenth century to the early twentieth century. Important representatives included T.H. Green, F.H. Bradley, Bernard Bosanquet, J. M. E. McTaggart, H. H. Joachim, J. H. Muirhead, and G. R. G. Mure. Two British philosophers, G. E. Moore and Bertrand Russell, were brought up in this tradition and then reacted against it by pioneering analytic philosophy.

القرن العشرون وما بعده

الفلسفة التحليلية

Analytic philosophy was based on traditional British empiricism, updated to accommodate the new developments in logic pioneered by German mathematician Gottlob Frege. It has dominated philosophy in the English-speaking world since the early 20th century.

ج.إ. مور

George Edward Moore OM (1873–1958) was an English philosopher. One of the founders of the analytic tradition, he led the British 'revolt against idealism' at the turn of the twentieth century, along with Bertrand Russell - while Russell is better known, he stated that it was in fact Moore who "led the way".

برتراند رسل

Bertrand Russell (1872–1970) led the British "revolt against idealism" in the early 1900s, along with G.E. Moore. He was influenced by Gottlob Frege, and was the mentor of Ludwig Wittgenstein. He is widely held to be one of the 20th century's premier logicians. He co-authored, with Alfred North Whitehead, Principia Mathematica, an attempt to derive all mathematical truths from a set of axioms using rules of inference in symbolic logic. His philosophical essay "On Denoting" has been considered a "paradigm of philosophy." Both works have had a considerable influence on logic, mathematics, set theory, linguistics, and philosophy.

Russell's theory of descriptions has been profoundly influential in the philosophy of language and the analysis of definite descriptions. His theory was first developed in his 1905 paper "On Denoting".

Russell was a prominent anti-war activist; he championed free trade and anti-imperialism. Russell went to prison for his pacifist activism during World War I. Later, he campaigned against Adolf Hitler, then criticised Stalinist totalitarianism, attacked the United States of America's involvement in the حرب ڤيتنام, and finally became an outspoken proponent of nuclear disarmament.

In 1950, Russell was awarded the Nobel Prize in Literature, "in recognition of his varied and significant writings in which he champions humanitarian ideals and freedom of thought."

أ.ج. آير

Sir Alfred Jules Ayer (29 October 1910, London – 27 June 1989, London), better known as A. J. Ayer or "Freddie" to friends, was a British analytic philosopher known for his promotion of logical positivism, particularly in his books Language, Truth and Logic (1936) and The Problem of Knowledge (1956).

فلسفة اللغة العادية

Ordinary language philosophy is a philosophical school that approaches traditional philosophical problems as rooted in misunderstandings that philosophers develop by forgetting what words mean in their everyday use.

This approach typically involves eschewing philosophical theories in favour of close attention to the detail of everyday language. Sometimes also called "Oxford philosophy", it is generally associated with the work of a number of mid-century Oxford professors: mainly J.L. Austin, but also Gilbert Ryle, H.L.A. Hart, and Peter Strawson.

It was a major philosophic school between 1930 and 1970.

الأزمنة المعاصرة

Recent British philosophers particularly active in the philosophy of religion have included Antony Flew, C. S. Lewis, and John Hick.

Important moral and political philosophers have included R.M. Hare and Alasdair MacIntyre.

Other recent figures in the British analytic tradition include Derek Parfit, Karl Popper, Colin McGinn, Galen Strawson and his father P. F. Strawson, focusing on such fields as metaphysics, philosophy of mind, logic, and the philosophy of language.

انظر أيضاً

  • قائمة الفلاسفة البريطانيين
  • British Philosophical Association
  • The Philosophical Society of England

الهامش

  1. ^ "David Hume" at the Stanford Encyclopedia of Philosophy Retrieved May 15, 2010
  2. ^ "Consequentialism" at Stanford Encyclopedia of Philosophy Retrieved April 10, 2011
  3. ^ ". victorianweb. Retrieved 2009-07-23. On Liberty is a rational justification of the freedom of the individual in opposition to the claims of the state to impose unlimited control and is thus a defence of the rights of the individual against the state.
  4. ^ "Henry Sidgwick, 1838-1900" at The History of Economic Thought Website Retrieved April 10, 2011
  5. ^ Peter Singer - Interview at NormativeEthics.com Retrieved April 10, 2011
  6. ^ Analytic Philosophy And Return Hegelian Thought :: Philosophy: general interest :: Cambridge University Press. Cambridge.org. Retrieved on 2013-07-29.
  7. ^ "Bertrand Russell" at the Stanford Encyclopedia of Philososophy Retrieved May 15, 2010
  8. ^ Ludlow, Peter, "Descriptions", The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2008 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = [1].
  9. ^ Richard Rempel (1979). "From Imperialism to Free Trade: Couturat, Halevy and Russell's First Crusade". Journal of the History of Ideas. University of Pennsylvania Press. 40 (3): 423–443. doi:10.2307/2709246. JSTOR 2709246.
  10. ^ Bertrand Russell (1988) [1917]. Political Ideals. Routledge. ISBN .
  11. ^ The Nobel Foundation (1950). Bertrand Russell: The Nobel Prize in Literature 1950. Retrieved on 11 June 2007.

وصلات خارجية

  • The British Philosophical Association
تاريخ النشر: 2020-06-07 09:08:59
التصنيفات: الفلسفة البريطانية, الأدب البريطاني, تاريخ بريطانيا العظمى, ثقافة بريطانية

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

الصين: أستراليا وبريطانيا وأميركا‭ ‬تمضي في مسار خطير

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 12:27:28
مستوى الصحة: 84% الأهمية: 98%

الصين تستأنف إصدار تأشيرات دخول بعد قيود استمرت ثلاث سنوات

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 12:28:14
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 53%

محمود بوزيد: شاعر مسكون بالروحانيات والتصوّف و كتاباته بيانات حياة

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 12:27:06
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 65%

الكرملين: لا يمكننا تحقيق أهدافنا في أوكرانيا إلا عسكريا

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 12:27:20
مستوى الصحة: 88% الأهمية: 87%

صندوق الاستثمارات العامة يُعلن ثلاث مبادرات لتمكين القطاع الخاص

المصدر: أرقام - الإمارات التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2023-03-14 12:27:57
مستوى الصحة: 37% الأهمية: 42%

افتتاح «معرض الفيصل» بمقر اليونسكو - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2023-03-14 12:27:42
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 65%

الكرملين: روسيا لا تعترف باختصاص المحكمة الجنائية الدولية

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 12:27:28
مستوى الصحة: 77% الأهمية: 97%

الرميان: نستهدف ضخ تريليون ريال في المشاريع الجديدة محلياً

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 12:27:22
مستوى الصحة: 79% الأهمية: 86%

روسيا: اتفاق الغواصات سيؤدي إلى «مواجهة تستمر لسنوات» في آسيا

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 12:27:19
مستوى الصحة: 76% الأهمية: 90%

السعودية تقفز 15 مرتبة في مؤشر الابتكار العالمي السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2023-03-14 12:27:43
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 50%

الصين تستأنف إصدار تأشيرات دخول بعد قيود استمرت ثلاث سنوات

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 12:28:09
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 59%

روسيا تعلن تمديد اتفاقية الحبوب لمدة 60 يوماً «بشروط»

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 12:27:29
مستوى الصحة: 93% الأهمية: 91%

الليرة اللبنانية إلى قاع جديد... 100 ألف للدولار الواحد

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 12:27:24
مستوى الصحة: 78% الأهمية: 91%

تحميل تطبيق المنصة العربية