في لقاء له مع الرئيس البولندي أندري دودا يوم الاثنين بمقر الحلف في بروكسل، قال الأمين العامّ للناتو ينس ستولتنبرغ، إنه يتوقع "نشر موسكو نحو 30 ألف جندي في بيلاروسيا، في أكبر حشد عسكري روسي هناك منذ الحرب الباردة"، واصفاً ذلك بأنه "غير مبرَّر وغير شفاف وقريب جداً من حدود الناتو".

فيما تبرّر روسيا نشر جنودها هنا بإجراء تدريبات عسكرية بين قوات البلدين، تدريبات لا تعزز فقط الحشد الروسي المضروب على الحدود الأوكرانية، شرقاً وجنوباً وشمالاً. بل تنشر موسكو قواتها في مناطق بيلاروسية بعيدة عن الحدود الأوكرانية، ما قد يمثّل تهديداً مباشراً للدول الأوروبية المجاورة لمينسك، وغرب أوروبا عموماً.

ويواجه الغرب أخطر من ذلك، بأن تبسط موسكو نفوذها على بيلاروسيا في غفلة منه، إذ تحيل كل المؤشرات إلى تقارب عسكري غير مسبوق بين البلدين منذ الحقبة السوفييتية، كما يعزز ذلك توجه نظام لوكاشينكو إلى الاحتماء ببوتين في وجه المعارضة الداخلية المدعومة غرباً.

موسكو ومينسك.. حشد عسكري ومناورات!

منذ منتصف شهر يناير/كانون الثاني الماضي، تواردت تقارير إعلامية تتحدث عن نشر موسكو قواتها على الأراضي البيلاروسية، ووثقت مقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي انتشاراً واسعاً لجنود روس وآليات عسكرية تابعة للجيش الروسي على أراضي الجارة الغربية.

ورصدت أقمار صناعية أمريكية حشداً عسكرياً على بعد 20 ميلاً من الحدود الأوكرانية البيلاروسية، قالت إنها لقوات روسية، كما وثقت انتشاراً لعدد من تلك القوات والآليات العسكرية في مناطق متفرقة من بيلاروسيا، إضافة إلى طائرات مقاتلة روسية ومنظومات دفاع جوي S-400 وبطاريات صواريخ باليستية متوسطة المدى.

حشود عسكرية برّر انتشارَها نائب وزير الدفاع الروسي ألكسندر فومين بمناورات "حزام الاتحاد 2022"، سيجريها البلدان في الفترة من 10 إلى 20 فبراير/شباط الجاري، التي سيجري خلالها "قياس جاهزية قوات الردّ السريع لدولة الاتحاد بين روسيا وبيلاروسيا"، بهدف "تقييم مدى استعداد هذه القوات لضمان الأمن العسكري، وكذلك لوضع خيارات مختلفة لاتخاذ إجراءات مشتركة لتحييد التهديدات، وتحقيق استقرار الوضع على حدود الدولة".

وحسب وكالة الأنباء البيلاروسية، فإن الأمر يتعلق بالإعداد لمناورات عسكرية يجريها جيشا البلدين على الحدود الجنوبية والغربية للبلاد. ونقلت وكالة بلومبرغ عن الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، تأكيده أن تلك المناورات سوف تحاكي مواجهات مع دول البلطيق وبولندا وأوكرانيا.

الغرب.. ردٌّ وتهديدات!

يعقّد تعزيز الروس وجودهم في بيلاروسيا خطط الدفاع الأوكرانية، لكن تهديداته لا تتوقف عند هذا الحد، بل تعقّد أكثر خطط دفاع الدول الأوروبية المجاورة وحلف الناتو، والاتحاد الأوروبي بشكل أوسع، الأمر الذي دفع الغرب إلى تعزيز وجوده العسكري في دول أوروبا الشرقية.

وقررت واشنطن نشر 3000 عنصر من قواتها بشرق أوروبا، حسب ما صرَّح به الرئيس جو بايدن الأربعاء الماضي. وقالت وزارة الدفاع الأمريكية إن "نحو 1700 جندي، معظمهم من الفرقة 82 المحمولة جوّاً، سيُرسَلون من قاعدة "فورت براج" بولاية نورث كارولاينا إلى بولندا".

إضافة إلى ذلك تعتزم السلطات البريطانية نشر قوات إضافية من سلاحَي الجو والبحرية لحماية جنوب شرق أوروبا، حسبما أعلن رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون. وأشار إلى أن "هذه القوات ستعزّز دفاعات حلف شمال الأطلسي في إستونيا، وذلك بعد تصاعد الأزمة على الحدود الأوكرانية-الروسية". وأعلن وزير الدفاع البريطاني بين والاس، أن بلاده "سترسل 350 جندياً إضافياً إلى بولندا".

ودعا الرئيس البولندي في لقائه يوم الاثنين مع الأمين العامّ لحلف الناتو، إلى رفع حالة استعداد الحلف وحثه على التفكير في زيادة وجوده العسكري في المنطقة "لكي يُظهِر لجميع المعتدين المحتمَلين أن الناتو مستعد، وأننا لا نكتفي بالدفاع عن دول الناتو، ولكننا كذلك مهتمون بأمن حلفائنا من خارج الناتو الذين نتعاون معهم".

وسبق أن حذرت الخارجية الأمريكية نظام لوكاشينكو من أنه سيواجه أيضاً "رداً حاسماً" إذا ما ساعد روسيا على غزو جارتها أوكرانيا. وقال المتحدث باسمها نيد برايس إنه "إذا بدأ الغزو من بيلاروسيا، وإذا كانت القوات الروسية ستتمركز بشكل دائم على أراضيها، فقد يتعين على الناتو إعادة تقييم وضع قواتنا في البلدان المجاورة".

كيف يبسط بوتين سيطرته على مينسك؟

تشهد موسكو ومينسك منذ الخريف الماضي تقارباً عسكرياً غير معهود منذ الحقبة السوفييتية، انتهى بتأكيد لوكاشينكو مؤخراً أن بلاده ستحارب إلى جانب روسيا في حال تعرضت لهجوم مباشر.

واتفق البلدان في سبتمبر/أيلول الماضي على مراسيم تمديد شروط الاتفاقيات الخاصة بنشر منشأتين عسكريتين روسيتين على أراضي بيلاروسيا، وتصدير موسكو شحنة أسلحة جديدة بقيمة مليار دولار إلى مينسك، ضمنها طائرات مقاتلة وأنظمة الدفاع الجوي الروسية المتطورة S-400.

ويملك الجيش الروسي أربع قواعد جوية في بيلاروسيا، وقاعدة واحدة لصواريخ أرض-جو، ونحو 30 موقعاً للتخزين في البلاد لغرض تأمين التعزيزات في حالة نشوب نزاع مسلح. هذه البنى التحتية التي كان استعمالها مؤقتاً، أصبحت تعرف نشاطاً دائماً منذ اندلاع الاحتجاجات المناهضة لنظام لوكاشينكو.

من ناحية أخرى تمهّد التحركات الدستورية الأخيرة للوكاشينكو الطريق أمام وجود عسكري دائم على أراضي بلاده، حيث يخطط لإزالة بند دستوري قائم بشأن التزام بيلاروسيا الحياد وحظر نشر الأسلحة النووية على أراضيها، بعد عرضه سابقاً على روسيا نشر أسلحتها النووية على أراضيه. ويريد أن يعوض ذلك ببند ينصّ فقط على أن "العدوان العسكري من أراضي جمهورية بيلاروسيا ضد الدول الأخرى مستبعَد".

ويقرأ جوستاف جريسيل، الباحث المختصّ في شؤون أوروبا الشرقية بمعهد "المجلس الأوروبي العلاقات الخارجية"، في هذه المؤشرات بأنه "يمكن للمرء أن يتوقع أن تحافظ موسكو على مستوى معيَّن من الوجود العسكري في بيلاروسيا بعد الأزمة الحالية"، مؤكداً أنه "بغضّ النظر عما إذا كانت روسيا تغزو أوكرانيا مرة أخرى، فإن أراضي بيلاروسيا ستصبح بشكل متزايد مصدراً للتهديدات العسكرية لجميع جيرانها الغربيين، لا أوكرانيا فقط".

هذا الوجود العسكري الدائم الذي وجد له بوتين مسوّغاً في التوتر بينه وبين الغرب، يأتي مصاحباً لتحركات روسية سابقة للاستحواذ على الاقتصاد البيلاروسي، الأمر الذي فسّرَته دراسة نشرتها مؤسسة "المجلس الأطلسي" الأمريكية البحثية سابقاً بأن موسكو تسعى لـ"ضمٍّ ناعمٍ" لبيلاروسيا إلى أراضيها.

هذا ما تستنتجه كذلك المعارضة البيلاروسية، إذ أكده المتحدث باسم مشروع "أصوات من بيلاروسيا" المعارض بافل ميهيكين، في حديثه لـTRT عربي قائلاً: "لوكاشينكو على استيعاب جيد بأنه في وضعية لا يُحسَد عليها، لذلك يحاول الآن بيع بيلاروسيا لبوتين في سبيل حفاظه على بعض السلطة".

وأضاف ميهيكين أنه "بعد العزلة الدولية والعقوبات الأوروبية وجد لوكاشينكو نفسه في مأزق، وبالتالي لم يبقَ له سوى خيارين: أن يستقيل أو يبيع البلاد لبوتين. ويبدو أن الاستقالة ليست خياراً مطروحاً لديه"، مشدداً على أن "الأغلبية الساحقة من البيلاروسيين لا يوافقون على سياسات النظام الحاكم، ويعارضون ضمّ أي جزء بلادهم إلى الأراضي الروسية، ويرون في ذلك تهديداً لاستقرارهم".

TRT عربي