ولأن تلك الأزمة أكثر ما يقضّ مضجع الحكومات والأنظمة فالعمل على حلها قائم على قدم وساق، ولكن الحل هنا لا يشبه الحل الذي يحلم به الهاربون من المقتلة بل بما يتناسب واستراتيجيات الحكومات تلك حتى وإن خالفوا أبسط القواعد الإنسانية.

وعلى الرغم من انتقاد الاستراتيجيات التي شرعت الدول بتبنيها، فقد بدأت المملكة المتحدة بالفعل بالإجراءات التنفيذية لــ"اتفاقية الهجرة" وحضرت لأول دفعة لاجئين سترسلهم إلى معسكرات حماية في راوندا في إطار خطتها طويلة الأمد للحد من تدفق المهاجرين غير الشرعيين إلى أراضيها.

تقضي الخطة التجريبية التي تبلغ مدتها خمس سنوات بإرسال بعض طالبي اللجوء إلى رواندا لتقديم طلباتهم هناك، وقد يُمنح هؤلاء الأشخاص إقامة دائمة كلاجئين في رواندا، وإذا لم يحصلوا على هذا النوع من الإقامة، فبإمكانهم التقدم بطلب للاستقرار هناك اعتماداً على أسباب مختلفة، أو يمكنهم السعي للجوء في "دولة ثالثة آمنة".

تستهدف هذه السياسة في الغالب فئة من الشباب الذين اجتازوا المانش بـ"طرق غير شرعية وخطرة أو غير ضرورية" وفقاً لتعبير الحكومة، مثل ركوب القوارب الصغيرة أو الاختباء داخل شاحنات، وتخفي في جوهرها الحقيقي إرسالهم إلى منفى لا يتمتع بمقومات الحياة على الأراضي البريطانية، على أن يشكل ذلك سياسة رادعة لعدم تكرار الأمر مرة أخرى من طرف مهاجرين آخرين، علاوة على ما يتضمنه ذلك من التعامل مع أولئك المهاجرين على أنهم فائض بشري غير مرغوب بوجوده ولا يستحق الرفاه والرخاء الموجود على الأرض الموعودة.

الرحلة الجوية التي كانت مقررة لم تنطلق بقرار من المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وهي ليست هيئة تابعة للاتحاد الأوروبي وإنما جزء من مجلس أوروبا الذي لا يزال يعد بريطانيا جزءاً منه، أتى ذلك بعد تدخلات وضغوطات جرت في اللحظة الأخيرة وذلك على الرغم من أن القضاء العالي البريطاني كان قد أيد سابقاً خطة الحكومة البريطانية في ترحيل اللاجئين، متجاهلاً الانتقادات من المدافعين عن حقوق الإنسان والأمم المتحدة والكنيسة الأنجليكانية وحتى العائلة المالكة البريطانية، وتبدو في ذلك حكومة رئيس الوزراء بوريس جونسون مصممة على منع العبور غير النظامي لأراضيها حتى ولو كلف هذا الفعل أن يشكل لطخة عار دائمة في جبين المملكة.

إلغاء الرحلة المزعومة جعل اللاجئين يتنفسون الصعداء ولو بشكل مؤقت وفتح باب الأمل لهم في إلغاء الإجراءات التعسفية، لكن المشكلة هنا تكمن في أن إلغاء الرحلة بدأ بناء على طعون فردية تتعلق بملف كل لاجئ على حدة، ولم يبحث في أصل ومشروعية مثل هذا الإجراء أو إذا كان يتماشى مع سياسة اللجوء التي اتبعها الاتحاد الأوروبي وفقاً لما يتناسب مع حقوق الإنسان.

وعلى الرغم من صدور القرار القضائي لصالح اللاجئين وإلغاء الرحلة التي تقلهم إلى رواندا، فإن ذلك لم يثنِ الحكومة عن رد الفعل الغاضب والتوعد بإلغاء أي قوانين قد تتعارض مع التنفيذ في المرات القادمة، والمشكلة الأهم أن النقطة التي أثارها الحقوقيون في طعونهم اعتمدت على التشكيك بكون رواندا غير آمنة بما يكفي لاستقبال لاجئين على الرغم من أن الأساس هو البحث بجدوى قانون اللجوء بحد ذاته وإثارة الهدف من وراء ذلك الإجراء التعسفي وقراءة أهدافه البعيدة وتفنيد الأسس التي اعتمد عليها، وبحث ما وراء تلك الاتفاقيات التي تتعامل مع دول القارة الإفريقية كأنها لا تزال تحت سطوة الاستعمار وتابعة للدول العظمى بشكل أو بآخر.

تستغل الدول الأوروبية اليوم فوضى الخوف من اندلاع حرب عالمية، فتضرب بالانتقادات الموجهة إلى سياساتها غير الإنسانية عرض الحائط وتنفذ مخططات الأحزاب المحافظة حتى ولو تعارضت مع مضمون اللجوء المبني على مبدأ حقوق الإنسان، ويستخدم سياسيو المرحلة تلك السياسات المتطرفة بدعوى الإفراط في حماية شعوبهم، فيطبقون سياسات تكيل بمكيالين من دون أن يشكل ذلك لهم ذرة إحراج عالمياً، ذلك أن تطبيق القانون ليس من المفروض أن يختلف من شخص لأخر أو من جنسية لأخرى، عدا أن حماية الشعوب لا يمكن أن يكون ثمنها التفريط في حق الشعوب الأخرى في الحياة وإلا فلا يمكن إلا أن يكون ذلك افتراساً وتطبيقاً جديداً لقانون الغاب في دول تدعي المدنية والمساواة بين البشر.

ومن ذلك المنطلق فإنه يحق لنا كلاجئين ومتابعين أو أياً كانت صفتنا، التساؤل وراء اختيار دولة رواندا بحد ذاتها لإرسال المهاجرين غير المرغوب بوجودهم على أراضي القارة البيضاء وترتيب رحلات لهم ومحاولة التخلص من مسؤوليتهم.

اقرأ أيضا

السلاح النووي.. من "توازن الرعب" إلى خطر "انفلات التوازن"

ولي العهد السعودي إلى تركيا.. هل تبدأ المنطقة عهداً جديداً؟



وعلى الرغم من أن الأمر يتضمن في مضمونه الدفين حالة من العقاب تعتقد حكومة بريطانيا أنها طبقتها على اللاجئين الذين ظنوا أن من حقهم الاستفادة من موارد القارة الأوروبية وتحقيق حالة ردع لمن يفكر بذلك فيما بعد، فإن حقيقة الأمر تبدو أسوأ من ذلك بكثير، وذلك يفتح باب النقاش واسعاً لمناقشة فكرة الاستعمار القديم والجديد والتشكيك بنوايا الدول التي لا تزال تضع يدها على مقدرات المستعمرات القديمة ولا تزال تتعامل معها على أنها تحت الوصاية بحجة الحماية أيضاً.

يبدو أن حكومات الدول العظمى لا تزال تتعامل مع الدول المستعمَرة بسياسة وضع اليد والتحكم بمقدراتها وقراراتها في المقابل، لكن ما يمكن عده كارثة حقيقية هو تعامل الحكومة الرواندية مع الحالة وقبولها بأن تكون مجرد منفى وأرض عقاب لمن تسول له نفسه بعبور الحدود طلباً لحياة أفضل، وقبول حكومة رواندا أو غيرها أن تكون سلة مهملات خلفية للدول الأوروبية العظمى التي لا تزال تتعامل مع القارة الإفريقية على أنها ومقدراتها وجغرافيتها ملك لها، تستطيع أن تستخدم إمكانياتها وفق احتياجات تتعلق بسياساتها الخاصة ولا تأخذ بعين الاعتبار وضع تلك الدولة وسياساتها ومخططاتها، رغم ادعائها بأنها تركت لها إدارة شؤونها بعد نيل استقلالها غير أنها تعاملها معاملة المزارع الخاصة.

لا توجد دراسات تؤكد أن تكلفة مثل هذه الخطة قد تكون أقل من تكلفة بقائهم على أرض المملكة المتحدة، إلا أن الحكومة ترى أنهم لا يستحقون أن يكونوا على قدم المساواة مع المواطنين الأصليين، وعلى الرغم من هذا وذاك تبقى مثل هذه الإجراءات غير مضمونة النتائج وقد لا تحقق الهدف الذي يدعونه في تقليل عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين يعبرون الحدود طلباً للأمان ولتحقيق شرط حياة أفضل، لا سيما أن أولئك المهاجرين اختبروا صنوف تعذيب مختلفة وأكثر شدة وضراوة مما تحاول الحكومات الأوروبية تحميلهم إياه لكنهم متفانون بتحقيق شرط الحياة الذي يستحقونه.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي