محمود عوض يكتب: بليغ حمدي.. الرحيل في منتصف الجملة الموسيقية

كان الأستاذ محمود عوض «١٩٤٢- ٢٠٠٩» كاتبًا من نسيج خاص.. كان يجمع بين رشاقة الأسلوب وعمق الفكرة.. جاذبية العرض وأصالة الموقف.. صداقة كبار الفنانين وعدم الوقوع فى أسرهم.. الاهتمام بقضايا العرب فى الأمم المتحدة ومعرفة أدق تفاصيل حياة عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالحليم.. دفعته موهبته إلى القمة فى وقت قليل.. تعثرت قدماه فى قضية اتهم فيها أستاذه مصطفى أمين ١٩٦٥ لكن ثبتت براءته التامة.. تلقفه إحسان عبدالقدوس ليفرض عليه أن يصبح كبيرًا بالقوة.. منحه الصفحة الأخيرة فى أخبار اليوم وطلب منه أن يبدع.. أقنع أم كلثوم بأن تروى له قصة حياتها.. ثم أقنع عبدالوهاب بنفس الفكرة وكتب عن كل منهما كتابًا بعنوان «فلان الذى لا يعرفه أحد».. صادق عبدالحليم حافظ وكتب له المسلسل الإذاعى الوحيد الذى لعب بطولته.. ومن خلاله عرف بليغ حمدى.. فى هذا العدد نعيد نشر مقال رائع كتبه «بليغ حمدى الكتابة» عن «بليغ حمدى النغم» ونشره فى كتابه «من وجع القلب» الصادر عن دار المعارف.. فإلى جزء من المقال.

جمعتنى ببليغ حمدى مراحل كثيرة من المعرفة فى إحدى هذه المراحل، حينما كان البال رائقًا والحماس متدفقًا والدنيا ربيع والجو بديع بتعبير صلاح جاهين، كان بليغ يغرينى بالكتابة للمسرح الغنائى، وضمن أوراقی الخاصة التى أعتز بها كثيرًا مسرحية غنائية كتبت لها الفكرة والحوار، وشرع بليغ فى كتابة بعض كلمات أغانيها.. زائد تصوره للديكور والحركة المسرحية. ودائمًا فإن الأغانى والفكرة، من بعيد ومن قريب، تخاطب المحبوبة المشتركة والحلم المشترك. تخاطب مصر.

لكن الأحلام تتكسر أحيانًا على صخور الواقع. والواقع يصبح مأساويًا حينما تصبح القضية الحاكمة هى الدفاع عن حق البقاء.. أصلًا. وهنا مرة أخرى.. جمعتنا أشياء، وفرقتنا أشياء. لكن الخيوط لم تنقطع بالمرة.

كل ما هناك أننى وجدت نفسى مسحوبًا إلى معركة أدافع بها عن قلمی، فبالسلطة الغاشمة المغرضة جرى منعى من الكتابة فى جريدتى «أخبار اليوم». وحينما عوضت هذا بالاستجابة لدعوات كريمة من صحف خارج مصر لاستضافتی ونشر مقالاتی.. جری الضغط علىّ للامتناع عن الكتابة خارج مصر. وحينما لم يأت الضغط بمفعوله جری الإلحاح على وزير الإعلام فى القاهرة- بمخاطبات مكتوبة- لمنع الإذاعة والتليفزيون من استضافتى فى برامجهما، وحينما فشل ذلك كان السلاح الأخير هو دس اسمی ضمن نخبة مختارة من الكتاب والصحفيين وأساتذة الجامعات الذين صدر قرار جمهوری ذات ليل فى سبتمبر ١٩٨١ بمنعهم من الكتابة أو التدريس بالجامعات نهائيًا.

وفى حالتى الخاصة اكتشفت أن المنع امتد أيضًا إلى وقف مسلسل درامى كان يذاع طوال شهر سبتمبر فى ثلاثين حلقة بإذاعة البرنامج العام باسم «المتمرد»، ومن بطولة أحمد زکی وصفية العمرى وأخراج إسلام فارس. لقد جرى وقفه من الحلقة الخامسة عشرة. و.. فوق البيعة.. وجدت نفسى بالمرة.. ممنوعًا من مغادرة مصر حتى إشعار آخر. لقد احتاج الأمر زلزالًا سياسيًا فى مصر، وسلطة جديدة، لإعادتى إلى الصحافة ضمن الدفعة الأولى فى يناير ١٩٨٢. مع ذلك بدا أن النفوس الشريرة مستمرة فى غيها، وإن يكن بوسائل أخرى من تحت الحزام.

أما بليغ حمدى فقد امتحنه الواقع المريض بمعركة أشد ضراوة وهولًا. معركة يدافع بها عن سمعته. شرفه وسمعته. وبتلك الصفة أصبحت معركة بليغ لا تتعلق فقط بحق البقاء. إنها تتعلق بما هو منخفض عن ذلك كثيرًا جدًا. أنت بتقول بليغ حمدى؟ بليغ مين؟

إننى أتذكر جيدًا تلك المرة التى اتصلت بى فيها شقيقته «صفية» تليفونيًا لكى تعاتبنى: لماذا لم تعد تزور بليغ أو تسأل عنه؟ عرفت منه أنه دعاك عدة مرات ولم تلب الدعوة. لماذا؟ بليغ يحتاج إليك بشدة. لا.. لا.. ليس هناك شىء سيئ. فقط ما أراه من أنه منذ طلاقه من وردة، بدأ بيته يصبح سداح مداح: أنا قلقانة من غير أى شىء محدد أقوله لك.. يا ريت تخليك مع بليغ اليومين دول.. فى الآخر هو بيثق فى كلامك.

لم أكن أعرف بالضبط عن أى شىء تتحدث صفية. لكننى أعرف فقط أن بليغ كان متعلقًا بأمه بشدة. ومنذ وفاتها أصبحت صفية تحاول أن تسد هذا الفراغ العاطفى عند بليغ.. وخصوصًا منذ طلاقه من «وردة». لكن هل المشكلة هنا يمكن أن تكون مبالغة صفية فى القلق؟ حدث هذا كثيرًا من قبل. لكن فى هذه المرة تبدو صفية أشد قلقًا من أى مرة سابقة. إنما: لا وقائع. مجرد عدم ارتياح من بعض الوجوه. مجرد قلق على بليغ.

كنت سأسافر فى اليوم التالى إلى الخليج بدعوة من إحدى الصحف التى تنشر مقالاتی الأسبوعية. وقد وعدت صفية بأنه بمجرد عودتى سوف أجلس مع بليغ لكى أفهم منه.

يوم ويومان.. وإذا بى أقرأ فى الصفحات الأولى من صحف الخليج الخبر الصاعقة. خبر التحقيق الجنائى مع بليغ حمدی بعد أن جرى العثور على جثمان مطربة مغربية ناشئة اسمها «سميرة مليان». وبليغ هو الذى أبلغ الشرطة بالحادث، مقررًا أنها انتحرت بإلقاء نفسها من الشرفة الخلفية لشقته وهو نائم.. بعد أن تركها أولئك الذين جاءت أصلًا فى صحبتهم.

كنت مدعوًا لكتابة مقالى الرئيسى المعتاد بالصفحة الأخيرة من الجريدة التى جئت ضيفًا عليها. ووجدت نفسى تلقائيًا أكتب عن بليغ حمدى وذلك الحادث الغريب الشاذ بكل المقاييس. وببساطة شديدة، كنت مقتنعًا تمامًا بأن بليغ حمدى نفسه هو أكبر ضحايا الجادث، أولًا من معرفتی بنوع الحياة التى يعيشها فى منزله، ثم خصوصًا من خلال الملابسات الغريبة المحيطة بالحادث.

واتصل بى فى الفندق رئيس تحرير الجريدة.. وهو صديق قبل أى شىء. إنه يقول بلطف وكياسة: أنت بالطبع تعرف أن القراء هنا يتجاوبون معك تمامًا ويثقون فيما تكتبه. لكننى أخشى عليك فى هذه المرة. الناس معبئون تمامًا ضد بليغ حمدى.. ومن خلال ما يجرى نقله عن صحافة القاهرة. إن لك علاقتك المباشرة مع القراء. ومقالك يحمل اسمك وصورتك. وبالتالى فلك الحق کاملًا لتقول للقارئ ما تعتقده. لكننى أردت فقط أن أعبر لك عن حرصی عليك كصديق، ومصداقيتك عند القراء. إنه قرارك.. ننشر المقال؟ عظيم.. ننشر المقال.

وفى الطائرة عائدًا إلى القاهرة كنت ما أزال غير مصدق. إذا كان هذا هو الموقف من بليغ فى الخليج. نقلًا عن صحافة القاهرة، فكيف يكون الموقف فى القاهرة ذاتها؟ إن بليغ يمكن محاسبته عن إهماله.. عن ذلك القدر من الفوضوية فى حياته، بل حتى عن أسلوب حياته ذاتها. لكننا فى هذه الحالة المحددة أمام حقيقة أولئك الضيوف فى تلك الليلة الذين سمحوا لأنفسهم بالسهر فى بيته بعد أن دخل صاحب البيت نفسه- بليغ حمدى- إلى غرفته لينام. فقط لكى توقظه راعية البيت فى الصباح البكر مذعورة. حينما اكتشفت بالصدفة تلك الحقيقة المفجعة. حقيقة أن واحدة من ضيوف الأمس قد غافلت من جاءت معهم أصلًا.. وانتحرت من الشرفة الخلفية للبيت.

وبعد أن عدت إلى مصر جاء الاكتشاف الآخر. لقد دارت عجلة الإثارة الصحفية بكل قوتها لكى تدين بليغ حمدى من قبل أى محاكمة.. بحيث إنه فى اللحظة التى تجرى فيها المحاكمة القضائية.. سيكون بليغ حمدى قد جرى اغتياله معنويًا بالكامل.. وجرت إدانته مسبقًا. وبدلًا من أن يصبح الرأى العام فى حالة انتظار ما يقوله القضاء.. فإن القاضى ذاته سيصبح أسيرًا للرأى العام.. أو ما يحمل شبهة الرأى العام.

أما من حيث بليغ حمدى نفسه، فقد بدأ يتحول إلى كاريكاتير. إنه ينكمش نفسيًا يومًا بعد يوم داخل ذاته، مرتاعًا من حجم هذا التشفى الغامض الذى لا يعرف أسبابه، فى الواقع إن الحواديت تضخمت وتضخمت، إلى درجة أننى ذات مساء بدأت أسمع روایات تتنافس مع بعضها عما جری: لا.. أنت لا تعرف كل الحقيقة.. لقد كان فى السهرة خمسة وزراء.. لا.. لا.. كان هناك فلان وفلان من الأمراء العرب. لا.. لا.. الكلام ده من سنين وسنين.. إياك تكون فاهم إن بليغ هو اللى بيصرف على نفسه.. تحب أقول لك عن آخر شيك جاله من الأمراء دول؟.. أقول لك كان إيه اللى كان بيحصل فى بيته كل ليلة؟

ياخبر؟ كل ليلة؟ وبمثل تلك «المعلومات» الدقيقة؟ إذن كيف وجد بلیغ الوقت ليلحن ٣٠٠٠ أغنية؟ منها إحدى عشرة أغنية لأم كلثوم، أكبر عملاق غنائى فى تاريخ العرب! لابد أن بليغ هذا يعيش بسبع أرواح.. كده.. ولّا إيه؟. لكن لا جواب. عند الحجة والمنطق والعقل.. لا جواب.

فبعد كل ما جرى من إثارة صحفية. واغتيال معنوى للشخصية، أصبح الجميع يستحلون لأنفسهم أن يصبحوا قضاة، بل جاهزون مسبقًا بأحكام الإدانة. وفى مسار تلك القضية كانت هناك أكثر من علامة استفهام وأكثر من استدارة حادة.. بعضها أصبح عبئًا على العقل والقلب. وبعض النفوس المريضة تستفز مشاعر الناس بشائعات مجهولة المصدر والدوافع.

الناس.. الناس.. الناس.

كانوا حلم بليغ حمدى. الآن أصبحوا قضاته. ولأنهم من الأصل يرتبطون معه بعلاقة من الحب، فقد أصبح يتم رسميًا طمأنتهم باستيفاء الشكل. الآن أصبحت اللهجة هى: جهزوا حبل المشنقة.. حتى نبدأ فى المحاكمة العادلة لهذا المتهم.

ذات غداء سألنى الموسيقار محمد عبدالوهاب مداعبًا: يا أخى أنا والله يستغرب من صداقتك مع بليغ حمدى. طيب.. كمال الطويل.. معقول. محمد الموجى.. عبدالحليم.. معقول. إنما.. أنت وبليغ؟ من أين يأتى التوافق؟ هو قصير وأنت طویل. هو يحب الفوضى وأنت تحب النظام. هو يرتاح فى الدوشة وأنت ترتاح فى الهدوء. هو يحب السهر كثيرًا وأنت تنام مبكرًا. هو مسرف فى مجاملاته وأنت عقلانی جدًا. هو يأخذ نظام حياته باستخفاف وأنت تأخذه بجدية، هو يعشق الزحام وأنت تألف الوحدة. هو مناور أحيانًا وأنت صریح دائمًا.. عايز أعرف.. كيف تتحمله؟

لحظتها قلت لمحمد عبدالوهاب: ولماذا لا تعكس السؤال؟ لماذا لا تقول.. كيف يتحملنى هو؟

ضحك محمد عبدالوهاب.. مقررًا بذكاء أن عليه تغيير الموضوع.

ودارت الأيام. فبعد ذلك الحادث المفجع فى بيت بليغ حمدى يوم ١٨ ديسمبر سنة ١٩٨٤، وبالتأكد من أن الحادث انتحار، تم حفظ الدعوى الجنائية. لكن بعد شهور قليلة. ومع تعيين نائب عام جديد، جرى فجأة تحريك الدعوى الجنائية من أول وجديد.

هكذا جرت المحاكمة جلسة بعد جلسة.. وفى المتابعة القانونية كرر بليغ حمدى خطأه المعتاد: لقد وضع ثقته الكاملة فيمن لا يستحقها.. معتمدًا على حقيقة أنه مظلوم وضحية فى القصة كلها. 

وفى العاشر من فبراير ١٩٨٦ أصدرت محكمة أول درجة حكمها: حبس بليغ حمدى لمدة سنة مع الشغل، وكفالة ألف جنيه لوقف التنفيذ، ووضعه تحت مراقبة الشرطة مدة مساوية لمدة العقوبة.

قبلها بشهر تقريبًا كانت مأساة بليغ حمدى هذه موضع حوار مطول بينى وبين محمد عبدالوهاب. كنت فى حينها قد تولیت رئاسة تحرير جريدة صغيرة اسمها «الأحرار» كتجربة مؤقتة أخوضها إلى جانب عملى فى «أخبار اليوم».. مدفوعًا إلى التجربة بدوافع عديدة فى مقدمتها أننى ممنوع من الكتابة أساسًا فى جريدتى الأصلية، ولأننى كذلك أريد أن أختبر فى التطبيق مفاهيمى الخاصة للصحافة المختلفة.

اندمجت تمامًا فى هذا التحدى المهنى.. محاطًا بطوفان من مشاعر الحب أكرمنی به زملاء وزملاء من الصحفيين الموهوبين الذين تركوا صحفهم لكى يعملوا معى ولو بملاليم، وأيضًا من شباب واعدين لا يزالون طلبة فى كليات الإعلام. وبقدر سخاء المشاعر كان فقر الإمكانيات. لكن مع تبلور التطوير الجديد فى الجريدة بدأ إقبال القراء يتجسد فى أرقام التوزيع. فبعد انهيار توزيع الجريدة سابقًا إلى أقل من ثلاثين ألف نسخة، تحرك التوزيع بانتظام وسرعة إلى خمسين.. إلى سبعين.. إلى مائة ألف.. وفى نهاية المطاف إلى مائة وستين ألف نسخة حينما تركت الجريدة.. أو تركنى أصحاب الجريدة.

فى مسار تلك التجربة، ومنذ الأعداد الأولى التى توليت رئاسة تحريرها.. كانت تلاحقنى مكالمات أصدقاء كبار عديدين.. فى مقدمتهم الموسيقار محمد عبدالوهاب. إنه يتحدث معى مهنئًا بحرارة، مشجعًا لى على المزيد.

وسألته ذات مرة: هل هذه الكلمات للمجاملة.. أم لأنها رأيك بجد؟

رد عبدالوهاب ضاحكًا: آه.. أنا عارف إنك دائمًا بتتهمنى بكثرة المجاملة. لكن أحلف لك بإيه المرة دى علشان تصدق؟

قلت له: لا تحلف. فقط.. اعمل على خدمة.. اكتب مقالًا باسمك لأنشره بالجريدة..

سکت عبدالوهاب لحظات قبل أن يسألنى: أنت بتتكلم بجد؟ طيب أنا موافق.. لكن طبعًا إنت اللى تكتبه لى.

وأجبته: نعم.. سأكتبه لك من حصيلة مناقشاتنا معًا. أليس من رأيك ان بليغ حمدى مظلوم؟ وأن الصحافة مذنبة؟ وأن البلوى التى جرت لا يجب أن تجعل الناس قساة القلوب على بليغ حمدى لأنه هو أيضًا ضحية؟ وأن الحملة الجارية والمتصاعدة هى أكبر جدًا من بليغ حمدى وتمتد لتشمل كل ما هو فن مصری؟

قاطعنى عبدالوهاب مستدركًا: لكن...

قلت له قبل أن يكمل: نعم هناك دعوى تأخذ مسارها أمام القضاء. والمقال الذى أقترحه عليك لن يتعرض لها مطلقًا. وحتی اسم بليغ حمدى لن يرد فى المقال بالمرة، فقط سنتناول فى المقال قيمة الفنان. قيمة مصر. مسئولية المجتمع، معنى العطاء. خطورة التشفى. جناية الإثارة الصحفية. وبذكاء القارئ المصرى سيعرف الجميع أنك تتحدث عن بليغ حمدى.

مرت دقيقة من الصمت بيننا عبر أسلاك التليفون تخيلتها دهرًا کاملًا.

وفجأة.. قال محمد عبدالوهاب: أنا موافق.. اكتب المقال باسمى.. وعلى خيرة الله.

تنفست الصعداء.. وقلت له: سأكتب المقال فورًا.. لكن لا بد أن أقرأه عليك كلمة كلمة لأنه فى النهاية سيحمل اسمك. إذن.. بالكثير بعد ساعة سأطلبك لكى تعدل فيه كما تشاء.

 

إن محمد عبدالوهاب الآن فى رحاب الله. والرجل كانت له فى نفسى مكانة كبرى بمثل ملايين من الناس، وهو كانت له خصال إيجابية عديدة. لكن لم يكن من بينها الشجاعة فى مواجهة الرأى العام. كما أن العلاقة الشخصية بينه وبين بليغ حمدى لم تكن دافئة. ثم إننى فى سن أولاده. وهو نفسه كان يداعبنى كثيرًا بقوله: «فى أحيان كثيرة أحس إنك ابنى. لكن فى أحيان أخرى، لا أنت ابنى.. ولا أنا أعرفك».

لم تكن لى إذن أية سلطة يخشاها محمد عبدالوهاب.. ولا مصلحة يتبادلها معى. كل ما فى الأمر هو قدر من الثقة المتبادلة زرعتها التجارب بيننا. ولو كان محمد عبدالوهاب قد رفض فكرتى فإننى لم أكن لألح عليه. لكنه- بتجرد ونزاهة وعقل يقظ- لم يعدل كلمة واحدة فى مشروع المقال حينما قرأته عليه.

وهكذا فإن ذلك العدد من الجريدة الذى صدر فى ١٣ يناير ١٩٨٦ حمل فى صدر صفحته الأولى إشارة إلى محمد عبدالوهاب الذى يكتب مقالًا لأول مرة. أما المقال فعنوانه «إننى أشكو الصحافة.. إلى الصحافة».. ويكفى هنا أن أسترجع منه. وهو المقال الذى يحمل توقيع عبدالوهاب وصورته، فقرته الأخيرة التى يقول فيها: «.. وحينما يبالغ البعض فى تحميل سلوك هذا الفنان أو ذاك بأكثر مما يحتمل.. وحينما يمارس البعض محاكمات مستمرة لكل الفنانين المصريين بحجة أو بأخرى.. فإنهم بذلك لا يقللون من مكانة الفن والفنانين فقط، ولكنهم بذلك يقومون- بغير وعى غالبا- بوضع المزيد من الألغام فى طريق الريادة الفنية المصرية فى العالم العربى، إن هناك دولًا نعرفها جميعًا مستعدة لإنفاق ملايين الملايين حتى تكون لها بعض هذه الريادة المصرية فى العالم العربى. فدعونا لا نعطى عن حسن نية ذلك النوع من الذخيرة الذى يستخدم فورًا ضد مصر والمصريين جميعًا».

فى اليوم التالى اتصل بى بليغ حمدى قائلًا فى تأثر بالغ: أريد أن أشكرك.. قلت له متسائلًا: على ماذا یا بليغ؟ قال بليغ: معقول عبدالوهاب يعمل كده؟ طبعًا أنت اللى أثرت عليه.

قلت له: أنت مخطئ یا بليغ. الفكرة كلها من عبدالوهاب ولا دور لى فى أى شىء سوى الصياغة. وإذا كان هناك من يستحق الشكر منك فهو عبدالوهاب نفسه. أرجوك یا بليغ.. هو متعاطف معك جدًا.. وسيكون شيئًا جميلًا لو أنك طلبته لتشكره.

كنت فى الحقيقة أريد أن أمتص جزءًا، ولو يسيرًا، من تلك المرارة التى تراكمت داخل بليغ حمدى من الناس. كل الناس، وفى إحدى النقاط لم أعد أعرف أيهما أكبر من الآخر: الوحشية التى يتم بها سلخ سمعة بليغ حمدى ومكانته.. أم مرارة بليغ نفسه مما يجری به على رءوس الأشهاد.

وحينما صدر حكم أول درجة بحبسه سنة. لم تكن هى الكلمة الأخيرة، فالقضاء المصرى يستمد ضماناته للعدالة من داخله. لكن المسألة أصبحت هى «الثمن». كم من الثمن سيصبح على بليغ أن يدفعه من سمعته وكرامته وحياته وسط جبال من علامات الاستفهام.. قبل أن ينصفه القضاء المصرى فى نهاية المطاف ويرد إليه اعتباره؟!

 

نعم أنصفه القضاء. أنصفته محكمة النقض.. أعلى محكمة فى القضاء. وعاد بليغ حمدى بعد خمس سنوات فى الغربة الموحشة. وهو الذى لم يكن يطيق الابتعاد طويلًا عن مصر.

وقبيل صدور حكم محكمة النقض بأسابيع قليلة كانت السيدة المطربة عفاف راضى قد جاءتنی باكية، وبصحبتها السيدة «صباح» راعية بيت بليغ حمدى وفى مقدمة الأوفياء له. كانت عفاف قد تلقت لتوها مكالة تليفونية من بليغ فى باريس. مكالمة خلاصتها أنه يريد العودة إلى مصر ويدخل بقدميه إلى السجن بغير أن ينتظر حكم البراءة من محكمة النقض.. لأن وطأة الغربة أصبحت مرضه المستجد بقسوة.. فأصبح يريد أن يموت فى مصر، ولو سجينًا، ولا يعيش حرًا فى باريس.

يومها كان يزورنى الصديق مكرم محمد أحمد، وهو فى حينها رئيس تحرير مجلة «المصور»، ورئيس مجلس إدارة «دار الهلال». وأصبحت وطأة الانفعال طاغية حينما تساءلت عفاف راضى: هل يمكن توفير الأدوية اللازمة لبليغ فى السجن بقدر ما أصبحت تستلزمه حالته الصحية المتدهورة؟ مجرد الأدوية؟

استمرت التساؤلات والتساؤلات.. ومعها استمرت أيضًا مراحل القضية. ثم.. جاءت الكلمة الأخيرة للقضاء المصری لکی تبرئ: بليغ حمدى وترد إليه اعتباره.

لكن بليغ العائد أصبح شخصًا مختلفًا. أصبح شبحًا أو ظلًا. أو خيالًا من ماض متوهج، وحاضر لم يكتمل، وعلى حد تعبير محمد الموجى فإن بليغ كان مملوءًا بالموسيقى. الشجن والوحدة والغربة والعذاب والفوضى والألم.. والموسيقى.

 

كيف تزورنى إذن. يا صديقى بليغ. لكى تطلب منى لأول مرة أن أكتب؟ إنك حتی لم تسعفنی بالًا ووقتًا وصحة. لقد كانت هناك بحار عميقة أخرى من الذكريات بيننا.. والأحلام الغضة فى قلوبنا. 

لكنك يا أخى فاجأتنا بالصمت.. والرحيل.

كيف أكتب إذن.. وأنت الصديق الذى اختار الرحيل فى منتصف الجملة الموسيقية؟ وعن أى جزء أكتب: عن نصف الجملة الذى قلته.. أو النصف الآخر الذى كنت تريد أن تقوله؟

 

فيما بعد النشر.. 

بعض وقائع.............

واقعة أولى: لم أكن أعرف أن مجلة «أكتوبر» يجری طرحها فى القاهرة مساء الجمعة، فالعدد يصدر حاملًا دائمًا تاريخ السبت. عرفت ذلك فقط حينما أيقظنی رنين التليفون بجانبى فى السادسة صباحًا.

وعلى الطرف الآخر جاءنى الصوت مختنقًا ومتقطعًا. إنه صوت الصديق الموسيقار محمد الموجى يطلب منى رقم التليفون الخاص بالصديق الأستاذ صلاح منتصر، رئیس تحرير مجلة «أكتوبر».

صباح النور یا موجی. لماذا فى هذا الوقت المبكر وأنت الذى تستيقظ فى العادة متأخرًا؟

رد محمد الموجى: لأننى جئت معى فى عودتى إلى المنزل بعد منتصف الليل بمجلة «أكتوبر»، حينما وجدتها تفرد غلاف العدد كله لصورة بليغ حمدی، منوهة بمقال عنه يحمل اسمك. الآن فقط انتهيت من قراءة المقال للمرة العاشرة والدموع كادت تنساب من عینی. أنت لم تنصف بليغ حمدى فقط.. أنت أنصفت الفن والحقيقة. إنما الجديد هو أن يختار رئيس التحرير الاهتمام بالمقال وإبرازه على هذا النحو. من هنا أريد الاتصال به شخصيًا لكى أعبر له عن امتناننا جميعا........

واقعة ثانية: لم يكن قد مر على رحيل بليغ حمدى سوى أسابيع قليلة، تدفق خلالها حب الناس له كالشلال.

وباسم الحب، أو نوع خاص مزيف من الحب. ظهرت فرقة جراد بشرية فى المدينة، أو فرقة مرتزقة بمعنى آخر، لكى تبشر بأنها فى سبيل إعداد فیلم سینمائی محوره انتحار تلك السيدة المغربية فى بيت بليغ حمدى. ضاع الفن. ضاع التاريخ. ضاعت الحقيقة. وبقيت فقط فهلوة الارتزاق من بليغ حمدى راحلًا بعد أن انتهى الارتزاق منه حيًا.

واقعة ثالثة: اتصلت بى «صفية» الشقيقة الكبرى لبليغ حمدى فى خمس مكالمات تليفونية متتابعة. مكالمات بدأت بحديثها عن حضورها الليلة لحفل غنائى بمسرح البالون تكريمًا لبليغ حمدی. لكنها تشتم شيئًا غير مستقيم فيما توارد إلى سمعها. فى مكالمة ثانية وثالثة تلح علىّ بتفسير قد أملکه لشىء لم أعرفه أصلًا. فى المكالمة الرابعة تحول صوتها إلى ما يشبه الاستغاثة.. والبكاء. تصور.. يقولون فى الكواليس إن الحفل يتأخر عن موعده لأن الموسيقيين يشترطون تقاضى أجورهم أولًا.. رغم أنهم جاءوا أصلًا متطوعين بالعزف مجانًا.. وفاء لبليغ حمدى. فى المكالمة الخامسة يتهدج صوت صفية وتتقطع كلماتها بينما هى تشرح لى التفسير الذى قاله لها الموسيقيون لتصلبهم. هم رحبوا أصلًا بالمجىء وبالعزف مجانًا تكريمًا لاسم ومكانة بليغ حمدى. لكنهم قبل رفع الستار اكتشفوا سرًا مفاجئًا كشف عنه شجار بين اثنين من «صراصير» المدينة.. كل منهما يقول إن الحفل من تنظيمه هو، ولحسابه هو، وكل منهما باع تسجيلات الحفل مقدمًا وقبض الثمن. من هنا غيّر العازفون موقفهم. أرادوها فنًا.. وأرادها «صراصير» المدينة استرزاقًا وتجارة.

مكالمة صفية الأخيرة انتهت فى الحادية عشرة مساء.

وفى الصباح التالى قرأت بالصفحات الأولى من الصحف الخبر المروّع: وفاة صفية، شقيقة بليغ حمدى، بالسكتة القلبية. الوفاة جرت بمسرح البالون. الوفاة جرت فى الحادية عشرة والربع مساء.

من كتاب «وجع القلب» 

تاريخ الخبر: 2022-08-08 21:21:27
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 48%
الأهمية: 64%

آخر الأخبار حول العالم

36 رياضيا في فريق اللاجئين بأولمبياد باريس

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 21:26:14
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 60%

36 رياضيا في فريق اللاجئين بأولمبياد باريس

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 21:26:19
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 54%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية