د.عبدالباسط هيكل يروى لرئيس التحرير حكايات أئمة الإصلاح الخمسة «1 - 3»

الشيخ محمد عبده أول المصلحين فى العصر الحديث وأشجعهم.. والشيخ مصطفى المراغى تلميذه الذى وصل إلى ما لم يصل إليه

الشيخ محمد عبده:

جدد الفكر والتعليم ورفض الطلاق الشفهى وأفتى بمنع التعدد

دعا إلى الإصلاح التشريعى وتقبل فكرة القانون ومكافحة الجمود وفتح باب التفكير والاجتهاد

دعم حقوق النساء.. وقيل إن كتاب «تحرير المرأة» لقاسم أمين كتب تحت إشرافه

نقل الصحافة من السجع المتكلف إلى الأسلوب السردى المرسل وطور اللغة العربية

الشيخ مصطفى المراغى:

أصغر من حصل على شهادة العالمية فى سن 23 عامًا

خرج من الجمود المذهبى الذى كان يجرى عليه القضاء فى المحاكم الشرعية

شكّل لجنة لإعداد قانون الأحوال الشخصية واختار من المذاهب الإسلامية ما يوافق الزمان والمكان

تصدى لما جاء فى كتب الفقهاء

من آراء ينكرها العقل

 

الدكتور عبدالباسط هيكل، واحد من الباحثين الجادين فى موضوع إصلاح الخطاب الدينى، ومن موقعه كابن للأزهر الشريف وأستاذ مساعد فى كلية اللغة العربية، استطاع أن يتأمل جيدًا حياة خمسة من أئمة الإصلاح فى الأزهر الشريف.

درسهم ودرس حياتهم وأفكارهم دراسة وافية عبر عنها فى كتابه «المسكوت عنه فى مقالات تجديد الخطاب الدينى»، والحقيقة أن الحوار معه مغرٍ على عدة مستويات، أهمها قراءة تفاصيل حياة هؤلاء المصلحين العظام التى تغيب عنا كثيرًا.

إننا لا نعرف ماذا واجه الإمام محمد عبده؟ ولماذا أصبح أول مفتٍ للديار المصرية؟ ولا نعرف أن الشيخ مصطفى المراغى أصغر من حصل على العالمية فى تاريخ الأزهر ولا لماذا ترك منصب المشيخة الجليل، ولا نعرف الكثير عن الشيخ مصطفى عبدالرازق سليل أسرة عبدالرازق العريقة وشقيق الشيخ على عبدالرازق صاحب «الإسلام وأصول الحكم».

نفس الأمر بالنسبة لإمام التجديد محمود شلتوت الذى خاض معارك ضارية أثرت على صحته فى نهاية حياته، والأمر نفسه ينطبق على المجدد الكبير عبدالمتعال الصعيدى الذى سمى بـ«المجدد المجهول»، وعوقب وظيفيًا على أفكاره فى التجديد وتم التحقيق معه.

يمكن أن تعتبر هذا الحوار بأجزائه الثلاثة سياحة فكرية تغنيك عن قراءة عشرات الكتب عن أئمة الإصلاح فى الأزهر الشريف بعين باحث شديد الاجتهاد، هو الدكتور عبدالباسط هيكل، كما سترى فى السطور التالية.

إلى نص الحوار :

■ من أين جاءت فكرة كتاب «المسكوت عنه من مقالات تجديد الخطاب الدينى»؟ وما الهدف منها؟ 

- الكتاب يُمثّل المحطة الثالثة فى مشروعى الفكرى حول تجديد الخطاب الدينى ومواجهة خطاب الجماعات، وفكرته هو تقديم رؤية الإصلاحيين داخل الأزهر لكيفية وخطوات تجديد الخطاب الدينى ليكون قادرًا على مواجهة أفكار الجماعات التى بات جزء منها حاضرًا فى خطابنا الدينى والثقافى؛ لذا كان الاسم المقترح للموسوعة هو «إصلاحيون فى محراب الأزهر الشريف».

يقوم الكتاب على ٣ محاور: الأول يتناول التحديات التى تُواجه مسار إصلاح الفكر الدينى وكيفية التغلب عليها، والثانى هو محطات المسار الإصلاحى بداية من الإمام محمد عبده ، ومرورًا بالشيخ محمد مصطفى المراغى والشيخ مصطفى عبدالرازق وصولًا إلى الشيخ محمود شلتوت والشيخ عبدالمتعال الصعيدى، بوصفهما من أبرز إصلاحيى الأزهر، والمحور الثالث وهو الجزء الأكبر ويتناول أهم القضايا الإصلاحية التى طرحها أئمة الإصلاح.

الكتاب محاولة للتفكير مع الإصلاحيين بصوت عالٍ يشارك الناس فى المسكوت عنه من قضايا إصلاح الفكر الدينى، إيمانًا بحق الجميع فى المعرفة. 

عبدالباسط هيكل يروى لرئيس التحرير

■ لماذا كان الشيخ محمد عبده هو أيقونة الإصلاح التى انطلقت منها؟

- التيار الإصلاحى داخل الأزهر كانت بدايته الحقيقية مع الشيخ محمد عبده، أما الشيخ رفاعة الطهطاوى فلم يكن شاغله إصلاح الأزهر والفكر الدينى، وإنما كان شاغله تأسيس المدارس المدنية الجديدة وحركة الترجمة التى لعب دورًا كبيرًا فى انطلاقهما.

أعود إلى الشيخ محمد عبده، وأرى أن السر فى وصفه بأهم رموز الإصلاح الدينى، هو بيئة الأزهر التى وُجد فيها، فهى بعبارة الشيخ محمود شلتوت، شيخ الأزهر الأسبق: «كانت بيئة الشيخ عبده هى البيئة الأزهرية التى تكونت فى أواخر القرن الثالث عشر من الهجرة. وكان طابعها الركود الفكرى، والتعصب المذهبى، والتقديس للآراء والأفهام والسمو بها عن النقد ومحاربة كل رأى جديد، وقد وصل الأمر بهذه البيئة إلى أن أوجبت التقليد فى دين الله، وحرّمتْ الاشتغال بالعلوم العقلية والرياضية، وقاومت من حاول الخروج عليها فى ذلك زمانًا طويلًا».

فكان الأزهريون بوصف الشيخ عبدالمتعال الصعيدى «يجمدون على علومهم القديمة، ويعيشون فى عزلة عن العالم، فلا يشعرون بما أصاب الإسلام والمسلمين، ولا يهمّهم إلا أنفسهم داخل الأزهر، كأنهم رهبان فى دير، وليست عليهم مسئولية أمام الله عن إهمالهم فى شأن دينهم ودنياهم، وفى شأن المسلمين الذين أوقعوهم مثلهم فى جمودهم».

وكان الشيخ محمد عبده، بتعبير الشيخ محمود شلتوت، شيخ الأزهر الأسبق: «من هؤلاء العباقرة الذين عصمهم الله من التأثر ببيئاتهم ومكّنهم من التأثير فيها».

كان رأى الإمام محمد عبده بضرورة إصلاح الفكر الدينى، خطوة أولى على طريق الإصلاح السياسى والاجتماعى، فالفكر الدينى يُمكن أن يكون عاملًا من عوامل النهوض والتّقدم، ويُمْكن أن يكون عاملًا من عوامل النكوص والتخلّف.

كما دعا إلى الإصلاح التشريعى وتقبُّل فكرة القانون والحرص على مكافحة جمود وتقليد الفكر الدينى، بـفتح باب التفكير والاجتهاد فيما كان يُصدره من فتاوى دينية، فأصدر فتاوى أثارت غضب الجامدين من الأزهريين فى عصره من جواز ارتداء البدلة وكانت محرمة بوصفها زى غير المسلمين، وأجاز الادخار فى البنوك، والتعامل مع شركات التأمين التجارى على الصادرات والواردات، ودعا إلى عدم تعدد الزوجات إلا للضرورة؛ حيث رأى عن قرب من خلال عمله قاضيًا بالمحاكم الشرعية، استحالة تحقق شرط العدل بين الزوجات، وانتهى محمد عبده إلى أنه على الحاكم أن يمنع تعدد الزوجات طالما أن التعدد مصدر للمفاسد والشرور.

ودعا إلى إبطال الطلاق الشفهى، وأن يكون وُقُوع الطّلاق أمام القاضى أو المأذون بحضور شاهدين، وتكلّم الشيخ عن حق المرأة فى المشاركة فى الأمور السياسية، فكان أسبق فى الدعوة إلى ذلك من قاسم أمين، حتى قيل إنّ كتاب «تحرير المرأة» لقاسم أمين، قد وُضع فى «جنيف» عندما كان فى صحبته الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول، وأحمد لطفى السيد.

أعاد الشيخ محمد عبده النظر فى مسائل علم الكلام أو الفلسفة فى كتابه «رسالة التوحيد»، فجمع بين مفهوم التوحيد الأشعرى الذى يعتنقه الأزهر ومبدأ العدل المعتزلى، كذلك نهض الإمام بلغة الصحافة، أثناء رئاسته تحرير «الوقائع المصرية»، وانتقل بها من أسلوب السجع المتكلف إلى الأسلوب النثرى المرسل، وأصلح أساليب تعليم البلاغة العربية فى الأزهر، فالإمام أول مَن درّس للطلاب فى الأزهر علمَ البلاغة من كتابَى الشيخ عبدالقاهر الجرجانى: «أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز»؛ فيعود إلى الشيخ فضل إحياء التراث اللغوى فى حيويته وقُوته ونضارته، فما فعله الشيخ فى إحياء الفكر البلاغى، أقرب ما يكون إلى ما فعله محمود سامى البارودى فى إحياء التراث الشعرى.

كما وضع تقريرًا حول كيفية إصلاح المحاكم الشرعية، وهو التقرير الذى كان أساسًا لكل إصلاح حدث فى هذه المحاكم فيما بعد، وقدّم مشروعًا لإصلاح الأزهر إصلاحًا شاملًا يقضى على كل أثر للجمود فيه، وهذا ما لم يقبله الخديو، عباس حلمى الثانى، واقترح أن يتدرّج الشيخ فى الإصلاح، فرضى على كُرهٍ منه بهذا الرأى، فما لا يُدرك كلّه لا يُترك كله، وبهذا تناول الإصلاح الناحية الإدارية والصحية والخلقية، واقتصر على إدخال العلوم الحديثة فى الدراسة، ولم يتناول طريقة الدراسة إلا بإصلاح لا يذكر، إذ منع قراءة الحواشى فى الأقسام الأولية، وترك طريقة التدريس على حالها، لا يُعنَى فيها إلا بفهم عبارات المتون والشروح، ولا مجال فيها لفتح الاجتهاد والتجديد، مع أن هذا هو الغرض الأكبر من الإصلاح، وما سواه يُتَّخذ على أنه وسيلة له، فلما رأى الشيخ محمد عبده هذا النقص فى إصلاح الأزهر، تداركه فى الدروس التى كان يلقيها فى التفسير وعلوم البلاغة ونحوهما من العلوم بالجامع الأزهر على مدار سبع سنوات.

عبدالباسط هيكل 

■ ما أهم ملامح معاناة الشيخ محمد عبده داخل الأزهر؟

- ثار الجامدون من الأزهريين على الشيخ، ورموه بالإلحاد والزندقة، والخروج عما تواضع عليه العلماء والمؤلفون. وأقاموا من حوله سياجًا من الشك والشبهات، ولجّوا فى معارضته والطعن عليه، وهو صابر محتسب، يُقابل أذاهم بالتسامح، ومعارضتهم بالحجج الدامغة والبراهين الواضحة، فعلى نقيض موقف دعاة الجمود والتقليد الذى يكتفى بالوقوف عند ظواهر النصوص، متنكرًا لتعقل مرامى ومقاصد هذه النصوص، أكد الشيخ محمد عبده أن المرء لا يكون مؤمنًا إلا إذا عقل دينه، وعرفه بنفسه حتى اقتنع به، اشتد المرض بالإمام والإيذاء المعنوى فى آخر حياته، وهو ما أشار إليه حافظ إبراهيم فى رثائه للإمام بقوله:

وآذوك فى دين الإله وأنكروا.. مكانك حتى سوّدوا الصفحات 

رأيت الأذى فى جانب الله لذةً.. ورُحت ولم تهمم لهم بشُكاة

لقد كنت فيهم كوكبًا فى غياهب.. ومعرفة فى أنفس نكرات 

أبنْتَ لنا التنزيل حُكمًا وحكمة.. وفرّقت بين النور والظلمات 

ووفقت بين الدين والعلم والحجا.. فأطلعت نورًا فى ثلاث جهات 

■ هل ترى أنه نجح فى مهمة إصلاح الأزهر؟

- حقق جانبًا من الإنجازات، ولم ينجح فى جانب، نجح مثلًا فى تحديد مدة الدراسة بالأزهر، فقد جرى العرف منذ زمان طويل أن ينفق المجاورون من أعمارهم الأعوام الطوال فى الأزهر دون جدول زمنى، ووضع نظامًا للتدريس والامتحان، وإلغاء دراسة بعض الكتب العقيمة- كالشروح والحواشى والتقارير التى اعتاد المشايخ تلقينها الطلبة من غير فهم، فأدخل لأول مرة تدريس كتب الشيخ عبدالقاهر الجرجانى، وتقسيم العلوم التى تدرس بالأزهر إلى مقاصد ووسائل؛ فأطيلت مدة الدراسة فى «علوم المقاصد»: كالتوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصول الفقه والأخلاق. أما «علوم الوسائل»: كالمنطق والنحو والبلاغة ومصطلح الحديث والحساب والجبر، فهى التى يُلزم طلاب شهادة العالمية بأداء امتحان فيها.

وحاول إدخال دروس ومحاضرات جديدة فى علوم: التاريخ والتاريخ الطبيعى والرياضيات والجغرافيا والفلسفة والاجتماع، وما إلى ذلك من العلوم التى كان قد أُهمل تدريسها بالأزهر إلى ذلك الحين، إلا أنّ الشيوخ الجامدين لم يمكنوه من ذلك.

■ ألم تطرح أبدًا فكرة أن يتولى منصب شيخ الأزهر؟

- لم تُطرح الفكرة ولم يكن من الممكن طرحها، لأن الشيخ محمد عبده كان يُنظر له من عموم شيوخ الأعمدة فى الأزهر، على أنّه يُمثل خطرًا على الأزهر، وهذا على خلاف موقف الطلاب الذين أخذوا يتوافدون على دروسه المسائية، فاختيار القصر الشيخ محمد عبده ليكون شيخًا للجامع الأزهر معناه صدام القصر مع الأزهر؛ لذا كانت فكرة استحداث دار الإفتاء، ليتولى الشيخ منصب المفتى، وفكرة إنشاء مجلس لإدارة الأزهر، ويصبح هو عضوًا مؤثرًا فيه.

وعقّب الشيخ عبدالمتعال الصعيدى على تلك المحاولة بقوله: 

«أخذت الحكومة فى إصلاح الأزهر، وقد بدأت أولًا بتأليف مجلس إدارة للأزهر مؤلف من أكابر علماء المذاهب الأربعة، وأضيف إليهم الشيخ محمد عبده والشيخ عبدالكريم سلمان على أنهما عضوان من قبل الحكومة، فسار هذا المجلس بهمة صادقة فى إصلاح الأزهر، وسلك فى ذلك سنة التدرج ليأمن الاصطدام بأعداء الإصلاح، ويأخذ الأزهريون به شيئًا فشيئًا، وكانت الحكومة من ورائه ترعاه بالمساعدة، وتصد عنه كيد هؤلاء الأعداء، وتأخذهم بالشدة إذا جنحوا إلى الثورة، حتى لانوا واستكانوا.

ونجح هذا المجلس فى إقامة الدعائم الأولى للإصلاح، فألف أهل الأزهر النظام فى أعمالهم ودروسهم، وأقبلوا على دراسة العلوم الحديثة التى كانوا ينفرون من دراستها وكان الشيخ محمد عبده يرى أن ما نجحوا فيه من ذلك يجب أن يكون وسيلة لا غاية، لأن الإصلاح الحقيقى لا يصح أن يقف عند هذه الحدود، بل يجب أن يتعداها إلى فتح الأذهان المقفلة فى الأزهر، وكسر قيود التقليد فى العلوم القديمة، حتى تدخلها آثار التجديد، وتخلع تلك الأثواب البالية، وتعود إلى ما كانت عليه علومًا تفتح العقول، وتربى العلماء المجددين، والأئمة المبرزين. وقد سأله محمد رشيد رضا عن رأيه فيما قاموا به من إصلاح الأزهر، فذكر أنه لم يحصل شىء من الإصلاح يذكر إلى ذلك الوقت، وأنه أراد أن يبدأ بأعمال عظيمة فى الإصلاح اغتنامًا للفرصة، فأشير عليه بوجوب التدرج فى الإصلاح، وأنه لا بد له من المسايرة، وإن كان يخشى أن تضيع الفرصة بما يسمونه التدرج.

وقد أتى القوم بعد الأستاذ الإمام فساروا فى ذلك على أنه غاية لا وسيلة، ووقفوا عند هذه الحدود التى لا يصحّ أن يقف عندها الإصلاح، فلم ينهضوا بالأزهر إلى ما يرجى له فى هذا العصر، وبقيت علومه القديمة فى أثوابها البالية التى تزهد الناس فيها، وتجعلها مماحكات لفظية لا فائدة فى دراستها. 

وقد نبهتهم إلى ذلك بكتابى «نقد نظام التعليم الحديث للأزهر الشريف» فقامت علىّ قيامتهم، ولم تهدأ ثائرتهم إلا بعد أن أنزلوا بى من العقاب ما أنزلوا، وكانوا يريدون عزلى من المعاهد الدينية، فتداركنى لطف الله تعالى، وبقيت إلى وقتنا هذا مخلصًا لعقيدتى لا يثنينى عنها ما يفوتنى بسبب إخلاصى لها».

■ ما الحلقة الثانية من حلقات الإصلاح داخل الأزهر؟

- الشيخ محمد مصطفى المراغى تلميذ الأستاذ الإمام محمد عبده الذى لم ينسَ قول الإمام للخديو عباس حلمى الثانى: «إن إصلاح الأزهر أعظم خدمة للإسلام وإصلاحه إصلاح لجميع المسلمين».

عُرف الشيخ المراغى بمرونة وحكمة قرّبت منه الجميع مع اختلافهم، فوثَقَتْ فيه الحركة الوطنية والإنجليز وإصلاحيو ورجعيو الأزهر، إلا أنه لم يكن يملك شعرة معاوية، فغضب وأغضب أحيانًا.

مارس الشيخ المراغى العمل السياسى فى جميع مراحل حياته مثل أستاذه الشيخ محمد عبده، مما جعله جزءًا من الحالة السياسية المزاجية المتقلبة فى ذاك العصر.. كان أصغر من حصل على شهادة العالمية سنة ١٣٢٢هـ - ١٩٠٤م فى سن الثالثة والعشرين، فى وقت كان يمكث طالب الأزهر حتى الأربعين حتّى ينال شهادة العالمية، وفى لجنة الامتحان جلس الشيخ المراغى لأول مرة أمام الشيخ محمد عبده، فلم يسبق له أن تتلمذ على يده، كما هو شائع، ووجد الإمام محمد عبده فى الشيخ المراغى أزهريًا من طابع آخر غير طابع رجال الأزهر حينها، فاجتاز امتحان العالمية بتفوق رغم مرضه بحمى شديدة، وتكريمًا له دعاه الإمام محمد عبده إلى منزله.

لم تمضِ سوى شهور حتى سافر الشيخ المراغى إلى السودان بترشيح من الإمام؛ ليكون قاضيًا شرعيًا لمديرية دنقلة، انتقل بعدها قاضيًا لمديرية الخرطوم، وهناك تعلّم اللغة الإنجليزية.

انتفع الشيخ المراغى بتوجيهات الإمام محمد عبده فى إصلاح المحاكم الشرعية، وفتح ثغرة فى جدار التقليد، حين تصدّى لتنظيم المحاكم الشرعية فى السودان، فلم يتقيد بمذهب أبى حنيفة كما كان المتّبع آنذاك، وخرج من الجمود المذهبى الذى كان يجرى القضاء عليه، فأتاح الفرصة للمذاهب والمدارس الفقهية الأخرى إلى جانب المذهب الحنفى المعمول به فى القضاء، إذا كان ذلك فى مصلحة المتقاضين، وحلّ مشاكل الناس المتجددة؛ بتزعمه فتح باب الاجتهاد، داعيًا إلى انتقاء أحكام القضايا والمسائل من المذاهب الفقهية بما يرفع الحرج عن النّاس، فكان أول خروج على متعصبة المذاهب فى عصره.

وشارك عام ١٩٢٠ فى تعديل قانون الأحوال الشخصية المصرى، مستلهمًا ما سبق أن فعله فى السودان، وشكّل لجنة برئاسته فى عام ١٩٢٩؛ لإعداد قانونٍ للأحوال الشخصية فى مصر، ووجّه أعضاء اللجنة بعدم التقيد بمذهب معين، حيث كان القضاة لا يحيدون عن مذهب الإمام أبى حنيفة، وأوصاها أن تختار من بين المذاهب الإسلامية ما يُوافق الزمان والمكان، فخرق لأول مرّة تقليد غير المذاهب الأربعة، بتقليد غيرها من المذاهب الإسلامية، وهذا ما لا يُستهان به؛ لأنّه ذلّل به الطريق لمنْ أتى بعده.. 

وعمل الشيخ المراغى بنصيحة شيخه محمد عبده حين سأله ما العلم؟ فأخذ يُعرّفه له بما هو مشهور فى تعريفه، فقال له الشيخ محمد عبده: العلم هو ما ينفع الناس.. وكلّ ما لا ينفع الناس لجموده وبُعده عن عصرهم ليس بعلم.

وسار على نهج أستاذه محمد عبده فى الدفاع عن حق المرأة فى التعليم، وفى تقييد تعدد الزوجات، وحقّ المرأة فى الطّلاق بلا إعضال، آخذًا برأْى المالكية فى حقّ المرأة فى الطلاق لأسباب أخرى غير الضرر، كغياب الزوج الطويل لأكثر من سنة أو السجن أو المرض الذى لا يُرجى بُرؤه. وتصدى الشيخ لما جاء فى كتب الفقهاء من آراء ينكرها العقل مثل أن امرأة ظلت حاملًا لمدة اثنى عشر شهرًا أو لمدة عامين أو ثلاثة أعوام، استنادًا إلى شهادات غير موثقة.

دخل الشيخ المراغى فى معارك إصلاحية عديدة داخل الأزهر، منها ما عُرف بمذكرة إصلاح الأزهر التى أراد الشيخ المراغى أن يعتمد عليها فى إصلاح مناهج الأزهر، إلا أن كثيرًا من الأزهريين رفضوا إدخال مقررات تعليمية جديدة إلى الأزهر، وثاروا على الشيخ فاضطر إلى الاستقالة، وبعد خمس سنوات، عاد الشيخ المراغى إلى منصبه ليس من أجل مذهبه الإصلاحى، بل لأن الأزهريين رأوا أن خريجى مدارس القضاء الشرعى ودار العلوم يتفوقون عليهم فى الحصول على الوظائف فى الدولة، فقبلوا بفكرة الشيخ المراغى بإدخال العلوم الحديثة ليكونوا أقدر على المنافسة الوظيفية.

ومن معارك الشيخ المراغى دعوته إلى ترجمة معانى القرآن الكريم إلى غير العربية، وذلك ببحث نشره عام ١٩٣٢ بحثًا عن جواز ترجمة القرآن، بل جواز الصلاة بغير العربية، مقتفيًا فى ذلك أثر المدرسة الحنفية، فغضب الأزهريون، واتّهموا الشيخ المراغى بأنه يسعى إلى تحريف القرآن، لذا عندما عرض محمد على علوبة، وزير المعارف، عام ١٩٣٦ على الملك ضرورة ترجمة القرآن الكريم، قال له إنّ شيخ الأزهر الشيخ مصطفى المراغى كان قد عرض عليه الفكرة، وأنّه لم يقبلها خوفًا من رجال الأزهر الذين يرون ترجمة القرآن تُخالف الدين.

 

تاريخ الخبر: 2022-08-25 21:21:07
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 58%
الأهمية: 58%

آخر الأخبار حول العالم

بطولة ألمانيا.. بايرن يؤكد غياب غيريرو عن موقعة ريال للاصابة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 15:25:55
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 58%

السجن 7 أشهر لخليجي في قضية مقتل شابة في "قصارة" بمراكش

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 15:25:47
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 70%

بطولة ألمانيا.. بايرن يؤكد غياب غيريرو عن موقعة ريال للاصابة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 15:26:00
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 58%

السجن 7 أشهر لخليجي في قضية مقتل شابة في "قصارة" بمراكش

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 15:25:54
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 55%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية