صناعة الحرية (23).. انحطاط السجن من انحطاط المجتمع


انحطاط السجن من انحطاط المجتمع

في السجن حيث توجد نسخة طبق الأصل من المجتمع المغربي كما هو في تخلفه وانحطاطه وتناقضاته، وكما يقول محمود درويش: “في السجن لا تقول انتهى كل شيء، في السجن تقول ابتدأ كل شيء والبداية هي الحرية” ، ولقد تعرَّف الأستاذ على سجناء الحق العام وسجناء سياسيين، وعاشر أصنافا منهم، تقاسم معهم الطعام والكلام والمعاناة. قاوم الابتذال والإذلال والاستغلال بقوة ورباطة جأش، وحرص أن يحفظ حريته في سجنه، وأن يحافظ على صحته من أجل حريته، خاصة وأن سجن العلو مشتهر بالرطوبة الشديدة مما يُسرِّع باعتلال صحة النزلاء وتفاقم أمراضهم القديمة والمحدثة. كحال الأستاذ الذي كان يعاني من ضعف شديد في صحته البدنية.

لقد وجد الأستاذ في سنتي السجن هاته فرصةً نادرة لمعرفة المستور خارج أقبيته، يقول رحمه الله: “عايشتُ في السجن ملاحظة ورؤية وسماعا واطلاعا على الحالة الحقيقية لمجتمعنا في انحطاطه وسقوطه ورذالته. خارج السجون يتخفى الناس عادة من إظهار حقائقهم، فلكل خصوصيته، ولكل مسكنه، ولكل عاداته، ولكل حرمته الاجتماعية. أما في السجن بعد أن يكشف القناع عن الأوجه فيعرف أن الذين دخلوا السجن هم متهمون، ومتهمون بجرائم شتى، عندئذ يبدأ مسرح آخر. فمن حثالة الحثالة الذين حتى في داخل السجن لا يأنفون من ممارسة حقيقتهم وحقيقة أخلاقهم، فيتسلط القوي على الضعيف جهرا، وبدون حشمة وبدون حياء، وكيف وقد نبذ الحشمة والحياء والأخلاق والإنسانية خارج أسوار السجن!” ، زيادة على تفشي الرشوة في الإدارة والمتاجرة في المخدرات والخمور، وباقي الرذائل التي يمنعنا الحياء من ذكرها. هو المجتمع المغربي مختزلا في سجن. وفساد إدارة السجن قطعة من فساد إدارة البلد، كما يؤكد ماكس فيبر.

المواجهة مع الحراس…

غالبا ما تختار السلطةُ لحراسة السجناء كائنات بشرية تنتقي منهم الأقوياء بدنا والغلاظ طباعا، وتدربهم تدريبا خاصا تحولهم إلى كائنات فظة وقاتلة، يتصرفون بلا رحمة ولا شفقة بالخلق، فيعاملون الناس بغلظةٍ وعدوانية وتعنيف، ويصل بهم الصلف والظلم إلى الاستحواذ على طعام المساجين وكسائهم، وتركهم في الجوع والعراء، والتسلط عليهم بالضرب والرفس والإهانة والتعذيب، بسببٍ أو بدونه! لا تراهم إلا مقطبي الجبين، أو كما قال يوسف القرضاوي في نونيته بالسجن:

فيه زبانية أعدوا للأذى.. وتخصصوا في فنه الملعون

متبلدون عقولهم بأكفهم.. وأكفهم للشر ذات حنين

لا فرق بينهمو وبين سياطهم.. كل أداة في يدي مأفون

يتلقفون القادمين كأنهم.. عثروا على كنزٍ لديك ثمين

بالرجل بالكرباج باليد بالعصا.. وبكل أسلوبٍ خسيسسٍ دونِ

لا يقدرون مفكراً ولو أنه.. في عقل سقراط وأفلاطون

لا يعبئون بصالحٍ ولو أنه.. في زهد عيسى أو تقى هارون

لا يرحمون الشيخ وهو محطمٌ.. والظهر منه تراه كالعرجون

لا يشفقون على المريض وطالما.. زادوا أذاه بقسوةٍ وجنون

كم عالمٍ ذي هيبة وعمامةٍ.. وطئوا عمامته بكل مجون

لو لم تكن بيضاء ما عبثوا بها.. لكنها هانت هوان الدين

وكبيرِ قومٍ زينته لحيةٌ       أغرتهمو بالسبِّ والتلعين

وتلك طبائع حراس السجن كما قال صاحب الزنزانة رقم 10: “أُميون غلاظ القلب لا يعرفون سوى لغة الحديد والنار” ، وأضاف أن بعضهم “كالصخر الجلمد الذي لا ينال منه حر ولا زمهرير” . فهل سيقف الأستاذ متفرجا مكتوف الأيدي وهو يعلم أن “ارتكاب الظلم أو تحمله أمران رديئان معا”  كما قال ابن رشد الحفيد؟

السيد الحسين الحزبي الذي بسبب الاعتداء عليه تشاجر الأستاذ مع الحارس بَّادريس.

وقد حكى الأستاذ في برنامج “مراجعات” الذي بثته قناة الحوار بلندن سنة 2008م، كما تحدث عنه في “حوار شامل”  قُبيل الحصار، تفاصيل شجارٍ دار بينه وبين أحد زبانية وطواغيت سجن لعلو، يلقب بــ”بَّا ادريس”، بسبب اعتداء السَّجان الطاغية على شابَّين سجينين من المستضعفين في مكانٍ وسط الإدارة يدعوه السجناء بــ”الـمجزرة”، وكان أحد السجينين جارنا في مدينة سلا السيد “الحسين الحزبي”، قبل أن ينتقل الآن إلى مدينة القنيطرة.

ولما رأى السيد عبد الله التواتي (مُعلم القاصرين بالسجن) وقائع الاعتداء البشع على الحُسينين (كلاهما اسمه حسين) أخبر الأستاذ بذلك لـِما يعلمه فيه من شهامة وجرأة في الحق ورحمة بالخلق، فأقبل  مسرعا إلى الإدارة مناصرا للمظلومَين ومحتجا على فعل التعنيف، فما كان من الطاغية إلا أن منعه من الدخول على المدير، مما اضطر الأستاذ إلى مواجهته، فدخلا في شجار يدوي، وانتهى الشجار بانتصارٍ وانكسار؛ انتصر الأستاذ لأنه واجه طاغوتا عنيدا وتحداه وعاركه وعركه، وكسر جبروته، وإن كانت المعركة غير متكافئة بدنيًّا، وبعدها دخل إلى مكتب المدير وتحققت مطالبه ومطالب السجينين المعتدى عليهما، وكان ثمن الشجار كسر الخنصر الأيسر نتيجة العراك والتدافع. ويقول في ذلك:

“في وسط إدارتهم دفعني (با ادريس) والحراس واقفون بجموعهم والموظفون والكبراء، وكان الجو شتاء وكنت ألبس برنسي الصوفي فارتميت على (با ادريس) ألكمه لكما، وفي هذه المعركة انكسرت أصبعي هذه الخنصر من اليد اليسرى، وضربني أيضا. فكان رد فعل الحراس جميعا ماذا؟ أخذوا يفارقون بين المتخاصمين بين المتشاجرين، وعلى كل حال لم تكن المعركة متكافئة لأنني كنت -ولا أزال وأطلب الله أن يقوينا جسما وعلما وروحا وإيمانا- ضعيفا ومريضا، وهو مبني بناء خاصا بناء الجبابرة، كانت المعركة في الحقيقة من الناحية المادية غير متكافئة لكن هزيمتهم المعنوية في وسط إدارتهم تجلت في أنهم اجتمعوا علينا فصاروا يفرقون وصاروا يطلبون حتى انتهت المعركة” .

وغالبا بعد انتهاء المعارك السجنية يلتفت السجناء إلى نتيجتها، لأنها ستنعكس على مطالبهم ونمط حياتهم داخل السجن وعلى علاقتهم بالإدارة، فماذا استفاد ياسين والسجناء من تلك المواجهة؟ خاصة وأن بادريس كان “هو الرئيس الفعلي الذي يأمر وينهى ويفعل ما يشاء، وكان هناك رئيس الحرس الرسمي، هو رئيس (با ادريس) في الأوراق ولكن على كل حال عمليا كان (با ادريس) هو الرئيس والسلام” .

 قال الأستاذ: “أدخلني إلى مكتبه واستدعى الرؤساء الآخرين رؤساء الحرس، وبقينا مدة طويلة، ورؤساء السجن كانوا يطلبون يا فلان! ويُقبلون الرأس ويقبلون اليد، لا أزيد شيئا ولا أبالغ، لكيلا أتابع الأمر، ولكيلا يسمع هذا خارج السجن. كانوا يقدرون -هذا هو الدافع وليس من قبيل المروءة ولا من قبيل الإنسانية ولا من قبيل الإسلام ولا من قبيل عطفهم على مثلي- أن سماع الخبر وأنه اعتدي علي وضربت وأهنت وجلد الأخوان لو أذيع هذا خارج السجن لا يكون في صالحهم” المرجع نفسه والصفحة.. فأمسى الأستاذ مهابا داخل السجن من طرف الجميع.

وهل تتحقق المطالب إلا بالبذل والتضحية؟ فردا كنتَ أو جماعة.

داخل السجن أيضا تعرَّف الأستاذ على العشرات من مناضلي اليسار المغربي الذين اعتُقلوا في قضية “انتفاضة الخبز”، كما ذكرنا، واطلع من خلالهم على طبيعة التفكير اليساري العربي ومخططات الشيوعيين السياسية والثقافية، وقرأ الأفكار التي تتغذى منها ذهنية شباب تمت “مَرْكَسَتُهم” بنجاح، وآخرين تحولوا في السجن من مشاريع مناضلين إلى عملاء وليبراليين ، وأشاد بنضالية المناضلين منهم وتجلّدهم في مواجهة الباطل، وحافظ على صداقة بعضهم إلى وفاته رحمه الله، من أمثال المناضل النقيب عبد الرحمن بنعمرو، حيث كان يحلو لهما الحوار مشيا في ساحة السجن. فاليسار ومثلهم الإسلاميون ليسوا سواء. منهم ومنهم. فيهم وفيهم. كانوا وما زالوا.

ولعله من المفيد في هذا الدرس أن الخطأ في مشاريع التغيير في الوطن العربي تقاسمه اليسار والإسلاميون معا، إذ كل منهما ادعى أنه بمفرده سيقيم دولته ويُخضع الآخر كرها لمنطقه ومشروعه، فاليسار أرادوها اشتراكية وشيوعية تقدمية ولا دينية، والإسلاميون أرادوها إسلامية، وبعضهم فكر في تطبيق مشروعه بتسويغ العنف بل مارسه يا للأسف! وقليل منهم من فكر في بناء دولة المشترك التي تلتقي فيها المشاريع على كليات جامعة يتواثقون عليها بشكل توافقي مشترك. ومن هؤلاء القلة من نادى مبكرا إلى إنجاز ميثاق جامع تلتقي فيه كليات الدين ومروءات الناس، ولا يُضام فيه أحد. ومنهم الأستاذ ياسين رحمه الله الذي ألح على فكرة الميثاق وضرورة الميثاق قبل سجن العلو، وفي مجلة الجماعة السابقة عن تأسيس الجماعة ذاتها، (1981م)، وقبل دخول السجن وأثناءه وبعده. وقد أكد لي ذلك المؤرخ زكي مبارك بكلمة صدر بها الأستاذ عندما أهدى له كتابه “Islamiser la modernité” يقول: “إنها كلمة واحدة تلخص عشرات الصفحات، كلمة سياسية هي “الميثاق الإسلامي” وكلمة مصيرية هي: من أنا؟ وإلى أين؟ وماذا بعد القبر؟” .

ولأن الوطن مشترك بين جميع أبنائه، فقد كان الأستاذ دائم التفكير في الخلاص الجماعي، والعمل المشترك، الأمر الذي يفرض “صياغة ميثاق على عين الشعب وتحت سمعه وبصره، والله عز وجل رقيب والأمة شاهدة. ميثاق تمضيه أنت أيها الحزب الأصفر والأخضر، وتناقشه أنت أيها الفاضل الديمقراطي، وتعترضين عليه بشجاعتك المعهودة أيتها الداعية لتحرير المرأة…. صياغة ميثاق، ومناقشة ميثاق، وإشراك الشعب في النقاش لتستنير الطريق، وينكشف الزّيْف، ويُعرف الحق، وتختار الأمة، وينفضح الدخيل، ويَخْزَى المنافق” .


[1] درويش، محمود. يوميات الحزن العادي، مركز الأبحاث الفلسطيني، فلسطين، ط 5، 2009م، ص 92.
[2] ياسين، عبد السلام. حوار شامل، مرجع سابق، ص 45.
[3] القرضاوي، يوسف. ديوان “الملحة النونية”، منشورة في موقع بوابة الشعراء (www.poetsgate.com) بدون تاريخ، وشوهدت في 13 ماي 2020م.
[4] المرزوقي، أحمد. الزنزانة رقم 10، مرجع سابق، ص 104.
[5] المرجع نفسه، والصفحة نفسها.
[6] ابن رشد، محمد بن أحمد. تلخيص أخلاق أرسطو، ترجمة أحمد شحلان، مطبعة كرافوبوب (GraphoPub)، ط1، 2018م، ص 247.
[7] ياسين، عبد السلام. حوار شامل، ص 49-51.
[8] ياسين، عبد السلام، حوار شامل، مرجع سابق، ص 51.
[9] المرجع نفسه والصفحة.
[11] يقول عبد الله العروي عن اليسار المتمركسين الذين باعوا ماركسيتهم لليبرالية، “نرى على طول وعرض الوطن العربي كيف أصبح دعاة الماركسية العلمية يتحولون إلى شُراح منافع الليبرالية”، انظر: العروي، عبد الله. الإديولوجية العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1995م، ص 17.
[12] ياسين، عبد السلام، مجلة الجماعة، مطبعة الساحل، الرباط، عدد 8، ط1، 1981م، ص 4.
[13] من حوار الكاتب مع زكي مبارك، مرجع سابق.
[14] ياسين، عبد السلام. حوار مع الفضلاء الديموقراطيين، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1، 1994م، ص 6.
تاريخ الخبر: 2022-10-06 12:20:18
المصدر: الجماعة.نت - المغرب
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 45%
الأهمية: 61%

آخر الأخبار حول العالم

مع مريـم نُصلّي ونتأمل (٢)

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-02 06:21:50
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 50%

تراجع جديد في أسعار الحديد اليوم الخميس 2-5-2024 - اقتصاد

المصدر: الوطن - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 06:21:03
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 54%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية