في «اليوم العالمي للصحة النفسية».. تاريخ مستشفيات الأمراض العقلية في مصر 


في اليوم العالمي للصحة النفسية لابد من مراجعة تاريخ مستشفيات الأمراض العقلية في مصر، فمن المعروف أن مستشفى «قلاوون» قديمًا كان البيمارستان الوحيد في مصر، ولم يكن مخصصًا لعلاج ذوي المرض العقلي وحدهم، بل كان فيها قسم لعلاجهم فقط، وكانت هناك عيادة خارجية يتردد عليها هؤلاء المرضى كل يوم ليُعالجوا، وكان كل مريض يسجل اسمه في سجلات المستشفى يُمنح شهرية مالية وأقمشة من وقف هذا المستشفى الخيري.

وحين جاء كلوت بك إلى مصر، وأشرف على المستشفيات رأى عام 1825 أن ينتقل قسم الأمراض العقلية من «قلاوون» إلى العباسية، وكان قصرًا لأحد حكام الأسرة العلوية، وكان صاحبه يطلق عليه اسم «السراي الحمرا»، فأزيل عنه الطلاء الأحمر، وطلي باللون الأصفر، ومن هنا أطلق عليه السراي الصفراء.

هذه الحكاية شبيهة بما كتبه الدكتور أحمد عكاشة في كتابه الكبير والمهم «الطب النفسي المعاصر» الذي أكد أن مستشفى «قلاوون» شيد في القرن الرابع عشر الميلادي، ويعتبر ثاني مستشفى يقدم خدمات العلاج للمرضى العقليين في العالم الإسلامي بعد مستشفى ببغداد، وكان يمثل نموذجًا مثيرًا فيما يتعلق بالرعاية النفسية، في وقت كان المرضى العقليون في أوروبا يحرقون ويعاقبون بالسجن، وكان مستشفى «قلاوون» ينقسم إلى أربعة أقسام: الجراحة والأمراض الباطنية والعيون والأمراض العقلية.


وقد سمحت الهبات الكريمة من أغنياء القاهرة بمستوى عالٍ من الرعاية الطبية وإعالة المرضى أثناء فترة النقاهة حتى يحصلون على مهنة مريحة، ونجد هنا سمتين جديرتين بالاهتمام، أولاهما: رعاية المرضى العقليين في مستشفى عام، والذي سبق الاتجاه الحديث العالمي في علاج مرضى النفس بالمستشفيات العامة بحوالي ستة قرون، وثانيتهما: اشتراك المجتمع في توفير رعاية لائقة للمرضى.

ولكن عكاشة قال إن محور العلاج في المستشفى في هذا الوقت كان التوجه إلى الله من أجل الشفاء، مستخدمين تنويعات من العلاج الديني مثل قراءة القرآن والحجاب والورقة والحرز أو تعويذات وبخور وتطهر!

وما أكد عليه علماء الحملة الفرنسية (1798 - 1801) في خططهم، يؤكد أن فكرة إقامة مستشفيات أو «مارستانات» لأصحاب الأمراض العقلية كانت منتشرة حتى مع مستشفى «قلاوون»، إذ قال المسيو جومارا أحد العلماء الذين استقدمهم نابليون مع الحملة إنه منذ خمسة أو ستة قرون (أي في القرن الثالث عشر أو الرابع عشر الميلادي) أنشيء في القاهرة عدة «مارستانات» تضم الأعلاّء والمرضى والمجانين، ولم يبق منها سوى «مارستان» واحد هو «مارستان قلاوون»، يجتمع فيه أصحاب المرض العقلي من الجنسين، وينقل أحمد عيسى في كتابه «تاريخ البيمارستانات في الإسلام» عن جومارا أن «مارستان» القاهرة لا يزال أكثر شهرة من «مارستان دمشق»، وقد كان في الأصل مخصصًا للمجانين ثم جعل لقبول كل نوع من الأمراض، وصرف عليه سلاطين مصر مالًا وافرًا، وأفرد فيه لكل مرض قاعة خاصة وطبيب خاص، وللذكور قسم فيه منعزل عن قسم الإناث.

وعن أحوال المرضى العقليين في المستشفى يؤكد المسيو جومار أنه عندما دخله في زيارة أثناء الحملة الفرنسية على مصر أن «المجانين»، حسب تعبيره، كانوا يشغلون قسمًا من البناء منقسمًا إلى قاعتين، لكل من الزوجين قاعة خاصة، وكان عدد المرضى عشرة يسكنون حجرات مقفلة بشبابيك الحديد وفي رقابهم السلاسل، وكان بينهم نوبيان أحدهما فتى مسرور كانت فترة احتجازه حتى وجده جومار ثلاث سنوات، والثاني عبد للألفي بك (أحد أمراء المماليك) وكانت فترة احتجازه منذ التقاه جومار أربعة شهور، إضافة إلى رجل سري كان يعتريه الجنون مرة كل شهر، وآخر معه زوجته. 

أما المسيو ديجانت، وهو رئيس الأطباء في الحملة الفرنسية فزار المستشفى كذلك مع الشيخ عبدالله الشرقاوي شيخ الأزهر حينها وأحد الذين نصبوا محمد علي واليًا على مصر بعد الحملة الفرنسية بسنوات، وكان تقريرهما الخاص بالمرضى العقليين أنه وجد منهم أربعة عشر مجنونًا (سبعة رجال وسبع نسوة)، ويقيم المجانين في ناحيتين منعزلتين في إحداهما ثماني عشرة حجرة للرجال وفي الأخرى ثماني عشرة للنساء، وقد رأى ديجانت الرجال مصابين بـ«المالنخوليا»، حسب وصفه وأكثرهم مسن، ورأى فتى فقط كان في حالة هياج، فكان يزأر كالأسد ثم انتقل فجأة إلى هدوء أعقبه ابتسام ودهشة. 

أما النساء من المرضى العقليين فكانت حجراتهن ليست كلها محاطة بشبابيك الحديد، وكانت النساء كلهن مصفدات ولكنهن غير مثبتات في الجدران كالرجال، وإحدى هذه النسوة وهي طاعنة في السن تقدمت نحو كبير أطباء الحملة حتى وسط الحوش وهي تبكي وتطلب إحسانًا، وكانت الأخيرات متحجبات حتى لم يمكن أن يلحظ شيئًا من ملامحهن، كما أنه شاهد فتاة صغيرة تجلس القرفصاء ووجهها وجسمها يكادان يكونان عاريين، فلما لمحته داخلًا فرحت كثيرًا وسلمت عليه مرارًا بحني رأسها ووضع يديها المغلولتين فوق صدرها، وكانت تتكلم بنشاط، ولكنه لم يفهم منها غير كلمة «سنيور»، وكانت تعيدها مرارًا ولكنها غريبة عن لسانها، وقد شكك الطبيب في كونها مجنونة لأن ظلم الرجال كثيرًا ما زج بالعقلاء في هذه المحال المحزنة، حسب وصفه.

وبالفعل كانت شكوك الطبيب لها أساس من الصحة، إذ أن هذه الفتاة السيئة الحظ قد أطلق سراحها، ولكن الذين زجوا بها في هذا المكان لم ينلهم عقاب.

علي مبارك في خططه قال إن المستشفى المنصوري «مستشفى قلاوون» في سنة ١٨٥٦ كان قد بلغ الغاية من الاضمحلال وهجره المرضى، ولم يبق به سوى المجانين، فنقلت منه المجانين إلى «ورشة الجوخ» ببولاق، ولم يكن بهذا المحل الاستعداد اللازم لذلك، وكانوا غير معتنى بهم، فأنشئ مستشفى للمجاذيب في بعض «السراي الحمراء» التي أنشأها الخديوي إسماعيل باشا بالعباسية ثم أحرقت، وكان نقل المجاذيب من «ورشة الجوخ» ببولاق إلى العباسية سنة ١٨٨٠.

ويحكي عكاشة عن قصة إنشاء مستشفيات الأمراض العقلية المعروفة، حيث تقدم الطبيب الفرنسي كلوت بك إلى محمد علي باشا بطلب مراجعة الحالة المتردية للمرضى العقليين في القاهرة، وذلك في الوقت الذي كانت فيه المستشفيات كلها عسكرية، ومن ثم كان المرضى العقليون في القاهرة يحولون إلى مستشفى عسكري في منطقة الأزبكية، ثم إلى مبنى مستقل في بولاق.

وفي عام 1880 اندلع حريق كبير والتهم أحد القصور المملوكة لواحد من الأمراء، ولم ينج من الحريق سوى مبنى مكون من طابقين، وقد تم طلاء هذا المبنى باللون الأصفر، وتحول بعد ذلك إلى أول مستشفى في القاهرة، وكان ذلك في 1883، وقد أطلق عليه بعد ذلك اسم «السراي الصفراء»، كان هذا المكان يقع في العباسية، وكانت وقتذاك منطقة صحراوية نائية على أطراف القاهرة.

وفي 1913 شيد مستشفى حكومي آخر للأمراض العقلية في الخانكة على مساحة حوالي 300 فدان متضمنة مساحة واسعة من الأراضي الزراعية، وفي عام 1967 أقيم مستشفى عقلي آخر في الإسكندرية وهو مستشفى المعمورة، وفي 1979 أقيم مستشفى رابع في حلوان.

في بواكير معرفة مصر بالمرض النفسي كان العلاج يتم في مستشفيات الأمراض العقلية الحكومية، ومع تقدم الأساليب العلاجية وفي ظل مناخ اجتماعي متفتح انتقل العلاج إلى خارج تلك المستشفيات من أماكن علاج خاصة وكذلك وحدات في المستشفيات العامة

تاريخ الخبر: 2022-10-11 15:19:22
المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 49%
الأهمية: 68%

آخر الأخبار حول العالم

توقعات أحوال الطقس اليوم الخميس

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-09 09:25:06
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 54%

تحديد سعر الطرح النهائي لاكتتاب مياهنا عند 11.50 ريال للسهم

المصدر: أرقام - الإمارات التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-05-09 09:24:25
مستوى الصحة: 34% الأهمية: 50%

الصين توصي باستخدام نظام بيدو للملاحة في الدراجات الكهربائية

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-09 09:25:04
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 66%

انخفاض الرقم القياسي للإنتاج الصناعي بنسبة 8.7% خلال مارس 2024م السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-05-09 09:23:59
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 56%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية