الجزء الرابع

عودة للموسوعة

الجزء الرابع

الجزء الرابع

موسى والعبد الصالح:

نطق تعالى:

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) (الكهف)

كان لموسى -عليه السلام- هدف من رحلته هذه التي اعتزمها،, وأنه كان يقصد من ورائها امرا، فهويعلن عن تصميمه على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة، ومهما يكن الزمن الذي ينفه في الوصول. فيعبر عن هذا التصميم قائلا (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا).

نرى حتى القرآن الكريم لا يحدد لنا المكان الذي وقت فيه الحوادث، ولا يحدد لنا التاريخ، كما أنه لم يصرح بالأسماء. ولم يبين ماهية العبد الصالح الذي التقاه موسى، هل هونبي أورسول،يا ترى؟ أم عالم،يا ترى؟ أم ولي؟

اختلف المفسرون في تحديد المكان، فقيل إنه بحر فارس والروم، وقيل بل بحر الأردن أوالقلزم، وقيل عند طنجة، وقيل في أفريقيا، وقيل هوبحر الأندلس.. ولا يقوم الدليل على صحة مكان من هذه الأمكنة، ولوكان تحديد المكان مطلوبا لحدده الله تعالى.. وإنما أبهم السياق القرآني المكان، كما أبهم تحديد الزمان، كما ضبب أسماء الأشخاص لحكمة عليا.

إن السيرة تتعلق بفهم ليس هوفهمنا القائم على الأسباب.. وليس هوفهم الأنبياء القائم على الوحي.. إنما نحن أمام فهم من طبيعة غامضة أشد الغموض.. فهم القدر الأعلى، وذلك فهم أسدلت عليه الأستار الكثيفة.. مكان اللقاء مجهول كما رأينا.. وزمان اللقاء غير معروف هوالآخر.. لا نعهد متى تم لقاء موسى بهذا العبد.

إلى غير ذلك تمضي السيرة بغير حتى تحدد لك سطورها مكان وقوع الأحداث، ولا زمانه، يخفي السياق القرآني أيضا اسم أبرز أبطالها.. يشير إليه الحق تبارك وتعالى بقوله: (عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) هوعبد أخفى السياق القرآني اسمه.. هذا العبد هوالذي يبحث عنه موسى ليتفهم منه.

لقد خص الله تعالى نبيه الكريم موسى -عليه السلام- بأمور كثيرة. فهوكليم الله عز وجل، وأحد أولي العزم من الرسل، وصاحب معجزة العصا واليد، والنبي الذي أنزلت عليه التوراة دون واسطة، وإنما حدثه الله تكليما.. هذا النبي العظيم يتحول في السيرة إلى طالب فهم متواضع يحتمل أستاذه ليتفهم.. ومنقد يكون مفهمه غير هذا العبد الذي يتجاوز السياق القرآني اسمه، وإن حدثتنا السنة المطهرة أنه هوالخضر -عليه السلام- كما حدثتنا حتى الفتى هويوشع بن نون، ويسير موسى مع العبد الذي يتلقى فهمه من الله بغير مسببات التلقي الني نعهدها.

ومع منزلة موسى العظيمة إلا حتى الخضر يرفض صحبة موسى.. يفهمه أنه لن يستطيع معه صبرا.. ثم يوافق على صحبته بشرط.. ألا يسأله موسى عن شيء حتى يحدثه الخضر عنه.

والخضر هوالصمت المبهم ذاته، إنه لا يتحدث، وتصرفاته تثير دهشة موسى العميقة.. إذا هناك تصرفات يأتيها الخضر وترتفع أمام عيني موسى حتى لتصل إلى مرتبة الجرائم والكوارث.. وهناك تصرفات تبدولموسى بلا معنى.. وتثير تصرفات الخضر دهشة موسى ومعارضته.. ورغم فهم موسى ومرتبته، فإنه يجد نفسه في حيرة عميقة من تصرفات هذا العبد الذي آتاه الله من لدنه فهما.

وقد اختلف الفهماء في الخضر: فيهم من يعتبره وليا من أولياء الله، وفيهم من يعتبره نبيا.. وقد نسجت الأساطير نفسها حول حياته ووجوده، فقيل إنه لا يزال حيا إلى يوم القيامة، وهي قضية لم ترد بها نصوص أوآثار يوثق فيها، فلا نقول فيها إلا أنه توفي كما يموت عباد الله.. وتبقى قضية ولايته، أونبوته.. وسنرجئ الحديث في هذه القضية حتى ننظر في قصته كما أوردها القرآن الكريم.

قام موسى خطيبا في بني إسرائيل، يدعوهم إلى الله ويحدثهم عن الحق، ويبدوحتى حديثه اتى جامعا مانعا رائعا.. بعد حتى انتهى من خطابه سأله أحد المستمعين من بني إسرائيل: هل على وجه الأرض أحد افهم منك يا نبي الله؟ نطق موسى مندفعا: لا.. وساق الله تعالى عتابه لموسى حين لم يرد الفهم إليه، فبعث إليه جبريل يسأله: يا موسى ما يدريك أين يضع الله فهمه؟ أدرك موسى أنه تسرع.. وعاد جبريل، عليه السلام، يقول له: إذا لله عبدا بمجمع البحرين هوأفهم منك.

تاقت نفس موسى الكريمة إلى زيادة الفهم، وانعقدت نيته على الرحيل لمصاحبة هذا العبد العالم.. سأل كيف من الممكن أن السبيل إليه.. فأمر حتى يرحل، وأن يحمل معه حوتا في مكتل، أي سمكة في سلة.. وفي هذا المكان الذي ترتد فيه الحياة لهذا الحوت ويتسرب في البحر، سيجد العبد العالم.. انطلق موسى -طالب الفهم- ومعه فتاه.. وقد حمل الفتى حوتا في سلة.. انطلقا بحثا عن العبد الصالح العالم.. وليست لديهم أي علامة على المكان الذي يوجد فيه إلا معجزة ارتداد الحياة للسمكة القابعة في السلة وتسربها إلى البحر.

ويظهر عزم موسى -عليه السلام- على العثور على هذا العبد العالم ولواضطره الأمر إلى حتى يسير أحقابا وأحقابا. قيل حتى الحقب عام، وقيل ثمانون عاما. على أية حال فهوتعبير عن التصميم، لا عن المدة على وجه التحديد.

وصل الاثنان إلى صخرة جوار البحر.. رقد موسى واستسلم للنعاس، وبقي الفتى ساهرا.. وألقت الرياح إحدى الأمواج على الشاطئ فأصاب الحوت رذاذ فدبت فيه الحياة وقفز إلى البحر.. (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا).. وكان تسرب الحوت إلى البحر علامة أفهم الله بها موسى لتحديد مكان لقائه بالرجل الحكيم الذي اتى موسى يتفهم منه.

نهض موسى من نومه فلم يلاحظ حتى الحوت تسرب إلى البحر.. ونسي فتاه الذي يصحبه حتى يحدثه عما سقط للحوت.. وسار موسى مع فتاه بقية يومهما وليلتهما وقد نسيا حوتهما.. ثم تذكر موسى غداءه وحل عليه التعب.. (قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا).. ولمع في ذهن الفتى ما سقط.

ساعتئذ تذكر الفتى كيف من الممكن أن تسرب الحوت إلى البحر هناك.. وأبلغ موسى بما سقط، واعتذر إليه بأن الشيطان أنساه حتى يذكر له ما سقط، رغم غرابة ما سقط، فقد اتخذ الحوت (سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا).. كان أمرا عجيبا ما رآه يوشع بن نون، لقد رأى الحوت يشق الماء فيهجر علامة وكأنه طير يتلوى على الرمال.

سعد موسى من مروق الحوت إلى البحر و(قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ).. هذا ما كنا نريده.. إذا تسرب الحوت يحدد المكان الذي سنلتقي فيه بالرجل العالم.. ويرتد موسى وفتاه يقصان أثرهما عائدين.. انظر إلى بداية السيرة، وكيف تجيء غامضة أشد الغموض، مبهمة أعظم الإبهام.

أخيرا وصل موسى إلى المكان الذي تسرب منه الحوت.. وصلا إلى الصخرة التي ناما عندها، وتسرب عندها الحوت من السلة إلى البحر.. وهناك وجدا رجلا.

يقول البخاري إذا موسى وفتاه وجدا الخضر مسجى بثوبه.. وقد جعل طرفه تحت رجليه وطرف تحت رأسه.

فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه ونطق: هل بأرضك سلام..،يا ترى؟ من أنت؟ نطق موسى: أنا موسى. نطق الخضر: موسى بني إسرائيل.. عليك السلام يا نبي إسرائيل. نطق موسى: وما أدراك بي..؟ نطق الخضر: الذي أدراك بي ودلك علي.. ماذا ترغب يا موسى..؟ نطق موسى ملاطفا مبالغا في التوقير: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا). نطق الخضر: أما يكفيك حتى التوراة بيديك.. وأن الوحي يأتيك..،يا ترى؟ يا موسى (إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا).

نريد حتى نتوقف لحظة لنلاحظ الفرق بين سؤال موسى الملاطف المغالي في الأدب.. ورد الخضر الحاسم، الذي يفهم موسى حتى فهمه لا ينبغي لموسى حتى يعهده، كما حتى فهم موسى هوفهم لا يعهده الخضر.. يقول المفسرون إذا الخضر نطق لموسى: إذا فهمي أنت تجهله.. ولن تطيق عليه صبرا، لأن الظواهر التي ستحكم بها على فهمي لن تشفي قلبك ولن تعطيك تفسيرا، وربما رأيت في تصرفاتي ما لا تفهم له سببا أوتدري له علة.. وإذن لن تصبر على فهمي يا موسى.

احتمل موسى حدثات الصد القاسية وعاد يرجوه حتى يسمح له بمصاحبته والتفهم منه.. ونطق له موسى فيما نطق إنه سيجده إذا شاء الله صابرا ولا يعصي له أمرا.

تأمل كيف من الممكن أن يتواضع كليم الله ويؤكد للعبد المدثر بالخفاء أنه لن يعصي له أمرا.

نطق الخضر لموسى -عليهما السلام- إذا هناك شرطا يشترطه لقبول حتى يصاحبه موسى ويتفهم منه هوألا يسأله عن شيء حتى يحدثه هوعنه.. فوافق موسى على الشرط وانطلقا..

انطلق موسى مع الخضر يمشيان على ساحل البحر.. مرت سفينة، فطلب الخضر وموسى من أصحابها حتى يحملوهما، وعهد أصحاب السفينة الخضر فحملوه وحملوا موسى بدون أجر، إكراما للخضر، وفوجئ موسى حين رست السفينة وغادرها أصحابها وركابها.. فوجئ بأن الخضر يتخلف فيها، لم يكد أصحابها يبتعدون حتى بدأ الخضر يخرق السفينة.. اقتلع لوحا من ألواحها وألقاه في البحر فحملته الأمواج بعيدا.

فاستنكر موسى عملة الخضر. لقد حملنا أصحاب السفينة بغير أجر.. أكرمونا.. وها هوذا يخرق سفينتهم ويفسدها.. كان التصرف من وجهة نظر موسى معيبا.. وغلبت طبيعة موسى المندفعة عليه، كما حركته غيرته على الحق، فاندفع يحدث أستاذه ومفهمه وقد نسي شرطه الذي اشترطه عليه: (قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا).

وهنا يلفت العبد الرباني نظر موسى إلى عبث محاولة التعليم منه، لأنه لن يستطيع الصبر عليه (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، ويعتذر موسى بالنسيان ويرجوه ألا يؤاخذه وألا يرهقه (قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا).

سارا معا.. فمرا على حديقة يلعب فيها الصبيان.. حتى إذا تعبوا من اللعب انتحى جميع واحد منهم ناحية واستسلم للنعاس.. فوجئ موسى بأن العبد الرباني يقتل غلاما.. ويثور موسى سائلا عن الجريمة التي ارتكبها هذا الصبي ليقتله هكذا.. يعاود العبد الرباني تذكيره بأنه أفهمه أنه لن يستطيع الصبر عليه (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا).. ويعتذر موسى بأنه نسي ولن يعاود الأسئلة وإذا سأله مرة أخرى سيكون من حقه حتى يفارقه (قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا).

ومضى موسى مع الخضر.. فدخلا قرية بخيلة.. لا يعهد موسى لما مضىا إلى القرية، ولا يعهد لما يبيتان فيها، نفذ ما معهما من الطعام، فاستطعما أهل القرية فأبوا حتى يضيفوهما.. واتى عليهما المساء، وأوى الاثنان إلى خلاء فيه جدار يريد حتى ينقض.. جدار يتهاوى ويكاد يهم بالسقوط.. وفوجئ موسى بأن الرجل العابد ينهض ليقضي الليل كله في إصلاح الجدار وبنائه من جديد.. ويندهش موسى من تصرف رفيقه ومفهمه، إذا القرية بخيلة، لا يستحق من فيها هذا العمل المجاني (قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا).. انتهى الأمر بهذه العبارة.. نطق عبد الله لموسى: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ).

لقد حذر العبد الرباني موسى من مغبة السؤال. واتى دور التفسير الآن..

إن جميع تصرفات العبد الرباني التي أثارت موسى وحيرته لم يكن حين عملها تصدر عن أمره.. كان ينفذ إرادة عليا.. وكانت لهذه الإرادة العليا حكمتها الخافية، وكانت التصرفات تشي بالقسوة الظاهرة، بينما تخفي حقيقتها رحمة حانية.. إلى غير ذلك تخفي الكوارث أحيانا في الدنيا جوهر الرحمة، وترتدي النعم ثياب المصائب وتجيد التنكر، إلى غير ذلك يتناقض ظاهر الأمر وباطنه، ولا يفهم موسى، رغم فهمه الضخم غير قطرة من فهم العبد الرباني، ولا يفهم العبد الرباني من فهم الله إلا بمقدار ما يأخذ العصفور الذي يبلل منقاره في البحر، من ماء البحر..

كشف العبد الرباني لموسى شيئين في الوقت نفسه.. كشف له حتى فهمه -أي فهم موسى- محدود.. كما كشف له حتى كثيرا من المصائب التي تقع على الأرض تخفي في ردائها الأسود الكئيب رحمة عظمى.

إن أصحاب السفينة سيعتبرون خرق سفينتهم مصيبة اتىتهم، بينما هي نعمة تتخفى في زي المصيبة.. نعمة لن تكشف النقاب عن وجهها إلا بعد حتى تنشب الحرب ويصادر الملك جميع السفن الموجودة غصبا، ثم يفلت هذه السفينة التالفة المعيبة.. وبذلك يبقى مصدر رزق الأسرة عندهم كما هو، فلا يموتون جوعا.

أيضا سيعتبر والد الطفل المقتول وأمه حتى كارثة قد دهمتهما لقتل وحيدهما الصغير البريء.. غير حتى موته يمثل بالنسبة لهما رحمة عظمى، فإن الله سيعطيهما بدلا منه غلاما يرعاهما في شيخوختهما ولا يرهقهما طغيانا وكفرا كالغلام المقتول.

إلى غير ذلك تختفي النعمة في ثياب المحنة، وترتدي الرحمة قناع الكارثة، ويختلف ظاهر الأمور عن باطنها حتى ليحتج نبي الله موسى إلى تصرف يجري أمامه، ثم يستلفته عبد من عباد الله إلى حكمة التصرف ومغزاه ورحمة الله الكلية التي تخفي نفسها وراء أقنعة عديدة.

أما الجدار الذي أتعب نفسه بإقامته، من غير حتى يطلب أجرا من أهل القرية، كان يخبئ تحته كنزا لغلامين يتيمين ضعيفين في المدينة. ولوهجر الجدار ينقض لظهر من تحته الكنز فلم يستطع الصغيران حتى يدفعا عنه.. ولما كان أبوهما صالحا فقد نفعهما الله بصلاحه في طفولتهما وضعفهما، فأراد حتى يكبرا ويشتد عودهما ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته.

ثم ينفض الرجل يده من الأمر. فهي رحمة الله التي اقتضت هذا التصرف. وهوأمر الله لا أمره. فقد أطلعه على الغيب في هذه المسألة وفيما قبلها، ووجهه إلى التصرف فيها وفق ما أطلعه عليه من غيبه.

واختفى هذا العبد الصالح.. لقد مضى في المجهول كما خرج من المجهول.. إلا حتى موسى تفهم من صحبته درسين مهمين:

تفهم ألا يغتر بفهمه في الشريعة، فهناك فهم الحقيقة.

وتفهم ألا يتجهم قلبه لمصائب البشر، فربما تكون يد الرحمة الخالقة تخفي سرها من اللطف والإنقاذ، والإيناس وراء أقنعة الحزن والآلام والموت.

هذه هي الدروس التي تفهمها موسى كليم الله عز وجل ورسوله من هذا العبد المدثر بالخفاء.

والآن منقد يكون صاحب هذا الفهم إذن..،يا ترى؟ أهوولي أم نبي..؟

يرى كثير من الصوفية حتى هذا العبد الرباني ولي من أولياء الله تعالى، أطلعه الله على جزء من فهمه اللدني بغير مسببات انتنطق الفهم المعروفة.. ويرى بعض الفهماء حتى هذا العبد الصالح كان نبيا.. ويحتج أصحاب هذا الرأي بأن سياق السيرة يشير على نبوته من وجوه:

1. أحدها قوله تعالى:

فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65) (الكهف)

2. والثاني قول موسى له:

قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) (الكهف)

فلوكان وليا ولم يكن نبي، لم يخاطبه موسى بهذه المخاطبة، ولم يرد على موسى هذا الرد. ولوأنه كان غير نبي، لكان هذا معناه أنه ليس معصوما، ولم يكن هناك دافع لموسى، وهوالنبي العظيم، وصاحب العصمة، حتى يلتمس فهما من ولي غير واجب العصمة.

3. والثالث حتى الخضر أقدم على اغتال ذلك الغلام بوحي من الله وأمر منه.. وهذا مرشد مستقل على نبوته، وبرهان ظاهر على عصمته، لأن الولي لا يجوز له الإقدام على اغتال النفوس بمجرد ما يلقى في خلده، لأن خاطره ليس بواجب العصمة.. إذ يجوز عليه الخطأ بالاتفاق.. وإذن ففي إقدام الخضر على اغتال الغلام مرشد نبوته.

4. والرابع قول الخضر لموسى:

رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي

يعني حتى ما عملته لم أعمله من تلقاء نفسي، بل أمر أمرت به من الله وأوحي إلي فيه.

فرأى الفهماء حتى الخضر نبيا، أما العباد والصوفية رأوا أنه وليا من أولياء الله.

ومن حدثات الخضر التي أوردها الصوفية عنه.. قول وهب بن منبه: نطق الخضر: يا موسى إذا الناس معذبون في الدنيا على قدر همومهم بها. وقول بشر بن الحارث الحافي.. نطق موسى للخضر: أوصني.. نطق الخضر: يسر الله عليك طاعته.

ونحن نميل إلى اعتباره نبيا لفهمه اللدني، غير أننا لا نجد نصا في سياق القرآن على نبوته، ولا نجد نصا مانعا من اعتباره وليا آتاه الله بعض فهمه اللدني.. ولعل هذا الغموض حول شخصه الكريم اتى متعمدا، ليخدم الهدف الأصلي للسيرة.. ولسوف نلزم مكاننا فلا نتعداه ونختصم حول نبوته أوولايته.. وإن أوردناه في سياق أنبياء الله، لكونه مفهما لموسى.. وأستاذا له فترة من الزمن.


قارون وقوم موسى:

يروي لنا القرآن سيرة قارون، وهومن قوم موسى. لكن القرآن لا يحدد زمن السيرة ولا مكانها. فهل سقطت هذه السيرة وبنوإسرائيل وموسى في مصر قبل الخروج،يا ترى؟ أوسقطت بعد الخروج في حياة موسى،يا ترى؟ أم سقطت في بني إسرائيل من بعد موسى،يا ترى؟ وبعيدا عن الروايات المتنوعة، نورد السيرة كما ذكرها القرآن الكريم.

يحدثنا الله عن كنوز قارون فيقول سبحانه وتعالى إذا مفاتيح الحجرات التي تضم الكنوز، كان يصعب حملها على مجموعة من الرجال الأشداء. ولوعهدنا عن مفاتيح الكنوز هذه الحال، فكيف كانت الكنوز ذاتها؟! لكن قارون بغى على قومه بعد حتى آتاه الله الثراء. ولا يذكر القرآن فيم كان البغي، ليدعه مجهلا يضم شتى الصور. فربما بغى عليهم بظلمهم وغصبهم أرضهم وأشياءهم. وربما بغى عليهم بحرمانهم حقهم في ذلك المال. حق الفقراء في أموال الأغنياء. وربما بغى عليهم بغير هذه الأسباب.

ويبدوحتى العقلاء من قومه نصحوه بالقصد والاعتدال، وهوالمنهج السليم. فهم يحذروه من الفرح الذي يؤدي بصاحبه إلى نسيان من هوالمنعم بهذا المال، وينصحونه بالتمتع بالمال في الدنيا، من غير حتى ينسى الآخرة، عمليه حتى يعمل لآخرته بهذا المال. ويذكرونه بأن هذا المال هبة من الله وإحسان، عمليه حتى يحسن ويتصدق من هذا المال، حتى يرد الإحسان بالإحسان. ويحذرونه من الفساد في الأرض، بالبغي، والظلم، والحسد، والبغضاء، وإنفاق المال في غير وجهه، أوإمساكه عما يجب حتىقد يكون فيه. فالله لا يحب المفسدين.

فكان رد قارون جملة واحد تحمل شتى معاني الفساد (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي). لقد أنساه غروره مصدر هذه النعمة وحكمتها، وفتنه المال وأعماه الثراء. فلم يستمع قارون لنداء قومه، ولم يشعر بنعمة ربه.

وخرج قارون ذات يوم على قومه، بكامل زينته، فطارت قلوب بعض القوم، وتمنوا حتى لديهم مثل ما أوتي قارون، وأحسوا أنه في نعمة كبيرة. فرد عليهم من سمعهم من أهل الفهم والإيمان: ويلكم أيها المخدوعون، احذروا الفتنة، واتقوا الله، وافهموا حتى ثواب الله خير من هذه الزينة، وما عند الله خير مما عند قارون.

وعندما تبلغ فتنة الزينة ذروتها، وتتهافت أمامها النفوس وتتهاوى، تتدخل القدرة الإلهية لتضع حدا للفتنة، وترحم الناس الضعاف من إغراءها، وتحطم الغرور والكبرياء، فيجيء العقاب حاسما (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) هكذا في نظرة خاطفة ابتلعته الأرض وابتلعت داره. ومضى ضعيفا عاجزا، لا ينصره أحد، ولا ينتصر بجاه أومال.

وبدأ الناس يتحدثون إلى بعضهم البعض في دهشة وعجب واعتبار. فنطق الذين كانوا يتمنون حتى عندهم مال قارون وسلطانه وزينته وحظه في الدنيا: حقا إذا الله تعالى يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويوسع عليهم، أويقبض ذلك، فالحمد لله حتى منّ علينا فحفظنا من الخسف والعذاب الأليم. إنا تبنا إليك سبحانك، فلك الحمد في الأولى والآخرة.



الأجزاء :< الجزء الأول الجزء الثانى الجزء الثالث الجزء الرابع >


قصص الأنبياء موسى عليه السلام

تاريخ النشر: 2020-06-04 05:10:19
التصنيفات:

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

الشرطة الألمانية: إخلاء كل أسواق الكريسماس في دوسلدورف بسبب

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-05 21:22:25
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 56%

متحدث الزراعة: نضخ السلع بأسعار مخفضة لتحقيق التوازن فى السوق

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-05 21:22:15
مستوى الصحة: 34% الأهمية: 45%

بوتين يوقع قانونا لتوسيع الحظر على دعاية المثليين

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-05 21:22:42
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 55%

بوتين يتفقد الجسر الرابط بين شبه جزيرة القرم والأراضي الروسي

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-05 21:23:14
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 60%

وزير السياحة والآثار يعقد اجتماعاً مع رئيس هيئة تنمية الصعيد

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-05 21:21:49
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 69%

تونس والولايات المتحدة تبحثان تعزيز التعاون القضائي والقانون

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-05 21:22:34
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 69%

5 دول جديدة تنضم رسميا إلى مشروع أنبوب الغاز نيجيريا والمغرب

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-05 21:23:37
مستوى الصحة: 63% الأهمية: 75%

السفيرة الألمانية في واشنطن تعترف بخطأ بلادها في التعامل مع

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-05 21:23:03
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 62%

تعرف على تفاصيل تطوير خط القاهرة السويس والمناطق التى يخدمها

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-05 21:22:16
مستوى الصحة: 32% الأهمية: 48%

الرئيس الإسرائيلي يؤكد لنظيره الإماراتي أن جميع الإسرائيليين

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-05 21:22:38
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 64%

موظف يتقاضى 128 ألف دولار سنويا ويشكو شركته.. والسبب: مافيش شغل (فيديو)

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-05 21:22:21
مستوى الصحة: 35% الأهمية: 40%

ضبط 3 طلاب طب وطالبتين صيدلة بحوزتهم 80 طربة حشيش في كمين بسوهاج

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-05 21:22:09
مستوى الصحة: 40% الأهمية: 44%

السودان: الشرطة تفرق مناهضين لـ«التسوية» على مقربة من القصر الرئاسي

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-05 21:23:32
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 64%

الوزراء الكويتي يدين الهجوم المسلح الذي استهدف سفارة باكستان

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-05 21:23:09
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 54%

ترحيب دولي بتوقيع اتفاق إنهاء الانقلاب بالسودان

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-05 21:23:34
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 61%

الأوقاف: صرف أكثر من 330 مليون جنيه فى أعمال البر وخدمة المجتمع خلال 2022

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-05 21:22:08
مستوى الصحة: 30% الأهمية: 36%

تحميل تطبيق المنصة العربية