لا زالت المعارك جارية في محيط مدينة خيرسون، والقوتان المتحاربتان تستعيدان لصدام دموي، يمكن أن يصبح "الأكبر والأشرس" في الصراع الروسي الأوكراني، حسب مراقبين. هي الظروف التي جعلت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يأمر بإخلاء سريع لكل مدنيي المدينة، بينما حكامها الروس انتقلوا قبل ذلك إلى سكادوفسك التي تسيطر عليها موسكو وتقع على بعد 50 ميلاً من خيرسون.

ولا مفر من معركة خيرسون، هذا ما يكشفه التشبث الروسي بالمدينة، والذي تأكده تعبئة 40 ألف جندي إضافي للدفاع عنها، كما صرفه تحفيزات مالية للجنود المتعاقدين وأولئك الذين جرى استدعاؤهم للقتال. فيما تستمر قوات كييف بالتقدم على الضفة الشرقية من نهر الدنيبر، مخترقة خطوط الدفاع الروسية الأخيرة في طريقها.

قوات كييف التي تتشكل في جزء كبير منها من متطوعين مدنيين، الذين يسمون أيضاً بـ"جيش الراغتاغ"، كانت السلطات الأوكرانية قد بدأت تدريب بعضهم حتى قبل بداية الحرب، حيث قدر عددهم وقتها بـ12 ألف شخص فيما أعرب 58% من الرجال و13% من النساء عن استعدادهم لحمل السلاح ضد الروس. واستمر تطوع المدنيين في القتال بشكل أكبر بعد اندلاع المعارك، وفي أغلبهم كان ذلك رد فعل طبيعي، إذ وضعتهم في موقع سوى أن تقاتل فيه أو تموت.

هؤلاء المتطوعون الذين لهم حصة من مجد الانتصارات التي حققتها القوات الأوكرانية على طول الحرب، أبرزها في شرق البلاد حيث جرى تحرير خاركوف بالكامل وأجزاء أخرى من الدونباس، شهر سبتمبر/أيلول الماضي، إذ كانت المتطوعين في الصفوف الأمامية للقتال هناك، حسبما كشفت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية. كما يعود إليهم فضل المساهمة في منع سقوط العاصمة، وصدهم الهجوم الروسي الواسع عليها في الأسابيع الأولى للحرب.

متطوعون على جبهة خيرسون

وعلى الخطوط الأمامية في جبهة القتال في خيرسون يرصد تقرير لقناة "فرانس 24" يوميات المتطوعين المدنيين في الجيش الأوكراني، والذين يقف مصير المعركة القادمة والمدينة بأسرها على عاتقهم. "كلهم يكره الاعتراف بالتهديد الذي تشكل المعركة القادمة للأمن العالمي" يصفهم التقرير، كذلك "كلهم يتشوق بشدة إلى العودة إلى ديارهم".

خيرسون، التي تمثل لكييف، إذا ما نجحت في استردادها، أول فشل للقرار الأحادي الروسي بضمّها عبر استفتاء لقي إدانة دولية. كذلك أول خطوة نحو استرداد أقاليم الجنوب الشرقي، زابوريجيا وماريوبول ودونييتسك، وقطع المنفذ البري الوحيد لشبه جزيرة القرم.

في أواخر أغسطس/آب الماضي انطلقت حملة كييف لاسترداد الإقليم، تقودها وحدات النخبة وبدعم من جيش من المتطوعين، الذين يتنقلون صعوداً وهبوطاً على الطريق بين جبهات الاشتباك المكون من مسارين، دون أي حماية تقريباً من المقاتلات والمسيرات الروسية. أحدهم سائق شاحنة خمسيني، الذي أفشى بتذمره إلى صحفي "فرانس 24" قائلاً: "نذهب إلى هذا الطريق تحت النار ونعود إلى هذا الطريق تحت النار".

وقتها، حسبما يصف التقرير، كانوا قد انتهوا من شن قصف مدفعي على خطوط العدو وينتظرون الرد "الذي لا مفر منه" في أي لحظة. غير أن هذا الواقع لم ينل من معناويات زميل سائق الشاحنة، الذي يصغره بعشر سنوات، والذي عبَّر عن اعتزازه بالمساعدات التي يقدمها لهم سكان القرى المحررة.

وفي آخر تطورات الحملة الأوكرانية على المدينة أعلنت وزارة الدفاع الروسية أنها نجحت في صد هجمات جديدة وألحقت خسائر بالقوات المهاجمة، من بينها العشرات من الجنود. غير أن توجه موسكو المتناقض، بزيادة التواجد العسكري في الإقليم وسحب السلطات الانفصالية الحاكمة من المدينة، يدفع إلى التساؤل حول مصير المدينة المجهول حتى الآن.

خلية نحل بوتشا المسلحة

هو ذات الحال الذي يعيشه متطوعو الجيش الأوكراني في خيرسون، عاشه قبلهم زملاؤهم في بوتشا وإربين، خلال الأسابيع الأولى للحرب. حيث كان لهم، حسب تقرير سابق لـ"وول ستريت جورنال"، دور في كبح تقدم الهجوم الروسي الكاسح، الذي كان يهدف إلى السيطرة على العاصمة كييف، وإنهاء الحرب بسرعة.

وكشف تقرير الصحيفة الأمريكية أنه بينما قاتل عدد كبير من المتطوعين ونصب الكمائن لمنع تقدم القوات الروسية، كان آخرون ينفذون مهاماً مؤثرة مختلفة، إذ أطعم البعض المقاتلين وجهزهم واستضافهم في منازلهم، والبعض الآخر أزال الأشجار بحثاً عن استقبال الهاتف المحمول للإبلاغ عن تحركات الجنود الروس. ويوجد أيضاً من استقبل النازحين وعالج الجرحى.

لحظة توغل طليعة من عشرات المركبات المدرعة فوق الجسر بين بوش وإيربين وبدأت تسلق التل باتجاههم، فتح الأوكرانيون المتطوعون في معظمهم النار. وبعد معركة شرسة دامت ثلاث ساعات دمرت المركبات الروسية أو هُجرت. ومن حينها لم يعبر الروس هذا الجسر أبداً في محاولتهم التي استمرت شهراً للاستيلاء على كييف، وفق ما يسرد التقرير.

في مقاومة اعترف حتى أعداؤهم بشراستها، ولو في محادثاتهم الهاتفية لأهاليهم، تؤكد وصف رئيس كتيبة المدنيين الذين تطوعوا لبناء مسيرات باستخدام ما توفر لديهم من أجزاء جاهزة، ياروسلاف هونشار، حين قال: "نحن مثل خلية نحل (...) نحلة واحدة لا تفعل شيء، لكن يمكن لألف هزيمة قوة كبيرة".

TRT عربي