ثقافة الخطف


من المعروف أن السلوكيات تفرض نفسها بفعل العادة والتكرار، وذلك بغض النظر عن كونها إيجابية أو سلبية، نافعة أو ضارة. وليس غريبا القول بأننا نعيش ونتعايش مع ظواهر ثقافية مرفوضة ولكنها شائعة، مستهجنة فى الخطابات الأخلاقية ولكنها مبررة فى الممارسة الفعلية، والأخطر أنها ظواهر باتت كالأمراض المزمنة فد قدرتها على الاستمرار، وكالأمراض الوبائية فى قدرتها على الانتشار. والكثير من هذه الظواهر والسلوكيات ليست جديدة مثل الانتهازية والأنانية والفهلوة والتحايل والتطاول والاستباحة، ولكنها بفعل شيوعها وانتشارها فى زيادة كمية وكيفية. واذا كان الكم ظاهرا للعيان، فإن البعد الكيفى يتطلب النظر إلى السلوكيات والظواهر فى مجملها وتفاعلها. لنقل أن اجتماع هذه الظواهر بات يشكل مركب ثقافى له طبيعة مختلفة عن العناصر التى تشكله، وكما يقول الفلاسفة فإن “الكل لا يساوى مجموع أجزائه”. والمركب الذى نتحدث يمكن أن نطلق عليه “ثقافة الخطف” باعتبار أن فكرة الخطف يمكن أن تشكل حلقة الوصل بين الظواهر الجزئية المتعددة.

ولكن ما المقصود بـ”ثقافة الخطف”؟ عندما نتأمل فى السلوكيات المحيطة بنا، نلاحظ أن كل شئ يمكن أن يكون قابلا للاختطاف با ستخدام أساليب وسلوكيات مختلفة، والخطف الذى نقده لا يعنى السرقة بالمعنى الجنائى القانونى، ولكن الاستباحة والتجاوز والتطاول، مثلا التحرش الجنسى لخطفالأجساد بالاستباحة، وهى مسألة تتجاوز ما كان معروفا عن اختلاس النظر. وكذلك السلوكيات المرتبطة بعدم احترام أبسط قواعد المرور، فبشكل متزايد بات السير فى عكس الاتجاه مثلا أمرا عاديا، فلا غضاضة فى “سرقة مسافة ما أو خطفها” ، وحتى الظواهر الطبيعية مثل النوم فكثيرا ما “نخطف ساعتين للنوم”، وصولا إلى العبادات كأن “نخطف ركعتين”. والمسألة لا يمكن تفسيرها فقط بسلوكيات كالانتهازية والأنانية، بل بوصفها إفرازات سياق ثقافى بات محل توافق بالمعنى العملى.

وهنا ربما يكون علينا توضيح بعض أوجه الختلاف بين الانتهازية كسلوك والخطف كثقافة. فمن الناحية اللغوية، تعنى كلمة الانتهازية الاغتنام، فنقول “انتهز الفرصة” أى اغتنمها، كما تعنى الإسراع فى قبول الشئ أو تناوله، وهناك كذلك المعنى الذى يفيد الإفراط بمعنى ” اِنْتَهَزَ في الضَّحِكِ : أَفْرَطَ فيهِ، أو بالَغَ فِيهِ.. وكلمة ناهز كفعل تعنى الاقتراب كأن نقول “ناهز الخمسين”، أى اقترب من سن الخمسين. وبالمعنى الاصطلاحى، ووفق بعض التعريفات القاموسية، فإن كلمة “انتهازية” تعنى اغتنام أو اقتناص الفرص وجعل المصلحة الخاصة أولوية على المصلحة العامة. و هى: فن أو سياسة أو ممارسة للاستفادة من الفرص أو الظروف في كثير من الأحيان مع القليل من الاهتمام بالمبادئ أو العواقب. فهو سلوك يستخدم فيه الفرد كل موقف لمحاولة الحصول على القوة أو الميزة.

والانتهازية معروفة ومبررة فى النظريات السياسية والاقتصادية التي تدعي أن البشر يهتمون بأنفسهم بشكل عام ويستفيدون من الآخرين عندما يكون ذلك ممكنًا. وبالتالى فإن الانتهازية تعد أحد المهارات التى قد يتفاخر السياسى أو رجل الأعمال بامتلاكها، لكن المشكلة عندما تصبح حالة ثقافية واجتماعية تؤطر الممارسات اليومية والعلاقات الاجتماعية والإنسانية. فعلى المستوى الاجتماعى فإن الانتهازية مستهجنة، ومع ذلك يمكن اغتنام الفرص لعمل شئ إيجابى لصالح الذات أو الغير، أو حتى للحصول على فرصة لا تضر بالآخرين، كفرصة عمل مواتية، مثلا عندما يغتنم المدخن فترة الصيام ليقلع عن التدخين. وهنا يبدو الفرق بين الاغتنام والاقتناص حيث يمكن افتراض أن تعبير اغتنام الفرص (من غنيمة) أكثر ليونة وقابلية للتوظيف الجيد، أما تعبير اقتناص الفرص (من قنص أو صيد) فيحمل دلالات أكثر عنفا.

ولذا فقد يكون سلوك (القنص) هو الأكثر قابلية للتوظيف داخل مركب “ثقافة الخطف”. فمعنى كلمة الْخَطْفُ فى لسان العرب: الِاسْتِلَابُ، والانتزاع. وَالْخَاطِفُ هو الذِّئْبُ الذى يَخْتَطِفُ الْفَرِيسَةَ، وَالبَرْقٌ خَاطِفٌ لِنُورِ الْأَبْصَارِ. والشَّيْطَانُ، يَخْطَفُ السَّمْعَ: أى يَسْتَرِقُهُ، وَالْخُطَّافُ: الرَّجُلُ اللِّصُّ الْفَاسِقُ. وَخَاطِفُ ظِلِّهِ: هُوَ طَائِرٌ يُقَالُ لَهُ الرَّفْرَافُ إِذَا رَأَى ظِلَّهُ فِي الْمَاءِ أَقْبَلَ إِلَيْهِ لِيَخْطَفَهُ يَحْسَبُهُ صَيْدًا”.وهذا السلوك العنيف والمباغت والسريع يشمل إلى جانب القنص عناصر أخرى وفى مقدمتها الأنانية والاستباحة والفهلوة والتحايل.

وربما نجد أسبابا عديدة لتفشى “ثقافة الخطف” بداية من اختلال أنظمة الضبط الاجتماعى بالمعنى التربوى والقانونى الأمر الذى يفضى إلى إنفلاتالنزعات الفردية، وحتى انتشار القلق والخوف وعدم الاحساس بالأمان وهو الأمر الذى يؤجج الرغبة فى الحصول على الأشياء، أو خطفها، حتى لو كانت بلا قيمة. فمثل الطائر الذى يخطف ظله، قد لا يعنى الخطف بالنسبة للبعض وجود فرصة للاختطاف، وإنما أسلوب حياة أصبح فيه الخطف نزعة تفرض سطوتها ومشروعيتها. والغريب أن يتزامن انتقاد هذه السلوكيات مع ممارستها، تماما مثل تجاور التفاخر بالأخلاق مع عدم احترام القواعد والقوانين.

تاريخ الخبر: 2023-02-06 09:22:52
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 50%
الأهمية: 68%

آخر الأخبار حول العالم

وفاة مدرب الأرجنتين السابق لويس مينوتي بطل مونديال 1978

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 12:26:00
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 70%

عملية الإخلاء من رفح تشمل نحو 100 ألف شخص وحماس تصفها بـ"تطور خطير"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 12:26:18
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 63%

عملية الإخلاء من رفح تشمل نحو 100 ألف شخص وحماس تصفها بـ"تطور خطير"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 12:26:14
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 66%

وفاة مدرب الأرجنتين السابق لويس مينوتي بطل مونديال 1978

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 12:26:04
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 51%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية