متحف سيرتا العمومي بقسنطينة

المخيال الجزائري و الاستشراقي في لوحات عابرة للزمن

يعرض المتحف العمومي « سيرتا» بقسنطينة، على جدران أروقته وقاعاته لوحات نادرة تجمع بين المخيال الفني العربي الجزائري و الاستشراق، وتمزج بين عدة طبوع فنية لمدارس تشكيلية مختلفة، حيث اختار كل فنان أن يبرز بصمته من خلال تقنيات وأساليب فريدة تمكنه من إيصال رسالته، أعمال فنية لا تلتمس من خلالها خطوط وأشكال وألوان فقط، بل يدخل المتمعن فيها كبسولة الزمن ليعيش أحداثا تاريخية جرت في عصور ماضية يزيد عمرها عن أربعة قرون، فيُشارك أبطال اللوحة مشاعرهم وتجاربهم.

يُطل المتحف على زائريه من قلب المدينة و تحديدا من حي الكدية، يفتح أبوابه عند الثامنة صباحا ليستقبل زواره من مختلف أنحاء الوطن والعالم المتذوقين للتاريخ والثقافة والفن، والباحثين عن أندر القطع ونفائس الأعمال الإبداعية، التي تؤرخ لفترات وأزمنة تاريخية مختلفة، تُظهر مدى التحكم الفني في ضرب الريشة وسحب الخطوط وتحريكها عشوائيا أو بانتظام، لإعطاء ملمح نهائي للوحة التشكيلية، التي تروي بين تفاصيل ألوانها وثنايا الورق والقماش، تقنية مدرسة واقعية أو تجريدية أو انطباعية أو رومانسية أو غير ذلك، وتُعرف بأدق الأدوات والتقنيات الفنية التي اعتمدها الفنانون في خط لوحاتهم، واللمسات الذكية الحسابية والهندسية والفيزيائية بتطبيق الإسقاطات وتحديد زوايا النظر مع التلاعب بحدقة العين واتجاهها و تحديد أماكن الإضاءة والتظليل، التي تضفي بصمة مميزة على الصورة، لمسات تدغدغ فضول الناظرين إليها، وتدفع بهم للاستفسار عن معنى كل تلك الخطوط المتداخلة فيما بينها وإلى ماذا ترمز وتشير، وعن سر نظرة الفتاة وحزنها في عمل أنتوان غادون وما الحوار الذي يدور بين العجوزين في لوحة « المسنات (الشوافة)» لإيتيان ديني، وما سبب كل ذلك الحزن الذي يخيم على أعمال الفنان الجزائري محمد إيسياخم، وكيف استطاع الجزائريون الصمود في وجه المستعمر الفرنسي والنجاة من الموت الحتمي جراء المجاعة التي طالت البلاد لقرابة 3 سنوات أو يزيد.
رواق ينبض بالفن
تكفيك 200دج للولوج إلى عالم من فانتازيا الفن والجمال، فالزائر للمتحف يستطيع أن يتجول بكل أريحية بين قاعات الفن الثالث بدءا من رواق الفن العالمي بالطابق الأول، والذي تتزين جدرانه بثمان لوحات تشكيلية من الحجم المتوسط والكبير، تعود لفنانين عالميين ترجموا جمال ما رأت أعينهم وما سمعته آذانهم بألوان زيتية على خلفيات من القماش الخشن.
 تحمل اللوحات عناوين مختلفة منها «بقعة أرض في نيويورك» لبول جوبار، و"الحشاشون" لغابريال فيري الذي رسم مشهدا لتجمع حشاشين بقسنطينة، تظهر ملابسهم و الفاكهة التي يتقاسمونها وهي اليوسفي، بأنه لقاء شتوي، هناك أيضا لوحتان لغوستاف أوقيست دوبا، الأولى «خوانق الرمال» والثانية «حمامات ومسابح بواد الرمال»، حيث أعطى الرسام صورة عن تضاريس المدينة قديما وعن مجريات الحياة في سنوات ماضية، في حين رسم ليون كوفي، لوحة «نساء فوق سطح بالقصبة» أظهر من خلالها جلسة نسوية تجمع بين مالكة المنزل وخادمتها، مع إظهار جزء من مئذنة جامع كتشاوة بالجزائر العاصمة وإبراز بلاط الأرضية باللونين الأبيض والأسود والمعروف بـ « الخادم ولالاتو»، فيما أراد هانري دبادي، من خلال عمله الفني امرأة أمام البحر أن يعطي ملمحا ونظرة عامة عن الفصول الأربعة في مدينة بجاية، و حاول من خلال لوحة واحدة أن يجعل المتمعن في العمل يستشعر حرارة الصيف وبرد الشتاء والحاجة إلى الرداء الخشن، و كآبة الخريف مع تساقط أوراق الشجر وتعري الأغصان، وكذا استنشاق نسمة الربيع التي تزهر النفس بها، خصوصا مع تفتح الورود والزهور وامتلاء الأرض بالألوان الزاهية التي تعيد للقلب بهجته وللوجه بسمته، في حين نقل غوسطاف غيومي عبر عمله الفني « المجاعة في الجزائر» الحالة المأساوية التي عانى منها الآباء والأجداد تحت وطأة المستدمر الفرنسي.
سرداب المجاعة
واستطاع الفنان الفرنسي غوستاف غيومي الذي أعجب بالجزائر وأغرم بها، أن ينقل بعض صور التاريخ ومجرياته إبان الاستعمار الفرنسي، في لوحاته التشكيلية معتمدا على إبداع أنامله وحسه الفني المرهف وكذا ضميره الإنساني، في نقل حقيقة ما تجرعه شعب الجزائر طيلة فترة الاستعمار الذي استنزف ثروات وأراضي وخيرات البلد وقضى على أرواح مليون ونصف مليون شهيد في فترة 132 سنة، بما يعادل 31 قتيلا في اليوم الواحد.
ويظهر في لوحة الفنان الموسومة بـ "المجاعة في الجزائر" 13 شخصا من بينهم رجال ونساء وأطفال وشيوخ، في شارع قرب منزل أحد أثرياء قصبة الجزائر آنذاك، ينتظرون صدقة أو رغيفا قد يرمى لهم من نافذة علوية صغيرة تطل على الزقاق، وهو ما يظهر جليا من خلال التفاصيل التي تسردها اللوحة، ويد المرأة الثرية المزينة بالحلي والمجوهرات الثمينة تمتد نحو الخارج لإلقاء الخبز حتى يلتقطه من نكل بهم الفقر، فأدى إلى تدهور صحتهم ونحافة أجسادهم لدرجة التصاق الجلد بالعظم وترهله وانحناء الظهر والكتفين وانثناء الركبتين، بسبب استنزاف طاقة الجسد لانعدام الطعام والشراب بعد الحصار الذي فرضته فرنسا على الجزائريين طيلة ثلاث سنوات أو أكثر، ما أدى إلى موت الكثيرين ومرض آخرين بعد تلك الحادثة المأساوية، التي أبى الرسام إلا أن يمررها وينقلها للعالم، حتى يدرك الآخرون حجم المعاناة التي يعيشها شعب الجزائر تحت وطأة المستعمر ووحشيته.
 ورغم غياب الرسام عن الأراضي الجزائرية آنذاك، إلا أنه عاد بعد معرفته بالأمر، إذ يقال وفق ما أكدته لنا المرشدة الثقافية بمتحف سيرتا والمتخصصة في مجال الرسم الزيتي، أمينة قسوم، إن الفنان أعاد تجسيد المشهد وتمثيله باقتناء ملابس بالية ألبسها للمشردين في الشوارع، حتى يعيد رسم الحادثة بتفاصيلها الدقيقة في لوحة ضخمة تجسد الأبعاد الحقيقية للأشخاص، حجمها 360 مترا على 240 مترا.

والتمس غوستاف في عمله الفني الإنساني، أسلوبا استخلصه من المدرسة الواقعية التعبيرية، كونه نقل حدثا حقيقيا جرى بحي القصبة العتيق في الجزائر العاصمة سنوات الاستعمار الفرنسي، مع انتهاجه لمعايير تندرج ضمن الطابع الرومانسي أيضا، إذ نقل أحاسيس وتعابير وجه شخصيات اللوحة التي من شأنها ملامسة مشاعر الناظرين إليها والمتمعنين في تفاصيلها، فقد ركز على إظهار دمعة العجوز التي تشق طريقها عبر تجاعيد خدها، و زم الشفتين كتعبير عن البؤس والشقاء وفقدان الأمل ونظرة عينها الحزينة التي تحكي مشاعر حسرة وأفكارا مشوشة تدور في حلقة لا تفضي سوى للحزن، تتبعها أسئلة واستفسارات مفادها إلى متى سيظل الحال هكذا ؟ ومتى ستنتهي المعاناة ؟
 أما الرجل الواقف قرب الحائط، جاحظ العينين المتلهف لرغيف الخبز فقد أظهر عظام ظهره المنقوشة على جلده، ليشرح بعمق حجم المعاناة الصعبة التي تجرع مرارتها الجزائريون آنذاك، وهو ما يؤكده مظهر المرأة المرضعة الملقاة على الأرض ورضيعها بالقرب منها، وقد جف ثدياها من الحليب ولم يجد ابنها ما يقاوم به جوعه.
لم يكن غوستاف غيومي، الوحيد الذي اختار أن يروي قصة سرداب المجاعة، فحتى الفنان جورج كاست رسم لوحة تعرض أيضا في واحدة من قاعات متحف سيرتا، تظهر حجم المعاناة التي عاشها سكان الهند في السابق، وتعكس من جهة أخرى تقاليد وعادات هذا الشعب المحب للحياة و الذي يترجم ذلك من خلال الألوان في لباسه وكل تفاصيل حياته.
خوانق الصخر العتيق وصفاء وادي الرمال
غادرنا رواق الفن العالمي صعودا نحو الطابق الثاني، لتبدأ رحلتنا بين أحضان قاعة قسنطينة، فضاء تكتسي جدرانه عددا من اللوحات الفنية المستوحاة من المدرسة الواقعية التعبيرية، بعد أن تم وضعها في إطارات خشبية مختلفة الأحجام والأشكال والألوان، جل الأعمال المعروضة تظهر مدى تأثر الفنانين الغربيين بجمال قسنطينة وشموخ تضاريسها التي ظلت صامدة في وجه الاستدمار ومختلف الظواهر الطبيعية، أين عمد كل من غوستاف دوبا و مارسيل أندري روندوناي و أوسكار سبيلمان واستار لوبواتفان، إلى إبراز معالم المدينة القديمة من 1806 إلى غاية 1973 بأدق تفاصيلها، و صوروا الشوارع والأزقة والبيوت العتيقة و وسط الدار وأبرزوا لون الجدران التي لطالما دهنت بالنيلة الزرقاء الممزوجة مع الجير، وأغصان الخشب المثبتة على الأسقف من الأعلى، ولباس المرأة القسنطينية و حليها الذهبية وعصبة الرأس بالمحرمة مع تثبيت القرن فوقها، والظاهر من خلال اللوحات أنه تقليد كانت تعتمده النساء وحتى الفتيات الصغيرات.
أبرز الفنانون أيضا خوانق واد الرمال، والتضاريس المخفية للصخر العتيق، خاصمة ما تتعذر رؤيته من الأعلى، ويتبين من خلال الأعمال الفنية أن واد الرمال كان مجرى مياه صاف تعيش فيه الأسماك، نظرا لوجود الصيادين، كما يلاحظ أن خوانق الوادي كانت مكانا سياحيا بامتياز يتوجه إليه الرجال والنساء للتنزه.
موناليزا الطفلة الحزينة وغموض إسياخم
عند التوجه إلى قاعتي الفن الإسلامي و المستشرقين الغربيين، تقابلك عديد اللوحات الفنية التي علقت على جدران غرف مستطيلة الشكل، تغلب عليها الألوان الزاهية والزخارف والخطوط العربية وحتى الخطوط العشوائية، في خلفيات ورقية وأخرى قماشية بأحجام مختلفة، وفق طبيعة الموضوع المعالج في الصورة و التقنية المعتمدة والمدرسة التي ينتمي إليها الرسام، فغالبية المنمنمات تظهر بحجم صغير أو متوسط، ويتم رسمها بالاعتماد على العدسة المكبرة للوقوف عند النقطة ولتتبع مسار الحركة، ولإبراز أدق التفاصيل للباس أو البشرة أو الحلي أو الزخرفة أو الأزهار وغيرهم.
وما يلفت الانتباه بشكل كبير لوحتان للرسام الجزائري محمد إسياخم، يلفهما الغموض، بسبب مزيج الخطوط والألوان والأشكال في كل لوحة، غموض يصعب مهمة فهم العمل و رمزيته و المغزى منه دون العودة إلى قصته و القراءة عنه، قالت مرشدتنا، إن لوحة الهجر والأمومة التي تم رسمها سنة 1978 كما دون في البطاقة التعريفية المرفقة، تحكي عن ثلاثة أشخاص اثنان توفيا وهما والدة الرسام وشقيقه، أما الشخص الثالث في الأسفل فهو صاحب الريشة، وقد اعتمد في رسم لوحته على الأسلوب التجريدي باستعمال ألوان زيتية يطغى عليها الأصفر والأسود، ويبدو الحزن جليا وظاهرا في اللوحة، أما العمل الثاني للفنان والموسوم «بالتاريخ يعيد نفسه» فقد اعتمد على الأسلوب التجريدي في توزيع الخطوط العشوائية.
أما لوحة «الطفلة» للفنان أنتوان غادون، والمعروفة بموناليزا قسنطينة، فتعود لفتاة ثرية لا تقوى على المشي وهو الظاهر من خلال الحذاء الذي ترتديه، ناهيك عن الحزن على وجهها والبارز من خلال عينيها، وشحوب بشرتها، رغم الملابس الحريرية التي ترتديها والحلي الذهبية التي تتزين بها والدافع لتسميتها بموناليزا المتحف، هي نظرة الفتاة التي تحمل سرا اعتمده الفنان حين رسمها أين تلاعب بحجم وحركة حدقة العين ليخيل للناظر إليها من أي اتجاه كان أن الطفلة تادله النظر وتراقبه بعينيها وتتبع حركته أينما ذهب.
رميساء جبيل

تاريخ الخبر: 2023-09-05 00:25:04
المصدر: جريدة النصر - الجزائر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 60%
الأهمية: 60%

آخر الأخبار حول العالم

العربية للطيران ترفع عدد رحلاتها بين مدينتي أكادير والرباط

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-02 03:25:12
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 68%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية