الجَفَاء لغةً:

خلاف البِرِّ ونقيض الصِّلة، وأيضًا غلظ الطبع. ينطق: جفاه. إذا بعد عنه، وأجفاه: إذا أبعده، وجفوت الرجل أجفوه: أعرضت عنه أوطردته، وهومأخوذ من جفاء السيل، وهوما نفاه السيل، وقد يحدث مع بغض، وجفا الثوب يجفو: إذا غلظ فهوجاف، ومنه جفاء البدووهوغلظتهم. والجَفَاء

اصطلاحًا:

هوالغِلَظ في العِشْرَة، والخُرْق في المعاملة، وهجر الرِّفق في الأمور. .

نطق المباركفوري: (الجَفَاء: غِلَظ الطَّبع) . ونطق العيني: (الجَفَاء هو: الغِلَظ في الطَّبع لقلَّة مخالطة النَّاس).

ذكر الجفاء في السُّنة والتحذير منه

نطق ملا علي القاري: (... ((والبَذَاء)) -بفتح الباء- خلاف الحياء، والنَّاشئ منه الفُحْش في القول، والسُّوء في الخُلُق. مِن الجَفَاء: وهوخلاف البِرِّ الصَّادر منه الوفاء. ((والجَفَاء)). أي: أهله التَّاركون للوفاء، الثَّابتون على غلاظة الطَّبع وقساوة القلب. في النَّار. إمَّا مدَّة أوأبدًا؛ لأنَّه في لقاء الإيمان الكامل أومطلقه، فصاحبه إمَّا مِن أهل الكفران أوالكفر).

في هذا الحديث يبيِّن رسول الله سببًا مِن مسببات الجَفَاء والغِلْظَة في الطَّبع والمعاملة، وهذا السَّبب هوالسُّكنى في البادية والعيش فيها، لما في ذلك مِن بعدٍ عن النَّاس، والبعد عن معاشرتهم التي تولِّد الرِّقة في القلب، والعطف في المعاملة، وكذلك لأنها تؤدي إلى البعد عن مواطن الفهم ومجالس الذِّكر. فالإنسان يكتسب مِن أخلاق غيره بالمعاشرة، وتتروَّض نفسه بحسب مَن حولها، وكلَّما اقترب الإنسان مِن أهل الحاضرة، كلَّما كان أرقَّ أخلاقًا وألطف طبعًا، وأحسن معاملة لمن حوله، والعكس بالعكس، نطق السيوطي: (... ((مَن سكن البادية جَفَا)). أي: غَلُظ طبعه، وصار جافيًا بعد لطف الأخلاق؛ لفقد مَن يروِّضه ويؤدِّبه). ونطق المباركفوري: (وهوالغالب على سكَّان البوادي؛ لبعدهم عن أهل الفهم، وقلَّة اختلاطهم بالنَّاس، فصارت طباعهم كطباع الوحوش ...).

نطق ملا علي القاري: (... ((والجَفاء)) -بالمدِّ- ضدُّ الوفاء... والأظهر أنَّ المراد به هاهنا غِلَظ الألسنة، بقرينة قوله: ((وغِلَظ القلوب في الفدَّادين أهل الوبر)). بيان للفدَّادين، ويُرَاد بأهل الوبر: الأعراب أوسكَّان الصَّحاري، وإنَّما ذمَّهم؛ لبعدهم عن المدن والقرى، الموجب لقلَّة الفهم الحاصل به حسن الأخلاق لهم، وسائر علوم الشَّريعة...). ونطق المناوي: (ويحتمل أنَّ المراد بالجَفاء أنَّ القلب لا يميل لموعظة، ولا يخشع لتذكرة، والمراد بالغِلَظ: أنَّها لا تفهم المراد، ولا تعقل المعنى)

أشكال وصور الجفاء

1- جفاء الإنسان ربَّه:

وذلكقد يكون بعدم ذكره وقساوة قلبه. نطق تعالى: ((فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله)) [الزمر:22]. ونطق أيضًا: ((ألم يأن للذين آمنوا حتى تخشع قلوبهم لذكر الله وما هبط من الحق)) [الحديد:16]، (فلا جَفَاء أعظم ممَّن صبر عن معبوده وإلهه ومولاه، الذي لا مولى له سواه، ولا حياة له ولا صلاح ولا نعيم إلَّا بمحبَّته والقرب منه، وإيثار سقماته على كلِّ شيء، فأيُّ جفاء أعظم مِن الصَّبر عنه).

2- جفاء النبي :

وله مظاهر متعددة، منها: البعد عن سنته، والعدول عن سيرته، ونزع هيبة كلامه، وعدم الصلاة عليه عند ذكره، نطق تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)) [الحجرات:2]

3- جفاء الوالدين:

بالتَّأفُّف وغِلَظ القول لهما، أوبترهما ونحوه. نطق طاووس بن كيسان اليماني: (مِن الجَفَاء حتى يدعوالرَّجل والده باسمه).

4- جفاء الرَّجل زوجته وأولاده:

يقول ابن سعدي: (وكذلك رحمة الأطفال الصِّغار، والرِّقَّة عليهم، وإدخال السُّرور عليهم مِن الرَّحمة، وأمَّا عدم المبالاة بهم، وعدم الرِّقَّة عليهم، فمِن الجَفَاء والغِلْظَة والقسوة، كما نطق بعض جُفاة الأعراب حين رأى النَّبي وأصحابه يقبِّلون أولادهم الصِّغار، فنطق ذلك الأعرابي: إنَّ لي عشرة مِن الولد ما قبَّلت واحدًا منهم،

فنطق النَّبيُّ : ((أَوَ أَمْلِك لك شيئًا حتى نزع الله مِن قلبك الرَّحمة؟)) .

5- جفاء الصَّديق:

نطق رسول الله : "لا يحل لمسلم حتى يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فمات ولج النار". وعن أبي خراش السلمي ـ أنه سمع رسول الله يقول:

"من هجر أخاه سنة فهوكسفك دمه"

6- الجَفاء الشَّديد مع النَّاس في معاملتهم والحديث معهم:

نطق رسول الله :

– "المؤمن مَأْلَفَةٌ (يعني يألف الناس ويألفونه)، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف" .

والأدهى مِن ذلك والأَمَرُّ: جفوة المنتسبين إلى الدِّين عمومًا، والدُّعاة إلى الله خصوصًا، فإنَّ بعضهم يظنُّ أنَّ هذه الجفوة مِن الدِّين، وأنَّها تكسوالدَّاعية وقارًا، وتعطيه هيبة، وقد أخطأ، بل إنَّ لها أثرًا سيئًا وتأتي بخلاف المقصود، فهي تنفِّر النَّاس عن دين الله، وتصدُّهم عن معهدته، وتباعدهم عن سبيله، ويكون هوذاته سببًا في ذلك، لذا امتنَّ الله على رسوله حتى جعله رقيق الطَّبع، طيِّب القلب، ولم يجعله فظًّا ولا غليظًا، نطق تعالى: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ)) [آل عمران: 159].

7- جفاء القرآن:

نطق رسول الله : (( اقرؤوا القرآن، فإذا قرأتموه فلا تستكبروا به، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه)) .

أسباب الوقوع في الجَفَاء

1- ضعف الإيمان وقلَّة الفهم، لذا كان أهل البداوة أكثر النَّاس جفاءً.

نطق المباركفوري: قَوْلُهُ : ((مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا)) أَيْ: جَهِلَ، قَالَ تَعَالَى: (( الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَنْ لَا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ))-سورة التوبة 97-.

قَالَ الْقَاضِي: جَفَا الرَّجُلُ إِذَا غَلُظَ قَلْبُهُ وَقَسَا وَلَمْ يَرِقَّ لِبِرٍّ وَصِلَةِ رَحِمٍ وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى سُكَّانِ الْبَوَادِي لِبُعْدِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقِلَّةِ اِخْتِلَاطِهِمْ بِالنَّاسِ.

2- تزيين الشَّيطان: نطق تعالى:  وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا   [الإسراء: 53]

3- الحسد قد يولِّد الجَفَاء بين الناس، ويوسِّع النُّفْرَة بينهما؛ لأنَّه: (إذا شاع الحسد بين النَّاس، وحسد بعضهم بعضًا زال الخير عنهم، وحلَّ الجَفَاء، واشتعلت نار الفتنة، وعمَّتهم المصيبة والمحنة) .

4- البعد عن المنهج الصَّحيح في معاملة الآخرين: فمن سبل الشيطان استغلال عدم فهم المرء بكيفية معاملته لباقي الناس، نطق تعالى:  وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا   [الإسراء: 53].

5- هجر النُّصح والتَّوجيه لمن اتَّصف بهذه الصِّفة، والمعاتبة بالحسنى حتى يرعوي، نطق أبوحاتم البستي: (إنَّ مِن أعظم الجَفَاء هجر العتاب).

6- أثر البيئة والتنشئة في الصغر على نموهذه الصفة:

آثار التخلق بخلق الجفاء على الفرد والمجتمع

1. التَّنافر بين النَّاس.
2. تقطُّع أواصر المودَّة والمحبَّة، خاصَّة مع الأهل والأقرباء.
3. كثرة حدوث المشكلات.
4. الحرمان من معونة الناس عند نزول الشدائد
5. الجافي متوعَّد بالعقوبة الأخرويَّة بالعذاب في النَّار.
6. تفكك الأسر، وكثرة حدوث المشكلات الزوجية والطلاق.
7. فقدان الصَّديق.

طرق التخلص من الجفاء

تكمن الوسائل المعينة على هجر الجفاء بالبعد عن أسبابه التي يسببها، فمنها:

1. زيادة الإيمان والتحصيل الفهمي الشرعي.
2. الاختلاط بالنَّاس والصَّبر على أذاهم سببٌ آخر لهجر هذا الخُلُق، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ( الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ ) .

1. نصح الأخ لأخيه. وعتابه عليه.
2. فهم عقوبة الجفاء في الدنيا والآخرة.
3. الصبر على جفاء الإخوان ولا يقابلهم بالمثل، نطق أبوحاتم البستي: (العاقل يتفقَّد هجر الجَفاء مع الإخوان، ويراعي محوها إذا بدت منه، ولا يجب حتى يستضعف الجفوة اليسيرة؛ لأنَّ مَن استصغر الصَّغير يوشك حتى يجمع إليه صغيرًا، فإذا الصَّغير كبير، بل يبلغ مجهوده في محوها).

أقوال وحِكَم في الجَفَاء

- نطق مالك بن أنس: (ما قلَّت الآثار في قوم إلَّا كَثُرَت فيهم الأهواء، وإذا قلَّت الفهماء ظهر في النَّاس الجَفَاء).

- ونطق سفيان الثوري: (إيَّاك ومجالسة أهل الجَفَاء، ولا تصحب إلَّا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلَّا تقيٌّ، ولا تصاحب الفاجر ولا تجالسه).

- عن طاووس نطق: (مِن السُّنَّة حتى يُوقَّر أربعة: العالم، وذوالشَّيبة، والسُّلطان، والوالد، ومِن الجَفَاء حتى يدعوالرَّجل والده باسمه).

- وعن محمَّد بن إسحاق السَّرَّاج، نطق: (خط إليَّ ابن أبي الدُّنيا مِن بغداد: يا أخي! عزيزٌ عليَّ جفاء مثلك، وما أنت إلَّا كما قيل:

- ونطق يحيى بن معاذ: (حقيقة المحبَّة لا يزيدها البرُّ، ولا ينقصها الجَفاء).

الصبر على الجفاء

نطق ابن حزم الأندلسي: (الصَّبر على الجَفَاء ينقسم ثلاثة أقسام:

1. فصبر عمَّن يقدر عليك، ولا تقدر عليه.
2. وصبر عمَّن تقدر عليه، ولا يقدر عليك.
3. وصبر عمَّن لا تقدر عليه، ولا يقدر عليك.

فالأوَّل ذلٌّ ومهانة، وليس مِن الفضائل، والرأي لمن خشي ما أشدُّ ممَّا يصبر عليه المتاركة والمباعدة.

والثَّاني فضلٌ وبِرٌّ، وهوالحِلْم على الحقيقة، وهوالذي يوصف به الفضلاء،

والثَّالث ينقسم قسمين:

1. إمَّا حتىقد يكون الجَفَاء ممَّن لم يقع منه إلَّا على سبيل الغلط، ويفهم قبح ما أتى به، ويندم عليه، فالصَّبر عليه فضل وفرض، وهوحِلْم على الحقيقة.
2. وأمَّا مَن كان لا يدري مقدار نفسه، ويظنُّ أنَّ لها حقًّا يستطيل به، فلا يندم على ما سلف منه، فالصَّبر عليه ذلٌّ للصَّابر، وإفساد للمصبور عليه؛ لأنَّه يزيد استشراءً، والمقارضة له سخف، والصَّواب إعلامه بأنَّه كان ممكنًا حتى ينتصر منه، وإنَّه إنَّما هجر ذلك استرذالًا له فقط، وصيانة عن مراجعته، ولا يُزاد على ذلك، وأمَّا جفاء السِّفْلة فليس جزاؤه إلَّا النَّكال وحده).

المراجع