سوق مَجَنَّة هوأحد الأسواق الثلاثة الكبرى للعرب في الجاهليَّة والتي كانت تقوم في أواخر شهر ذوالقعدة من جميع عام بمر الظهران (الجمُوم) شمال مكة المكرمة على طريق الحج الشامي قديمًا، وكان يرتاده النبي محمد لدعوة القبائل العربيَّة للإسلام. يعدُّ سوق مجنّة من أبرز الظواهر الحضارية التي قدّمت عددًا من الخدمات، وأسهمت في الأنشطة الحضارية والاجتماعية ووفّرت كثيرًا من المواد التجارية والمتطلبات للحجاج والمتسوّقين والمسافرين، وعادت على أهلها بالمنافع المادية والفكرية قبل الإسلام وبعده، لا سيما على قبيلة قريش سادة مكة في ذلك الوقت، حيث كان يقصده الحجاج والتجار وقبائل العرب.

كانت العرب تقضي الـ20 يومًا الأولى من شهر ذوالقعدة في سوق عكاظ ثم تسير إلى سوق مَجَنَّة فتقضي فيه العشرة أيام الأخيرة من الشهر، ثم يسيرون إلى سوق ذي المجاز فيقضون فيه الثمانية أيام الأولى من شهر ذي الحجة ثم يسيرون إلى حجهم.

والواقع حتى شعيرة الحج هجرت آثارًا اقتصادية واجتماعية في العرب عمومًا، فقد كانت تقام في موسمه أسواق عكاظ ومجنّة وذي المجاز إحدى أبرز تنطقيده السنوية بأيامها المعلومة ومواقعها الثابتة التي اكتسبت صفة الأسواق الدولية، ويفد إليها العرب من جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية، من الشام والعراق واليمن على اختلاف قبائلهم وبيئاتهم وعقائدهم، فيلتقون في هذه الأسواق ويتبادلون فيها السلع ويقيمون أودهم ويتزوّدون بحاجياتهم وعرض إنتاجهم الفكري والأدبي شعرًا ونثرًا، وإقامة مجالس المفاخرة والمفاضلة بين الشعراء، وعقد حلقات السمر وتداول الأخبار ومزاولة الألعاب الرياضية كالفروسية والسباق والمصارعة، فلم تكن تلك الأسواق أسواقًا تجارية فحسب، بل صارت ميادين للأنشطة الأدبية بمختلف ألوانها ومسرحًا للأدب والشعر والخطابة والقضاء للفصل بين المتخاصمين والمتنافسين، الأمر الذي ميّز مكة وأهلها عن غيرها فأصبحت مركزًا من مراكز الثقافة والأدب.

وفي صدر الإسلام ظلّت سوق مجنّة باقيةً حينًا من الدهر، ثم آلت إلى الإهمال وعدم الإقبال، إذ انصرف المسلمون عنها إلى أسواق أخرى أفضل منها، فلم يعد لها أثر كبير في دفع الحركة الأدبية والفهمية والتجارية، وقد انتهت سوقا مجنّة وذي المجاز مع عكاظ في عام 129هـ، أوقبلها أوبعدها، إذ استعاض الناس عنها بأسواق مكة الدائمة في المشاعر المقدسة، مثل: مِنى وعهدات.

أهميته

كان سوق مَجِنَّة يقام لمدة عشرة أيام من آخر شهر ذي القعدة إلى ليلة طلوع هلال شهر ذي الحجة، حيث كان عكاظ يقام في الأيام العشرين الأولى من شهر ذي القعدة ثم يقام سوق مَجِنَّة في الأيام العشرة الأخيرة من شهر ذي القعدة ثم يقام سوق ذي المجاز في الأيام الثمانية الأولى من شهر ذي الحجة. نطق الفاكهي: لم تزل هذه الأسواق قائمة في الإسلام إلى حتى كان أول ما هجر منها سوق عكاظ في زمن الخوارج سنة 129 هـ وآخر ما هجر منها سوق حباشة في زمن داود بن عيسى بن موسى العباسي في سنة 197 هـ. وكان النبي محمد يرتاد هذا السوق لدعوة القبائل العربية إلى الإسلام ففي حديث أبي الزبير، عن جابر: حتى النبي لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في الموسم بمَجِنَّة وعكاظ يبلغ رسالات ربه.

سبب التسمية

اختلف في تسميته على عدة أقوال، فقد تعدّدت تشكيلاتها اللغوية بيت مَجَنّة، ومَجِنّة، ومِجَنّة، التي اتفق الفهماء على تشديد نونها، واختلفوا في ميمها، فبعضهم يكسرها، وبعضهم يفتحها، والفتح أكثر، أي إنّ أصل الحدثة جنّة، والعمل جَنّ بمعنى استتر أوظلم، وبه سمّي الجِن، وهم الملائكة عند أهل الجاهلية لاستتارهم عن العيون، ويسمّون الجِن جنّة ومَجنّة، فأرض مجنّة كثيرة الجن، وجّنّ الليل إذا اشتدت ظلمته، وينطق للنخل المرتفع طولًا: مجنون، والجمه مجانين، والعرب تسمّي النخيل جنّة وجمعها جنان، فيحتمل أنها سًميّت مجنّة لبساتين تتصل بها، وهذا يعني حتى اسمعها مشتق من الجن أوالجنون أوالجنّه، أي البستان، وقيل من المجون ضرب من اللهو. وعلى أي حال، فإن لفظة (مجنّة) على وزنين، أحدهما حتى تكون مَفْعلَة من الجنون كأنها سمّيت لشيء يتّصل بالجن أوباجلنة، أي البستان، والآخر حتى تكون عملة من مجن، كأنها سمّيت بذلك لأن ضربًا من المجون كان بها، ولكن لا يُعهد لأي الأمرين سقطت التسمية.

مسقطه

ثبت عن المؤرخين حتى سوق مجنّة حظي بمسقط جغرافي مهم توافرت فيه أبرز متطلبات الخدمة والعمل وقيام المجتمع، كالأمن والماء، ولكن اختلف الأقدمون والمحدثون من الباحثين في تحديد مسقطه، حتَّى إنّ الفاسي نطق: «ومجنّة غير معروفة الآن»، وهذا يعود بسبب تأويلات النصوص وتعارضها والاختلاف في ماهية مجنّة وأصلها والاعتقاد أنها عَلَمٌ على مكان واحد فقط وهوالسوق، وقد تباينت الآراء حول تحديد مسقطه، إلا أنه يرجح رأي القائلين على وجه العموم بأنه يقع في محافظة الجموم شمال مكة المكرمة على طريق المدينة المنورة القديم، محدود من جهة الشرق بقرية أبوعروة، ومن جهة الشمال والغرب بجبال الصفروات، ومن جهة الجنوب بطريق الملك فيصل في وسط الجموم.

وهذه الأرض المحدّدة تضم مساحة كبيرة تزيد عن 10كم، ومن الصعب جدًا حتى تكون جميعها مسقطًا للسوق، ولكن الراجح حتى سوق مجنة يقام على جزء من تلك الأرض، سواء على يمين طريق الحج الشامي حيث جبال الصفروات، أوعلى يسار الطريق حيث منزل النبي محمد ، وهذا يعني أنّ لمسقط سوق مجنّة صلة بوادي الغرثان اليوم، الذي يبتر محافظة الجموم من وسطها تقريبًا، ويمثل جزءًا من وادي الظهران، فإما حتىقد يكون السوق في شرقه حول مسجد الفتح وعين الجموم بالقرب من الجبل الأصفر، أوحتى تكون السوق بالقرب من أحد جبال الصفروات في غرب وادي الغرثان أوشماله، لا سيما مع وجود بناءً أثريًا قديمًا في شمال محطة خط الحرمين فيه بتر فخارية وطوب أحمر يعود بعضها إلى العصر العباسي، كما لا يزال في علوّ الوادي المذكور تل أصفر أشبه بجبيل صغير وحوله مساحة واسعة ومستوية من الأرض على طريق الحج السلطاني.

الدليل اللغوي

تظهر من تعدد معاني أصلها اللغوي صعوبة الجزم بسبب تسمية مجنّة، لكن رجحت الأقوال حتى أصل التسمية مستوى من طبيعة الأرض وبيئتها التي أقيمت عليها سوقها، فإذا كان أصل لفظة (مجنّة) مشتقًا من الجنة، وهي البستان الذي فيه النخل الطويل والشجر الكثيف ذوالظلال الوارفة، فإن مر الظهران (وادي فاطمة) اشتهر بكثرة أشجار النخيل التي لا تزال تغرس فيه حتى اليوم، وكثرة نموالأشجار الطبيعية فيه كنبات الحمض والأراك، وخصوصًا في قرية مر الظهران، التي تتوافر فيها النخل والثمار والزروع والمياه، فكانت أرضها كالجنّة المختفية من كثافة أشجارها وتشابك أغصانها، وربما تكون لفظة (مجنّة) أصلها من المجن، أي الماء الكثيف الذي في أصل جميع وادٍ أوجبلٍ، كما هوواقع الحال في عيون وادي مر الظهران، الأمر الذي يستنتج منه مدى تطابق معنى (مجنّة) في اللغة مع مسقطها في الواي، كما هي معطيات سوق عكاظ، وهي أنه «ماء في صحراء أونخل في واد».

الدليل الجغرافي

من الطبيعي أنّ مواقع أسواق العرب في الجاهلية نالت بعدًا استراتيجيًا وحضاريًا مهمًا روعيت فيه الحصانة الطبيعية والأخطار البشرية، فلابد حتى يتميز المسقط بسعة المكان وانبساطه ووضوحه وتعدد الطرق إليه ووفرة مياهه وأمنه وإقامته على طريق رئيس أوفي الأماكن التي تلتقي فيها القبائل وتسلكها خلال ترحالها، حيث «جرت العادة بأن يُختار للسوق المشهجرة بين القبائل مكان يمكن رؤيته من مسافة بعيدة عند ملتقى الطرق، أوفي أرض محايدة إذا أمكن»، كما هوحال وادي مر (وادي فاطمة) الذي ظل طوال العهود الإسلامية محطة اجتياز لقوافل التجارة والحج، وطريقًا للحجاج والمسافرين قبل الإسلام وبعد ظهوره، وبخاصة أنه تُوجد بين الجموم وأبي عروة أرض فضاء بمحاذاة الطريق الرئيسة اليوم، كما توجد عدد من الجبال صفراء اللون في الجموم باقية حتى اليوم، ما يرجح حتى الجبل الأصفر الذي تقع بجواره السوققد يكون أحدها، وربماقد يكون هوجبل الظاهرة الذي يحتضن قرية أبوعروة، كما في النصوص التي أشارت إلى السوق بالنسبة للجبل، وهي: «مجنّة قيل بمر الظهران قرب جبل ينطق به الأصفر»، وهذه الخصائص والمعطيات توافّرت في أرض الجموم وأبوعروة التي تعد ملتقى قوافل الحج الشامية والمصرية، ومركز توزيع للطرق ومفترقها للتجار والحجاج وغيرهم، حيث تقع على أرض مستوية فسيحة وواضحة في وادي مرّ الظهران كما هومسقط السوق في الوادي وفق النصوص الآتية: «مجنّة سوق بالظهران»، و«مجنّة كانت بالظهران»، و«مجنّة بالظهران إلى جبل ينطق له الأصفر»، وفي هذا دلالة على حتى السوق تقع بوجه عام بوادي مر دون تحديد مكانها بشكل دقيق سوى قربها من جبل أصفر اللون.

الدليل القياسي

هوحتى وادي مر الظهران يبعد عن مكة المكرمة مسافة فترة تقريبًا، وذلك على أساس قياس المسافة من المسجد الحرام ومراعاة اتجاه الطريق بين الجبال.

الدليل الاقتصادي

يعدُّ من أبرز الأدلة وأكثرها ثباتًا في تحديد مسقط السوق، وذلك لما يهجره النشاط التجاري والبشري من آثار واضحة في العمل والسكن، بيد حتى بعض المؤرخين لم يعثروا على نصوص تدل على وجود الأسواق التجارية في جهة الجموم سوى في وقت متأخر من ظهور الإسلام، ومنها عند الحديث عن مر الظهران: «وفيها سوق وعين كبيرة». وكان هناك سوق كبير عند مسجد عين الجموم يباع في جيمع الأقوات، هذا فضلًا عن وجود سوق للإبل والأغنام حتَّى وقت قريب في جنوب أبي عروة كما هومسقطه اليوم في جنوب الجموم على الطريق إلى مكة، ويستدل من هذا الكلام على حتى تلك الجهة مثّلت أرضًا مناسبة لقيام الأسواق وممارسة الأعمال التجارية بها على مرور الزمن حتى وإن تنوعت أماكن إقامتها في الوادي على وجه التحديد.

الدليل الأدبي

وردت في عدد من القصائد الشعرية لفظة مجنّة بدلالاتها المتنوعة، وهوالأمر الذي يمكن من خلاله التعرّف على مسقط سوق مجنّة، ومن الشواهد على هذا القول بيت للشاعر أبوذؤيب الهذلي نطق فيه:

والشاهد من هذا البيت أنه حينما اتى أحد التجار بسلعة الخمر من بلاد الشام، ووصل إلى عسفان قَدِم بها إلى سوق مجنّة، وهذا يشير على أنّ السوق وعسفان يقعان في اتجاه ووجهة واحدة على مسافة قريبة من ناحية الجموم.

رأى ابن الكلبي أنها تقع أسفل مكة أي جنوبها وذكر الأزرقي أنها سوق بأسفل مكة على بريد منها، قرب بئر الإطوى الواقعة في جوف جبل سطاع قرب وادي البيضاء على بعد 80 كم جنوب غرب مكة المكرمة قرب جبل شامة وحرة طفيل في ديار بني الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وقد حاول الفاسي حتى يوجد تبريراً لذلك حين نطق: "ولعل الأزرقي أراد حتى يخط حتى مَجِنَّة على بريدين من مكة فسها عن الياء والنون فخط بريد.."، ومن الشواهد عليه بيت للصحابي بلال بن رباح نطق فيه:

الدليل الأثري والمائي

تعدُّ البقايا الأثرية والمائية أبرز الأدلّة المادية التي تشهد على مسقط السوق ونشاطه ووجوده، بيد أنه لقلّة سقوط الأمطار ونضوب موارد المياه وكثافة الاستيطان البشري وتنّوع الاستخدام المائي اليومي، فقد غارت مياه العيون واندثرت في وادي فاطمة، ولم يعد ماؤها يجري على سطح الأرض كما كان، وهذا بالتأكيد لا يعني أنَّ تحديد جهة الجموم للسوق بأنه مكان غير مناسب، إذ يوجد هناك بعض الآثار الباقية في أرضها، كالفخار وعين مجنّة، إضافةً إلى المسجد القديم للسوق، ولعل بعضها مدفون في طبقاتها، حيث لعبت العوامل المناخية والبشرية دورها في اختفاء آثار السوق وتغيير معالم الأرض عبر العصور، ومن ذلك جريان السيول وحركة الكثبان الرملية، وتقادم الزمن، والاستيطان البشري، والاستهلاك الرعوي، الأمر الذي بدت معه الجموم اليوم مدينة كبيرة واسعة العمران كثيفة السكان، فتغيّرت عن طبيعتها الأصلية، وكان لهذا دوره في إزالة الآثار التي لم يتبق منها سوى أطلال بناء أثري على يمين الطريق المؤدي إلى المدينة.

أنشطة السوق

لقد أدت أسواق عكاظ ومجنّة وذي المجاز دورًا كبيرًا في الحياة الثقافية باعتبارها مهرجانات أدبية، حيث أثّرت في اللغة والأدب والدين والعادات، وعملت على تقريب لهجات القبائل، وكانت هذه الأسواق للعرب وبخاصة قريش التي لعبت دورها فتهيأ للغتها فرصة السيادة والظهور، وأن تصبح بمنزلة اللهجة العامة.

ولما كان سوق مجنّة ينعقد عقب سوق عكاظ، فإن من يفوته شراء شيء أوبيعه أوعرض أدبه أوأسير له أوالبحث عن ثأر أوغيره في سوق عكاظ طلبه في سوق مجنّة، إذ كانت هذه السوق تقوم بكل ما كانت به سوق عكاظ، من أنشطة تجارية وأدبية، وإن لم تكن شهرتها بمستوى سوق عكاظ، والسبب في ذلك لا يكمن في عدم أهميتها، ولكن عظمة سوق عكاظ طغت عليها وعلى غيرها.

النشاط التجاري

كانت التجارة من أبرز الأعمال الرئيسة التي مارسها العرب في سوق مجنّة جميع عام قبيل الحج، حيث كان يقام بها سوقهم منذ الجاهلية لمدة عشرة أيام، وقيل 20 يومًا. وكانت الأسواق الثلاثة عكاظ ومجنّة وذوالمجاز قريبة جدًا من مكة، حتَّى تعد كما لوكانت أسواقًا لها، وكان الأشخاص الذين يمضىون بنيّة الحج في الأشهر الحرم كانوا يتوجهون إلى الأماكن المخصصة لذلك، ولم تكن زيارة عكاظ ومجنّة وذي المجاز سوى جزء من الحج، ويمارس الحجاج الذين يزورون هذه الأسواق التجارة، وسعت قبيلة قريش إلى نصب هذه الأسواق في مسوم الحج الأكبر، ووفرت للوافدين إليها الأمن والحماية والخدمات؛ لأنها تعود على تجارهم وكبارهم في مكة والطائف بالأرباح والمكاسب.

كان الناس يقصدون هذه الأسواق من مواضع بعيدة، وتكتظ أرضها بجموع غفيرة، ولم تكن مقصودة في غير المواسم، حيث ورد: «كانت عكاظ ومجنّة وذوالمجاز الأسواق التي تجتمع بها العرب للتجارة من جميع عام»، وكانوا يتمّمون فيها ما قصدوا له من تجارة وفداء وتفاخر، فكان يحضرها من يريد التجارة، وقد حضرها قريش، وأتاها أهل يثرب من أجل البيع والشراء، فانتعشت اقتصاديًا بتبادل السلع من مختلف أنحاء شبه الجزيرة العربية والشام والهند وفارس والحبشة وغيرها، وكان يجلب إليها ما يجلب للأسواق الأخرى من متاع وعروض التجارة والسلع.

كانت الخمر من أشهر السلع التي ظل ينتظرها حجاج مكة ليبتاعوها لأنفسهم، وكانت حركة نشاط هذه الأسواق ومدّتها تستغرق 38 يومًا، نصيب عكاظ منها العشرين يومًا الأولى من ذي القعدة، ومجنّة في العشر الأواخر منه، ثم ذي المجاز في الثمانية الأولى من ذي الحجة. ومع حتى سوق مجنّة تعدُّ سوقًا ثانوية وأبعاد نشاطها محدودة، فإنها كانت من الناحية التجارية والاجتماعية والأدبية استمرارًا لسوق عكاظ، وكأن موسمها امتداد لموسم عكاظ، لاسيما أنها منطقة حرّة معفاة متاجرها من الضرائب والعشور على شاكلة سوق عكاظ، بل إنها تتميّز بقربها من مناسك الحج، التي من الممكن كانت منها، فهي مشمولة بالحرمات باعتبارها تقع ضمن مناطق العبادة وقيام موسمها في فصل الخريف في الشهر الحرام، وهناك من يعتقد حتى القضاء بين الناس فيها كان من شأن حكام بني كنانة.

النشاط الديني

كانت أسواق عكاظ ومجنّة وذي المجاز -إلى جانب كونها أسواقًا للعرب في الجاهلية- مناطق مقدّسة كأماكن للحج، أومحطات للحجيج قبل الإسلام، بحيث يمكن قدوم الأفراد والجماعات إليها بأمان دون مضايقات لممارسة عمليات البيع والشراء، وردّ الديون، ووضع حد للخلافات.

ولما كانت هذه الأسواق مواسم للحج، كحال عهدة ومنى، فإن قريشًا وغيرها من العرب كانوا يحجّون إليها، ويقولون: «لا تحضروا سوق عكاظ ومجنّة وذي المجاز إلا محرمين بالحج»، فتساوت هذه الأسواق في نظر المحرمين من العرب، وتمتّعت منهم بالاحترام، وكان لها أثر بارز في الدين، إذ أنّ المناسك كلها تقوم بإمامة قريش أهل الحرم، وهوالأمر الذي أدّى إلى الوحدة في المعتقدات، والطقوس والعادات، وكان الدافع الأكبر لقصدها وكثرة قاصديها وانتشار أخبارها هوانعقادها في الأشهر الحرم، التي تكفل الأمن لزوّارها.

وعقب ظهور الإسلام كَرِه المسلمون القدوم على متاجر الناس في الجاهلية، ورأوا حتى التجارة في المواسم تكسبهم إثمًا، فنزل قوله تعالى:  لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ  .

وكان النبي محمد قد استثمر فرصة إقامة هذه الأسواق للقاء وفود العرب وزعمائهم من أجل عرض رسالته ووحي ربه بدلًا من انتظار وصولهم، وفي ذلك مرشد على مبادرته ورغبته وصدق دعوته وتحمّله مشاق العمل والجهد في سبيل نشر الإسلام. وظل النبي عشر سنوات يدعوإلى الإسلام جهرًا ويتجوّل في أسواق الحج الموسمية، يتتبّع الحاج في منازلهم ويقول: «من يؤويني وينصرني حتى أبلّغ رسالات ربي وله الجنة» فلا يجد من ينصره أويجيبه، حتَّى إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها ويؤم جميع قبيلة منها ويقصد شريفها ويدعوه بالحكمة والموعظة لإفراد الله بالعبادة وعمل الخير، لكنّه كان يجد الصد.

ويتّضح من ذلك حتى سوق مجنّة شهد نشاطًا دينيًا وتلاقحًا فكريًا في عصري الجاهلية والإسلام، بيد أنه في ظل الدعوة الإسلامية وظهورها على يد النبي ومااتىت به من أحكام وعقائد وأخلاق تعارض بعض عادات العرب وقوانينهم وأخلاقهم السيئة، ولم تكن البيئة الفاسدة لهذه الأسواق مهيّأة وموافقة لقبول الدين الحق ونصرته.

النشاط الأدبي والاجتماعي

كانت نهضة الشهر في عصر الجاهليَّة مدينةً للأسواق، التي أسهمت بإسهامات مؤثّرة في حياة العرب، ولم يكن سوق مجنّة يختلف كثيرًا عنها في فعالياته الأدبيَّة وطقوسه ونشاطاته الاجتماعية اليومية، التي تحكمها الأعراف والعادات والشريعة الإسلامية عقب ظهور الإسلام، حيث كان العرب يتوافدون عليه من جميع حدب وصوب لإقامة تجاراتهم واحتفالاتهم وشعائرهم.

ولكثرة الشعر في العرب، فإن انعقاد مثل هذه الفعاليات فرصة مواتية لقدح القريحة الشعرية وإبراز المواهب في مختلف ضروب الشعر وأغراضه، لا سيما أنّه يجد آذانًا صاغية وجماهيرية عالية، وقبولًا وترحيبًا بين الحاضرين، فكان أحد أبرز محاور السوق الثابتة ومسابقاته المطلوبة، التي ينتظرها الجميع في موسم الحج من جميع عام.

وكان من مصادر فهم الأسواق نفسها ما جادت به قرائح الشعراء لذكر مثل هذه الأماكن التجارية، ومن ذلك:

انظر أيضًا

• سوق عكاظ.
• سوق ذي المجاز.

المراجع