"رجال في الشمس" هي الرواية الأولى للمحرر الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، والرواية تصف تأثيرات نكبة فلسطين سنة 1948 على الشعب الفلسطيني من خلال أربعة نماذج من أجيال مختلفة، وهي تقدم الفلسطيني في صيغة اللاجئ –كما يرى الناقد فاروق عبد القادر- وهي الصيغة التي يطورها غسان كنفاني في روايتيه التاليتين "ما تظل لكم" حيث يقدم الفلسطيني/الفدائي، و"عائد إلى حيفا" حيث يقدم الفلسطيني/الثائر، متمشيا بذلك مع تطور القضية الفلسطينية ذاتها.

عن الرواية

"رجال في الشمس" رواية قصيرة (110 صفحات من البتر المتوسط) لكنها محكمة، ليس بها حدثة واحدة زائدة أوموقف بلا معنى أوتعبير إنشائية، والمحرر لا يلجأ للشعارات أوالمباشرة، ولكنه يوضح موقفه من خلال السرد الروائي الذي تتداوله شخصيات الرواية والمحرر، كما أنه يعتمد بشكل كبير على المنولوج الداخلي في سرد الأحداث، وواضح أيضا حتى المحرر استفاد من تقنية السيناريوالسينمائي فحكى روايته بالصورة قبل جميع شيء آخر، ولعل هذا من الأسباب المهمة التي جعلت المخرج المصري توفيق صالح يتحمس للرواية ويقرر حتى يصنع منها فيلمًا سنة 1965 لكنه لا ينجح في ذلك إلا سنة 1972، وفى سوريا وليس في مصر.

المخدوعون.. أمانة تامة مع الرواية

قلت لتوفيق صالح: أنت لم تجامل نفسك عندما قلت إنك لم تشاهد فيلما في أي مكان في العالم كان أمينا مع العمل الروائي مثل فيلم "المخدوعون" المأخوذ من رواية "رجال في الشمس"؛ فقد التزم المخرج بالعمل الروائي تماما وبكل تفاصيله وبرسمه للشخصيات وتسلسل الأحداث فيه، ومع ذلك استطاع توفيق صالح خلق فيلم ممتاز حصل على الكثير من الجوائز، وأرضى الجمهور، فأنت تجلس مشدودا لمتابعة أحداث الفيلم حتى ولوكنت تحفظ الرواية أوكنت قد انتهيت من قراءتها توًّا كما وقع معي؛ فهويحافظ على إيقاع مشدود متوتر طوال الفيلم يساعده في ذلك موسيقى تصويرية جيدة، ولم تفلت منه الشخصيات ولم يضع لقطة واحدة زائدة أوفي غير موضعها، كما أنه أضاف للرواية باستخدام إمكانات السينما ليعبر عن المعاني الرمزية والعميقة المختفية خلف السطور؛ ففي إحدى اللقطات مثلاً يموت أحد الفدائيين وتمتد يد مجهولة لتأخذ البندقية من يده المتشنجة أصابعها على قبضتها، وفي اللقطة الأخيرة من الفيلم نرى أصابع إحدى الجثث مضمومة بشكل يوحي بأنها قابضة على بندقية لكنها في الحقيقة فارغة وملقاة فوق القمامة ومن بعيد نرى خزانات البترول، كما حتى توفيق صالح جعل الشخصيات الثلاثة تدق جدران الخزان لكن أحدًا لم يسمعها...

فوق "مزبلة التاريخ"..!!

يقول توفيق صالح: أعتقد أنه علينا حتى نعهد من هي اليد المجهولة التي انتزعت منا السلاح فحدثت النكبة، وأعتقد حتى القضية لن تعود إلى الحياة إلا بعد حتى تقبض اليد الفارغة على السلاح وتستعمله، كما حتى هؤلاء الرجال ماتوا فوق مزبلة التاريخ وهويبحثون عن خلاصهم الشخصي بعيدًا عن المكان الحقيقي الذي يجب حتىقد يكونوا فيه، ماتوا وهم يبحثون عن الفتات في لقاءة الثراء الفاحش المتمثل في خزانات النفط.

وقد سألني غسان كنفاني: لما جعلت الرجال يدقون جدران الخزان..،يا ترى؟

قلت له: ألستم تخطفون الطائرات لينتبه العالم إلى قضيتكم..،يا ترى؟

نطق: نعم..!!

قلت: فأنا أرى أنكم تدقون جدران الخزان لكن لا أحد يسمعكم؛ لأنه لا أحد يريد حتى يسمعكم وعليكم حتى تجبروهم لكي يسمعوا ويفهموا..!!

ولا بد حتى أشير إلى حتى الفيلم ابتكر سنة 1973 من إنتاج المؤسسة العامة للسينما بدمشق، وهوبطولة عبد الرحمن القرشي وبسام لطفي وصالح خلقي، وتصوير بهجت حيدر وموسيقى صلحي الوادي. كما حصل الفيلم على الجائزة المضىية بمهرجان قرطاج للأفلام العربية والأفريقية سنة 1973، واختير كواحد من أبرز مائة فيلم سياسي في تاريخ السينما العالمية.

يمكن قراءة الرواية والفيلم قراءات متعددة لثرائهما الفني والفكري، لكن تظل إحدى الميزات الكبرى التي امتلكها المحرر والمخرج الرؤية الثاقبة التي تنبأت بالمستقبل أوبشرت به أودعت إليه فحدثت الانتفاضة وأصبح للفلسطيني صوت يسمعه العالم راضيًا أومضطرًا...!!

أحداث الرواية وشخصياتها

أبوالقيس.. البحث عن شجرات الزيتون

"أبوالقيس" هوأول الشخصيات التي تعرضها الرواية، رجل فقد بيته وشجرات الزيتون التي يملكها وأصبح يعيش مع زوجته الحامل وابنه الصغير في المخيمات، لا يجرؤ على التفكير في السفر للكويت حيث سافر الكثيرون وعادوا بالأموال التي حققوا بها أحلامهم الخاصة، "أبوالقيس" شديد الارتباط بوطنه، يحلم بعودة ما كان، لكنه لا يعهد كيف من الممكن أن يمكن حتى تحدث هذه العودة بعد ضياع جميع شيء.. "أبوالقيس" رجل عجوز يخرج مضطرًا ولا يأمل كثيرًا في النجاح أوالعودة الظافرة، لكنه يستجيب للضغط الذي يمارسه عليه أحد العائدين الأغنياء وحالة الفقر المدقع التي يعانيها هووأسرته، فيودع زوجته وابنه ويسافر إلى العراق محاولاً حتى يجد فرصة ليهرب عبر الحدود العراقية الكويتية من البصرة إلى الكويت ليحصل على النقود التي يبني بها بيتًا ويشتري شجرات زيتون جديدة.

أسعد.. المطارد

أما الشخصية الثانية في الرواية فهو"أسعد"، وهوشاب مناضل تطارده السلطات بسبب نشاطه السياسي، لكنه يحاول الهرب إلى العراق بمساعدة أحد أصدقاء والده القدامى، ذلك الصديق الذي يسلبه عشرين دينارًا ويهجره في منتصف الطريق واعدًا إياه بشرفه حتى يقابله بعد المرور على نقطة التفتيش، ولا يفي بوعده، فيفقد أسعد ثقته في البشر جميعًا، لكنه يستطيع الوصول إلى العراق مصممًا على اجتياز الحدود إلى الكويت ليستطيع حتىقد يكون ثروة يرد بها الـخمسين دينارًا التي أقرضها له عمه ليبدأ بها حياته ويتزوج ابنة عمه التي لا يحبها لكنها خطبت له يوم مولدهما.

مروان.. الغوص في المقلاة

أما "مروان" فهوفتى في الفترة الثانوية يضطر لهجر المدرسة والذهاب إلى البصرة ليدخل منها إلى الكويت بمساعدة المهربين حتى يعمل وينفق على أمه وإخوته الصغار.. أخومروان يعمل بالكويت، وكان يرسل إلى الأسرة ما يكفيها، لكنه تزوج وتوقف عن إرسال نقود، بل أوفد رسالة إلى مروان يقول له فيها: لا أعهد معنى حتى أظل أنا أعمل وأنفق على الأسرة بينما تمضى أنت إلى المدرسة السخيفة التي لا تعلّم شيئًا.. اهجر المدرسة وغص في المقلاة مع من غاصوا..!! وبسبب توقف النقود يقبل والد مروان الزواج من فتاة فقدت ساقها بسبب قنبلة في غارة يهودية؛ لأنها تملك دارًا من ثلاث حجرات بسقف إسمنتي، فيهرب بذلك من مسئولية أسرته، ويحقق حلمه بالحياة في بيت له سقف بدلاً من خيام اللاجئين، ويؤجر حجرتين ويسكن هووزوجته الجديدة في الحجرة الثالثة.

أبوالخيزران.. القيادة العاجزة الانتهازية

يرفض الثلاثة التعامل مع المهرب المحترف الذي يصر على أخذ خمسة عشر دينارًا مقدمًا من جميع فرد؛ لأنهم يعهدون حتى الدليل يمكن حتى يهجرهم في منتصف الطريق ويهرب.

ويلتقون بالشخصية الرئيسية الرابعة في الرواية "أبوالخيزران"، وهومهرب يعمل مع تاجر كويتي كبير اسمه "الحاج رضا"، يقبل "أبوالخيزران" حتى يهربهم لقاء عشرة دنانير من جميع منهم بعد الوصول إلى الكويت (ويعقد اتفاقا سريا مع مروان على حتى يأخذ منه خمسة دنانير) في سيارة الحاج رضا التي لا تفتش لأن جميع رجال الحدود يعهدونها ويعهدون الحاج رضا، وهم أصدقاء للسائق نفسه.

"أبوالخيزران" سائق ماهر، عمل في الجيش البريطاني، وعمل مع الفدائيين فأصيب بقنبلة أفقدته رجولته وأعطته جميع مرارة العالم، فكره نفسه، وجعل جميع طموحه في تكوين ثروة يعيش بها في هدوء وسكون بعد عمر من الحركة التي لا تهدأ، كان يشعر أنه فقد أبرز شيء في حياة الرجل من أجل الوطن، لكن الوطن لم يرجع، ورجولته فقدت إلى الأبد.

أما السيارة فهي سيارة نقل مياه قديمة متهالكة وبها خزان ضخم فارغ هوما سيختفي فيه أبطال الرواية الثلاثة ليعبروا نقطتي الحدود العراقية والكويتية.

الرحلة الرهيبة

يقدم غسان كنفاني شخصية "أبوالخيزران" كنموذج للقيادة العنينة الانتهازية التي تدعي التفكير في المجموع في حين أنها تسعى إلى مصالحها الشخصية مهما تأذى الآخرون أوأضيروا..

يتفق "أبوالخيزران" مع الثلاثة حتى يبقى اثنان فوق الخزان ويجلس معه الثالث، إلى غير ذلك بالتبادل طوال الطريق في صحراء ترسل شمسها شواظًا من لهيب قاتل، وقبل حتى يصلوا إلى نقطة الحدود بخمسين مترًا يدخلون الخزان، وعليه حتى ينهى الإجراءات فيما لا يزيد على سبع دقائق ثم يسرع بالسيارة ليخرجهم من الخزان بعد 50 مترًا من نقطة الحدود.

الأكذوبة.. والموت

وتنجح الخطة في نقطة الحدود العراقية، يختبئون في الخزان، يكادون يختنقون، لكن الأمر رغم الجهد يمر بسلام، وعند الاقتراب من نقطة الحدود الكويتية يستعدون لأخذ ما يسميه "أبوالخيزران" بالحمام الهجري، ويطلقون عليه جهنم، لكن موظفا عابثا يعطل "أبوالخيزران" ويصر حتى يحكي له السائق حكايته مع الراسيرة العراقية "كوكب" التي تحبه لدرجة العبادة بسبب فحولته كما حكى له الحاج رضا (!!).. ورغم المفارقة المؤلمة في الحكاية الخيالية فإن تلك الأكذوبة تكون السبب في موت الثلاثة اختناقا في خزان المياه بسبب تأخر "أبوالخيزران" عليهم.

لماذا لم تدقوا الجدران

يفكر أبوالخيزران في إلقاء جثثهم في الصحراء لكنه يتراجع حتى لا تنهشها الضواري ويقرر حتى يلقي بها فوق أول مزبلة يقابلها على الحدود ليسهل اكتشاف الجثث ويتم دفنها، وبعد حتى يلقي بهم فوق المزبلة ويسير قليلاً.. يعود ليجردهم من الساعات والأموال.. وينطلق بسيارته مبتعداً وهويتساءل بدهشة: لما لم تدقوا جدران الخزان،يا ترى؟ وتردد الصحراء النداء الذي يؤكد سلبيتهم في لقاءة الموت؛ فهم حتى لم يدقوا جدران الخزان ليتم إنقاذهم حتى ولوسجنوا فهذا أهون من الموت.

يدين غسان كنفاني في روايته جميع الأطراف التي تسببت في نكبة فلسطين، القيادات العاجزة، والقيادات الخائنة، والشعب المستسلم، والذين تخلوا عن الأرض ليبحثوا عن خلاصهم الخاص!!

انظر أيضاً

• أفضل مائة رواية عربية

المصادر