شهاب الدين يحيى السهروردي

عودة للموسوعة

شهاب الدين يحيى السهروردي

يحمل متصوفة مشاهير آخرون لقب السهروردي، وخصوصاً أبوالنجيب السهروردي وابن أخيه أبوحفص عمر السهروردي.
شهاب الدين يحيى بن حبش بن أميرَك السهروردي
أسماء أخرى شهاب الدين السهروردي
شخصية
ولد 1155
سهرورد (حالياً في محافظة زنجان في إيران)
توفي 1191
حلب (حالياً في سوريا)
الديانة الإسلام، الصوفية، Illuminationism
أسماء أخرى شهاب الدين السهروردي
مناصب رفيعة
مقره في سهرورد
الفترة في المنصب القرن 12

شهاب الدين السُّهْرَوَرْدي (ح.545 هـ - 586 هـ) هويحيى بن حَبَش بن أَمِيرَك، وكنيته أبوالفتوح، ولقبه شهاب الدين. فيلسوف اسلامي كردي.

سُهْرَوَرْد- وقد تسمى سَهْرَوَرْد أيضاً- بلدة كردية قريبة من زَنْجان، في شمال غربي إيران، وهي منطقة ميديا القديمة. ذكرها جميع من الإصطخري (ت 346 هـ)، وابن حوقل (ت بعد 367 هـ)، وياقوت الحموي (ت حوالي 626 هـ)، وأبوالفداء (ت 732 هـ) ضمن منطقة الجبال، ويشكل شرقي كردستان وجنوبيها حوالي ثلاثة أرباع منطقة الجبال، وتقع سُهْرَوَرْد غربي هذه المنطقة، وشمالي شهرزور، على تخوم إقليم كردستان- العراق مع إيران (انظر خريطة إقليم الجبال).

وقد ذكر ابن حوقل في كتابه (صورة الأرض، ص 314) حتى سهرورد تشبه شهرزور من حيث " رغد العيش، وكثرة الرخص، وحسن المكان، وخصب الناحية، بحالة واسعة، وصورة رائعة، وقد غلب عليها الأكراد ".

إقليم الجبال من كتاب (صورة الأرض) لابن حوقل

نشأته وثقافته

اسمه – حسبما ذكره ابن خلكان وضبطه- هويحيى بن حَبَش بن أَمِيرَك، وكنيته أبوالفتوح، ولقبه شهاب الدين، ولُقّب بالمقتول، وبالشهيد. وابن خلّكان هوخير من يعهد أسماء الكرد ويضبطها، فهوكردي، وموطنه قريب من موطن السهروردي، ولم يكتف ابن خلّكان بضبط حدثة (أَمِيرَكْ)، وإنما أوضح دلالتها عند الكرد، فهي تصغير لحدثة (أمير)، ذاكراً حتى (الكاف) تلحق أواخر الأسماء للتصغير؛ وهذا أمر معروف في اللغة الكردية قديماً وحديثاً، مثل: مصطفى – مِصْطِكْ، خليل- خَلِّك، شيخ – شَيخكْ، إلى غير ذلك دواليك.

وقد ولد السهروردي حوالي منتصف القرن السادس الهجري، ويقع تاريخ مولده بين سنتي (545 هـ / 1150 م)، و(550 هـ / 1155 م)، وأمضى سني حياته الأولى في بلدته سهرورد، وهناك تلقّى ثقافته الأولى، سواء أكانت دينية أم فلسفية أم صوفية، ولا توجد معلومات حول تفاصيل مرحلته الفهمية الأولى. ولم يكتف السهروردي بما تلقّاه من العلوم في بلدته سهرورد، وإنما قام برحلات فهمية عديدة، مثله في ذلك مثل كثيرين من طلبة الفهم في عصره، فكان كثير الترحال من بلد إلى آخر، وكان حدثا حل ببلد يبحث عن الفهماء والحكماء فيه، فيأخذ عنهم، ويصاحب الصوفية، ويأخذ نفسه بما كانوا يمارسونه من مجاهدات ورياضات روحية، وقد نطق في آخر كتابه (المطارحات):

" ها هوذا قد بلغ سنّي تقريباً ثلاثين سنة، وأكثر عمري في الأسفار والاستخبار والتفحص عن مشارِك مطّلع على العلوم، ولم أجد من عنده خبر عن العلوم الشريفة، ولا من يؤمن بها، وأكثر العجب من ذلك ". وقد سافر السهروردي وهوصغير شرقاً إلى مَراغة وإصفهان، وغرباً إلى بلاد الشام وآسيا الصغرى (هجريا حالياً)، ومن أساتذته الأوائل في مراغة مجد الدين الجيلي أستاذ فخر الدين الرازي، وفي إصفهان التقى بتلامذة الفيلسوف الشهير ابن سينا، واطمأن إلى صحبتهم، وأولع بهم، فكانوا أصدقاءه.

واتصل السهروردي بالشيخ فخر الدين المارديني، وكانت بينهما صحبة، ويبدوأثر ذلك في ممضىه المَشّائي، وسافر إلى ديار بكر أيضاً، وكان يفضل الإقامة فيها، واتصل بأمير خربوط عماد الدين قَرَه أوفدان، وأهدى إليه كتابه (الألواح العمادية)، ويرى المستشرق ماسينيون أنه أسس ممضىه الإشراقي في بلاط هذا الأمير، واستقر به المقام أخيراً في مدينة حلب، وهناك كانت خاتمته المأساوية.


فكره الفلسفي الإشراقي

اليونان هم الآباء الحقيقيون للفلسفة بمعناها الدقيق، تلك حقيقة لا ريب فيها، وقد جمعت فلسفة سقراط (469 – 399 ق.م) بين المثالية والمادية، في حين طغت المثالية على فلسفة تلميذه أفلاطون (427 – 347 ق.م)، وطغت المادية (المشائية) على فلسفة أرسطو(384 – 321 ق.م) تلميذ أفلاطون.

وترجع الفلسفة الإشراقية إلى الفيلسوف اليوناني أفلاطون، وقد يحدث أفلاطون في إشراقيته متأثراً بالزردشتية في عهدها المتأخر، وتتخذ الإشراقية عند أفلاطون صيغة فيض العالم عن العقل الأول (العقل الفعال). أما في صورتها الإسلامية فإنها تعود إلى حكمة المشارقة أهل فارس، وهي تعني (الكشف)، وبعبارة أخرى: الإشراقية الإسلامية تعني الوصول إلى الفهم الحقيقية عن طريق الذوق والكشف، وليس عن طريق البحث والبرهان العقليين.

نطق قطب الدين الشيرازي في مقدمة كتاب (حكمة الإشراق للسهروردي):

" إنها الحكمة المؤسسة على الإشراق الذي هوالكشف، أوحكمة المشارقة الذين من أهل فارس، وهوأيضاً يرجع إلى الأول، لأن حكمتهم كشفية ذوقية، فنُسبت إلى الإشراق الذي هوظهور الأنوار العقلية ولمعانها وفيضانها بالإشراقات على النفوس عند تجردها، وكان اعتماد الفارسيين في الحكمة على الذوق والكشف، وكذا كان قدماء يونان، خلا أرسطووشيعته، فإن اعتمادهم كان على البحث والبرهان لا غير ". ويرى الإشراقيون حتى الفهم لا تقوم على تجريد الصور، كما يقرر المشّاؤون (أتباع فلسفة أرسطو)، بل هي فهم تقوم على الحدس الذي يربط الذات العارفة بالجواهر النورانية صعوداً كان أم نزولاً.

والسهروردي من كبار مفكري الفلسفة الإشراقية، ولا يعني (الإشراق) هنا الذوق والكشف فقط، وإنما استخدمه السهروردي استعمالاً خاصاً فقد مضى إلى حتى "الله نور الأنوار"، ومن نوره خرجت أنوار أخرى هي عماد العالمَين المادي والروحي، وأضاف السهروردي حتى (النور الإبداعي الأول) فاض عن (الأول) الذي هو(الله/نور الأنوار)، وتصدر عن النور الإبداعي الأول أنوار طولية سماها (القواهر العالية)، وتصدر عن هذه القواهر أنوار عرضية سماها (أرباب الأنواع)، تدير شؤون العالم الحس. وابتدع السهروردي عاملاً أوسط بين العالمين العقلي (نور الأنوار) والعالم المادي، سماه (عالم البرزخ) و(عالم المُثُل)، وهذا يذكّرنا- ولا ريب - بعالم المُثُل في فلسفة أفلاطون.

ويعدّ السهروردي أول من تصدّى للفلسفة المشائية في القرن السادس الهجري، فقد أعرب في مؤلفاته عن تبرّمه بها، ونزوعه إلى الفلسفة الإشراقية، وهذا يعني أنه كان صوفياً أكثر من كونه فيلسوفاً، على أنه يضع الفلسفة والتصوف في علاقة خاصة لا توجد عند غيره، وهويميّز بين نوعين من الحكمة:

  • الحكمة البحثية: وهي تعتمد على التحليل والهجريب والاستدلال البرهاني، وهي حكمة الفلاسفة.
  • الحكمة الذوقية: وهي ثمرة مجاهدات روحية، ويحياها الإنسان لكنه لا يستطيع التعبير عنها، وهي حكمة الإشراقيين.

ولا يرى السهروردي تعارضاً بين الحكمتين، فالإشراقي الحقيقي هوالذي يتقن الحكمة البحثية، وينفذ في الوقت نفسه إلى أسرار الحكمة الذوقية. ويرى السهروردي حتى الفكر الإنساني غير قادر وحده على امتلاك الفهم التامة، ولا بد حتى يستعين بالتجربة الداخلية والذوق الباطني، كما حتى الاختبار الروحي لا يزدهر ويثمر إلا إذا تأسس على الفهم والفلسفة. إن رؤية السهروردي هذه جعلته موسوعي النزعة، لا يقنع بكتاب، ولا يقتصر على شيخ، ولا يتقيد بفلسفة، وقد جمع بين حكمة الفرس واليونان وكهنة مصر وبراهمة الهند، وآخى بين أفلاطون وزردشت وبين فيثاغورس وهرمس.


آثاره الفكرية

إن المصير المأسوي الذي انتهى إليه السهروردي جعل إنتاجه الفلسفي غير معروف بعض الوقت، وخاصة حتى خصومه من الفقهاء حاربوا فكره ومنطلقاته الثقافية، لكن تلامذته أخلصوا لفكره، واهتموا بتتبّع أخباره وتدوين إنتاجه الفهمي، وقد اتى في المصادر اسم تسعة وأربعين كتاباً له، ما بين منثور ومنظوم، وهذا مرشد على غزارة فهمه، وسعة أفقه الثقافي، ونذكر فيما يأتي بعضها تلك المؤلفات: حكمة الإشراق - هياكل النور – التلويحات - واللمحات في الحقائق - الألواح العمادية - المشارع والمطارحات – المناجاة - مقامات الصوفية ومعاني مصطلحاتهم - التعرّف للتصوّف - كشف الغطا لإخوان الصفا - رسالة المعراج - اعتقاد الحكماء - صفير سيمورغ. وبالمناسبة سيمورغ هوطائر سيمرغ الأسطوري في التراث الشعبي الكردي، وكنت أسمع من الجدات والأمهات، وأنا صبي، قصصاً أسطورية حول هذا الطائر، وكن يسمّينه (سِمْلِق).

وقد قسّم ماسينيون إنتاجه الفهمي إلى ثلاثة مراحل:

  • فترة الشباب (العهد الإشراقي): الألواح العمادية، وهياكل النور، الرسائل الصوفية.
  • فترة العهد المشّائي: التلويحات، اللمحات، المقاومات، المطارحات، المناجاة.
  • فترة العهد الأخير: وقد تأثر فيها بالأفلاطونية المحدثة، وبابن سينا، ومن مؤلفاته: حكمة الإشراق، واعتقاد الحكماء، حدثة التصوف.


صراعات حادة!

لم يكن عصر السهروردي (القرن السادس الهجري / الثالث عشر الميلادي) عصر تسامح فكري، إنه كان عصر صراعات سياسية وممضىية حادة، وكان حلقة من من حلقات الصراعات الممتدة في القرنين الرابع والخامس الهجريين:

  • أما ممضىياً ففي القرن الرابع الهجري كان أبوالحسن الأَشْعَري ( ت 324 هـ) قد انقلب على المعتزلة بعد حتى كان منهم، وأعرب الثورة عليهم، وراح يعمل في ممضى الاعتزال هدماً وتدميراً، حاملاً لواء السنّة ضد المذاهب الباطنية والتأويلية، وسرعان ما عثر أتباع (المنقول) الحانقين على (المعقول) بغيتهم في النهج الأشعري، ولا سيما أتباع الممضى الشافعي، فاعتنق كثير من الفقهاء والفهماء الفكر الأشعري، وحمل لواءها بعض مشاهير المفكرين، من أبرزهم أبوحامد الغزالي (ت 505 هـ) الذي عُرف بلقب (حجّة الإسلام)، من الممكن لأنه حمل حملات شعواء على الفلاسفة، وحسبنا دليلاً على ذلك حتى ألف لهذه الغاية كتابين هما (مقاصد الفلاسفة) و(تهافت الفلاسفة)، وعلى العموم كانت ثمة حملة شديدة من الاضطهاد والتعصب تشنّ ضد الفلاسفة والباطنية من إسماعيلية وإمامية وغيرهم من مذاهب الشيعة.
  • وأما سياسياً فكان العالم الإسلامي موزّعاً بين الخلافة العباسية السنية، والخلافة الفاطمية الشيعية، وكان البويهيون الشيعة قد هيمنوا على منطقيد الأمور في إيران وكردستان والعراق (334 – 447 هـ)، وأبقوا على الخلافة العباسية ظاهراً، وتحكّموا في الخلفاء حقيقة، وما إذا برز الهجرمان السلاجقة في الشرق- وكانوا قد اعتنقوا ممضى السنّة- حتى استعان بهم الخلفاء العباسيون للخلاص من البويهيين الشيعة، وهذا ما أنجزه السلاجقة، ووجدت المؤسسة السلجوقية الحاكمة حتى الخط الأشعري هوخير سلاح لتحقيق الفوز الإيديولوجي على البويهيين، بعد تحقيق الفوز العسكري، كما وجدواه خير سلاح لمقارعة الأيديولوجية الفاطمية منافستهم القوية.

وسلك الزنكيون – وهم هجرمان من أتباع السلاجقة – مسلك سادتهم، وضغط آخر سلاطينهم نور الدين زنكي على واليه في مصر صلاح الدين الأيوبي في مصر لإلغاء الخلافة الفاطمية سنة (567 هـ / 1171 م )، واتخاذ الممضى الشافعي بتوجهه الأشعري ممضىاً رسمياً للدولة، وكان الأيوبيون الكرد قد تربّوا على الثقافة ذاتها، فكان من الطبيعي حتىقد يكون للممضى الشافعي بتوجهه الأشعري المقام الأول في أراتى الدولة الأيوبية.


في حلبة المناظرة

في هذا المناخ الذي التحمت فيه السياسة بالثقافة نُظر بعين الريبة إلى جميع دعوة باطنية، توجّساً من حتى يستعيد أتباع الفاطميين مواقعهم في العالم الإسلامي، وكان من سوء حظ السهروردي حتى حياته مضىت ضحية هذه الصراعات السياسية بصورة مؤلمة ومأسوية.

لقد توجّه السهروردي إلى حلب، وكانت حينذاك من أبرز المدن في شرقي الدولة الأيوبية، إنها كانت تحمي ظهر الدولة من بقايا الزنكيين في مناطق الموصل، ومن سلاجقة الأناضول، وكان هؤلاء يضعون العصي في عجلات الإستراتيجية الأيوبية بين حين وآخر، كما حتى حلب كانت مدخل الدولة الأيوبية إلى كردستان، ذلك الخزان الذي كان يستمد منه المقاتلين من أبناء القبائل الكردية في الظروف الحرجة، لذلك كان صلاح الدين قد ولّى عليها - أقصد: حلب - ولده الشاب الملك الظاهر، وأحاطه ببطانة من الفقهاء والفهماء. وكان من الطبيعي حتى يقع التصادم بين السهروردي الفيلسوف الصوفي الإشراقي، بكل ما كان يتصف به من حماس الشباب، واعتداد بالذات، وشجاعة فكرية إلى حد التهور، وبين فريق من الفهماء والفقهاء الأشاعرة الذين يعادون الحرية الفكرية، ويتوجسون شراً من عودة الفكر المعتزلي الذي يقدم العقل على النقل، ويحاربون الفلسفة، ويعادون الصوفية، خوفاً مما تشتمل عليه من باطنية، وحذراً من العلاقة بين الباطنية والتشيع؛ سواء أكان فاطمياً أم غير فاطمي.

وكان الملك الظاهر قد أُعجب بالسهروردي، بل أصبح السهروردي من أصدقائه، ونظراً لاشتداد الخلاف بين السهروردي والفقهاء نادىهم الظاهر إلى مناظرة فكرية، وكان من جملة ما دار في المناظرة بين الفقهاء والسهروردي ما يلي:

  • الفقهاء: أنت قلت في تصانيفك إذا الله قادر على حتى يخلق نبياً. وهذا محال.
  • السهروردي: ما حدا لقدرته؟! أليس القادر إذا أراد شيئاً لا يمتنع عليه؟!
  • الفقهاء: بلى.
  • السهروردي: فالله قادر على جميع شيء.
  • الفقهاء: إلا على خلق نبي فإنه محال.
  • السهروردي: فهل يستحيل مطلقاً أم لا؟!
  • الفقهاء: كفرت!

ويبيّن من هذه المناظرة حتى السهروردي فرّق بين النقل والعقل، بين (الإمكان التاريخي) و(الإمكان العقلي)؛ فليست هناك استحالة مطلقة تعطل القدرة الإلهية، وليس ثمة اعتراض في الوقت نفسه على صحة النص الديني القاضي بأن النبي محمداً خاتم الأنبياء. أما الفقهاء فقد تمسّكوا بحرفية النص الديني، وأحسب أنهم كانوا أعجز من التحليق في الآفاق الفكرية والفلسفية التي كان السهروردي ينطلق منها.


ثمن الشجاعة

بلى إذا الجرأة الفهمي كانت طبعاً في السهروردي، وكانت تلك الجرأة تتفاقم فتصل إلى حد التهور أحياناً، وقد أشار الشيخ سديد بن رقيقة إلى تلك الخصلة، فذكر: " حتى شهاب الدين السهروردي كان يتردد إليه في أوقاته، وبينهما صداقة، وكان الشيخ فخر الدين يقول لنا: ما أذكى هذا الشباب وأفصحه، ولم أجد أحداً مثله في زماني، إلا أني أخشى عليه، لكثرة تهوّره واستهتاره وقلة تحفّظه، حتىقد يكون ذلك سبباً لتلفه ". ونطق فخر الدين المارديني:

" فلما فارقنا شـهاب الدين السهروردي من الشرق، وتوجّه إلى الشـام، أتى إلى حلب، وناظر بها الفقهـاء، ولم يجاره أحـد، فكثر تشنيعهم عليه، فاستحضره السلطان الملك الظاهر غازي بن الملك الناصر صلاح الدين بن يوسف بن أيوب واستحضر الأكابر من المدرسين والفقهاء والمتحدثين، ليسمع ما يجري بينهم وبينه من المباحث والكلام، فتحدث معهم بكلام كثير، وبان له فضل عظيم وفهم باهر، وحَسُن مسقطه عند الملك الظاهر، وقرّبه، وصار مكيناً عنـده، مختصاً به، فازداد تشنيع أولئك عليه، وعملوا محاضر بكفره، وسيّروها إلى دمشق إلى الملك الناصر صلاح الدين، ونطقوا: إذا بقي هـذا فإنه يفسد اعتقاد الملك، وكذلك إذا أُطلق فإن يفسد أي ناحية كان بها من البلاد، وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك ".

وأفاد ابن أبي أصيبعة في (عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص 167):

" حتى الشهاب درس مع الفقهاء في سائر المذاهب وعجزهم، واستطال على أهل حلب، وصار يكلّمهم كلام من هوأعلى قدراً منهم، فتعصّبوا عليه، وأفتوا في دمه، حتى قُتل ".

نهاية مأسوية

إلى غير ذلك نرى حتى نقمة الفهماء والفقهاء على السهروردي لم يكن بسبب الاختلاف الفكري فقط، بل لأنه كشف أمام الملك الظاهر جهلهم أيضاً، ونافسهم على مجالسة الملك وصداقته، وقد فهموا- ولا ريب – حتى السهروردي إذا تمكّن من قلب الملك فسيخسرون مناصبهم ونفوذهم، فقرروا كما أوضح فخر الدين حتى يقضوا عليه ليس فكرياً فقط، وإنما حتى يقتلوه جسداً وفكراً.

وكان صلاح الدين أحوج الناس في ذلك الوقت إلى وحدة الصف في دولته المترامية الأطراف، والتي كانت تخوض لقاءة حامية ضد الفرنج غرباً، وصراعاً خفياً ضد الزنكيين في الموصل وأطرافها، وضد السلاجقة في الأناضول، بل أحياناً كانت ثمة خلافات تحت الرماد مع بطانة الخليفة العباسي نفسه في بغداد. وكان الفقهاء والفهماء والمدرسون هم جيشه الضارب في تحقيق تماسك صفه الداخلي، فهم الذين يمسكون الجماهير من خناقها في جميع عصر، ويوجّهونها الوجهة التي يريدونها.

وأحسب حتى صلاح الدين – وهوالسلطان السني الشافعي الأشعري- أخذ جميع هذه المعطيات بعين الاعتبار، وأوفد إلى ولده الملك الظاهر بحلب كتاباً بخط القاضي الفاضل يقول فيه: " إذا هذا الشاب السهروردي لا بد من قتله، ولا سبيل أنه يُطلَق، ولا يبقى بوجه من الوجوه ".

إذاً قد حُكم على السهروردي بالموت. لكن كيف من الممكن أن تمّ تطبيق الحكم؟! الروايات في هذا الصدد مختلفة. ولعل أصحها هوما أورده ابن أبي أُصَيْبعة، إنه نطق: " ولما بلغ الشهاب ذلك، وأيقن أنه يُقتل، وليس جهة إلى الإفراج عنه، اختار حتى يُهجر في مكان منفرد، ويُمنع من الطعام والشراب، إلى حتى يلقى الله تعالى. ففُعل به ذلك، وكان في أواخر سنة (586 هـ) بقلعة حلب، وكان عمره نحوست ثلاثين سنة ".

وكأنما السهروردي قد تنبّأ بالمصير الذي سيلقاه في قصيدة اتى فيها:


أبداً تحنّ إليكـــمُ الأرواحُ = ووصـالكمْ رَيحـانُها والراحُ
وقلوبُ أهل وِدادكمْ تشتاقكـمْ = وإلى لذيذ لقــــائكمْ ترتاحُ
وا رحمتا للعاشقـين! تكلّفوا = سترَ المحبّة، والهـوى فضّاحُ
بالسرّ إذا باحوا تباحُ دماؤهمْ = وكذا دمـــاءُ العاشقين تُباحُ
1

2 3

أبداً تحـنّ إليكـمُ الأرواحُ ووصالكمْ رَيحانُها iiوالـراحُ
وقلوبُ أهل وِدادكمْ تشتاقكمْ وإلى لذيـذ لقائكـمْ ترتـاحُ
وا رحمتا للعاشقين! تكلّفوا سترَ المحبّة، والهوى فضّاحُ
بالسرّ إذا باحوا تباحُ دماؤهمْ وكذا دماءُ العاشقيـن iiتُبـاحُ

ألا إنه بقدر ما تعهد تقترب من الحقيقة. وبقدر ما تقترب من الحقيقة تختلف مع الآخرين. لا أقصد جميع الآخرين، وإنما أقصد الآخرين النمطيين. أولئك الذي يرتعدون هلعاً من انطلاقات الفكر الحر. وقد دفع السهروردي حياته ثمناً لأفكاره ولفلسفته. وليس هذا فحسب، وإنما دفع حياته ثمناً لشجاعته الفكرية. وسليم أنه خسر سنوات كان من المحتمل حتى يعيشها. لكنه كسب مسقطاً ناصعاً في سجل الخالدين.


المصــادر

  • الدكتور إبراهيم مدكور (مشرف): الكتاب التذكاري شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي في الذكرى المئوية الثامنة لوفاته، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1974 م.
  • الإصطخري: المسالك والممالك، تحقيق محمد جابر عبد العال، دار القلم، 1961 م.
  • ابن حوقل: صورة الأرض، دار مخطة الحياة، بيروت، 1979 م.
  • خير الدين الزركلي: الأعلام، دار الفهم للملايين، بيروت، الطبعة السابعة، 1986 م.
  • السهروردي: اللمحات في الحقائق، تحقيق وتقديم الدكتور محمد علي أبوريّان، دار الفهم الجامعية، الإسكندرية، 1988 م.
  • عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين، مخطة المثنى، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1957 م.
  • الدكتور محمد علي أبوريّان: أصول الفلسفة الإشراقية عند شهاب الدين السهروردي، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، 1978 م.
  • الدكتور محمود محمد علي محمد: المنطق الإشراقي عند شهاب الدين السهروردي، مصر العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 1999 م.


المصادر

  • GemyaKurda
تاريخ النشر: 2020-06-04 13:38:01
التصنيفات: Pages using deprecated image syntax, Articles having same image on Wikidata and Wikipedia, مواليد 1155, وفيات 1191, علماء إيرانيون, تاريخ الإسلام, فلاسفة مسلمون, فلاسفة فرس, فلاسفة معدمون, أشخاص من زنجان, اعدامات القرن 12, إيرانيو القرن 12, دارسون سلاجقة, أكراد

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

رابط الاستعلام عن فاتورة الغاز ناتجاس لشهر فبراير 2022

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-12 21:20:55
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 61%

إحالة عاطلين للجنح لسرقتهم مبلغ مالي من داخل مطعم بالشروق

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-12 21:21:00
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 59%

فارس وراء قتل خلولة داخل مزرعة المانجو في الاسماعيلية بسبب المخدرات

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-12 21:21:00
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 56%

الأهلي يكشف مصير موسيماني بعد الفوز ببرونزية كأس العالم للأندية

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-12 21:20:50
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 59%

لحظة سقوط قائد دراجة بخارية في ترعة الإبراهيمية ببنى سويف (فيديو)

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-12 21:20:58
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 55%

يحتاج 36 مليونا.. الباز يدعو للتبرع للطفل مصطفى وليد لزرع جهاز هضمي

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-12 21:20:47
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 50%

تشيلسي بطلًا لكأس العالم للأندية للمرة الأولى

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-12 21:20:51
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 64%

حبس عاطلين لانتحالهما صفة ضباط شرطة لسرقة المواطنين بالسلام

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-12 21:21:01
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 58%

الباز: مصر أصبحت نموذجًا يحتذى به إقليميًا ودوليًا في حرية العبادة

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-12 21:20:50
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 67%

قافلة طبية بـ«منشأة نظيف» ضمن «حياة كريمة» في الغربية (صور)

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-12 21:20:58
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 69%

تحميل تطبيق المنصة العربية