سقراط

سقراط
وُلـِد ح. 469 / 470 ق.م.
توفي 399 BC
العصر الفلسفة القديمة
المنطقة الفلسفة الغربية
المدرسة اليوناني الكلاسكي
الاهتمامات الرئيسية
epistemology, الأخلاق
الأفكار البارزة
الطريقة السقراطية, Socratic irony
لوحة وفاة سقراط

سقراط (469 ـ 399 ق.م.). فيلسوف ومفهم يوناني جعلت منه حياته وآراؤه وطريقة موته الشجاعة، أحد أشهر الشخصيات التي نالت الإعجاب في التاريخ. صرف سقراط حياته تمامًا للبحث عن الحقيقة والخير. لم يهجر حتى سقراط أية مؤلفات، وقد عُرِفت معظم المعلومات عن حياته وتعاليمه من تلميذيه المؤرخ زينوفون والفيلسوف أفلاطون، بالإضافة إلى ما خطه عنه أريسطوفانيس وأرسطو. وُلد سقراط وعاش في أثينا. وكان ملبسه بسيطًا. وعُرف عنه تواضعه في المأكل والمشرب. وتزوج من زانْثِب التي عُرف عنها حسب الروايات أنها كانت حادة الطبع ويصعب العيش معها. وقد أنجبت له طفلين على الأقل.


كان سقراط يفهم الناس في الشوارع والأسواق والملاعب. وكان أسلوب تدريسه يعتمد على توجيه أسئلة إلى مستمعيه، ثم يُبين لهم مدى عدم كفاية أجوبتهم. قُدّمَ سقراط للمحاكمة وُوجهت إليه تهمة إفساد الشباب والإساءة إلى التنطقيد الدينية. وكان سقراط يُلمحُ إلى حتى الحكام يجب حتىقد يكونوا من أولئك الرجال الذين يعهدون كيف من الممكن أن يحكمون، وليس بالضرورة أولئك الذين يتم انتخابهم. وقد قضت هيئة المحلَّفين بثبوت التهمة على سقراط وأصدرت حكمها عليه بإلإعدام. ونفذ الحكم بكلِّ هدوء متناولاً كوبًا من سم الشوكران.


وكان سقراط يؤمن بأن الأسلوب السليم لاكتشاف الخصائص العامة هوالطريقة الاستقرائية المسماة بالجدلية؛ أي مناقشة الحقائق الخاصة للوصول إلى فكرة عامة. وقد أخذت هذه العملية شكل الحوار الجدلي الذي عهد فيما بعد باسم الطريقة السقراطية.


قناع سيلينس Silenus

مما يغتبط له الإنسان حتى يقف آخر الأمر وجهاً لوجه أمام شخصية تبدوفي ظاهر أمرها واقعية كشخصية سقراط. ونقول في ظاهر أمرها لأننا إذا تدبرنا المصدرين الذين لا مناص لنا من الاعتماد عليهما في جميع ما نعهده عن سقراط، وجدنا حتى أحدهما وهوأفلاطون يخط مسرحيات خيالية، وأن الآخر وهوأكسانوفون يخط روايات تاريخية، وهذه وتلك لا يمكن حتى تعدا من التاريخ الصادق السليم. وقد خط ديوجين ليرتيوس في ذلك يقول : "يقولون إذا سقراط حين سمع أفلاطون يقرأ الليسيس Lysis صاح قائلاً : أي هرقل ! ما أكثر الأكاذيب التي نطقها عني هذا الشاب ! ذلك بأن أفلاطون قد أنطق سقراط بأشياء كثيرة لم ينطق هوبشيء منها"(113).


والحق حتى أفلاطون لا يدعي بأنه يقصر أقواله على الحقائق، وأكبر الظن أنه لم يدر بخلده قط حتى المستقبل قد يعدم الوسائل التي يفرق بها بين ما سيرة حقة وما هومن نسج الخيال في كتابه. ولكن أفلاطون يرسم في المحاورات صورة منسقة لأستاذه من أيام شباب سقراط الوجل في البارمنيدس وثرثرته الوقحة في البروتاغوراس إلى تقواه المكبوتة واستسلامه في الفيدون، لا يسع الإنسان معها إلا حتى يعتقد أنه إذا لم يكن هذا سقراط بحق فإن أفلاطون يعد من أكبر مبتدعي الشخصيات في الأدب بأجمعه.

ويعتقد أرسطاطاليس حتى الآراء المعزوة إلى سقراط في البروتاغوراس هي آراؤه بحق(114). وقد كشفت حديثاً هتامات من كتاب عن ألقبيادس خطها إسكنيز الاسفتوزي Aeschines of Sphettos أحد تلاميذ سقراط نفسه ترجح تأييد الصورة التي رسمها له أفلاطون في الأجزاء الأولى من محاوراته كما ترجح تأييد سيرة العلاقة الوثيقة التي كانت بين الفيلسوف وبين ألقبيادس(115). غير حتى أرسطاطاليس من جهة أخرى يعد الذكريات Memorabilia والمائدة Banquet من القصص الموضوعة، أي الأحاديث الخيالية التي يردد سقراط في أكثرها آراء أكسانوفون نفسه. وإذا كان أكسانوفون قد صدق فيما نقله عن سقراط صدق إكرمان Eckerman فيما نقله عن جيته، فإن جميع ما نستطيع حتى نقوله في هذه الحال أنه عني بجمع سخافات المفهم التي لا ضرر منها، وأنه ليس من المعقول حتى رجلاً أوتي من الفضائل ما أوتي سقراط حسب ما وصفه به أكسانوفون يستطيع حتى يقلب الحضارة القائمة رأساً على عقب. على حتى غير أكسانوفون من الكتاب الأقدمين لم يصوروا الحكيم القديم في صورة القديسين الصالحين كما صوره أكسانوفون. من ذلك حتى أرسطوقسانيس التارنتي Aristoxenus of Tarentum ينقل عن أبيه - الذي يدعي أنه كان يعهد سقراط شخصياً - حوالي عام 318 حتى الفيلسوف كان شخصاً مجرداً من التعليم "جاهلاً فاجراً"(117) ، وأن يوبوليس Eupolis الشاعر الهزلي فاق منافسه أرسطوفان في الافتراء على المشاء العظيم(118). وإذا أسقطنا من حسابنا ما يجر إليه الجدل من قسوة في اللفظ اتضح لنا على الأقل حتى سقراط كان رجلاً نال من كره الناس وحبهم أكثر مما ناله أي إنسان آخر في عصره.


وكان أبوه مَثالاً، وينطق إنه هونفسه نحت تمثالاً لهرمس، وآخر لربات القدر الثلاث أقيم قرب مدخل الأكروبوليس(119). أما أمه فكانت قابلة، وكان من الفكاهات التي لا ينفك ينطق بها عن نفسه أنه لم يعمل أكثر من مواصلة حرفة أمه، ولكنه نقلها إلى دائرة الأفكار، فكان يساعد غيره على حتى يخرجوا للعالم آراءهم. وتقول إحدى الروايات إنه ابن أحد الأرقاء(120)، ولكنا نرجح بطلان هذه الرواية لأنه عمل هيليتا أي جندي في فرق المشاة الثقيلة (وذلك واجب لا يضطلع به إلا المواطنون(121))، وأنه ورث عن أبيه بيتاً، وكان عنده من المال سبعون مينا (000ر7 ريال أمريكي)، يستثمرها له صديقه أقريطون(122)، أما فيما عدا هذا فإنه يصور لنا على أنه رجل فقير(123). وقد عني عنايةً كبيرةً بصحة جسمه، وكان في غالب أيامه قوي البنية جيد الصحة، واكتسب شهرةً فائقةً في الجندية أثناء حرب البلوبونيز، وحارب في بوتيديا Potidaea عام 432، وفي ديليوم Delium عام 424، وفي أمفبوليس عام 422.

وفي بوتيديا أنقذ حياة الشاب ألقبيادس وسلاحه، ونزل عن جائزة الشجاعة إكراماً لخاطر هذا الشاب، وفي ديليوم كان آخر من تقهقر من الأثينيين أمام الإسبارطيين، ويلوح أنه أنجى نفسه بالتحديق في العدو، فخافه الإسبارطيين وهم قوم لا يخافون. وينطق إنه في هذه الوقائع كلها بز جميع أقرانه في قوة الاحتمال وفي الشجاعة، وإنه كان يصبر على الجوع والتعب والبرد فلا يشكوولا يتململ(124). أما في بلده، إذا طاوعته نفسه على الإقامة فيه، فكان يشتغل ببتر الأحجار ونحت التماثيل، ولم يكن مولعاً بالأسفار، وقلما كان يخرج من المدينة ومرفئها. وتزوج من إكسانثبي Xanthippe التي كانت تعيب عليه إهمال شئون أسرته، فكان يعترف بعدالة شكواها(125)، ويثني على كرم أخلاقها وحسن معاملتها لابنه وأصدقائه. ولم يكن الزواج يضايقه قط فقد يظهر أنه اتخذ لنفسه زوجة ثانية حين أباح القانون تعدد الزوجات مدة قصيرة لكثرة من اغتال في الحروب من الذكور(128).

والعالم كله يعهد وجه سقراط وملامحه. وإذا حكمنا عليه من تمثاله النصفي المحفوظ في متحف ترمي Museo Dell Terme برومة، وذلك حكم لا يستند إلى أساس قوي، قلنا أنه لم يكن أنموذجاً صادقاً للوجه اليوناني(129). ذلك حتى سعة وجهه، وأنفه الأفطس العريض، وشفتيه الغليظتين، ولحيته الكثة، كلها توحي بأنه ينتمي إلى أرض السهوب التي اتى منها أناكارسيس Anacharsis صديق صولون، أوذلك السكوذي الحديث تولستوي. وقد خط عنه ألقبيادس في إصرار عجيب، حتى في الوقت الذي يجهر فيه بحبه يقول: "أقول إذا سقراط يشبه جميع الشبه أقنعة سيلينس، التي يمكن رؤيتها في حوانيت التماثيل، وفي أفواهها مزامير وصفارات، وتنفتح في أوساطها فترى في داخلها صور الآلهة. وأقول أيضاً إنه يشبه مارسياس Marsyas الكائن الخرافي الذي يتكون نصفه الأعلى من إنسان ونصفه الأسفل من ماعز (Satyr)، ولست أعتقد أنك يا سقراط تنكر حتى وجهك هووجه ذلك المخلوق الخرافي"(130). ولم يعترض سقراط على هذا القول، بل إنه عمل ما شر من هذا فقد اعترف بأن له كرشاً مفرطة في الكبر وأنه يرجوحتى ينقصها الرقص(131).

ويتفق أفلاطون وأكسانوفون في وصفهم عاداته وأخلاقه. من هذه أنه كان يقنع بثوب سهل رث يلبسه طول السنة، ويفضل الحفاء على الأحذية أوالأخفاف(132). وقد تحرر إلى حد لا يصدقه العقل من داء التملك الوبيل المصاب به الجنس البشري، وينطق إنه أبصر ذات مرة كثرة البضائع المعروضة من أجل البيع فنطق: "ما أكثر الأمور التي لا أحتاجها!"(133) وكان يشعر بأنه غني في فقره. وكان مضرب المثل في الاعتدال وضبط النفس، ولكنه كان أبعد الناس عن حياة القديسين. وكان في وسعه حتى يشرب كما يشرب أي رجل مهذب مثقف، ولم يكن في حاجة إلى الزهد لكي يحتفظ باستقامة خلقه . ولم يكن ناسكاً يعتزل الناس، بل كان يحب الرفقة الطيبة، وكان لا يأبى حتى يُدعى إلى ولائم الأغنياء من حين إلى حين، ولكنه لم يخضع لهم أوينحني امتثالاً لأمرهم، وكان في وسعه حتى يعيش أحسن العيش دون معونتهم، وكان يرفض هدايا الكبراء والملوك وولائمهم(135). وجملة القول أنه كان رجلاً محظوظاً يعيش من غير كد، ويقرأ من غير حتى يخط، ويفهم من غير حتى يلتزم خطة رتيبة، ويشرب دون حتى يدور رأسه، ثم يموت قبل حتى يدركه وهن الشيخوخة، وكان موته بلا ألم.

وكانت أخلاقه أحسن الأخلاق الملائمة لعصره، ولكنها أخلاق يصعب حتى يرضى بها جميع الرجال الصالحين الذين يثنون عليه. فقد "سرت نار" الحب في جسمه حين رأى خرميدس Charmides، ولكنه ضبط عواطفه بأن سأل نفسه هل لهذا الفتى هوالآخر "نفس نبيلة(136)؟". ويصف أفلاطون سقراط وألقبيادس بأنهما عاشقان، ويقول عن الفيلسوف إنه "يطارد الفتى الوسيم" (137) ، والشيخ وإن كان يظهر أنه قد جعل حبه في الغالب حباً أفلاطونياً، لم يستنكف حتى يقدم النصح للائطين وللسراري عن خير الوسائل لاصطياد المحبين. وقد دفعته شهامته إلى حتى يعد الحظية ثيودروا بمعونته، وقد جازته على هذه المعونة بدعوتها إياه حتى "يتردد عليها ليزورها"(139). ولم تكن تفارقه نادىبته ورقة حاشيته، ومن أجل هذا فإن الذين يطيقون آراءه السياسية يجدون من السهل عليهم حتى يحتملوا أخلاقه. ولما قضى نحبه نطق عنه أكسانوفون إنه "بلغ من إنصافه أنه لم يظلم إنساناً حتى في أتفه الأمور...، وبلغ من عدالته أنه لم يفضل في وقت من الأوقات اللذة عن الفضيلة، وبلغ من حكمته أنه لم يخطئ قط في تمييز الخبيث من الطيب، ومن قدرته على تبين أخلاق الناس ومن حضهم على اتباع سبيل الفضيلة والشرف حتى بدا أنه بلغ أحسن ما يأمله أحسن الناس وأسعدهم"(140). وقد عبر أفلاطون عن هذا المعنى نفسه ببساطة خلابة فنطق إنه "كان بحق أعقل، وأعدل، وأحسن من عهدت من الناس في حياتي كلها"(141).


صورة ذبابة الخيل

وإذ كان سقراط طلعة محباً للجدل فقد عمد إلى دراسة الفلسفة وأعجب وقتاً ما بالسوفسطائيين الذين غزوا أثينة في أيام شبابه. وليس لدينا شاهد على حتى أفلاطون قد اخترع نبأ التقاء سقراط بپارمنيدس، وپروتاگوراس، وگورگياس، وبرودكس، وهيبياس، وثرازمكس. وما دار في لقائه بهم من أحاديث، وليس ببعيد أيضاً حتىقد يكون قد رأى زينون حين وفد هذا إلى أثينة حوالي عام 450 ق.م. وأنه تأثر بجدله تأثراً لم يفارقه طول حياته(142). وأكبر الظن أنه عهد أنكساغورس بشخصه إذا لم يكن عن طريق مبادئه، وذلك لأن أركلوس الملطي تلميذ أنكساگوراس كان في وقت ما مفهم سقراط. وقد بدأ أركلوس هذا حياته الفهمية عالماً في الطبيعة ثم اختتمها بأن كان دارساً لفهم الأخلاق، وقد فسر أصل هذا الفهم وأساسه على قواعد العقل، ولعله هوالذي حول سقراط من الطبيعة إلى فهم الأخلاق. ومن هذه الطرق كلها وصل سقراط إلى الفلسفة، ومذ تم له ذلك عثر "الخير أعظم الخير في حديثي جميع يوم عن الفضيلة، وفحصي عن نفسي وعن غيري، لأن الحياة التي لا يفحص عنها غير خليقة بالرجال" .إلى غير ذلك أخذ يطوف بمعتقدات الناس، يخزهم بالأسئلة، ويطلب إليهم إجابات دقيقة محددة وآراء منسقة غير متناقضة، ويلقي الرعب في قلب جميع من لا يستطيع حتى يتحدث حديثاً واضحاً، وحتى في الجحيم نفسه يعرض حتىقد يكون مشاء طلعة "يعهد مَن من الناس حكيم ومن منهم يدعي الحكمة وهومن غير أهلها"(144) وقد حمى نفسه من التعرض لأسئلة الناس ومناقشتهم إياه بمثل ما يناقشهم هوبأن أعرب أنه لا يعهد شيئاً، وأنه يفهم الأسئلة جميعها ولكنه لا يفهم شيئاً من أجوبتها، ونطق عن نفسه متواضعاً إنه من "هواة الفلسفة"(145). ولعل الذي يقصده بقوله هذا أنه ليس واثقاً من شيء غير تعرض الإنسان للخطأ،

وأنه ليس لديه طائفة من العقائد والمبادئ المقررة الجامدة. ولما حتى أجاب مهبط الوحي في دلفي جوابه المزعوم عن سؤال كريفون Chaerephon المزعوم : "هل في الناس من هوأعقل من سقراط" وهو : "لا أحد"(146)، عزا سقراط هذا الجواب إلى اعترافه هوبجهله، وشرع من تلك اللحظة يقوم بذلك الواجب العملي واجب الحصول على أفكار واضحة، ونطق عن نفسه : "إنه سيتحدث من حين إلى حين عما يهم الجنس البشري، فيبحث عن الصالح وغير الصالح، والعادل وغير العادل، وما يتفق مع العقل وما لا يتفق معه، وعما يعد شجاعة وما يعد جبناً، وعن ماهية الحكومة التي تسيطر على الناس، وعن صفات الرجل البارع في حكمهم، ثم يستطرد إلى موضوعات أخرى... يرى حتى من يجهلونها يعدون بحق في طبقة العبيد"(147). وكان إذا صادف فكرة غامضة، أوتعميماً هيناً غير قائم على الحقائق، أوهوى خامرَ المتحدث إليه على غير فهم منه، تحدى محدثه بقوله: "ما هو؟" ثم سأله حتى يحدد ما يقول تحديداً دقيقاً. وأصبح من عادته حتى يصحومبكراً، ويمضى إلى السوق العامة، أوساحات الألعاب أومدارسها أوإلى حوانيت الصناع، ويأخذ في مجادلة أي إنسان يتوسم فيه الذكاء الحافز أوالغباء المسلي، وكان يسأل: "ألم يعمل الطريق إلى أثينة لكي يتحدث الناس فيه" (148)، وكانت الكيفية التي يتبعها سهلة خالية من التعقيد : كان يطلب إلى من يحدثه حتى يعهد فكرة عامة شاملة، ثم يبحث هذا التعريف ليكشف في العادة عما فيه من نقص، أوتناقض، أوسخف وبطلان، ثم يستدرج محدثة بأسئلته المتعاقبة إلى تعريف أتم وأصح لا يقوله هوأبداً.


وكان ينتقل أحياناً إلى فكرة عامة أوعرض فكرة أخرى جديدة ببحث سلسلة طويلة من الحالات المفردة الخاصة مكنته من حتى يدخل قدراً من طريقة الاستقراء في المنطق اليوناني، وكان في بعض الأحيان يكشف بكيفية التهكم السقراطي المشهور عن النتائج المضحكة السخيفة التي تترتب على التعريف أوالرأي الذي يريد حتى يهدمه. وكان مولعاً بالتفكير المنظم شغوفاً به، يحب حتى يصنف الأمور المفردة حسب جنسها، ونوعها، وما بينها من فوارق معينة، وبذلك مهد السبيل إلى طريقة أرسطاطاليس في التعريف، وإلى نظرية أفلاطون في الأفكار. وكان يصف الجدل بأنه فن التمييز بين الأمور بعناية، وأنار دياجير المنطق المظلمة بفكاهته التي قدر عليها ألا يطول أجلها في تاريخ الفلسفة.

وكان معارضوه يعيبون عليه أنه يهدم ولا يبني، وأنه يرفض جميع جواب ولا يجيب هوبشيء من عنده، وأنه بهذا أفسد الأخلاق وشل التفكير، وأنه في كثير من الحالات هجر الفكرة التي أراد حتى يوضحها وهي أكثر غموضاً من ذي قبل وكان إذا حاول إنسان حازم مثل أقريتياس Critias حتى يسأله حوّل جوابه إلى سؤال آخر فأصبحت له من فوره ميزة على سائله. نعم إنـا نراه في البروتاغوراس يعرض حتى يجيب على الأسئلة لا حتى يسأل، ولكن هذه النية الطيبة لا تدوم إلا لحظة قصيرة، وعندئذ ينسحب بروتاغوراس، وهوالذي تمرس في المنطق من زمن طويل، من ميدان الجدل بهدوء(149). ويستشيط هيبياس غضباً من تملص سقراط وهروبه من الإجابة عما يوجه إليه من أسئلة، ويحمل عقيرته بقوله: "قسماً بزيوس إنك لن تسمع (جوابي) حتى تعلن أنت ما ترى أنه العدالة، لأنه لا يكفي حتى تسخر من الناس، وأن تسأل جميع إنسان وتربكه، ثم تأبى حتى تفصح عن سبب لأي إنسان، أوحتى تعلن عن رأيك في موضوع ما"(150). وقد أجاب سقراط عن هذا التقريع وأمثاله بقوله إنه ليس إلا قابلة كأمه، "إن اللوم الذي يوجه إليّ كثيراً، وهوأني أسأل الناس أسئلة وأن ليس لدي من العقل ما أستطيع به حتى أجيب عنها، لوم عادل لا اعتراض لي عليه، وسببه حتى اللّه قد أرغمني على حتى أكون قابلة، ونهاني عن حتى ألد"(151). وذلك لعمري هروب واضح ما أخلقه بصديقه يوربديز.

وهويشبه السوفسطائيين من وجوه كثيرة، ولم يكن الأثينيون يترددون في حتى يطلقوا عليه هذا الاسم، على أنهم لمقد يكونوا يقصدون بهذا حتى يعيبوه أوينقصوا من قدره(152). والحق أنه كان سوفسطائياً بالمعنى الحديث لهذا اللفظ أي كان بارعاً في المراوغات الماكرة، والحيل الجدلية، يبدل مجال الألفاظ أومعانيها بحذق ودهاء، ويغرق المسألة التي يجادل فيها بالتشبيهات والاستعارات المفككة، ويماحك ويغالط كما يغالط صبيان المدارس، ويحارب بالألفاظ حرب الأبطال ولكن إلى غير غاية(153). وقد يعفوالإنسان عمن جرعوه السم لأنا لا نرى حتى ثمة آفة شراً من المنطقي العارف بقوة منطقه. وكان يختلف عن السوفسطائيين في أربعة أمور : كان يكره البلاغة، وكان يرغب في تقوية الأخلاق، ولم يكن يدعي أنه يفهم أكثر من فن درس الأفكار، وكان يأبى حتى يأخذ أجراً على تعليمه - وإن كان يظهر أنه قبل في بعض الأحيان عوناً من بعض الأغنياء من أصدقائه(154). وكان تلاميذه يحبونه أشد الحب رغم عيوبه التي كانت تضايقهم، وقد نطق مرة لواحد منهم : "ربما استطعت حتى أساعدك في السعي لنيل الشرف والفضيلة، لأن كلامنا يميل إلى حب صاحبه، وأنا إذا أحببت الناس من جميع قلبي وبادلوني هم حبهم من جميع قلوبهم، يسوءني غيابهم عني كما يسوءهم غيابي عنهم. وأتوق لصحبتهم كما يتوقون لصحبتي"(155).

ويمثل أرسطوفان في رواية السحب تلاميذ سقراط بأنهم قد أنشأوا مدرسة ذات مكان معين يجتمعون فيه، وفي أكسانوفون فقرة تؤيد هذه الفكرة بعض التأييد(156)، ولكنه يصور لنا عادة بأنه يفهم في أي مكان يجد فيه من يفهمه، أومن يستمع إليه، غير أننا لا نجد عقيدة خاصة أومبدأ خاصاً يجمع علينا أتباعه، فقد كانوا يختلفون فيما بينهم اختلافاً بلغ من شدته حتى أصبحوا زعماء لأشد المدارس اختلافاً في بلاد اليونان - الأفلاطونية، والكلبية، والرواقية والأبيقورية، والتشككية. فكان منهم أنتستان Antisthenes الفخور الذليل الذي أخذ عن أستاذه مبدأ البساطة في الحياة وحاجاتها، وأسس المدرسة الكلبية. ولعله كان حاضراً حين نطق سقراط لأنتيفون : "يبدوأنك تظن حتى السعادة في الترف والإسراف، أما أنا فأرى أنك إذا لم تكن في حاجة إلى شيء كنت شبيهاً بالآلهة، وأنك إذا أقللت من حاجاتك قدر استطاعتك أصبحت أقرب ما تكون إلى الآلهة"(157). وكان منهم أيضاً أرستبوس الذي بنى على اعتراف سقراط بأن "في اللذة خيراً" العقيدة التي نشرها بعدئذ في قوريني Cyrene والتي نادى إليها أبيقور أثينة فيما بعد. ومنهم إقليدس الميغاري الذي جعل من الجدلية السقراطية تشككية تنكر المقدرة على جميع فهم حقة.


وكان منهم الشاب فيدون الذي كان قد انحط إلى طبقة العبيد ثم افتداه قريطون Crito بإيعاز سقراط، وأحب سقراط هذا الشاب و"جعله فيلسوفاً". وكان منهم أكسانوفون القلق المضطرب الذي تخلى عن الفلسفة ليكون جندياً، ولكنه أثبت حتى "لا شيء أعظم نفعاً من صحبة سقراط، والتحدث إليه في أية مناسبة وفي أي موضوع مهما يكن شأنه"(159). ومنهم أفلاطون الذي تأثر خياله القوي بالفيلسوف الحكيم تأثراً لم يفارقه طول حياته حتى امتزج العقلان وصارا في تاريخ الفلسفة عقلاً واحداً. ومنهم أقريطون الثري، الذي كان يهيم حباً بسقراط، والذي كان يحرص أشد الحرص على ألاقد يكون الفيلسوف الكبير في حاجة إلى شيء ما"(160). وكان منهم الشاب ألقبيادس المتهور الجريء الذي أساء بعدم وفائه إلى مفهمه، وعرضه للأخطار في مستقبل الأيام، ولكنه كان في الوقت الذي نتحدث عنه يحب سقراط ويهيم به هيام الواله المتيم، والذي يقول فيه:

"إنـا إذا سمعنا متحدثاً غيرك، وإن كان من أحسن الناس حديثاً، لم يكن لألفاظه أثر قط إذا قورنت بألفاظك، أما نتف ألفاظك أنت يا سقراط، ولولم نسمعها منك أنت بل نقلت إلينا عنك مهما أخطأ فيها الناقلون، أما هذه النتف فإنها تخلب الألباب وتستحوذ على نفس جميع رجل أوامرأة وكل طفل يستمع إليها... وإني لأعهد أني إذا لم أصم أذني عن سماع أقواله وأفر من صوته الذي يسلب العقل للازمته حتى بلغ سن الشيخوخة وبقيت جالساً تحت قدميه... ولقد أحسست في نفسي أوقلبي... بذلك الألم الشديد الذي هوأشد إيلاماً لنفس الشاب الشريف من أنياب الأفاعي ألا وهوألم الفلسفة...وأنت يا فيدروس وأنت يا أغاثون، وأنت يا إركسماكوس، وأنت يا بوزنياس، وأنت يا أرسطوديموس وأنت يا أرسطوفان، أنتم كلكم، ولا حاجة لي بأن أضم إليكم سقراط نفسه، قد طافت بكم هذه التجربة نفسها وشغفتم بالفلسفة شغفي أنا بها"(161).

وكان منهم الزعيم الألجركي كرتياس الذي كان يستمتع بتهكم سقراط على الديمقراطية والذي كانت له يد في إدانته بأن خط مسرحية وصف فيها الآلهة بأنها من ابتداع مهرة الصناع الذين يستخدمونها كما يستخدم خفراء الليل ليرهبوا بها الناس ويرغموهم على حسن الأدب(162). وكان منهم أيضاً ابن الزعيم الدمقراطي أنيتوس Anytus وهوشاب آثر حتى يستمع إلى حديث سقراط عن العناية بعمله وهوالاتجار في الجلود. وشكا أنيتوس من حتى سقراط قد أفسد عقل الغلام بما بث فيه من تشكك، فلم يعد يبجل أبويه أويعظم الآلهة؛ هذا إلى حتى أنيتوس كان يشمئز من نقد سقراط للديمقراطية ويقول : "أي سقراط! إني أظنك مفرطاً في استعدادك لأن تتحدث بالشر عن الناس، فإذا قبلت نصحي أشرت عليك حتى تصطنع الحذر، ولعله لا توجد قط مدينة ليس إيذاء الناس فيها أيسر من عمل الخير لهم، وتلك بلا شك حال أثينة نفسها"(164) وأخذ أنيتوس يتربص به الدوائر.


فلسفة سقراط

جزء من سلسلة عن
الافلاطونية
مثالية افلاطونية
واقعية افلاطونية
افلاطونية وسيطة
افلاطونية محدثة
منطقات في الافلاطونية المحدثة
نظرية الفهم الافلاطونية
Socratic method
حوار سقراطي
Theory of forms
Platonic doctrine of recollection
Form of the Good
أشخاص
افلاطون
سقراط
ألقبيادس
پروتاگوراس
پرمنيدس
مناقشات لأعمال افلاطون
محاورات افلاطون
مجازية الشمس
تناظر الخط المقسـَّم
مجازية الكهف
جدال الرجل الثالث
Quis custodiet ipsos custodes?
     

وكان من وراء هذه الطريقة فلسفة مراوغة، تجريبية، تجري على غير نظام، ولكنها فلسفة بلغ من جديتها وحقيقتها حتى توفي الرجل في واقع الأمر من أجلها. وقد يظهر لأول وهلة حتى ليست هناك فلسفة سقراطية، ولكن أكبر السبب في هذا حتى سقراط قبل نزعة بروتاغوراس النسبية فرفض النزعة التحكمية ولم يكن واثقاً إلا من جهله. وقد حكم على سقراط لأنه لا يؤمن بالدين، ولكنه مع هذا كان يعبد آلهة المدينة بلسانه إذا لم يعبدها بقلبه، ويشهجر في احتفالاتها الدينية، ولم يعهد عنه أنه نطق مرة بحدثة تدل على عدم تقواه(166). وكان يعترف بأنه يتبع في جميع قراراته الهامة السلبية روحاً Diamonion داخلياً كان يصفه بأنه إشارة من السماء، ومن يدري فلعل هذا الروح كان هوالآخر سخرية من سخريات سقراط وتهكماته، فإن كان كذلك فإن سقراط لم يكن ينفك يؤكد دعواه هذه تأكيداً عجيباً، ولم تكن هذه الدعوى إلا مثلاً من أمثلة عدة لالتاتى سقراط إلى النبوءات والأحلام وقوله إنها وحي من عند الآلهة(167). وكان يقول إذا في الكون من الأمثلة الدالة على التناسق المدهش العجيب، ومن الخطة الواضحة المرسومة، ما لا يصح معه حتى يعزى وجود العالم إلى الصدفة المحضة أوإلى أية علة غير عاقلة، أما الخلود فلم يكن واثقاً منه مثل هذه الثقة أوقاطعاً في أمره هذا البتر، فهويستمسك به ويدافع عنه في الفيدون Phaedo أما في الأبولوجيا Apology فهويقول : "إذا جاز لي حتى أدعي بأني أكثر حكمة من غيري فسبب ذلك أني لا أعتقد حتى عندي كثيراً من الفهم بالدار الآخرة، وأنا في واقع الأمر لا فهم لي بها على الإطلاق"(168). ويطبق هذه النزعة اللا أدرية نفسها على الآلهة في كتابه الكراتلس فيقول : "أما الآلهة فلسنا نعهد عنها شيئاً"(169). وكان ينصح أتباعه بألا يجادلوا في مثل هذه الأمور، يسألهم كما يسأل كنفوشيوس أتباعه هل عهدوا شئون البشر حق الفهم فأصبحوا بعدئذ على استعداد لأن يتدخلوا في شئون السماء(170)،يا ترى؟ وكان يحس حتى خير ما نعمله في هذه الناحية حتى نقر بجهلنا، وأن نطيع في الوقت نفسه وحي دلفي حين سئل كيف من الممكن أن يعبد الإنسان الآلهة فأجاب : "حسب قانون بلادكم"(171).

وكان يطبق هذا التشكك نفسه تطبيقاً أشد من هذا صراحة في العلوم الطبيعية فيقول إذا من واجب الإنسان ألا يزيد في دراستها على القدر الذي يهتدي به في حياته، أما فيما عدا هذا فإن هذه العلوم بيداء يضل فيها العقل، يكشف جميع لغز غامض فيها حين يحل عن لغز آخر أشد منه غموضاً(172). وكان في شبابه قد تفهم العلوم الطبيعية مع أركلوس Archelaus، فلما كبر ونضج عقله هجرها وهويعتقد أنها أسطورة خداعة إلى حد ما، ولم يعد يهتم بالحقائق أوبأصول الأمور بل وجه اهتمامه إلى القيم والغايات. وفي ذلك يقول أكسانوفون "إنه كان على الدوام يتحدث في البشرية(174). وكان السوفسطائيون أيضاً قد حولوا اهتمامهم من العلوم الطبيعية إلى الإنسان، وبدءوا يدرسون الإحساس، والإدراك والفهم، ولكن سقراط تعمق أكثر من هذا في داخل الإنسان وأخذ يفهم الأخلاق والأغراض البشرية : "قل لي يا يوثيديموس، هل مضىت في حياتك إلى دلفي؟". " وهل لاحظت ما مكتوب على جدار الهيكل- أعهد نفسك ؟" "نعم لاحظته". "وهل لم تفكر في هذه الكتابة، أوهل عنيت بها، وحاولت حتى تفحص عن نفسك وتعهد عن يقين حقيقة أخلاقك؟"(175).


فلم تكن الفلسفة إذن عند سقراط هي الدين، أوما وراء الطبيعة، أوالطبيعة نفسها، بل كانت فهم الأخلاق والسياسة، مدخلها والوسيلة إليها المنطق، وإذ كان قد عاش في ختام عصر السوفسطائيين فقد استوعب حتى هذه الطائفة قد أوجدت حالة من أشد الحالات خطورة في تاريخ أية ثقافة من الثقافات وتلك هي إضعاف أحد الأسس التي تقوم عليها الأخلاق ونعني به خوارق الطبيعة. وبعد حتى استوعب هذا لم يعد خائفاً مرتاعاً إلى الإيمان بالدين بل سلك السبيل إلى أعمق الأسئلة في فهم الأخلاق : هل يستطاع وجود فهم للأخلاق قائم على أساس من الطبيعة ،يا ترى؟ أي هل يمكن حتى تظل الأخلاق من غير الاعتقاد بخوارق الطبيعة ،يا ترى؟ وهل في مقدور الفلسفة إذا صاغت قانوناً قوياً أخلاقياً دنيوياً غير ديني حتى تنقذ الحضارة التي تهددها حريتها الفكرية بالانهيار والزوال ،يا ترى؟ وحين يقول سقراط في الأوطيفرون حتى ليس الخير خيراً لأن الآلهة ترضى عنه، بل إذا الآلهة ترضى عن الخير لأنه خير، حين يقول هذا يعرض في واقع الأمر ثورة فلسفته. ولم تكن فكرته عن الخير فكرة دينية، بل كانت فكرة دنيوية إلى حد يجعلها نفعية. فهويرى حتى الصلاح ليس فكرة عامة مجردة، ولكنها فكرة خاصة عملية فالصالح صالح لشيء ما"، والصلاح والجمال شكلان من أشكال المنفعة والفائدة البشرية، وحتى السلة من الروث تكون جميلة إذا أحسن إعدادها للغرض الذي تؤديه(176). وإذ لم يكن ثمة (في رأي سقراط) شيء غير الفهم يعادلها في نفعها، فإن الفهم هي أسمى الفضائل والرذيلة جميعها هي الجهل(178)، وإن كان المقصود بالفضيلة (Arete) هنا هوالتفوق لا البراءة من الذنوب. والعمل الصالح غير مستطاع بغير الفهم الحقة، وبالفهم الحقةقد يكون العمل الصالح أمراً محتوماً لا مفر منه، والناس لا يعملون قط ما يعهدون أنه خطأ- أي مضاد للعقل، ضار بهم. وأسمى أنواع الخير السعادة، وخير سبيل للوصول إليها هي سبيل الفهم أوالذكاء.


ويقول سقراط إنه إذا كانت الفهم هي أسمى الفضائل كانت الأرستقراطية خير أشكال الحكم، وكانت الديمقراطية سخفاً وعبثاً. وفي ذلك يقول أكسانوفون على لسان سقراط : "من السخف حتى نختار الحكام بالقرعة على حين حتى أحداً لا يفكر قط في حتى يختار بالقرعة مرشد السفن أوالبناء أوالنافخ في الناي، أوأي صانع على الإطلاق، مع حتى عيوب هؤلاء أقل ضرراً من عيوب أولئك الذين يفسدون حكوماتنا"(179). وهويعيب على الأثينيين حبهم للتقاضي، وتحاسدهم الصاخب، ومرارة أحقادهم ومنازعاتهم السياسية، ويقول في ذلك : "ولهذه الأسباب تراني على الدوام أخشى أشد خشية حتى يحل بالدولة شر تنوء به وتعجز عن تحمله"(180). وكان يظن حتى لا شيء ينجي أثينة إلا حكم أصحاب الفهم والكفاية، وليست السبيل إلى هذا الحكم هي الاقتراع، كما حتى الاقتراع لا يصلح سبيلاً لتقدير كفاية مرشد السفن أوالموسيقى أوالطبي أوالنجار. كذلك يجب ألا يختار موظفوالدولة على أساس جاههم أوثرائهم، ذلك حتى الاستبداد وسلطان المال لا يقل شرهما عن شر الديمقراطية. والسبيل الوسطى المعقولة هي النظام الأرستقراطي الذي تقصر فيه المناصب على الذين تؤهلهم لها عقولهم والذين يدربون على القيام بما تتطلبه من الواجبات(181). على حتى سقراط كان يعترف بما للديمقراطية الأثينية من مزايا رغم ما يوجهه إليها من نقد، ويقدر ما أسدته إليه من حريات وما أتاحته له من فرص. وكان يبتسم ساخراً من ميل بعض أتباعه للدعوة إلى "العودة إلى الطبيعة"، وقد وقف من أنستانس ومن الكلبيين نفس الموقف الذي وقفه فلتير من روسوفيما بعد- وهوحتى الحضارة، رغم عيوبها الكثيرة، كنز ثمين لا يصح حتى تتخلى عنه لتستبدل به البساطة الأولية(182).


ومع هذا كله فقد كان الأثينيون ينظرون إليه نظرة الريبة والسخط، فأما المتمسكون منهم بالدين فقد كانوا يرونه أشد السوفسطائيين خطورة، لأنه وإن راعى ما في الدين القديم من مسببات المتعة والمسرة، رفض التنطقيد المرعية، وأراد حتى يخضع جميع قاعدة من قواعده إلى حكم العقل بعد تقص وفحص، وأن يقيم قواعد الأخلاق على أساس ضمير الأفراد لا على أساس خير المجتمع أوأوامر الآلهة، وانتهى به الأمر إلى تشكك هجر العقل طالما من الاضطراب زعزعت كيان جميع عادة وكل عقيدة. وكان الذين يمجدون الأيام الخوالي أمثال أرسطوفان يعزون إليه كما يعزون إلى بروتاغوراس ويوربديز زعزعة أركان الدين، وقلة احترام الصغار للكبار، والانحلال الخلقي عند الطبقات المتفهمة، وفوضى العزوبة التي كانت تقوض أركان الحياة الأثينية. ولقد كان الكثيرون من زعماء الحزب الألجركي من تلاميذ سقراط أومن أصدقائه، وإن كان هونفسه قد أبى حتى يؤيد هذا الحزب، ولما حتى قام رجل منهم يدعى أقريتياس وقاد الألجركيين في ثورة بسطوا خلالها عهداً من الإرهاب الوحشي، اتهم الديمقراطيون أمثال أنيتوس، وملاتوس سقراط بأنه العقل المحرك للرجعية الألجركية، وأجمعوا أمرهم على إبعاده عن مجرى الحياة الأثينية.


وأفلحوا فيما أجمعوا أمرهم عليه، ولكنهم لم يفلحوا في القضاء على ما كان من نفوذ لا حد لقوته. ذلك حتى الطريقة الجدلية التي تلقاها عن زينون انتقلت منه عن طريق أفلاطون إلى أرسطاطاليس فحولها هذا إلى نظام منطقي بلغ من الكمال درجة استطاعت بها حتى تظل دون حتى يطرأ عليها تغيير ما تسعة عشر قرناً كاملة. أما الفهم فقد كان له فيه أثر ضار، ذلك أنه حول الطلاب من البحث في العلوم الطبيعية، كما حتى نظرية الغرض الخارجي لم تكن من العوامل المشجعة للتحليل الفهمي. وربما كان لنزعة سقراط الفردية والذهنية في فهم الأخلاق بعض الأثر فيما أصاب الأخلاق في أثينة من انحلال، ولكن حملها من شأن الضمير، وقولها إنه أعلى من القانون، أصبحا من العقائد الجوهرية في الديانة المسيحية. وقد انتقل الكثير من آرائه على أيدي تلاميذه فأصبح مادة جميع الفلسفات الكبرى في القرنين التاليين. وكان أقوى مسببات نفوذه هوالمثل الذي ضربه للناس بحياته وأخلاقه، فلقد أضحى في التاريخ اليوناني شهيداً وقديساً، حتى لقد كان جميع جيل يبحث عن مثل أعلى للحياة البسيطة والتفكير الجريء يعود إلى الماضي ليستمد من ذكرى سقراط غذاء لمثله العليا. وفي ذلك يقول أكسانوفون : "حدثا فكرت في حكمة الرجل ونبل أخلاقه رأيت حتى ليس في مقدوري حتى أنساه أبداً، أوحتى أحاجز نفسي عن الثناء عليه حين أذكره، وإذا كان من بين أولئك الذين جعلوا الفضيلة غايتهم لإنسان قد اتصل بشخص أكثر معونة له في هذا الغرض النبيل من سقراط، فإني أرى حتى هذا الرجل خليق بأن يعد أسعد الناس على الإطلاق"(183).


طالع أيضاً

  • I know that I know nothing

الهامش

  1. ^ "Socrates". 1911 Encyclopaedia Britannica. 1911. Retrieved 2007-11-14.

المصادر

  • Brun, Jean (1978 (sixth edition)). Socrate. Presses universitaires de France. pp. 39–40. ISBN . Check date values in: |date= (help) (French)
  • Coppens, Philip, "Socrates, that’s the question," Feature Articles - Biographies, PhilipCoppens.com.
  • May, Hope (2000). On Socrates. Belmont, CA: Wadsworth. ISBN .
  • Ong, Walter (2002). Orality and Literacy. New York: Routledge. ISBN .
  • Kagan, Donald. The Fall of the Athenian Empire. First. Ithaca, New York: Cornell University Press, 1987.
  • Pausanias, Description of Greece. W. H. S. Jones (translator). Loeb Classical Library. Cambridge, MA: Harvard University Press; London, William Heinemann Ltd. (1918). Vol. 1. Books I-II: ISBN 0674991044. Vol. 4. Books VIII.22-X: ISBN 0674993284.
  • Thucydides; The Peloponnesian War. London, J. M. Dent; New York, E. P. Dutton. 1910. 
  • Vlastos, Gregory (1991). Socrates, Ironist and Moral Philosopher. Ithaca: Cornell University Press. ISBN .

قراءات اضافية

  • Bernas, Richard, cond. Socrate. By Erik Satie. LTM/Boutique, 2006
  • Bruell, C. (1994). “On Plato’s Political Philosophy,” Review of Politics, 56: 261-82.
  • Bruell, C. (1999). On the Socratic Education: An Introduction to the Shorter Platonic Dialogues, Lanham, MD: Rowman and Littlefield.
  • Grube, G.M.A.(2002). " Plato, Five Dialogues". Hackett Publishing Company, Inc.
  • Hanson, V.D. (2001). "Socrates Dies at Delium, 424 B.C.," What If? 2, Robert Cowley, editor, G.P. Putnam's Sons, NY.
  • Egan, K. The educated mind : how cognitive tools shape our understanding. (1997) University of Chicago Press, Chicago. ISBN 0-226-19036-6 p. 137-144
  • Kierkegaard, Soren (1968). The Concept of Irony: with Constant Reference to Socrates. Bloomington: Indiana University Press. ISBN .
  • Levinson, Paul (2007). The Plot to Save Socrates. New York: Tor Books. ISBN .
  • Luce, J.V. (1992). An Introduction to Greek Philosophy, Thames & Hudson, NY.
  • Maritain, J. (1930, 1991). Introduction to Philosophy, Christian Classics, Inc., Westminster, MD.
  • Robinson, R (1953). Plato's Earlier Dialectic. Oxford: Clarendon Press. ISBN . Ch. 2: "Elenchus", Ch. 3: "Elenchus: Direct and Indirect"
  • Taylor, C.C.W. , Hare, R.M. & Barnes, J. (1998). Greek Philosophers — Socrates, Plato, and Aristotle, Oxford University Press, NY.
  • Taylor, C.C.W. (2001). Socrates: A very short introduction. Oxford: Oxford University Press.

وصلات خارجية

اقرأ اقتباسات ذات علاقة بسقراط، في فهم الاقتباس.
  • Original Fresque of Socrates in Archaeological Museum of Ephesus
  • Socrates Narrates Plato's The Republic
  • Apology of Socrates, by Plato.
  • Greek Philosophy: Socrates
  • Project Gutenberg e-texts on Socrates, amongst others:
    • The Dialogues of Plato (see also Wikipedia articles on Dialogues by Plato)
    • The writings of Xenophon, such as the Memorablia and Hellenica.
    • The satirical plays by Aristophanes
    • Aristotle's writings
  • at LibriVox
  • Socratic Method Research Portal
  • , from Stanford Encyclopedia of Philosophy (2005)


.



.

تاريخ النشر: 2020-06-04 14:11:10
التصنيفات: صفحات تستخدم وسوم HTML غير صالحة, Articles with hCards, CS1 errors: dates, مواليد 470 BC, وفيات 399 BC, فلاسفة يونانيون قدماء, أثينيون قدماء, إنسانيون قدماء, Irony theorists, أشخاص اُعدموا بالسم, يونانيون قدماء اُعدموا, فلاسفة إغريق, إلحاد

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

انعكاسات الجفاف.. مدن كبرى مهددة بانقطاعات ماء الشرب

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-18 12:19:26
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 56%

‏‎القائم بأعمال وزير الصحة يتفقد مستشفى زفتى العام بمحافظة الغربية

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-18 12:18:33
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 56%

تعرف على المغربي الذي صنع كأس العالم 2022

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-18 12:18:46
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 70%

رئيس الوزراء يتفقد مشروعات «مدينة العلمين الجديدة»

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-18 12:18:34
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 54%

الصحة العالمية: نعمل لحصول 26.6 مليون لاجئ علي الخدمات الأساسية الضرورية

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-18 12:18:38
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 69%

"نقل عجمان" توضّح تفاصيل خطوط الحافلات داخل وخارج الإمارة

المصدر: الإمارات اليوم - الإمارات التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-06-18 12:19:21
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 50%

مغاربة أوروبا.. حصيلة يومين بعد انطلاق أكبر عملية عبور بين قارتين

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-18 12:18:50
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 75%

الاتحاد الجزائري يوضح حقيقة التعاقد مع حاليلوزيتش!

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-18 12:19:25
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 62%

كيف يمثل الموظف جهته الحكومية في مواقع التواصل الاجتماعي؟

المصدر: الإمارات اليوم - الإمارات التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-06-18 12:19:19
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 57%

اندلاع حريق بمصنع للبتروكيماويات في شنغهاي

المصدر: الإمارات اليوم - الإمارات التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-06-18 12:19:20
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 60%

الجامعات الخاصة.. تفتح أبوابها لطلاب الشهادات المعادلة في تنسيق ٢٠٢٢

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-18 12:18:44
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 60%

الحكومة تنفي وجود نقص في الأدوية بالمستشفيات والصيدليات

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-18 12:18:39
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 67%

مصادر: أكثر من 160 ألف مراقب يشارك في امتحانات الثانوية العامة| خاص

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-18 12:18:42
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 52%

شاهد انقضاض نمر على شاب يقود دراجة في الهند .. (فيديو)

المصدر: الإمارات اليوم - الإمارات التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-06-18 12:19:18
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 70%

القاهرة: الانتهاء من الاستعداد لإمتحانات 106 الآف طالب بالثانوية العامة

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-18 12:18:43
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 65%

الري: إزالة ٥٨ ألف حالة تعد بمساحة ٨.٤٠ مليون متر

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-18 12:18:40
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 53%

حصاد التعليم العالي.. 18 براءة اختراع و14 مشروعا بحثيا دوليا

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-18 12:18:36
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 63%

الهجرة: المعارض العقارية المصرية في كندا تحقق مبيعات بـ ٢٥٠ مليون جنيه

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-18 12:18:45
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 66%

طالب يشنق نفسه حزناً على وفاة والده

المصدر: الإمارات اليوم - الإمارات التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-06-18 12:19:22
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 50%

«الرعاية الصحية»: الرئيس السيسي يقود إصلاح صحي غير مسبوق

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-18 12:18:35
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 53%

تحميل تطبيق المنصة العربية