ليو العاشر

عودة للموسوعة

ليوالعاشر

ليوالعاشر
Leo X
Papacy began 9 مارس 1513 (اُنتخب)
11 مارس 1513 (أُعلن)
انتهت بابويته 1 ديسمبر 1521 (8 سنوات،ثمانية شهور، 20 يوم)
سبقه يوليوس الثاني
خلفه أدريان السادس
الترسيم 17 مارس 1513
أصبح كاردينال 26 مارس 1492
تفاصيل شخصية
اسم الميلاد جيوڤاني دي لورنزوده ميدتشي
وُلِد 11 ديسمبر 1475
فلورنسا، جمهورية فلورنسا
توفي 1 ديسمبر 1521
روما، الدول البابوية
پاپوات آخرون اسمهم ليو
بابوي styles of
ليوالعاشر
أسلوب الإشارة قداسته
أسلوب المخاطبة قداستك
الأسلوب الديني الأب المقدس
الأسلوب بعد الوفاة لا يوجد

البابا ليوالعاشر Pope Leo X (11 ديسمبر 1475 – 1 ديسمبر 1521)، ولد باسم جوڤاني دي لورنزوده مديتشي، كان بابا من 1513 حتى وفاته في عام 1521. وكان آخر بابا منتخب لم يكن كاهناً (كان فقط شماسا).

الكردينال الغلام

إن البابا الذي خلع اسمه على عصر من أزهى العصور وأكثرها خلوداً في تاريخ روما ليدين بتاريخه الكنسي إلى ما كان لأبيه من دهاء سياسي وخطط سياسية بارعة، ذلك حتى سكستس الرابع كاد يقضي على لورندسوده ميديتشي، وكان لورندسوهذا يرجوحتى يعلوسلطان أسرته وأنقد يكون أبناؤه وحفدته آمنين على أنفسهم ومراكزهم في فلورنس إذا كان أحد أبناء هذه الأسرة من بين أعضاء مجمع الكرادلة، يشغل مكاناً في الدوائر الداخلية للكنيسة. ولذلك أخذ يعد ابنه الثاني جوڤني للمنصب الكنسي وكاد يعمل به هذا منذ مولده. ولمّا بلغ الغلام العاشر من عمره (1482) حلق شعر يافوخه ، وما لبث حتى نفخ بمناصب ذات أجر من غير عمل؛ فقد عين وصياً على بعض أملاك الكنيسة، على حتىقد يكون له الفائض من ريعها. وفي السنة الثامنة عين رئيساً لدير فون دوس Font Douce في فرنسا، وفي سن التاسعة كانت له رياسة دير پاسنيانوPassignano ذات الإيراد الضخم، وفي الحادية عشرة كان رئيساً لدير منتي كسينوذي الذكريات التاريخية؛ وقبل حتى يختار جيوفني للجلوس على عرش البابوية كان قد اجتمع له ستة عشر من هذه المناصب(1). وقد عيّن وهوفي سن الثامنة كبيراً للموثقين البابويين، ثم عين كردنالاً في سن الرابعة عشرة.

وقد زود هذا الحبر بكل ما يتاح لأبناء الواسعي الثراء من ضروب التربية والتعليم؛ فنشأ بين الفهماء، والشعراء؛ ورجال الحكم، والفلاسفة، وعين مارتشيلوفنتشينوMarcilio Ficino مربياً به، وتفهم اللغة اليونانية على دمتريوس كلكنديلس Demetrius Chalcondylese، والفلسفة على برناردودا ببينا Bernardo Bibbiena الذي أصبح فيما بعد أحد كرادلته. وأشرب، مما في قصر والده وما حوله من مجموعات فنية ومن حديث حول الفن، حب الجمال الذي كادقد يكون له ديناً حينما نضجت سنه. ولعله قد أخذ عن والده سخاءه العظيم وعدم مبالاته بالمال، كما أخذ عنه حياته المرحة، التي تكاد تكون أبيقورية، وهاتان الصفتان هما اللتان امتازت بهما حياته وهوكردنال وكذلك وهوبابا، وكانت لهما آثار بعيدة المدى في العالم المسيحي. ولمّا بلغ الثالثة عشرة من عمره التحق بالجامعة التي أنشأها والده في بيزا، وظل فيها ثلاث سنين يفهم الفلسفة واللاهوت، والقانون الكنسي والمدني. ولمّا بلغ السادسة عشرة جاز له علناً بأن ينضم إلى مجمع الكرادلة في روما؛ وقد بعثه إليه لورندسو(12 مارس من عام 1492) مزوداً برسالة تعد من أكثر الرسائل طرافة في التاريخ.

من واجبك ومن واجبنا جميعاً نحن الذين يهتمون بمصلحتك حتى نعتقد حتى الله حبانا بعنايته؛ وليس ذلك لما أفاضه على بيتنا من النعم ومظاهر التبجيل والتكريم فحسب، بل لأنه فضلاً عن هذا وأعظم منه قد أسبغ علينا، في شخصك أنت، أعظم ما استمتعنا به حتى الآن من عز وكرامة، وهذه النعمة التي أنعمها علينا، والتي هي في حد ذاتها من أجل النعم، ليزيد من قدرها ما يصاحبها من الظروف، وخاصة ما كان منها متصلاً بشبابك وبمكانتنا نحن في العالم. ولهذا فإن أول ما أعرضه عليك، هوأنه ينبغي لك حتى تسبح بحمد الله، وأن تذكر على الدوام حتى جميع ما نالك من خير ليس مرده ما تتصف به من فضائل، أوفطنة، أوحسن تدبير، بل إذا مرده هوفضل الله عليك، وهودين لا تستطيع حتى توفيه إلاّ بالتقوى؛ والعفة، وأن تجعل حياتك مثلاً يحتذى. وإن ما يفرضه عليك أداء هذا كله من واجبات ليزداد ويعظم لأنك قد بانت عليك في سنيك المبكرة مخايل تدل على حتى العالم سيجني منك هذه الثمار الطيبة متى نضج عقلك وجسمك... فاعمل إذن على حتى تخفف العبء الملقى على كرامتك المبكرة، بالتزام النظام في حياتك، وبمثابرتك على دراسة العلوم التي تؤهلك لمنصبك. ولشد ما سرّني إذ فهمت أنك في خلال العام المنصرم، قد أكثرت من تناول العشاء الرباني ومن الاعتراف، وأنك عملت هذا من تلقاء نفسك. ولست أعتقد حتى ثمة طريقة ينال بها رضاء الله خيراً من حتى تعتاد أداء هذه الواجبات وأمثالها...

وإني لأفهم حق الفهم أنك، وأنت تقيم الآن في روما بؤرة المظالم والشرور جميعها، ستزداد في وجهك الصعاب حين تحاول حتى تأخذ نفسك بالتزام هذه النصائح. نعم إذا تأثير القدوة الطيبة لا يزال منتشراً قائماً لم تدرس معالمه، ولكنك ستلتقي في أكبر الظن، بأقوام يحاولون جهدهم إفساد خلقك وإغراءك بارتكاب الإثم؛ ذلك أنه ليس بخاف عليك حتى ما بلغته من مكانة سامية في هذه السن المبكرة قد جر عليك حسد الحاسدين؛ وأن الذين عجزوا عن حتى يحولوا بينك وبين هذه المكانة السامية لن يدخروا وسعاً في الحط منها وذلك بإغرائك على حتى تأتي من الأعمال ما تفقد به تقدير الشعب لك، فيدفعونك بهذا إلى الهاوية التي تردوا هم فيها، ولهم في شبابك ما يغريهم ويؤكد لهم في ظنهم أنهم لا ريب ناجحون فيما يحاولون. فحصّن نفسك إذن لملاقاة هذه الصعاب بكل ما تستطيع من قوة العزيمة، لأن الفضائل لا تزال في هذه الأيام ضعيفة الشأن بين إخوانك في مجمع الكرادلة. ولست أنكر بطبيعة الحال حتى من بينهم رجالاً صالحين، أوتوا قسطاً كبيراً من الفهم والفهم، يضربون بحياتهم أحسن الأمثلة لغيرهم من الناس، وأنا أوصيك بأن تتخذ هؤلاء قدوة لك، وأن تسلك في حياتك مسلكهم، فأنت إذا حذوت حذوهم وسرت على سيرتهم، ازداد تقدير الناس لك وانتشر صيتك بقدر ما تميزك سنك ومكانتك عن غيرك من زملائك. بيد أني أنصحك بأن تباعد ما بينك وبين ملق المتملقين؛ وأحذر الخيلاء والمظاهر الباطلة في سلوكك وحديثك؛ ولا تتصنع الزهد، وحتى الجد نفسه لا تبد مسرفاً فيه؛ وأرجوحتى تفهم في مستقبل الأيام معنى هذه النصيحة وتسير عليها سيراً يفوق جميع ما أستطيع الإفصاح عنه.

على أنك لست بغافل عمّا للأخلاق التي ينبغي لك حتى تتخلق بها من شأن عظيم، لأنك تفهم حق الفهم حتى العالم المسيحي على بكرة أبيه يفترض أن يزدهر ويعمّه الرخاء إذا اتصف الكرادلة بما يجب حتى يتصفوا به من أخلاق طيبة؛ ذلك أنهم إذا كانوا كذلك كان البابا حتماً من الصالحين في جميع الأوقات. وطمأنينة العالم المسيحي، كما تفهم، إنما تعتمد على وجود البابا الصالح. فاعمل إذن على حتى تكون درس إذا كان سائر الكرادلة مثلك، كان لنا حتى نرجونيل هذه النعمة الكاملة. وليس من السهل حتى أسدي إليك نصائح مفصلة دقيقة تسترشد بها في سلوكك وحديثك، ولهذا فحسبي حتى أنصحك بأن تكون العبارات التي تستخدمها في حديثك مع الكرادلة وغيرهم من ذوي الدرجات العلي خالية من التشامخ، يزنيها تقديرك واحترامك لمن يحدثك... على حتى من الخير لك في زيارتك هذه لومة - وهي أولى زياراتك لهذه المدينة، حتى تصغي إلى غيرك من الناس لا حتى تكثر أنت من التحدث إليهم...

واجعل عدتك وثيابك في المناسبات الرسمية دون الدرجة الوسطى لا فوقها، وافهم حتى البيت الجميل، والأسرة الحسنة التنظيم أفضل من الحاشية الكبيرة والمسكن الفخم... وأن الحرير والجواهر لا تليق بمن هم في مثل مركزك؛ وإنك لتستطيع حتى تظهر ذوقك بأحسن مما تظهره هذه الثياب والجواهر بأن تحصل على عدد قليل من الآثار القديمة الظريفة، أوبجمع الخط الجميلة الشكل، وبأنقد يكون أتباعك من المتفهمين الحسني التربية لا بالكثيرين. وادع غيرك إلى دارك أكثر مما تتلقى الدعوات إلى دور غيرك، وإن كان عليك ألا تسرف في هذه أوتلك. وليكن طعامك بسيطاً، ومارس الرياضة البدنية بالقدر الكافي؛ لأن من يلبسون الثياب التي تلبسها سرعان ما تصيبهم الأمراض إذا لم يعنوا بأجسامهم أعظم العناية... وافهم حتى قلة الوثوق بالناس عن الحد الواجب حير من الإسراف في الثقة بهم. وثمة قاعدة ألفت إليها نظرك وهي لدى أفضل من جميع ما عداها: استيقظ من النوم مبكراً، فإن هذا الاستيقاظ المبكر لن يفيدك صحة في الجسم فحسب، بل إنه سيمكنك فوق ذلك من حتى تنظّم أعمال اليوم وتنجزها؛ وإذ كان مركزك يحتم عليك القيام بأعمال متعددة، كأداء الصلوات والخدمات الدينية ؛ والدرس، والاستماع إلى ذوي الحاجات وما إلى ذلك، فإنك ستفيد من هذه النصيحة أكبر فائدة... وسيطلب إليك في أغلب الظن حتى تتوسط لدى البابا في ظروف معينة. ولكن عليك ألاّ تكثر من الإلحاح عليه ومضايقته، لأن مزاجه يجعله أعظم ماقد يكون سخاء على أقل الناس إلحاحاً برجائهم ومطالبهم. إذا عليك حتى تراعى هذه النصيحة لئلاّ تغضبه، وألاّ يفوتك حتى تتحدث إليه في بعض الأوقات في موضوعات أحب إلى النفس من هذه الشفاعات؛ وإذا كان لابد لك حتى تطلب إليه منه، فاطلبها بالتواضع والخضوع الذين يسرانه ويوائمان مزاجه. استودعك الله(2).

وتوفي لورندسوقبل حتى يمضي بعد هذا الوقت شهر واحد، ولم يكد جيوفني يصل إلى "بؤرة الفساد والظلم". حتى عجّل بالعودة إلى فلورنس ليؤيد بيروأخاه الأكبر في حتى يرث سلطانه السياسي المزعوم. وكان من المصائب القليلة التي لاقاها جيوفني في حياته أنه كان في فلورنس حين سقط بيروعن عرشه.ولم يجد هووسيلة للنجاة من غضب المواطنين على آل ميديتشي، ذلك الغضب الذي لم يفرقوا فيه بين أفراد هذه الأسرة، إلا حتى يتخفى في زي راهب فرنسيسي، وأن يشق طريقه وهومتخف في هذا الزي بين الجماهير المعادية، وأن يطلب الالتحاق بدير سان ماركوالذي سخا عليه أسلافه بالهبات، ولكنه كان وقتئذ تحت سيطرة سفنرولا عدوأبيه. ولهذا أبى الرهبان قبوله فيه، فاختفى وقتاً ما في إحدى ضواحي المدينة، ثم اتخذ سبيله فوق الجبال لينضم إلى أخوته في بولونيا؛ وقد تجنب الذهاب إلى روما لأنه كان يكره الإسكندر السادس؛ وعاش ست سنين هارباً أومنفياً، ولكن يلوح أنه لم يكن في خلالها يعوزه المال. وقد زار في هذه الأثناء مع جويليوابن عمه (الذي أصبح فيما بعد الباب حدثنت السابع) وبعض أصدقائه ألمانيا، وفلاندرز، وفرنسا. ثم اصطلح آخر الأمر مع الإسكندر فاتخذ مقامه في روما (1500).

وأحبه جميع من كان في تلك المدينة. فقد كان متواضعاً، بشوشاَ، سخياً في غير تظاهر، وقد بعث بهبات قيّمة إلى مفهميه بوليتيان وكلكنديلس، وأخذ يجمع الخط والتحف الفنية؛ وحتى دخله الكبير نفسه لم يكد يفي بما يقدمه من هبات الشعراء، والفنانين، والموسيقيين، والفهماء.وكان يستمتع بجميع فنون الحياة وطيباتها؛ بيد حتى جيوتشيارديني Guicciardini الذي لم يكن قلبه يخلومن كره للبابوات، يصفه بأنه "قد اشتهر بأنه إنسان طاهر الذيل، مبرأ من جميع نقيصة خلقية"(3)؛ وقد هنأه ألدوس مانوتيوس Aldus Manutius بحياته التقية النقية"(4).

وبدأت الأقدار تعاكسه من حديث حين عينه يوليوس الثاني مندوباً بابوياً يحكم بولونيا وإقليم رومانيا (1511)، ورافق الجيش البابوي إلى رافنا؛ وخاض المعركة وهوأعزل يشجع الجند ويشد عزائمهم؛ وأطال المكث فوق ما ينبغي في ميدان الهزيمة؛ يصلي على الموتى، حتى قبضت عليه سرية يونانية تعمل في خدمة الفرنسيين المنتصرين. ولمّا سيق أسيراً إلى ميلان، سرّه حتى يرى حتى الجنود الفرنسيين أنفسهم قلّما كان يعنيهم أمر الكرادلة المنشقين ومجلسهم الذي لا يستقر في مكان، وأنهم كانوا يحرصون على المجيء إليه لينالوا بركته، ومغفرته، ولفهم أيضاً قد اتىوا لينالوا رفده.واستطاع حتى يفر من آسريه الرفيقين به، وأن ينضم إلى القوات البابوية - الإسبانية التي نهبت براتوPrato واستولت على فلورنسا، واشهجر مع أخيه جوليانوفي إعادة آل ميديتسي إلى سلطانهم (1512)؛ ثم استدعى بعد بضعة أشهر من ذلك الوقت إلى روما ليشهجر في اختير من يخلف يوليوس على عرش البابوية.

ولم يكن وقتئذ قد جاوز السنة السابعة والثلاثين من عمره، وقلّما كان يتسقط أنه هونفسه سيختار بابا. وقد ولج المجمع المقدس محمولاً على محفة يعاني آلام ناسور في الشرج(5). واحتدم النقاش أسبوعاً، اختير بعده جوڤاني ده مديتشي بابا (11 مارس سنة 1513)، ويلوح إذا الرشا لم تكن من مسببات هذا الاختيار، وتسمى باسم ليوالعاشر؛ ولم يكن قد رسم بعده قسيساً، ولكن هذا النقص قد تدور في 15 مارس.

ودهش الناس جميعاً من هذا الاختيار وابتهجوا له؛ فقد سرهم وأثلج صدورهم، بعد دسائس الإسكندر وسيزاري بورجيا السوداء وحروب يوليوس واضطراباته هووأحفاده، حتى يتزعم الكنيسة في ذلك الوقت شاب امتاز وهولا يوال فتياً بقلبه الطيب السمح، وكياسته ودماثة خلقه ومجاملته، ومناصرته السخية للآداب والفنون، وأن يقودها كما يظهر في طريق السلام. ولم يخش ألفنسوصاحب فيرارا، الذي حاربه يوليوس بلا هوادة، المجيء إلى روما؛ ورد إليه ليوجميع ما كان له في دوقيته من امتيازات، وشكر له الأمير هذه اليد فأمسك بركاب ليوحين امتطى جواداً بيسير في موكب التتويج في السابع عشر من شهر مارس. وكانت هذه الحفلات التي أقيمت بمناسبة تتويجه فخمة لم تجاوز لها مثيل من قبل أنفقت فيها مائة ألف دوقة(6). وقدم فيها المصرفي أغستينوتشيجي Agostino Chigi مركبة نقش عليها باللغة اللاتينية ذاك النقش الذي يعلن فيه أمل الشعب: "لقد حكمت من فيل فينوس" (أي الإسكندر)، "وحكم بعدئذ المريخ" (يريد يوليوس)، و"الآن تحكم بالاس Pallas" و(الحكمة) وطاف الناس بشعار أكثر من هذا إيجازاً وإحكاماً: "كان المريخ، وتكون بالاس، وأنا فينوس، سأكون أبداً"(7). وابتهج الشعراء، والمثالون، والمصورون، والصيّاغ؛ وانبعثت في قلوب الكتّاب الإنسانيين آمال بعودة عصر أغسطس المضىي, وقصارى القول حتى أحداً لم يتربع على كرسي البابوية من قبل حتى تحف به هذه البشائر والآمال والبهجة التي تغمر قلوب الشعب على بكرة أبيه.

وإذا جاز لنا حتى نصدق الملفقين من كتّاب ذلك العصر فإن ليونفسه قد نطق لأخيه وهومنشرح الصدر: "فلنستمتع بالبابوية ما دام الله قد وهبنا إياها"(8). ولعل هذا القول مدسوس عليه، وحتى إذا صح لا يشير على شيء من عدم الاحتشام، بل ينم على روح جذلة، لا تنسى حتى تكون كريمة كما تكون سعيدة، وهي لا تدري وقد واتاها الحظ السعيد حتى تصف العالم المسيحي كأنه يتمخض بالثورة على الكنيسة.


ليووأوربا 1513 - 1521

ووضع مؤتمر بولونيا الهيبة الدبلوماسية في كفة، والجرأة والسطوة في كفة أخرى، وبقي حتى تُعهد أية الكفتين هي الراجحة. وأقبل الملك الشاب الوسيم يزهوفي معطفه الموشى بالمضى وفراء السمور، والنصر معقود لألويته، وجيشه من ورائه؛ يتوق إلى حتى يلتهم إيطاليا عن آخرها، ولا يبقى فيها إلا البابا حارساً له على أملاكه؛ وليس لليوفي لقاء هذا إلا سحر منصبه ودهاء آل ميديتشي. ومن ثم فإذا كان ليوقد أثار الملك على الإمبراطور، وانتقل من جانب إلى جانب بالحيلة والمراوغة، وسقط مع جميع منهما المعاهدات ضد الآخر، إذا كان قد عمل هذا بحكم الظروف فليس لنا حتى نغالي في وزن أعماله هذه بميزان العدالة الصارمة. ذلك أنه لم يكن لديه من السلاح ما يستخدمه لنيل أغراضه غير هذه الوسيلة، ولقد كان عليه حتى يدافع عن تراث الكنيسة الذي وكل أمره إليه؛ ثم إذا أعداءه كانوا هم أيضاً يستخدمون هذا السلاح نفسه بالإضافة إلى جيوشهم ومدافعهم.

ولقد بقيت الاتفاقات السرية التي عقدت في ذلك الاجتماع في طيات الخفاء إلى يومنا هذا. ويلوح حتى فرانسس حاول حتى يستدرج ليوإلى محالفته ضد أسبانيا؛ فطلب إليه ليوحتى يمهله حتى يفكر في الأمر- وتلك هي الطريقة الدبلوماسية في الرفض؛ وسبب ذلك حتى سياسة الكنيسة التقليدية التي طال عليها الأمد لا تسمح بأن تطوق دولة واحدة أملاكها من الشمال والجنوب(11). وكانت النتيجة الواضحة الوحيدة لاتفاق عام 1516 هي إلغاء قرار بورج التنظيمي The Praqmalie Sanction of Bourges. وكان هذا القرار المعقود في عام 1438 قد أقام مجلساً عاماً له السلطة العليا على البابوات ومنح ملك فرنسا حق تعيين ذوي المناصب الكنسية الكبرى في فرنسا. ووافق فرانسس على إلغاء هذا القرار، بشرط حتى يبقى للملك حق الترشيح لهذه المناصب؛ وقبل ليوهذا الشرط. وقد يظهر حتى هذا كان هزيمة للبابا، ولكن ليوحين قبله إنما كان يجري على سنة جرى بها العمل في فرنسا من عدة قرون؛ وكان يعمله هذا يوفق دون قصد بين الكنيسة والدولة في فرنسا توفيقاً لا يُبقي للملكية الفرنسية أسباباً مالية لتأييد حركة الإصلاح الديني. ثم إنه بهذا العمل قد وضع حداً للنزاع الذي طال عليه الأمد بين فرنسا والبابوية على سلطة المجالس والبابوات وحدود هذه السلطة.

واختتم المؤتمر بأن طلب الزعماء الفرنسيون إلى ليوحتى يغفر لهم أنهم شنوا الحرب على سلفه؛ ووجه إليه فرانسس بهذه المناسبة الخطاب قائلاً: "أيها الأب المقدس! لا يناسبك حتى تعجب من أننا كنا أعداء ليوليوس الثاني فقد كان هوعلى الدوام أعدى أعدائنا، ولم نلق في أيامنا خصما أقوى منه، ذلك بأنه كان في واقع الأمر قائدا بارعا ممتازاً، ولوأنه كان قائداً للجند، لكان أعظم منه بابا"(12). وغفر ليوذنوب أولئك التائبين الأشداء على بكرة أبيهم، وباركهم، وكادوا في آخر الاجتماع حتى يبتروا قدميه تقبيلاً(13).

وعاد فرانسس إلى فرنسا تعلوهامته هالة من المجد، واستسلم زمناً ما للعشق واللهو. ولما توفي فرديناند الثاني (1516)، فكر ملك فرنسا مرة أخرى في غزونابلي، ولعله أراد حتى يتخذ هذا العمل وسيلة مجيدة للتخلص من زيادة السكان في فرنسا. ولكنه مع ذلك عقد معاهدة للصلح مع شارل الأول حفيد فرديناند الذي أصبح الآن ملكاً على أرغونة، وقشتالة، ونابلي، وصقلية. فلما توفي مكسمليان (1519)، ورشح حفيده شارل ليخلفه على عرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة، افترض فرانسس أنه أجدر بتاج الإمبراطورية من ملك أسبانيا البالغ من العمر تسعة عشر عاماً. وأخذ يسعى بنشاط لأن يفوز بالانتخاب لهذا المقام الرفيع. ووجد ليونفسه مرة أخرى في أخطر المواقف. لقد كان يفضل حتى يؤيد فرانسس، لأنه رأى حتى اتحاد نابلي، وأسبانيا، وألمانيا، والنمسا، والأراضي الوطيئة، تحت سلطان مليك واحد، يوسع رقعة ملكه، ويزيد ثروته وعدد رجاله زيادة تخل بتوازن القوى، ذلك التوازن الذي كان فيه حتى ذلك الوقت وقاية للولايات البابوية. لكن اختيار شارل رغم معارضة البابا سينفر منه الإمبراطور الجديد في الوقت الذي يحتاج فيه أشد الاحتياج إلى معونته للقضاء على الفتنة البروتستينتية. وتردد ليوأطول مما يجب في حتى يشعر الناخبين بنفوذه؛ واختير شارل الأول إمبراطورا وأصبح هوشارل الخامس. وواصل البابا سياسة توازن القوى فعرض على فرانسس حتى يحالفه؛ ولما تردد الملك كما تردد هومن قبل سقط ليوعلى حين غفلة اتفاقاً مع شارل (8 مايوسنة 1521)، عرض عليه الإمبراطور الشاب فيه جميع شيء تقريباً: عودة بارما وبياتشندسا، ومعونته ضد فيرارا ولوثر، وإعادة فتح ميلان وإعطائها إلى آل اسفوردسا، وحماية الولايات البابوية وفلورنس إذا هوجمت.

وتجدد القتال في شهر سبتمبر من عام 1521، ونطق الإمبراطور في ذلك: "إني أنا وابن عمي فرانسس على تمام الوفاق؛ فهويريد ميلان وأنا أريدها"(14). ‎‎وتولى قيادة القوات الفرنسية في إيطاليا أوديه ده فوا Odet de Foix فيكونت لوتريه Vicomte de Lautrec. وكان فرانسس قد ولاه هذه القيادة بناء على راتى أخته التي كانت في ذلك الوقت عشيقة الملك. وغضبت لويز أميرة سافوى Louise of Sovoy أم الملك من هذا التعيين وحولت في الخفاء المال الذي أعده فرانسس لجيش لوتريه إلى أغراض أخرى(15)؛ وامتنع من كان في ذلك الجيش من السويسريين عن القتال لمنع مرتباتهم عنهم. ولما اقترب من ميلان جيش بابوي قوي بقيادة القائد المحنك برسبيروكولنا ماركيز بسكارا والمؤرخ جوتشيارديني، أثار أنصار الإمبراطورية من حزب الجبلين فتنة ناجحة بين الأهلين الذين كانوا يرزحون تحت أعباء الضرائب الفادحة، انسحب على أثرها لوتريه من المدينة إلى أملاك البندقية؛ واستولى جنود شارل وليوعلى المدينة وكادوا لا يريقون في سبيل ذلك قطرة دماء؛ وأصبح فرانتشيسكوماريا اسفوردسا وهوابن آخر من أبناء لدوفيكودوقاً لميلان تابعاً للإمبراطور، وكان في مقدور ليوحتى يقابل الموت وهوفي نشوة الفوز.

البابا السعيد

وبدأ ليوعمله بداية طيبة إلى أبعد حد، فعفا عن الكرادلة الذين دبروا مؤتمر بيزا وميلان المعادي له، وانتهى بذلك خطر الانقسام؛ ووعد ألاّ يمس الضياع التي يتوفى عنها الكرادلة، ووفى بهذا الوعد. وأعاد افتتاح مجلس لاتران، ورحب بمندوبيه بلغته اللاتينية البليغة. وأدخل على الكنيسة بعض إصلاحات صغيرة، وخفف الضرائب؛ ولكن مرسومه الذي نادى فيه إلى الإصلاحات الكبرى (3 مايوسنة 1514) لقي مقاومة شديدة من الموظفين الذين كانوا يخشون من حتى تنقص هذه الإصلاحات من دخلهم، ولهذا لم يبذل جهداً كبيراً في تطبيقه(9) ونطق في هذا: "سأتدبر الأمر، لأرى كيف من الممكن أن أستطيع حتى أرضي جميع إنسان"(10) لقد كان هذا هوطبعه، وكان طبعه هذا سبباً فيما حاق به من بلاء.

وليست الصورة التي رسمها له رفائيل (المحفوظة في بتي) والتي أخرجها بين عامي 1517 و1519 مشهورة شهرة صورة يوليوس، ولكن ليونفسه ملوم على هذا بعض اللوم! فقد كان حين صور أقل عمقاً في التفكير، وأقل بطولة في العمل، وأقل قدرة في قرارة نفسه. ولم تكن هذه الصفات لتكسب ظاهر وجهه وجسمه روعة وجلالاً. وكانت الصورة صادقة إلى أبعد حدود الصدق. فقد أظهرته رجلاً ضخماً، يتجاوز الحظ الأوسط في الطول، كما يتجاوزه أكثر من هذا في وزن الجسم. وقد اختفت بدانته التي تقلل من هيبته تحت ستار ثوبه المصنوع من المخمل الأبيض والموشى بالفراء الثمين، والحرملة الحمراء القرمزية؛ له يدان ناعمتان رخوتان، جردتا في الصورة من الخواتم الكثيرة التي تزينهما في الأوقات العادية؛ ومنظار للقراءة يساعد عينيه القصيرتي النظر؛ ورأس مستدير وخدان منتفخان، وأنف ضخم وأذنان عريضتان؛ وتمتد بعض الخطوط الدالة على الحقد والضغينة من الأنف في طرفي الفم، وعينان ثقيلتان، وجبهة عابسة بعض العبوس ذلك هوليوالذي كشرت له الدبلوماسية عن نابها، ولعله قد آلمته حركة الإصلاح التي كانت قاسية عليه، وليس هوليوالصياد والموسيقي المرح، ونصير الآداب والفنون الجواد الكريم؛ الرجل المثقف الذي ينتهب اللذات، والذي ابتهجت روما بتتويجه أعظم ابتهاج. وإذا ما شئنا حتى ننصفه وجب أ، نضم سجل حياته إلى صورته، ذلك حتى الرجل منا رجال كثيرون عند مختلف الرجال وفي مختلف الأوقات؛ وليس في مقدور أبرع مصور حتى يظهر جميع هذه الصفات في وجه إنسان ما في لحظة واحدة.

وكانت الصفة الأساسية في أخلاق ليو، والتي هي وليدة حياته المحظوظة هي طيبة قلبه. فقد كان يجد حدثة طيبة يقولها لكل من يلقاه، وكان يرى خير النواحي في جميع إنسان عدا البروتستنت (الذين لم يكن يسعه حتى يبدأ بفهمهم)؛ وكان يسخوعلى كثيرين من الناس سخاء استنزف كثيراً من أموال الكنيسة، وكان من مسببات حركة الإصلاح الديني. ونحن نسمع الشيء الكثير عن أدبه، ورقة حاشيته، وكياسته، وبشاشته، ومرحه حتى في أوقات السقم والألم (فقد أجريت له عدة جراحات لاستئصال ناسوره ولكنه كان يعود بعدها على الدوام، وكان في بعض الأحيان يجعل تحركه عذاباً ليس بعده عذاب). وكان يهجر لغيره من الناس، على قدر ما يستطيع، حتى يحيوا حياتهم كما يشاءون. وقد تغلبت القسوة على اعتداله وحنوه الأصليين حين تبين له حتى بعض الكرادلة يأتمرون به ليقتلوه. ولقد كان شديداً صارماً مجرداً من الرحمة في بعض الأوقات، عمل ذلك مع فرانتشيسكوماريا دلا روفيري رجل أربينووجيان باولوبجيلوني رجل بروجيا(11).

وكان يسعه حتى يكذب كما يكذب الدبلوماسي إذا أرغمته الظروف على الكذب، وكان من حين إلى حين يتفوق على الساسة الغادرين الذين يريدون أ، يسقطوه في حبائلهم. لكنه كان في أكثر الأحيان ذا قلب رحيم؛ ونتبين هذا حين نهى (دون جدوى) عن استعباد الهنود الأمريكيين، وحين بذل جميع ما في وسعه ليقاوم وحشية محاكم التفتيش التي كان يلجأ إليها فرديناند الكاثوليكي(12). وكان رغم نزعته الدنيوية العامة يؤدي جميع واجباته الدينية بذمة وأمانة، فكان يصوم، ولا يرى أي تناقض أساسي بين الدين والمرح، وقد اتهم بأنه نطق لبمبويوماً ما: "إن الأجيال جميعها لتفهم حق الفهم كيف من الممكن أن أفدنا من هذه الخرافة - خرافة المسيح"؛ ولكن المصور الوحيد الذي ورد فيه هذا القول هومؤلًّف جدلي عنيف يسمى موكب البابوات The Pageant of Popes خطه حوالي 1574 رجل إنجليزي لا شأن له يدعى جون بيل john Bale، وحتى بايل الذي لا يؤمن بدين ورسكوRosucoe البروتستنتي يرفضان هذه السيرة ويعتقدان أنها هي نفسها خرافة(13).

وكانت متعه ومسرّاته تختلف من الفلسفة إلى المهرجين الماجنين. وكان قد تفهم على مائدة أبيه حتى يقدر الشعر، والنحت، والتصوير، والموسيقى، والخط الجميل، وزخرفة الخط، والمنسوجات الرفيعة الجميلة، والمزهريات والزجاج، وكل أشكال الجمال مع جواز استثناء أصلها ومعيارها وهوالمرأة؛ وكانت رعايته للفنانين والشعراء جرياً منه في روما على التنطقيد الكريمة التي كان يسير عليها أسلافه في فلورنس، وإن كان استمتاعه بالفنون شاملاً شمولاً لا يصل به إلى حد الذي يجعله هادئاً مرشداً للذوق الفني. وقد كانت طبيعته السهلة مانعة له من حتى يعني بالفلسفة عناية جدية، وكان يعهد حتى النتائج والأحكام المستخلصة من المقدمات المنطقية كلها زعزعة غير أكيدة، ولم يشغل باله بما وراء الطبيعة بعد حتى غادر الكلية الجامعية. وكان في أثناء تناوله الطعام تقرأ له الخط، وهي عادة خط التاريخ أويستمع إلى الموسيقى، وفيها كان سليم الذوق سليم الحكم، فقد كان ذا أذن موسيقية كما كان رخيم الصوت. وكان بلاطه يضم طائفة من الموسيقيين يغدق عليهم المال؛ وقد استطاع المؤلف والملحن الموسيقى برنارد أكلتي ، ولم يشغل باله بما وراء الطبيعة بعد حتى غادر الكلية الجامعية. وكان في أثناء تناوله الطعام تقرأ له الخط، وهي عادة خط التاريخ أويستمع إلى الموسيقى، وفيها كان سليم الذوق سليم الحكم، فقد كان ذا أذن موسيقية كما كان رخيم الصوت. وكان بلاطه يضم طائفة من الموسيقيين يغدق عليهم المال؛ وقد استطاع المؤلف والملحن الموسيقى برنارد أكلتي Bernard Accolti (المسمى يونيكوأريتينوUnico Aretino لأنه ولد في أدسوولأنه لم يكن يجاريه أحد في سموله ارتجاله الشعر والبتر الموسيقية) بفضل الأجور التي نالها من ليوحتى يشتري دوقية نيبي Nepi الصغيرة؛ وحصل منه يهودي عازف على العود على قصر ولقب كونت؛ وعُيّن المغني جبريل مرينوGabrial Merino كبير أساقفة(14) ووصلت جوقة المرنمين في الفاتيكان بفضل تشجيع ليوورعايته إلى درجة من السمولم يسبق لها من قبل مثيل. وكان رفائيل صادقاً جميع الصدق حين صور البابا وهويقرأ كتاباً في الموسيقى الدينية. وكان ليويجمع الآلات الموسيقية لجمالها وحسن أنغامها، وكان منها أرغن مزدان ببتر من المرمر يرى جستليوني أنه أجمل أرغن رآه أوسمعه.

كذلك كان ليويحب حتى يحتفظ في بلاطه بعدد من المازحين والمهرجين؛ وكان هذا مما يتفق مع ما أعتاده أبوه ومعاصروه من الملوك، ولم تروع له روما التي كانت تحب الضحك حباً لا يزيد عليه إلاّ حب الثروة والجماع، وقد يظهر لنا إذا عدنا بنظرنا إلى تلك الأيام الخالية حتى مما تعافه نفوسنا حتى تتردد أصداء النكات الخفيفة والقبيحة في أراتى البلاط البابوي بينما كانت ثورة الإصلاح الديني الجامعة تشعل نارها في ألمانيا. ومما يحكى عن ليوأنه قد سره مرة حتى يرى أحد المهرجين من رهبانه يبتلع حمامة دفعة واحدة، أوأربعين بيضة متتابعة(15)؛ وأنه قد قبل مسروراً من وفد برتغالي حين شاهد قداسته(16). وإذا جيء له بشخص يستطيع بفكاهته، أوصورته المشوهة، أوبلاهته حتى يدخل السرور عليه، كان هذا طريقاً مؤكداً لكسب رضاه(17). ويبدوأنه كان يحس بأن الترويح عن نفسه بهذه الوسائل من حين إلى حسن يشغله عن آلامه الجسمية، ويخفف عن نفسه عبء المتاعب النفسية، ويطيل حياته(18). وكانت له عادة تمت بصلة إلى عادات الأطفال وتقلل من حقد الحاقدين عليه. ذلك أنه كان يلعب الورق أحياناً مع الكرادلة، ويبيح للجمهور حتى يشاهد اللعب حتى إذا فرغ منه وزع بتراً من المضى على الحاضرين.

وكان الصيد أحب ضروب التسلية إليه؛ فقد كان هذا مانعاً له من البدانة التي كان مستعداً لها بطبيعته، وكانت تمكنه من الاستمتاع بالهواء الطلق وبمناظر الريف بعد حتى كان سجيناً في الفاتيكان. وكان له إسطبل به كثير من الجياد يخدمها مائة سائس؛ وكان من عادته حتى يفرغ في شهر أكتوبر كله للصيد والقنص. وكانت أطباؤه يحبذون هذه العادة أعظم التحبيذ، ولكن باريس ده جراسيس Paris de Grassis كبير تشريفاته كان يشكومن حتى البابا يظل منتعلاً حذاءيه الثقيلتين زمناً طويلاً "لا يستطيع أحد معه حتى يقبل قدميه"، وكان ليويضحك من هذا بكل قلبه(19). ونحن نرى البابا أرق حاشية مما نراه في صورة رفائيل حين نقرأ حتى الفلاحين. أهل القرى كانوا يفدون عليه لتحيته حين يمر في طرقهم، وأنهم كانوا يقدمون له عطاياهم المتواضعة - وأن البابا كان يجزل لهم العطاء حتى كان هؤلاء ينتظرون بشوق زائد رحلات الصيد التي يقوم بها. وكان يهب بناتهم الفقيرات بائنات الزواج، ويؤدون ديون السقمى والطاعنين في السن، وآباء الأسر الكبيرة(20). وكان أولئك الأقوام السذج يخلصون له الحب أكثر من الألفين من الرجال الذين تتألف منهم حاشيته في الفاتيكان .

بيد حتى بلاط لولم يكن مجرد بؤرة للتسلية والمرح، بل كان إلى هذا ملتقى رجال الحكم المسئولين، ومن بينهم ليونفسه، وكان مركز ذوي الأحلام، والفهم، والفكاهة في روما، والمكان الذي يقيم فيه الفهماء، ورجال التربية، والشعر، والفنانون، والموسيقيون، ويلقون فيه أعظم الترحيب؛ وكان هوالذي تصرف فيه الأعمال الكنيسة الجدية، وتقدم فيه الاحتفالات الفخمة لاستقبال المبعوثين الدبلوماسيين، وتؤدب فيه المآدب الغالية، وتمثل فيه المسرحيات أوتقام فيه الحفلات الموسيقية، وينشد فيه الشعر، وتعرض فيه روائع الفن. وما من شك في أنه كان أرقى بلاط في العالم كله في ذلك الوقت. والحق حتى بلاط ليوقد بلغ بفضل ما بذله البابوات من أيام نقولاس إلى ليونفسه من الجهود لإصلاح قصر الفاتيكان وزخرفته، وحشد العدد الجم من عباقرة الأدب والفن، وأقدر السفراء في أوربا بأجمعها، نقول إذا بلاط ليوقد بلغ بفضل هذا ذروة آداب النهضة وبهجتها، ولا نقول إنه قد بلغ ذروة الفن لأنه كان قد بلغ هذه الذروة في عهد يوليوس. ولم يشهد التاريخ قبل أيامه ثقافة بالقدر الذي شهده منها في هذا العهد، لا نستثني من ذلك عصر بركليس في أثينة أوعصر أغسطس في رومة(22).

وعم الرخاء المدينة واتسعت رقعتها بفضل ما كان يجري في شرايينها الاقتصادية من مضى ليو، ويقول سفير الفاتيكان في هذا إذا عشرين ألف بيت قد بنيت في روما في الثلاثة عشر عاماً التي تلت ارتقاءه عرش البابوية، وقد شاد أكثرها القادمون الجدد من شمالي إيطاليا الذين قدموا إليها بعد هجرة عصر النهضة. وازدحم فيها الفلورنسيون بوجه خاص لينالوا رفد البابوية الفلورنسية. وقد باولوجيوفوPaolo Giovo الذي كان يتبختر في البلاط البابوي سكان روما في ذلك الوقت بخمسة وثمانين ألفاً(23)، ولسنا ننكر أنها لم تكن قد بلغت بعد ما بلغته فلورنس اوالبندقية من جمال، ولكنها كانت بإجماع الآراء محور المدنية الغربية؛ وقد سماها مارتشيلوألبريني Marcello Alberini في عام 1527، "ملتقى العالم كله"(24). ولم يغفل ليو، وسط ملاهيه وشئونه الخارجية، عن تنظيم استيراد الطعام وتحديد أثمانه، وإلغاء الاحتكارات، وابتياع بعض السلع بأجمعها للتحكم في أثمانها ، وخفض الضرائب، ووزع العدالة بغير محاباة، وبذل جهده لتجفيف المستنقعات البنتية Pontine Marshes، وعمل على تقدم الزراعة في الكمبانيا، وواصل أعمال الإسكندر ويوليوس في شق الشوارع في روما وتحسينها(30). وسار على نهج أبيه في فلورنس فعنى بالضروريات والكماليات فاستخدم الفنانين لينظموا له المواكب الفخمة، وشجع الاحتفالات المقنعة عيد المساخر، وبلغ من أمره حتى جاز بإقامة مصارعات الثيران التي اتى بها آل بورجيا في ميدان القديس بطرس نفسه. ذلك أنه كان يرغب في حتى يشهجر الشعب في مرح العصر المضىي الجديد وسعادته.

وسارت المدينة على نهج البابا، وأطلقت للمرح والبهجة العنان، فأسرع رجال الدين، والشعراء، والطفيليون، والقوادون، والعاهرات إلى روما ليعبوا كأس السعادة عبا. وكان الكرادلة وقتئذ أغنى من الأشراف القدامى، بفضل ما حباهم به البابوان، وخاصة ليونفسه، من المناصب التي اتىتهم بالإيراد من جميع أنحاء العالم المسيحي اللاتيني. وبينا كان أولئك الأشراف القدامى ينحدرون إلى هاوية الاضمحلال الاقتصادي والسياسي، كان ولج بعض الكرادلة يبلغ ثلاثين ألف دوقة في العام (أي نحو375.000دولار)(31). فاستطاعوا بذلك حتى يسكنوا في مساكن فخمة، يقوم فيها على خدمتهم ثلاثمائة من الخدم في بعض الأحيان(32)، وتزدان بكل ما عهد في ذلك الوقت من روائع الفن والترف.ولمقد يكونوا يرون أنهم رجال دين بقدر ما كانوا يرون أنهم رجال حكم، ودبلوماسيون، ومديرون؛ لقد كانوا هم مجلس الشيوخ الروماني، وكانوا يريدون حتى يحيوا كما أحيا أعضاء مجلس الشيوخ. وكانوا يسخرون من أولئك الأجانب الذين يتطلبون منهم حتى يحيوا حياة التقى والعفة التي يحياها القساوسة؛ وكانوا يزنون السلوك، كما يزنه كثيرون من أبناء عصرهم، بموازين الجمال لا بالموازين الأخلاقية، فلمقد يكونوا يرون بأساً من خرق بعض الأوامر الإلهية إذا تجملوا في خرقها وعملوا ذلك بظرف وذوق سليم. وقد أحاطوا أنفسهم بالغلمان، والموسيقيين، والشعراء، والكتّاب الإنسانيين، وكانوا من حين إلى حين يتناولون عشاءهم مع محاظي البلاط(33). ويأسفون أشد الأسف لأن ندواتهم كانت خالية من النساء، فها هوذا الكردنال بينا يقول "إن روما على بكرة أبيها تنادي بأنّا لا ينقصنا هنا إلاّ سيدة تكون هي واسطة عقد الندوة"(34). وكانوا يحسدون فيرارا، وأربينو، ومانتوا لما تستمتع به من هذه الناحية ، ولشد ما اغتبطوا حين اتىت إزبلا دست لتبسط أثوابها ومفاتنها النسوية على حفلاتهم التي لم تكن تضم إلاّ الذكور.

وبلغ الظرف، والذوق، ولطف الحديث، وتقدير الفن غايته ذلك الوقت، ونالت الفنون والآداب على اختلاف أنواعها أعظم التشجيع، ولسنا ننكر أنه كان هناك حلقات مثقفة في العواصم الصغرى، وأن كستجليوني كان يفضل ندوات أربينوالهادئة على حضارة روما الزاهية، الومضية، الصاخبة، التي تجتمع فيها جميع الأجناس، غير حتى أربينولم تكن إلاّ جزيرة صغيرة من الثقافة، أما روما فكانت مجرى دافقاً أوبحراً عجاجاً. وأقبل عليها لوثر ورآها، وهاله ما رأى واشمأزت منها نفسه، ثم اتىها إرزمس Erasmus ورآها وافتتن بها افتتاناً بلغ حد النشوة(35). ونادى مائة شاعر وشاعر بأن العصر المضىي قد عاد.


الفهماء

في اليوم الخامس من نوفمبر عام 1513 أصدر ليومرسوماً بضم معهدين من معاهد الفهم افتقرا إلى المال: هما كلية القصر المقدس أي الفاتيكان، وكلية المدينة، وأصبح المعهدان من ذلك الوقت هما جامعة روما، وخصص لهما بناء لم يلبث حتى عهد باسم سابيندسا Sapienza(36). وكان هذا المعهدان قد ازدهرا في أيام البابا اسكندر، ولكنهما اضمحلا في عهد يوليوس الذي استولى على أموالهما لينفقها في الحروب، والذي كان يفضل السيف على الكتاب. وأمد ليوالجامعة الجديدة بالمال بسخاء وظل يسخوعليها حتى تورط هوالآخر في سباق للتدمير. فقد اتى إليها بعدد جم من الفهماء الممتازين المخلصين لفهمهم، فلم يمض إلاّ قليل من الوقت حتى كان في المعهد الجديد ثمانية وثمانون أستاذاً - منهم خمسة عشر في الطب وحده - يتقاضى الواحد منهم ما بين 50 فلورينا و530 (من 825 إلى 6625،يا ترى؟ دولاراً) في العام. وكان ليوفي تلك السنين الأولى من ولايته يبذل جميع ما في وسعه ليجعل الكليتين المجتمعتين أعظم جامعات إيطاليا فهماً وأكثرها ازدهاراً.

وكان من أفضاله أنه أنشأ في هذه الجامعة دراسة اللغات السامية. ذلك أنه خصص في جامعة روما كرسياً لتعليم اللغة العبرية، وعين تيسيوأمبروجيوTeseo Ambrogio لتدريس اللغتين السريانية؛ والكلدانية في جامعة بولونيا. ورحب ليوحين أهدى له كتاب في نحواللغة العبرية ألفه أجاتشيوجويداتشريوAgacio Guidacerio؛ ولمّا فهم حتى سانتي بجنيني Sante Pagnini كان يترجم العهد القديم من الأصل العبري إلى اللغة اللاتينية، طلب حتى يرى أنموذجاً من الترجمة؛ فلمّا رآه أعجبه، وتعهد من فوره بأن يتكفل بنفقات هذا المشروع الشاق الكبير.

وكان ليوأيضاً هوالذي أعاد دراسة اللغة اليونانية بعد حتى أخذت دراستها في الاضمحلال.وشرع في ذلك بأن نادى إلى روما العالم الشيخ جون لسكارس John Lascaris الذي كان يعلّم اللغة اليونانية في فلورنس، وفرنسا، والبندقية، ونظم بمساعدته مجمعاً فهمياً في روما، منفصلاً عن الجامعة. وخط بمبوعلى لسان ليو(فيسبعة أغسطس سنة 1513) خطاباً إلى ماركس موسوروس Marcus Musurus أكبر مساعدي مانوتيوس Manutius يطلب فيه إلى هذا العالم حتى يحصل من بلاد اليونان على "عشرة، أوأكثر من عشرة حسبما يرى، من الشبان المتبحرين في الفهم، المشهود لهم بالأخلاق الفاضلة لتؤلف منهم حلقة من الدراسات الحرة، ولكي يتلقى عليهم الإيطاليون الفهم باللسان اليوناني وحسن الانتفاع به"(37). وبعد شهر من ذلك الوقت نشر مانوتيوس طبعة أفلاطون التي أتمها موسوروس من قبل، وأهدى الطابع العظيم هذا الكتاب إلى البابا. ورد عليه ليوبأن منح ألدوس دون غيره الحق في حتى يعيد طبع جميع ما أصدره ألدوس من الخط اليونانية أواللاتينية حتى ذلك الوقت، وما سيطبعه في خلال الأعوام الخمسة عشر المقبلة التي سيظل فيها وحده صاحب هذا الحق. وأعرب فوق هذا حتى جميع من يتعدى على هذا يحوم من حظيرة الدين، ويعرض نفسه للعقاب. وكان هذا الامتياز الفردي في طباعة المؤلفات هوالوسيلة التي تمنح بها النهضة طابعاً ما حق طبع الكتاب الذي أنفق المال على إعداده. غير حتى ليوأضاف إلى هذا الامتياز وصيته بأنقد يكون ما يطبع من خط ألدوس معتدل الثمن، وقد كان.

وأنشئت الكلية اليونانية في بيت آل كولوتشي Colocci على الكويرنال Quirinal، وأقيمت هناك أيضاً مطبعة لطبع الخط الدراسية والشروح للطلاب. وأنشئ حوالي ذلك الوقت عينه في فلورنس "مجمع فهمي ميديتشي" شبيه به للدراسات اليونانية؛ وجمع فارينوكامرتي Varlno Camerti - الذي اتخذ لنفسه اسماً لاتينياً هوفافورينوس Favorinus - بتشجيع ليوأحسن معجم يوناني - لاتيني نشر في عالم النهضة حتى ذلك الوقت.

وكادت غيرة البابا على الآداب القديمة تكون ديناً له وعقيدة. وشاهد ذلك أنه تلقى من البنادقة "عظماً من كتف ليفي" بنفس التقوى التي يتلقى بها أثراً من آثار كبار القديسين(38)، وانه أعرب بعد جلوسه على كرسي البابوية بقليل أنه سيكافئ بسخاء جميع ما يحصل له على أي مخطوط في الأدب القديم لم ينشر بعد. ثم إنه عمل ما عمله أبوه فأوفد مبعوثيه وعماله إلى البلاد الأجنبية ليبحثوا عمّا عساه حتىقد يكون فيها من المؤلفات القديمة، وعن جميع الأمور ذات القيمة وثنية كانت أومسيحية، وأن يبتاعوها له، وكان في بعض الأحيان يوفد الوفود لهذا الغرض خاصة لا لغرض سواه، ويزودهم بالرسائل للملوك والأمراء يطلب إليهم فيها حتى يعاونوا أولئك الرسل في البحث والتنقيب. ويبدوحتى عماله كانوا في بعض الأحيان يسرقون هذه المخطوطات إذا لم يستطيعوا شراءها؛ ويلوح حتى هذا هوما عملوه في الستة الخط الأولى من حوليات تاسيتوس التي وجدوها في دير كورفي Corvey بوستفاليا Westphalia، لأن لدينا رسالة ممتعوموجهة إلى هيتمرس Heitmers عامل البابا خطها ليونفسه أوأمر بكتابتها بعد حتى تم طبع هذه الحوليات ونشرها:

لقد بعثنا بنسخة من الخط بعد حتى روجت وطبعت مجلدة تجليداً جميلاً إلى رئيس الدير وإلى رهبانه، لكي يضعوها في مخطتهم بدلاً من النسخة التي أخذت منها، وإذا كنا نريد فوق ذلك حتى يعهدوا حتى هذا الاختلاس قد عاد إليهم بالخير أكثر مما عاد عليهم بالأذى، فقد وهبنا كنيستهم غفراناً جماعياً(39).

ومنح ليوفلبوبروالدوFilipo Beroaldo المخطوط المختلس، وأمره حتى يصلح النص وينشره، على حتى يطبعه طبعة أنيقة ولكنها في صورة سهلة القراءة. وكان مما ورد في كتاب التكليف هذا:

لقد كان من عادتنا، حتى في السنين الأولى من حياتنا، حتى نرى أ، لا شيء مما وهبه الخالق لخلقه أجل شأناً وأعظم نفعاً - لا نستثني من ذلك إلاّ الفهم به وعبادته الدقة - من هذه الدراسات التي هي زينة الحياة الإنسانية ومرشدها إلى الخير؛ والتي يمكن فوق هذا تطبيقها على جميع وضع خاص من أوضاع الحياة والانتفاع بها فيه؛ والتي هي سلوى الإنسان في الشدة، ومصدر بهجته وشرفه في الرخاء. والتي لولاها لحرم الإنسان جميع ما جميل في الحياة وكل ما يزدان به المجتمع. ويبدوحتى المحافظة على هذه الدراسات وتوسيع نطاقها يقف على أمرين: عدد الفهماء، وتزويدهم بكفايتهم من النصوص الممتازة. فأما الأمر الأول فإنّــا نرجوببركة الله، حتى نظهر رغبتنا الأكيدة في حتى نكافئ أولئك الفهماء الممتازين ونكرمهم وحرصنا على هذه المكافأة وذلك التكريم أكثر مما أظهرناها من قبل، وإن كان ذلك الحرص وتلك الرغبة هما منذ زمن بعيد مصدر سرورنا الأكبر.... أما الحصول على الخط، فإناّ نحمد الله حتى أعطى لنا في ذلك أيضاً الفرصة التي نستطيع بها إسداء الخير لبني الإنسان(40).

وكان ليويظن حتى الكنيسة هي التي تعين ما يفيد بني الإنسان من خط الأدب، وشاهد ذلك أنه جدد مرسوم الإسكندر الذي يفرض رقابة الكنيسة على الخط.

وبددت بعض الخط التي جمعها أسلاف ليوحين نهب قصر آل ميديتشي (1494). غير حتى ديرسان ماركوكان قبلئذ قد ابتاع بعض هذه الخط، وكان ليووهولا يزال كردنالاً قد ابتاع الخط التي نجت من النهب بمبلغ 2652 (33.150،يا ترى؟ دولاراً) ونقلها إلى قصره في روما. ثم أعيدت هذه المخطة إلى فلورنس بعد موت ليو، وسنعهد مصيرها فيما يلي من الصفحات.

وكانت مخطة الفاتيكان قد بلغت من الضخامة حداً بحاجة معه إلى طائفة من الفهماء للعناية بها. ولمّا جلس ليوعلى كرسي البابوية كان كبير أمنائها توماسوإنگيرامي Tommaso Inghirami - وهومن أبناء الأشراف،وشاعر، ومحدث مشهود له بالذكاء وحسن الفكاهة والتألق في ندوات الفكهين البارعين. ثم كان إلى ذلك ممثلاً، أطلق عليه من قبيل السخرية اسم فيدرا Fedra لنجاحه في تمثيل دور فيدرا Phaedra في مسرحية هبوليتس Hippolytus لسنكا. ولمّا توفي في حادثة من حوادث شوارع المدينة عام 1516 حل محله في أمانة المخطة فلبوبروالدوالذي قسم قلبه وعواطفه بين تاسيتوس والحظية العالمية إمپريا Imperia، وخط شعراً لاتينياً بلغ من الجودة حتى كانت له ست ترجمات إلى اللغة الفرنسية إحداها بقلم كليمان مارون Clement Maron. وكان جيرولاموألياندروGirolamo Aleandro الذي أصبح أميناً في عام 1519، رجلاً حاد الطبع، غزير الفهم، عظيم المواهب، يتحدث اللغات اللاتينية، واليونانية، ويتحدث العبرية بطلاقة جعلت لوثر يخطئ في أصله فيظنه يهودياً. وقد حاول في مجلس أجزبرج (1520) حتى يصد تيار البروتستنتية، وكانت حماسته في ذلك أقوى من حكمته. وقد حمله بولس الثالث إلى مقام الكردنالية (1535)، ولكن أليندر توفي بعد أربع سنين من ذلك الوقت لإسرافه في عنايته بصحته وفي تعاطي الأدوية(41). وقد غضب أشد الغضب لأنه أعفي من عمله حين بلغ الثانية والستين من العمر، وأساء إلى أصدقائه باعتراضه الشديد على تصرفات القدرة الإلهية(42).

وكثرت المخطات الخاصة وقتئذ في روما، فقد كان للإسكندر نفسه مجموعة عظيمة من الخط أوصى بها إلى البندقية، وكان عند الكردنال جريماني محسود إرزمس ثمانية آلاف مجلد مكتوبة بلغات مختلفة، أوصى بها إلى كنيسة سان سلفادور بمدينة البندقية حيث دمرتها النار. وكان للكردنال سادوليتومخطة قيمة وضعها في سفينة ليرسلها إلى فرنسا، فغرقت في البحر. وكانت مخطة بمبوغنية بما فيها من دواوين أشعار بروفنسال والمخطوطات الأصلية مثل مخطوطات خط بترارك؛ وانتقلت هذه المجموعة إلى أربينو، ومنها انتقلت إلى الفاتيكان. وحذا الفهمانيون الأغنياء أمثال أجستينوتشيجي Agostino Chigi حذوالبابوات والكرادلة في جمع الخط، واستخدام الفنانين ومد يد المعونة للشعراء ورجال الفهم.

وكثر هؤلاء جميعاً في روما على عهد ليوعلى كثرة لم يكن لها مثيل من قبل ولا من بعد. وكان كثيرون من الكرادلة أنفسهم فهماء؛ ومنهم من أصبحوا كرادلة لأنهم كانوا قبل ذلك فهماء قضوا في خدمة الكنيسة زمناً طويلاً؛ ونذكر من هؤلاء أجيديوكانيزيوEgidio Canisio، وسادوليتو، وببينا. وقد اعتاد معظم الكرادلة في روما حتى يناصروا الآداب والفنون بما يكافئون بها أصحابها على إهدائهم أعمالهم ومؤلفاتهم، ولم يكن يفوق بيوت الكرادلة رياريو، وجريماني، وببينا، والدوزي، وبتوتشي، وفارنيزي، وسدريني، وسانسفرينو، وجندسا، وكازينيو، وجويليوده ميديتشي لم يكن يفوق بيوت هؤلاء إلاّ بلاط البابوات بوصفه ملتقى أصحاب المواهب العقلية والفنية في المدينة. وقد كان لكستجليوني الوديع الطبع الدمث الخلق الذي كسب به صداقة رفائيل المحب الودود وميكل أنجيلوالصارم العنيد، كان لكستجليوني هذا ندوة متواضعة خاصة به.

وكان ليوبطبيعة الحال أكبر المناصرين على الإطلاق، فلم يكن أحد في مقدوره حتى ينشئ نكتة شعرية لاتينية يخرج من عنده دون عطاء. وكان الفهم في أيامه يؤهل صاحبه، كما كان يؤهله في أيام نقولاس الخامس لمنصب من المناصب الرسمية الكثيرة في الكنيسة، وأضيف الشعر إلى الفهم في أيام ليو. فأما أصحاب المواهب الصغرى فكانوا يصبحون خطة، ومختزلين، وأمّا من هم أكبر من هؤلاء موهبة فكانوا يصبحون قساوسة في الكنائس الكبرى، وأساقفة، وكبار موثقين؛ وأما الممتازون منهم أمثال سادوليتو، وببينا، فقد صاروا كرادلة. وترددت أصداء خطب شيشرون وبلاغته في روما مرة أخرى، وكان أسلوب الرسائل يعلوويهبط بانتظام كأنه الألحان الموسيقية، كما كان شعر فرجيل وهوراس ينساب من ألف رافد ورافد إلى نهر التيبر ملتقاه الطبيعي. وقد حدد بمبونفسه مستوى أسلوب الكتابة، فقد خط إلى إزبلا دست يقول: "أن يخطب الإنسان كما كان يخطب شيشرون خير له من حتىقد يكون بابا(43)". وبز صديقه وزميله ياقوبوسادوليتومعظم الكتّاب الإنسانيين بأن جمع بين الأسلوب اللاتيني البليغ والخلق الذي لا تشوبه شائبة. وكان بين كرادلة ذلك العصر كثيرون من ذوي الاستقامة والخلاق الفاضلة؛ وكانت الكثرة الغلبة من كتّاب عصر ليوالإنسانيين أفضل أخلاقاً وأرق مزاجاً من أمثالهم في الجيل الذي قبله(44)، وإن كان بعضهم قد ظلوا وثنيين في جميع شيء ما عدا عقيدتهم الرسمية، ولقد كان من القوانين غير المسطورة ألاّ ينطق سيد مهذب بحدثة نقد للكنيسة المتسامحة من الناحية الخلقية السخية في مناصرة الفهم والأدب والفن مهما تكن عقائده أوشكوكه.

وقد اجتمعت هذه الصفات كلها في برناردودوفيسي دا بينا Bernardo Dovizi da Bibbiena - فقد كان عالماً، وشاعراً، ومحرر مسرحيات، ودلوماسياً، وخبيراً في الفن، ومحدثاً، ووثنياً، وقساً، وكردنالاً؛ غير حتى الصورة التي رسمها رفائيل له لم تظهر إلاّ جزءاً قليلاً منه - عينيه الخبيثتين، وأنفه الحاد؛ ذلك أنها غطت صلعته بقبعة حمراء، كما غطت مرحه بوقار لم يكن من عادته. وكان خفيف القدم، والحديث، والروح، يفر من ظروف الدهر كلها بابتسامة. ولمّا استخدمه لورندسوالأكبر أميناً له ومربياً لأبنائه، اشهجر مع هؤلاء الأبناء في الهجرة التي حدثت عام 1494؛ ولكنه دل على مهارته بذهابه إلى أربينوحيث فتن هذه الدائرة المتحضرة بنكاته الشعرية، وأنفق بعض فراغه في كتابه مسرحية بذيئة تدعى كالندرا Calandra وتمثيلها (حوالي عام 1505)، وهذه المسرحية هي أقدم المسرحيات الإيطالية النثرية. واستنادىه يوليوس الثاني إلى روما، وعمل برناردولانتخاب ليوبابا بأقل قدر من الجلية والاحتكاك، فجازاه ليوعلى هذا بأن عينه من فوره كبير الموثقين الرسوليين، ثم عينه في اليوم الثاني صراف البيت البابوي، ولم تمض ستة أشهر حتى عينه كردنالاً. ولم تمنعه مناصبه السامية من حتى يضع في خدمة ليوخبرته العظيمة بالفنون وتنظيم مواكبه في الحفلات. ومثلت مسرحيته في حضرة البابا واستمتع بها ولم يعترض عليها. ولمّا أوفد قاصداً رسولياً إلى فرنسا، شغف حباً بفرانسس الأول، وكان لابد من استنادىئه لأه أرق حساسية من حتى يصلح للمناصب الدبلوماسية، وزخرف له رفائيل حمامه بصورة تاريخ فينوس وكيوبدة وهي طائفة من الصور تروي فوز الحب، وكلها تقريباً مرسومة على طراز صور مدينة بمبي القديم، وتقحم المسيحية في عالم لم يسمع قط بالمسيح؛ وكان الكردنال نفسه هوالذي اختار هذه الزخارف. وتظاهر ليوبأنه لم يلاحظ شذوذ ببينا الجنسي وظل وفياً له إلى آخر أيامه.

وكان ليويحب التمثيل - يحب المسلاة بجميع أشكالها ودرجاتها من أبسط الهزليات الماجنة إلى أكثر الملاهي غموضاً كمسرحيات ببينا ومكيفلي. وقد افتتح في أول سنة من ولايته دار تمثيل على الكبتول، شهد فيها عام 1518 تمثيلاً لمسرحية أريوستوAriosto المسماة سبوزيتي Suppositi وضحك من جميع قلبه من النكات الملتبسة المعاني التي كانت تتفرع من حبكتها - كالعبارات التي يلقيها شاب من الشبان ليغوي بها فتاة(45). ولم يكن هذا التمثيل المطرب تمثيلاً لمسالي فحسب، بل كان يضم فوق ذلك وضع مناظر مسرحية فنية (وكان الذي رسمها في هذه المسرحية بالذات رفائيل نفسه)، ورقصاً فنياً، وموسيقى بين الفصول تتكون من أغان وفرقة من العازفين على العود والكمان، وأرغن صغير، والنافخين في القرون، والقرب، والفيف.

وقد كُتب في عهد ليوكتاب من أكبر الخط التاريخية في عهد النهضة، خطه باولوجيوفيو. وكان باولوهذا من أبناء كوموComo، وكان يمارس فيها وفي ميلان وروما صناعة الطب، ولكن الحماسة الأدبية التي انبعثت في البلاد عندما جلس ليوعلى كرسي البابوية أوحت إليه بأن يخصص ساعات فراغه لكتابة تاريخ العصر الذي يعيش فيه - من غزوشارل الثامن لإيطاليا حتى ولاية ليو- وأن يخطه باللغة اللاتينية. وسمح له بأن يقرأ القسم الأول من هذا الكتاب على ليو، فلمّا سمعه نطق بكرمه المعتاد إنه أفصح وأظرف ما خط في التاريخ منذ عهد ليفي Livy، وأجازه عليه بأن خصص له معاشاً من فوره. ولمّا توفي ليو، استخدم جيوفيوما أسماه "قلمه المضىي" في كتابة ترجمة لحياة ليوشاد فيها بنصيره الراحل، كما استخدم "قلمه الحديدي" للشكوى من البابا أدريان السادس الذي لم يعبأ به. وواصل في هذه الأثناء الكدح في تاريخ عصره حتى وصل به آخر الأمر إلى عام 1547. ولمّا نهبت روما في عام 1527 أخفى المخطوط في إحدى الكنائس، ولكن أحد الجنود عثر عليه، وطلب إلى المؤلف حتى يبتاع كتابه؛ ولكن حدثنت السابع أنقذ باولومن هذه المذلة إذ أقنع اللص بأن يقبل بدل المال يؤدي إليه فوراً، منصباً في أسبانيا؛ وعيّن جيوفيوفي الوقت نفسه أسقفاً لنوتشيرا Nocera. وأثنى الناس على كتاب التاريخ وعلى التراجم التي أضيفت إليه لأسلوبه السلس الواضح، ولكنهم عابوا عليه عدم العناية بتحري الحقائق، والتحيز الظاهر فيما يصدره من أحكام. وقد أقر جيوفيوفي صراحة وعدم مبالاة بأنه يمدح أشخاص قصته إذا كانوا هم أوأقاربهم قد سخوا عليه، وأنه كان يندد بهم إذا كان هؤلاء قد ضنوا عليه بالعطاء.


الشعراء

لقد كان البابا أعظم مفاخر ذلك العصر، وكان جميع إنسان في روما - من البابا نفسه إلى مهرّجيه - يقرض الشعر، كما كان يقرضه جميع إنسان في اليابان في عهد الساموراي Samurai، من الفلاح إلى الإمبراطور، وكان جميع إنسان قريباً يصر على حتى يقرأ آخر أبيات نطقها إلى البابا السمح. وكان البابا يحب المهارة في الارتجال، وكان هونفسه بارعاً في هذا؛ وكان الشعراء يتبعونه أينما مضى بقوا فيهم وقصائدهم الطوال، وكان هوفي العادة يجيزهم عليها بطريقة ما، وإن كان في بعض الأحيان يكتفي بأن يرد عليها بارتجال بعض النكت الشعرية اللاتينية. وقد أهدى له ألف كتاب، أجاز أنجيلوكويتشي على واحداً منها بأربعمائة دوقة (5.000،يا ترى؟ دولار)؛ لكنه حين أهدى إليه جيوفني أوجوريلي Giovanni Augurelli رسالة بالشعر عنوانها كريسوبيا Chrysopoeia - أي فن خلق المضى باستخدام الكيمياء - أوفد إلى المؤلف كيسا خلوا من النقود. ولم يكن يجد متسعاً من الوقت يقرأ فيه جميع الخط التي قبل حتى تهدى إليه؛ وكان من هذه الخط المهداة التي لم يقرأها طبعة من ديوان روتليوس ناماتيانوس Ruititius Namatianus - وهوشاعر روماني عاش في القرن الخامس الميلادي - كان يدعوإلى مقاومة المسيحية لأنها في رأيه سم مضعف للأعصاب، ويطالب بالعودة إلى عبادة الآلهة الوثنية القوية المتصفة بصفات الرجولة(47). أما أريستو- الذي من الممكن بدا لليوأنه يجد ما يكفيه من العناية في فيرارا - فلم يكافئه إلاّ بمرسوم بابوي يحرّم سرقة شعره. وبَرِم أريستومن هذا وابتأس لأنه كان يرجوحتى ينال مكافأة تتناسب مع طول ملحمته.

ولما خسر ليوأريوستوقنع من فوره بشعراء أقل منه لألاء وأقصر نَفَساً؛ وكثيراً ما كان سخاؤه يضله فيؤدي به إلى مكافأة ذوي المواهب السطحية نفس المكافأة التي يمنحها العباقرة. من ذلك حتى جيدوبستوموسلفستري Guido Postumo Sitvestri، أحد أشراف بيزارو، كان قد قاتل بعنف، وخط بعنف، ضد الإسكندر ويوليوس لاستيلائهما على بيزارووبولونيا. فلمّا ارتقى ليوعرش البابوية بعث إليه بقصيدة ظريفة يمتدحه فيها ويوازن بين سعادة إيطاليا في عهد البابا الجديد، وما كانت عليه من البؤس والاضطراب في العهود السابقة. وقدّر له البابا عمله وأجازه عليه بأن رد له ما صودر من ضياعه، واتخذ رفيقاً له في صيده. لكن جيدوتوفي بعد قليل من ذلك الوقت، ويقول بعض معاصريه إنه توفي من كثرة ما كان يتناوله من الطعام على مائدة ليو(48). وأسرع أنطونيوتيبلديوAntonio Tebaldeo، الذي كان قد نال بعض الشهرة في قول العشر في نابلي، إلى روما عقب انتخاب ليو، ونال منه (كما تقول إحدى الروايات غير الموثوق بها) خمسمائة دوقة جزاء له على نكتة شعرية مشهية(49)، وسواء كانت هذه الرواية صادقة أوكاذبة فإن البابا عيّنه مشرفاً على جسر سورجا Sorga وجمع المكوس ممّن يعبروه حتى "يستطيع تيبلديوبهذا حتى يعيش عيشة راضية"(50). ولكن يظهر حتى المال الذي قد يعين على إنماء مواهب الفهماء، قلّما يشحذ عبقرية الشعراء. فأخذ تيبلديويخط قصائد المدح، وأصبح يعتمد بعد موت ليوعلى صدقات بمبو، ولم يعاد يبارح فراش النوم وغن كان لا يشكومن شيء إلاّ من فقد شهيته لشرب الخمر" كما يقول صديق له. وطال حياته وهومستريح مستلق على ظهره، وتوفي في الرابعة والسبعين من عمره. ونبغ فرانتشيسكوماريا ملدسا Franseco Maria Molza من أهل مودينا بعض النبوغ في الشعر قبل إرتقاء ليو، ولكنه سمع بحب البابا للشعر وسخائه للشعراء، هجر أهله، وزوجته، وأبناءه، وهاجر إلى روما، حيث أنساه إياهم افتتانه بسيدة رومانية. ونطق في روما قصيدة رعوية قصيرة بليغة اسمها حورية تبيرينا La ninfa Tiberina يمتدح بها فوستينا منتشيني faustina Mancini، وهجم عليه أحد المجرمين وأصابه بجرح بليغ. وغادر الرجل روما بعد وفاة ليو، وانضم إلى بولونيا إلى حاشية الكردنال إبوليتوده ميديتشي، الذي كان في بلاطه، على حد قولهم، ثلاثمائة شاعر، وموسيقى وفكِه. وكانت قصائد ملدسوالإيطالية أظرف ما قيل من الشعر في ذلك الوقت لا تستثنى من ذلك قصائد أريستونفسها. وكانت أغانيه تضارع أغاني بترارك في أسلوبها، وتفوقها في حرارتها، وذلك لأن ملدسوكان يتقلب على نيران الحب واحدة بعد واحدة، وكان على الدوام يحترق بها. ومات بداء الزهري في عام 1544.

وكان حكم ليويزدان باثنين من كبار صغار الشعراء أحدهما ماركنطونيوفلامينوMarcantonio Flamino الذي يظهر ذلك العهد في أضواء سارة - يظهر عطف البابا الدائم على رجال الأدب، ويكشف عمّا كان يحبوبه فلامينوونافاجيروNavagero وفرانكستوروFrancastoro وكستجليوني من صداقة لا يحسد أحدهم عليها غيره؛ وإن كانوا الأربعة شعراء؛ كما يكشف عن الحياة النظيفة التي كان يحياها أولئك الرجال في عصر كانت فيها الإباحية الجنسية مماّ تتغاضى عنه كثرة الناس. وقد ولد فلامينوفي سرافاليSerravalle من أعمال فينيتوVeneto، ووالده هوجيان أنطونيوفلامينوGianatonia Flamino وهوأيضاً شاعر. ودرب الوالد ابنه على قرض الشعر وشجعه عليه، مخالفاً في ذلك ألفاً من السوابق، وبعثه وهوفي السادسة عشرة من عمره ليهدي إلى ليوقصيدة نطقها الشاب يدعوفيها إلى حرب صليبية على الأتراك. ولم يكن ليوممن يرتاحون إلى الحروب الصليبية، ولكنه أظهر ارتياحه لشعر الشاب، وكفل له مواصلة التفهم في روما. وتولاّه كستجليوني بعنايته، واتى به إلى أربينو(1515)؛ ثم بعث الوالد بابنه فيما بعد ليدرس الفلسفة في بولونيا. ثم استقر الشاعر أخيراً في فتيربوViterbo في رعاية الكردنال الإنجليزي رجنلدبول Reginald Pole. وامتاز عن غيره بأن رفض منصبين عاليين، منصب أمين ليومشهجراً في ذلك مع سودوليتو، ومنصب أمين لمجلس ترنت، وكان يحصل على تأييد وهبات جمة من كثير من الكرادلة رغم ارتيابهم في أنه يعطف على حركة الإصلاح البروتستانتي. وكان طوال تجواله كله يتوق للحياة الهادئة والهواء النظيف اللذين يجدهما في بيت أبيه الريفي بالقرب من إمولا. وكانت قصائده كلها تقريباً باللغة اللاتينية كما كانت كلها تقريباً قصائد قصارا في صور أغان،وأناشيد رعاة، ومراث، وترانيم، ورسائل للأصدقاء من طراز رسائل هوراس، ولكنه يعود فيها مرة بعد مرة إلى حبه لمرابضه الريفية القديمة:

سأبصرك الآن مرة أخرى، وسيبتهج ناظري لرؤية الأشجار التي غرستها يد أبي، وسيفيض قلبي فرحاً حين أتذوق قليلاً من النوم الهادئ في غرفتي الصغيرة. وكان يشكومن أنه سجين في ضوضاء روما وصخبها، ويحسد صديقاً له صوّره بأنه يختفي في ملجأ قروي يقرأ "خط سقراط" و"لا يفكر مطلقاً في التكريم التافه الذي يمنحه إياه الجمهور الحقير"(52) وكان يحلم بالتجوال في الوديان الخضراء مع فلاحي فرجيل ورعاة ثيوفريطس ويتخذهم له رفاقاً.وأشد أشعاره تأثيراً هي الأبيات التي خطها إلى أبيه وهوعلى فراش الموت:

"لقد عشت يا أبتاه عيشة طيبة سعيدة، لم تكن فيها بالفقير ولا بالغني، حصلت فيها على كفايتك من الفهم ومن الفصاحة، وكنت على الدوام قوي الجسم، سليم العقل؛ بشوشاً تقياً لا يجاريك في تقواك أحد. حتى إذا أتممت الثمانين من عمرك انتقلت إلى شواطئ الآلهة المباركة. ارحل إليها يا أبتاه، وخذ بعد قليل ابنك معك إلى مقعدك الأعلى في السماء".

وكان ماركوجيرولاموفيدا Marco Girolamo Vida أطوع لأغراض ليومن غيره من الشعراء. وقد ولد ماركوهذا في كريمونا، وأتقن اللغة اللاتينية، وبرع فيها براعة أمكنته من حتى يخط بها كتابة ظريفة القصائد التعليمية في ن الشعر نفسه، أوفي تربية دود القز، أوفي لعبة الشطرنج. وقد سر ليومن هذا سروراً حمله على حتى يرسل في طلب فيدا، ويثقله بالهبات، ويرجوه حتى يتوج آداب ذلك العصر بملحمة لاتينية في حياة المسيح. إلى غير ذلك بدأ فيدا ملحمة الكرستيادة Christiad التي توفي ليوالسعيد قبل حتى يراها. وحذا حدثنت الشابع حذوليوفي رعاية فيدا، وحباه بمنصب أسقف ليعيش منه، ولكن حدثنت أيضاً توفي قبل حتى تنشر الملحمة (1535). وكان فيدا راهباً قبل حتى يبدأها، وأسقفاً حين فرغ منها، ولكنه لم يستطع حتى يحاجز نفسه عن الإشارات المتصلة بالأساطير اليونانية والرومانية القديمة التي كانت تملأ الجونفسه في أيام ليو، وإن بدت مضطربة سخيفة في نظر الذين أخذوا ينسون أساطير اليونان والرومان ويجعلون المسيحية نفسها أساطير أدبية. فنحن نرى فيدا في هذه الملحمة يقول عن الإله الأب إنه "أبوالآلهة مسخر السحاب"، وإنه "حاكم أوليس"؛ ولا ينفك يصف يسوع بأنه هيروس ويأتي بالفرغونات؛ وربات الانتقام، والقنطورات، والأفاعي الكثيرة الرءوس لتطالب بموت المسيح. لقد كان هذا الموضوع النبيل خليقاً ببحر من الشعر أكثر مواءمة له بدل حتى يقلد الشاعر الإنياذة. وليست أجمل الأبيات في شعر فيدا هي التي يخاطب بها المسيح في الكرستيادة، بل هي التي يخاطب بها فرجيل في فن الشعر وهي أبيات تعز على الترجمة ولكننا سنحاول نقلها فيما يأتي:

أي مجد إيطاليا! يا أسطع الأضواء بين الشعراء! وإنّ لنعبدك بما نقدمه لك من الأكاليل والبخور والأضرحة؛ وإليك ننشد على الدوام ما أنت خليق به من التسابيح القدسية، ونستعيد ذكراك بالترانيم: مرحباً بك يا أعظم الشعراء قداسة! إذا ثناءنا عليك لا يزيد قط من مجدك، وليس هذا المجد في حاجة إلى أصواتنا. ألا فأقبل وانظر إلى أبنائك، وصب روحك الدافئة في قلوبنا الطاهرة، أقبل يا أبتاه، وامزج نفسك بأرواحنا.

صحوة إيطاليا

كان من مسببات قوة الروح الوثنية في ذلك العصر وجود الفن القديم فيها ونجاته من الدمار؛ وكان بجيو، وبيندو، وبيوس الثاني قد نددوا بتدمير المباني الرومانية القديمة وقاوموا هذا التدمير، ولكنه ظل مع ذلك يجري في مجراه،وأكبر الظن أنه قد ازداد حين استطاعت روما بما تدفق فيها من المال حتى تشيد عمائر جديدة أكبر من عمائرها القديمة وتستخدم فيها بقايا هذه العمائر في عمل الجير. واستخدم بولس الثاني جدار الكلوسيوم الحجري في بناء قصر سان ماركو؛ ودم سكستس الرابع معبد هرقول وحوّل أحد جسور نهر التيبر إلى قذائف للمدافع، وانتزعت المواد التي بنيت بها كنيسة سانتا ماريا مجيوري، وفسقيتان عامتان، وقصر للبابا في الكويرينال، انتزعت هذه كلها من معبد الشمس. بل إذا الفنانين أنفسهم كانوا همجاً مخربين دون حتى يشعروا، فهاهوذا ميكل أنجيلومثلاً يستخدم أحد العمد في معبد كاستروبلكس ليصنع منه قاعدة لتمثال ماركس أورليوس الفارس، وهاهوذا رفائيل يأخذ جزءاً من عمود آخر في هاذ المعبد نفسه ليصنع منه تمثالاً ليونان (يونس)، واقتلعت المواد اللازمة لبناء معبد سستيني من تابوت هدريان، وأخذ الرخام الذي شيدت به كنيسة القديس بطرس كله تقريباً من المباني القديمة؛ وانتزعت إلى هذا الضريح الجديد نفسه أحجار القدمة ؛ والدرج، والقوصرة من هيكل أنطونيوس وفوستينا، وأقواس النصر التي أقيمت لفابيوس مكسيموس وأغسطس، وهيكل رميولوس بن مكسنتيوس. وهدم البناءون الجدد أوجردوا في أربع سنين بالضبط (من 1546-1549) هياكل كاستروبلكس، ويوليوس قيصر، وأغسطس(55). وكانت حجة أولئك الهدامين أنه قد بقى في البلاد بعد هذا الهدم كفايتها من الآثار الوثنية، وأن الخربات القديمة المهملة تشغل فراغاً عظيم القيمة، وتحول دون إعادة بناء المدينة بنظام حسن، وأن المواد التي يستولون عليها كانت في معظم الأحوال تستخدم في تشييد كنائس مسيحية لا تقل عن هذه الآثار القديمة جمالاً،وهي بطبيعة الحال أحب منها إلى الله. وكانت الأتربة التي تراكمت فوق هذه الآثار على مدى الأيام دون حتى تستبين العين عملها قد دفنت في الوقت عينه السوق الكبرى وغيرها من الأماكن التاريخية تحت طبقات متتالية من الثرى، والأنقاض، والنبات، حتى أصبحت السوق تحت مستوى ما يحيط بها من أرض المدينة بثلاث وأربعين قدماً؛ وقد هجر موضعها حتى أصبح نعظمه أرضاً للرعي سميت "حقل البقر" Campo Vaccino. ألا إذا الزمان هوأكثر عوامل التخريب والتدمير.

وكان تدفق الفنانين والكتّاب الإنسانيين على روما سبباً في إبطاء سرعة التدمير،وفي إيجاد حركات تهدف إلى المحافظة على الآثار القديمة. وأخذ البابوات يجمعون آثار النحت الوثنية وبتراً من الأبنية القديمة يضعونها في متحف الفاتيكان والكبتول؛ كما أخذ بجيو، وآل ميديتشي، وبجنيوس ليتوس، ورجال المصارف، والكرادلة يجمعون جميع ما يستطيعون الحصول عليه من الآثار القديمة ذات القيمة ليكوّنوا منها لأنفسهم مجموعات خاصة. ومن أجل هذا اتخذت كثير من تحف النحت القديمة طريقها إلى قصور الأفراد وحدائقهم؛ وبقيت فيها حتى القرن التاسع عشر؛ ووجدت من ثم أسماء مثل فاون بربيني، وعرش لدوفيزي Ludovisi وهرقول فرنيزي.

واهتزت روما كلها من نشوة الفرح حين كشف المنقّبون (1506) بالقرب من حمامات تيتوس عن مجموعة من التماثيل جديدة كثيرة التعقيد. وأوفد يوليوس الثاني جوليانودا سنجا ليولفحصها، ومضى أيضاً ميكل أنجيلولهذا الغرض، ولم يكد جوليانويبصر التمثال حتى صاح من فوره: "هذا هواللاكؤن الذي ذكره بلني" واشتراه يوليوس ليضعه في قصر بلفدير، ووظف لمن عثر عليه ولابنه معاشاً سنوياً طول حياتهما قدره 600 دوقة (7500،يا ترى؟ دولار)؛ ذلك حتى روائع النحت القديمة قد أضحت في ذلك الوقت عظيمة القيمة. وشجعت هذه المكفآت المنقبين عن التحف الفنية؛ وحدث بعد عام من ذلك الوقت حتى عثر واحد منهم على مجموعة أخرى هي هرقول مع الطفل تلفوسي، ولم يمض إلاّ قليل من الوقت حتى عثر على أدريانا النائمة، وأضحى الحرص على كشف التحف الفنية القديمة لا يقل قوة عن التحمس للكشف عن المخطوطات القديمة. وكانت هاتان العاطفتان صفتين قويتين من صفات ليو. ففي أيام ولايته كشف عمّا يسمّونه الأفطبنوس وعن تمثالي النيل والتيبر، وقد وضع هذان التمثالان في متحف الفاتيكان. وكان ليويبتاع بالمال حدثّا استطاع من الجواهر، والحلي المنقوشة، وغيرها من روائع الفن المتفرقة التي كانت في وقت ما ملكاً لآل ميديتشي، ويضعها كلها في قصر الفاتيكان. وأخذ ياقوبومدسوكي Jacopo Mazochi وفرانتشيسكوألبرتيتي بفضل مناصرته ينقلان مدى أربعة أعوام جميع ما يعثران عليه من نقوش على الآثار الرومانية، وواصلا بذلك ما قام به قبلهما الراهب جيوكندووغيره من الرهبان. ثم نشرا هذه النقوش باسم النقوش القديمة في المدن الرومانية (1521)، وكان نشرها حادثاً هاماً في فهم الآثار الرومانية القديمة.

وفي عام 1515 عين ليورفائيل مشرفاً على الآثار القديمة؛ ووضع المصور الشاب بمعونة مدسوكي، وأندريا فلفيو، وفابيوكلفا، وكستجليوني. وغيرهم من الفنانين خطة أثرية واسعة؛ وفي عام 1518 وجه إلى ليورسالة يستحلف فيها هذا الحبر الجليل حتى يستعين بسلطان الكنيسة على حفظ جميع الآثار الرومانية القديمة. وقد تكون ألفاظ الرسالة هي ألفاظ كستجليوني، أما روحها القوية ففيها نغمة رفائيل:

"إنا حين نفكر في قداسة تلك الأرواح القديمة... وحين نبصر جثة هذه المدينة الجليلة، أم العالم وملكته، وقد تدنست هذا التدنيس الشائن... لا يسعنا إلاّ حتى نتصور كم من الأحبار قد أجازوا تخريب المعابد، والتماثيل ، والعقود وغيرها من المباني القديمة. التي تنطق بمجد من شادوها!... ولست أتردد في القول إذا روما الجديدة هذه بأجمعها التي نشاهدها أمامنا الآن، مهما بلغت من العظمة ومهما حوت من جمال وازدانت بالقصور،والكنائس، وغيرها من الصور الفخمة - لست أتردد في القول إذا روما هذه قد أمسكها الجير الذي خلق من الرخام القديم"...

وتذكرنا هذه الرسالة بمقدار ما وقع من التدمير حتى في خلال السنوات العشر التي قضاها رفائيل في روما؛ وهي تلقي نظرة عامة على تاريخ العمارة، وتندد بالهمجية الفجة التي كان يتسم بها الطرزان الرومنسي والقوطي (واللذين يسميان فيها القوطي التيوتوني)، وتمجد الأنماط اليونانية - الرومانية، وتراها نماذج لكمال وحسن الذوق؛ وتقترح الرسالة أخيراً تكوين هيئة من الخبراء، وتقسيم روما إلى الأقسام الأربعة عشر التي حددها أغسطس في الزمن القديم، على حتى يمسح جميع قسم منها مسحاً دقيقاً وأن يسجل جميع ما فيه من الآثار القديمة. غير حتى موت رفائيل المبكر الذي أعقبه بعد قليل موت ليوقد أخر تطبيق هذا المشروع الجليل زمناً طويلاً.

وظهر تأثير هذه المخلفات المكتشفة في جميع فرع من فروع الفن والتفكير، وتأثر بها يرونلسكو،وألبرتي، وبرامنتي؛ ووصل هذا الأثر إلى الدرجة العليا حتى لم يكن الفن عند بلاديوPalladio إلاّ صورة أخرى من الأشكال القديمة تكاد تكون خاضعة لها جميع الخضوع. وكان جبرتي ودوناتليوقد حاولا من قبل حتى يتخذا الأشكال القديمة نماذج لهما، فلّما اتى ميكل أنجلووصل في تقليد الفن القديم إلى درجة الكمال في تمثال بروتس، ولكنه بقي فيهما عداه هوميكل أنجلونفسه صاحب النفس القوية غير الخاضعة للفن القديم. وحول الأدب علوم الدين المسيحية إلى أساطير وثنية واستبدل أوليس بالجنة، أما في التصوير فقد ظهر تأثير الفن القديم في صورة موضوعات وثنية وأجسام عارية وثنية لم تخل منها الموضوعات المسيحية نفسها. وحسبنا دليلاً على هذا حتى رفائيل نفسه محبوب البابوات قد رسم صوراً لسيكي Psyhe ، وفينوس وكيوبد على جدران القصور؛ وكانت الرسوم القديمة والزخارف العربية تعلوالعمد وتمتد على الطنف والأفاريز في ألف بناء من أبنية روما.

وظهر فوز الفن القديم بأجلى مظاهره في كنيسة القديس بطرس الجديدة؛ وقد عين ليوفيها برامنتي: رئيساً للأعمال. واحتفظ به في هذا المنصب أطول وقت مستطاع؛ ولكن المهندس المعماري الطاعن في السن أقعده داء الرثية، ولذلك عهد إلى الراهب جيوكندوحتى يساعده في عمل الرسوم التخطيطية؛ بيد حتى جيوكندونفسه كان يكبر برامنتي الذي كان في السبعين من عمره، بعشر سنين. وفي شهر يناير من عام 1514 عين ليوجوليانودانسجليو، وهوأيضاً في سن السبعين، للإشراف على العمل؛ ولمّا حضرت برامنتي الوفاة جاء البابا حتى يعهد بالمشروع إلى رجل في مقتبل العمر، وذكر له اسم رفائيل بالذات. وأرتأى ليوحتى يحب المشكلة حلاً وسطاً؛ فعين في شهر أغسطس من عام 1514 الشاب روفائيل والشيخ الراهب جيوكندومديرين مشهجرين للمشروع؛ وقضى رفائيل بعض الوقت يعمل بهمة وحماسة في العمل الذي لم يكن يتفق مع مزاجه وهوعمل المهندس المعماري؛ ونطق إنه لن يعيش بعد ذلك الوقت إلاّ في روما يغريه بهذا "حبه في بناء كنيسة القديس بطرس... أعظم بناء رآه الإنسان حتى ذلك الوقت"؛ ثم يقول بعد ذلك بتواضعه المعروف.

"ستبلغ تكاليف المشروع مليون دوقة مضىية، وقد أمر البابا بتخصيص 60.000 للعمل، وهولا يفكر في زيادتها؛ وقد ضم إليَّ راهباً تعوزه الخبرة تجاوز سن الثمانين، وهويرى حتى هذا الراهب لن يعيش طويلاً، ولهذا اعتزم قداسته حتى يجعلني أفيد من فهم هذا الصانع الممتاز حتى أبلغ أعظم درجة من الكفاية في فن المعمار، الذي يفهم الراهب من أسراره ما لا يعهده سواه.... والبابا يستقبلنا ويستمع إلينا جميع يوم، ويظل وقتاً طويلاً يحدثنا عن مشروع البناء.

وتوفي الراهب جيوكندوفي أول شهر يوليومن عام 1515 وفي اليوم نفسه انسحب جوليان دلسنجلومن جماعة المصممين. وبذلك أصبح الرئيس الأعلى للعمل كله، فرآى حتى يستبدل بتخطيط برامنتي لقاعدة الكنيسة تخطيطاً آخر على شكل صليب لاتيني غير متساوي الأذرع، ووضع تصميماً لسقف مقبب أثبت أنطونيودلنسجلوا (ابن أخي جوليانو) أنه ثقيل لا تتحمله العمد التي يقوم عليها. وفي عام 1517 عين أنطونيومهندساً معمارياً مشهجراً مع رفائيل، ولكن الخلاف نشأ بينهما في جميع خطوة من خطوات العمل،وكثرت في الوقت عينه أعمال رفائيل في التصوير، ففقد اللذة في المشروع. وحدث أيضاً حتى أعوز المال ليو، فحاول حتى يجمع ما يستطيعه منه ببيع صكوك الغفران، وكانت نتيجة هذا حتى اصطدم بنادىة الإصلاح الديني الألماني (1517). ولم يتقدم بناء كنيسة القديس بطرس إلاّ بعد حتى عهد إلى ميكل أنجيلوبالعمل في عام 1546.


ميكل أنجلووليوالسادس

كان يوليوس الثاني قد هجر أموالاً لمنفذي وصيته ليستخدموها في إتمام القبر الذي صممه له ميكل أنجيلوأوبالأحرى لينفذوا صورة مصغرة من هذا التصميم.وأخذ الفنان يقوم بهذا الواجب خلال السنين الثلاث الأولى من بابوية ليو، وتلقى من منفذي الوصية في السنين 6100 دوقة (76.250،يا ترى؟ دولاراً). والراجح حتى معظم الأجزاء الباقية من هذا الأثر حتى الآن قد أنشئت في ذلك الوقت هي وتمثال قيام المسيح في كنيسة سانتا ماريا وهي تمثال لشخص رياضي عار وسيم ستر فيما بعد حقواه بغطاء من البرونز ليتفق مع ذوق عصر من ستروه. ويصف ميكل أنجيلوفي خطاب له خطه في شهر مايومن عام 1518 كيف من الممكن أن اتى سنيورلي Signorelli إلى مرسمه، واقترض منه جويليا (8000،يا ترى؟ دولار) لم يردها له أبداً، ثم يضيف إلى ذلك قوله: "ورآني أعمل في تمثال من الرخام يبلغ ارتفاعه أربع أذرع ويداه مشدودتان وراء ظهره"(57). وأكبر الظن حتى هذا التمثال هوأحد التماثيل الأسرى وهي تماثيل يراد بها تصوير المدن أوالفنون التي أسرها البابا المحارب؛ وفي متحف اللوفر تمثال ينطبق عليه وصفها: فهويمثل شخصاً مفتول العضلات عارياً إلاّ من بترة من النسيج تستر حقويه، ويداه مربوطتان خلف ظهره برباط بلغ من شدته حتى الحبال غائرة في لحمه. ويرى بالقرب منه أسير أجمل منه عار إلاّ من عصابة ضيقة حول الصدر؛ وهنا لم يغتال الفنان في إبراز العضلات، والجسم يجمع بين الصحة والجمال متناسبين ويظهر فيه الفن اليوناني بأكمل مظاهره. وفي المجمع الفهمي بمدينة لفورنس تماثيل لأربعة من العبيد، كان يقصد بها فيما يظهر حتى تكون عمداً في صورة نساء يستند عليها ما فوقها من بناء القبر. ويوجد هذا القبر الناقص الآن في كنيسة يوليوس في سان بيتروببلدة فنكولي Vincoli، وهويمثل عرشاً فخماً ضخماً، ذا عمد منحوتة نحتاً ظريفاً، وعليه صورة موسى- وهي صورة مخلوق ضخم فظيع غير متناسب الأجزاء ذي لحية وقرنين وجبهة تنم عن الغضب الشديد، يمسك بيده ألواح الشريعة. وإذا شئنا حتى نصدق سيرة بعيدة عن المعقول يرويها فاساري، فإن اليهود كانوا يشاهدون في جميع سبت وهم يدخلون الكنيسة ليعبدوا هذا التمثال، لا على أنه من خلق البشر بل على أنه شيء إلهي"(58). ونرى ليحا عن يسار موسى وراشل عن يمينه، وهما تمثالان يسميهما ميكل: "الحياة العاملة المفكرة" أما ما بقى من الأشكال على القبر فقد نحتها مساعدوه في غير عناية: ومن هذه صورة للعذراء فوق صورة موسى، وعند قدميها صورة يوليوس الثاني نصف متكيء، وعلى رأسه التاج البابوي. والأثر كله عمل ناقص يمثل كدحاً غير متواصل في سنين متفرقة ما بين 1506 و1545، وهوعمل مضطرب مرتبك، ضخم، غير متناسق وسخيف.

وبينما كان الفنان وأعوانه ينحتون هذه الأشكال، لاحت لليو- ولعل ذلك كان أثناء إقامته في فلورنس - فكرة إتمام كنيسة سان لورندسوفي تلك المدينة. وكانت هذه الكنيسة أولاً ضريح آل ميديتشي، وتضم قبور كوزيمو، ولورندسووكثيرين غيرهما من أفراد تلك الأسرة. وكان برونكسكوقد بنى الكنيسة، ولكنه لم يتم قابلتها. ولهذا طلب ليوإلى رفائيل، وجوليانوداسنجلو، وباكشيودا نيولوBaccio d'Agnolo، وأندريا، وياقوبوسانسوفينوحتى يعرضوا عليه. تصميماً يضعونه لإتمام قابلتها. لكن ميكل أنجيلوبعث إلى البابا بتصميم وضعه هو، ويظهر أنه وضعه من تلقاء نفسه، وقبله ليولأنه رآه أحسن من جميع ما عرض عليه.

ومن ثم فإنه لا يصلح حتى يوجه اللوم إلى البابا، كما وجهه إليه الكثيرون لأنه إلهي ميكل عن عمله في قبر يوليوس. وبعث ليوبميكل إلى فلورنس ومنها مضى إلى كرارا ليبتر من محاجرها أطناناً من الرخام. ولمّا عاد إلى فلورنس استأجر مساعدين لمعاونته في العمل، ثم تشاحت معهم، وردهم على أعقابهم، وقضى بعض الوقت يفكر ولا يعمل شيئاً فيما ألقي عليه م عمل لا يستريح له، هوعمل المهندس المعماري. وحدث حتى استولى الكردنال جويليوابن عم ليوعلى بعض الرخام الذي لم يكن ينتفع به ليستخدمه في الكنيسة؛ فغضب لذلك ميكل ولكنه ظل يتباطأ في العمل، حتى إذا كان عام 1520 أعفاه ليوأخيراً من العقد الذي سقطه، ولم يطلب حساباً عن المال الذي دفعه مقدماً للفنان. ولمّا حتى طلب سيستيانودل بيمبوإلى البابا حتى يعهد إلى ميكل أنجيلوبعمل آخر، لم يستجب ليولهذا اطلب. فقد كان يقر لميكل أنجيلوبتفوقه في الفن، ولكنه نطق:" إنه رجل مزعج، كما ترى ذلك أنت بنفسك، ولا أرى سبيلاً إلى الاتفاق معه": ونقل سيستيانوهذا الحديث إلى صديقه، وأضاف إليه قوله:" لقد قلت لقداسته إذا أساليبه المزعجة لم تسبب أذى لأي إنسان، وإن إخلاصك للعمل العظيم الذي وهبت نفسك له وحده الذي يجعلك تبدومزعجاً لغيرك من الناس"(59).

ترى ما هذا الإزعاج الذي اشتهر به ميكل أنجيلو. إنه أولاً وقبل جميع شيء جهده العظيم، وهوتلك القوة العاصفة، المضنية التي كانت تعذب جسم ميكل أنجيلو، ولكنها أبقت عليه مدى تسع وثمانين سنة؛ وهي ثانياً قوة في الإرادة ظلت تسخّر هذا الجهد وتوجهه نحوهدف واحد - هوالفن - وتغفل جميع ما عداه تقريباً. والجهد الذي توجهه إرادة جامعة موحدة يكادقد يكون هوالتعريف السليم للعبقرية. ولقد كان ذلك الجهد الذي يرى في الحجر الذي لا شكل له تحدياً له، ثم ينشب فيه مخالبه، ويدقه بمطرقته، ويحفره بمثقبه حتى ينكشف عن شيء ذي معنى، هونفس القوة التي اكتسحت أمامها وهي غاضبة جميع ما يحولها عن غرضها من سفاسف الحياة، فلا تفكر في الملبس، ولا النظافة، ولا المجاملات السطحية؛ ثم أخذت تتقدم نحوغايتها تقدماً إذا لم يكن أعمى فقد كان على عينيه غماء، يسير فوق وعود حانثة،وصداقات خاسرة، وصحة منهوكة، وأخيراً فوق روع محطمة، تهجر الجسم والعقل مهشمين، ولكنها تنجر العمل - تنجز أروع الصور، وأروع الآثار المنحوتة، وعدداً من أعظم المباني، التي تمت في ذلك الزمن. ولقد صدق ميكل أنجيلوحين نطق: "إذا أعانني الله فسأخرج أجمل ما شهدته إيطاليا في حياتها كلها"(60).

وكان ميكل أنجيلوأقل الناس وسامة في عصر اشتهر بجمال الجسم وفخامة الثياب. كان متوسط الطول،عريض المنكبين،نحيل الجسم، كبير الرأس، مرتفع الجبهة، أذناه بارزتان إلى ما بعد وجنتيه، وصدغاه بارزان إلى ما بعد الأذنين، وجهه مستطيل قاتم، وأنفه أفطس، وعيناه صغيرتان حادتان،وشعر رأسه ولحيته أشمط - هكذا كان ميكل أنجيلوفي مقتبل عمره. وكان يرتدي ملابس قديمة، ويتعلق بها حتى تصبح وكأنها جزء من جسمه، ويبدوحتى كان يطيع نصف نصيحة أبيه: "أحرص على ألا تغتسل، حُكَّ جسمك ولكن لا تغتسل"(61). وكان، هوالرجل الغني، يعيش معيشة الفقراء، معيشة الاقتصاد، يأكل أي شيء تصل إليه يداه، ويكتفي أحياناً بكسرة من الخبز. ولمّا كان في بولونيا، كان هووالعمال الثلاثة الذين يشتغلون معه يسكنون في حجرة واحدة، وينامون على سرير واحد. ويقول عنه كنديفي: "وكان وهوفي عنفوان الصبا ينام في ثياب النهار، لا يخلع منها شيئاً حتى حذاءيه الطويلين، اللذين كان يحتذيهما على الدوام لأنه كان لديه استعداد للإصابة بتقلص العضلات.... وكان في بعض فصول السنة يظل محتذياً هذين الحذاءين زمناً بلغ من طوله أنه إذا خلعهما انسلخ جلده مع جلد الحذاء"(62). ويقول فاساري في هذا: "إنه لم يكن يرغب في حتى يخلع ثيابه، لا لسبب إلاّ لأنه لا يريد حتى يضطر إلى لبسها مرة أخرى"(63).

وكان يفخر بكرم محتده المزعوم، ولكنه كان يفضل الفقراء على الأغنياء، والسذج على ذوي العقول الراجحة،وكدح العامل على ما يتيحه الثراء من فراغ وترف. وكان يخرج عن معظم مكسبه ليعول أقاربه العاجزين؛ وكان يحب العزلة، لا يطيق حتى يتحدث بضع حدثات إلى ذوي العقول الخاملة؛ وكان أينما عثر يتابع أفكاره الخاصة. وكان قليل العناية بالنساء الحسان، واقتصد الكثير من المال بالتزام العفة... ولمّا حتى أظهر أحد القساوسة أسفه لأن ميكل أنجيلولم يتزوج ولم ينجب أبناء رد عليه ميكل أنجيلوبقوله: "إن الفن عندي أكثر من زوجة، وهوزوجة سببت لي ما يكفيني من المتاعب؛ أما أبنائي فهم الأعمال التي سأخلفها، وإذا لم تكن هذه الأعمال ذات قيمة كبيرة، فلا أقل من أنها ستبقى بعض الوقت"(64) ولم يكن يطيق وجود النساء في بيته، وكان يفضل عليهن الذكور في رفقته وفي فنه على السواء. وقد رسم النساء ولكنه رسمهن دائماً وهن أمهات ناضجات، ولم يرسمهن وهن فتيات فاتنات ساحرات. ومن الغريب أنه هووليوناردوكانا فيما يلوح لا يحسان بجمال المرأة الجثماني، مع حتى معظم الفنانين كانوا يرونه منبع الجمال. بل الجمال نفسه مجسداً. وليس لدينا ما نستدل منه على أنه كان لائطاً، ويبدوحتى جميع ما كان لديه من نشاط يمكن حتى ينصرف إلى الاتصال الجنسي، كان يستنفذه عمله. ولمّا كان في كرارا كان يقضي اليوم كله راكباً جواده، يصدر التعليمات إلى قاطعي الحجارة ومعبدي الطريق، ويقضي المساء في مسكنه يفهم الخطط في ضوء الصباح، ويحسب النفقات، ويرتب أعمال الغد. وكانت تنتابه فترات يظهر فيها خاملاً، ثم تتملكه فاتىة حمى الإنتاج، فلا يبالي بأي شيء حتى انتهاب روما.

وقد حال انهماكه في العمل بينه وبين صداقة الناس، وإن كان له بعض الأصدقاء الأوفياء،"وقلّما كان صديق أوغير صديق يطعم على مائدته"(65). وكان يقنع بصحبة خادمه الأمين فرانتشيسكوديجلي أمادوري Franecesco degli Amadore الذي ظل خمساً وعشرين سنة يعنى به، وظل كثيراً من السنين يشاركه فراشه. وقد اغتنى فرانتشيسكومن هبات ميكل، ولمّا توفي (1555) تفطر قلب الفنان حزناً عليه. أما في معاملة غيره من الناس فقد كان حاد الطبع سليط اللسان، عنيفاً في نقده، سريعاً في غضبه، يرتاب في جميع الناس. وكان يصف بروجيا بأنه أبله، وعبّر عن رأيه في صور فرانتشيا بأن نطق لابن فرانتشيا الوسيم إذا والده يرسمن الأشكال بالليل أحسن مما يرسمه منها بالنهار"(66). وكان فرانتشيا يغار من نجاح رفائيل وحب الناس إياه؛ ومع حتى كلا الفنانين كان يحب صاحبه فإن مؤيديهما انقسموا إلى فئتين متشاحنتين، حتى بلغ من أمرهم حتى بعث ياقوبوسانسوفينوبرسالة إلى ميكل يسبه فيها سباً قاذعاً ويقول: "لعنة الله على ذلك اليوم الذي تنطق فيه بأي خبر عن أي إنسان على ظهر الأرض(67)". ولقد مرت به أيام قليلة ينطبق عليها هذا الوصف، منها حتى ميكل شاهد صورة لألفنسودوق فيرارا من عمل تيشيان فنطق إنه لم يكن يظن حتى الفن يمكن حتى يصنع هذا الصنع العجيب، وإن تيشيان وحده هوالخليق بأن يسمى مصوراً(68). وكان مزاجه المرير،وطبيعته المكتئبة هما المأساة التي لازمته طول حياته؛ فكانت تمر به أوقات يشتد فيها اكتئابه حتى يشرف على الجنون، ، استحوذ عليه خوف الجحيم حتى افترض حتى فنه من الخطايا، وأخذ يتبرع بالبائنات إلى الفقيرات من الفتيات ليسترضي بذلك ربه الغضوب(69). وسبب له إحساسه المرهف اضطراباً في الأعصاب جلب عليه شقاء لم يكد يفارقه يوماً واحداً. انظر إلى ما خطه لوالده في عام 1508 لا بعد: "لقد مضت الآن خمسة عشر عاماً منذ استمتعت بساعة واحدة من الطمأنينة"(70). ولم يستمتع بعدئذ بكثير من هذه الساعات، وإن كان قد بقى من عمره ثمان وخمسون سنة.


رفائيل وليوالعاشر 1513-1520

يرجع بعض السبب في إهمال ليولميكل أنجيلوإلى حتى البابا كان يحب الرجال والنساء ذوي الخلق المعتدل المتزن، كما يرجع بعضه الآخر إلى أنه لم يكن شديد الحب لفن العمارة أوإلى الضخامة في الفن بوجه عام، فقد كان يفضل الجوهرة النفيسة على الكنيسة الكبرى، ويفضل الزخارف الصغرى على الآثار الضخمة. وقد شغل كردسا Caradossa، وسانتي ده كولاسيا Santi de Cola Sabba، ومشيلي نارديني Michele Nardini وغيرهم من الصياغ بصنع الجواهر، والنقش عليها، والمدليات، والنقود، والآنية المقدسة. وهجر وراءه بعد وفاته مجموعة من الحجارة النفيسة، والياقوت، والياقوت الأزرق (الصغير)، الزمرد، والماس، واللؤلؤ، وتيجان البابوات والأساقفة، وهجر من الصور ما تبلغ قيمته 204.655 دوقة أي أكثر من 2.500.000 دولار. على أننا يجب حتى نذكر حتى الجزء الأكبر من هذه الثروة قد ورثها من أسلافه، وأنها كانت جزءاً من الكنوز البابوية التي لا يصيبها تخفيض قيمة العملة المتداولة.

وقد نادى نحوعشرين من المصورين إلى روما، ولكن رفائيل يكادقد يكون هوالمصور الوحيد الذي عني به حقاً. لقد جرب ليوناردوثم طرده لأنه كان في رأيه مهذاراً مضيعاً لوقته، واتى الراهب بارتولميوإلى روما في عام 1514 ورسم صورة للقديس بطرس وأخرى للقديس بولس. ولكن هواء روما وما فيها من حركة وما تثيره في النفس من اهتياج لم توافقه، فل يلبث حتى عاد إلى الهدوء الذي اعتاده في دير فلورنس، وأحب ليوعمل سودوما، ولكنه لم يكد يجرؤ على حتى يهجر هذا المستهتر يجول حراً في قصر الفاتيكان؛ واستحوذ جوليوده ميدتشي ابن عم ليوعلى سبستيانودل بيمبو.

وكان رفائيل يتفق مع ليوفي مزاجه وذوقه جميعاً، فقد كان كلاهما أبيقورياً ظريفاً أحال المسيحية لذة ومتعة، ونعم بالجنة على ظهر الأرض، ولكن كلاهما كان يكدح بقدر ما كان يعبث. وقد أثقل ليوالفنان السعيد بالواجبات: إتمام الحجرات، وتخطيط الرسوم المبدئية للأقمشة التي يزدان بها معبد سستيني، وزخارف شرفات الفاتيكان، وبناء كنيسة القديس بطرس، وحفظ التحف الفنية الرومانية القديمة. وقبل رفائيل هذه المهام كلها، وقبلها مسروراً بها راغباً فيها؛ ووجد فوق ذلك من وقته متسعاً لرسم نحوعشرين من الصور الدينية، وعدة مجموعات من المظلمات الوثنية، ونحوخمسين من صور العذراء وغيرها كانت جميع واحدة منها بمفردها خليقة بأن تأتيه بالثروة الطائلة والصيت العريض. واستغل ليووداعته ولين جانبه. فكان يطلب إليه حتى ينظم له احتفالاته، وأن يرسم المناظر اللازمة لإحدى التمثيليات، وأن يصور له فيلاً كان يحبه(71). ولعل الإجهاد والحب هما اللذان قصّرا أجل رفائيل.

ولكنه كان في الوقت الذي نتحدث عنه في عنفوان القوة ونعيم الرخاء. وقد خط في أول يولية سنة 1514 رسالة إلى عمه "العزيز سيمون... الذي أعزه كما أعز أبي"، وكان سيمون هذا قد لامه لإصراره على البقاء عزباً، وكانت رسالته إلى عمه هذا تنم عن ثقته بنفسه واغتباطه بهذه الثقة نطق:

أما عن الزوجة، فلا بد حتى أقول لك أني أحمد الله جميع يوم على أني لم أتزوج بمن قدرت لي حتى أتزوجها، أوبغيرها من النساء... ولقد كنت في هذه المسألة بالذات أعقل منك... ولست أشك في أنك سترى الآن أنني بحالي التي أنا عليها خير ممّا كنت أكونه لوتزوجت... إذا لي مالاً في روما يبلغ 3000 دوقة، ودخلاً مؤكداً لا يقل عن خمسين دوقة أخرى. وقد وظف لي قداسة البابا مرتباً قدره 300 دوقة نظير إشرافي على إعادة بناء كنيسة القديس بطرس، ولن ينبتر عن هذا المرتب طول حياتي.... وهم يعطونني فوق هذا جميع ما أطلبه نظير عملي.ولقد شرعت في زخرفة ردهة كبيرة لقداسة البابا سأتقاضى من أجلها 1200 كرون مضىي. ومن هذا ترى حتماً يا عمي العزيز أنني أعمل ما يشرّف أسرتي وبلدي(72).

ولمّا بلغ الواحدة والثلاثين من عمره استوعب أنه ولج في دور الرجولة، فربى لحية سوداء أراد حتى يستر بها شبابه؛ وعاش في رغد، بل قل في أبهة في قصر شاده برامنتي وابتاعه رفائيل بثلاثة آلاف دوقة، وارتدى من الثياب ما يرتديه شباب الأسر الشريفة؛ وكان إذا زار قصر الفاتيكان صحبته حاشية كحاشية الأمراء من تلاميذه وعملائه. وأنبه على هذا ميكل أنجيلوبأن نطق له: "إنك تسير ومن خلفك حاشية كأنك قائد جيش"، فرد عليه رفائيل بقوله: "وأنت تسير وحدك كالجلاّد"(73). وكان لا يزال وقتئذ فتى طيب القلب، مبرءاً من الجسد، ولكنه شديد الحرص على حتى يسموعلى غيره من الناس، ولم يكن من التواضع بالقدر الذي كان عليه من قبل (وأنّى له حتىقد يكون كذلك)، ولكنه كان على الدوام يقدّم العون لغيره، ويهدي أصدقاءه روائع فنه، ولقد بلغ من أمره حتى كان معيناً ونصيراً للفنانين الأقل منه حظاً وموهبة. ولكن فكاهته كانت لاذعة في بعض الأحيان؛ مثال ذلك حتى كردنالين زارا مرسمه في يوم من الأيام، فأخذا يتسليان بذكر عيوب في صوره - فنطقا مثلاً إذا وجوه الرسل مسرفة في الاحمرار - فرد عليهم بقوله: "لا تعجبوا من هذا، يا صاحبي العظمة، فلقد رسمتها بهذا الشكل عامداً، أليس من حقنا حتى نظن حتى أصحابها ستعلوهم حمرة الخجل في السماء حين يرون الكنيسة يحكمها رجال من أمثالكم؟"(74). على أنه مع ذلك كان يقبل ما يصحح له من أغلاط من غير حتى يغضب، كما وقع في تصميم بناء كنيسة القديس بطرس. وكان في وسعه حتى يثني على طائفة من الفنانين بتقليد روائع فنهم، دون حتى يفقد مع ذلك استقلاله وما يمتاز له من موهبة الابتكار، ولم يكن في حاجة إلى الوحدة يرجع فيها إلى نفسه.

على حتى أخلاقه لم تسم كما سمت آدابه؛ ولم يكن في مقدوره حتى يصور النساء بتلك الصور الجذابة لولم يكن قد افتتن بمحاسنهن، وقد خط أغاني في الحب على ظهر رسومه؛ واتخذ له طائفة من العشيقات واحدة بعد واحدة؛ ولكن يظهر أنه ما من أحد - بما في ذلك البابا نفسه - يظن حتى من كان مثالاً عظيماً لا يحق له حتى يستمتع بمثل هذه المتع. وهاهوذا فاساري، بعد حتى وصف شذوذ رفائيل الجنسي لا يرى فيما يظهر أي تعارض في حتى يقول بعد صفحتين من هذا الوصف إذا "اللذين يحاكمونه في حياته الفاضلة سيثابون على ذلك في الجنة"(75). ولمّا حتى سأل كستجليوني رفائيل أين يجد نماذج النساء الحسان اللاتي يصورهن، أجابه بأنه يخلقهن خلقاً في خياله بأن يجمع عناصر الجمال المتنوعة التي تمتاز بها مختلف النساء(76)؛ ومن ثم كان في حاجة إلى أمثلة منهن متعددة. ومع هذا فإن في أخلاقه وفي أعماله طابعاً سليماً يحمل من قدر الحياة، ووحدة وطمأنينة وصفاء في سيرته وسط ما كان يحيط به من نزاع، وفرقة، وحسداً، ومثالب كانت تسود ذلك العصر. ولم يكن يعبأ بالشئون السياسية التي يحترق بلظاها ليووإيطاليا كلها، ولعله كان يشعر بأن الخصومات التي تتكرر من حين إلى حين بين الأحزاب والدول الطامعة في السلطان، وفي الامتيازات، إذا هي إلاّ الزبد الذي يعلوأمواج التاريخ، والذي لا بد حتى يمضى جفاء، وأن ليس لشيء ما قيمة ونفع إلاّ الإخلاص للكمال، والجمال، والحق.

وهجر رفائيل البحث عن الحقيقة لمن كانوا أكثر منه جرأة وحماسة، وقنع بخدمة الجمال دون غيره؛ فواصل في السنة الأولى من حكم ليونقش! حجرة إليودوروStanza d'Eliodoro. فقد شاءت الظروف حتى يختار يوليوس منظر الالتقاء التاريخي بين أتلا Atilla وليوالأول (452). ليكون النقش الثاني من أبرز النقوش الجدارية في حجرته، وليجعله رمزاً لطرد البرابرة من إيطاليا. وكان رفائيل في تصويره قد جعل ملامح ليوالأول هي بعينها ملامح يوليوس الثاني، ولكن وقع وقتئذ حتى اعتلى عرش البابوية ليوالعاشر. فما كان من رفائيل إلاّ حتى عدل رسمه فجعل ليوهوليو. وكان أكثر من هذه المجموعة الكبيرة نجاحاً صورة أصغر منها رسمها رفائيل في عقد فوق نافذة في هذه الحجرة من نفسها. وهنا اقترح البابا الجديد حتىقد يكون موضوع الصورة نجاة بطرس من السجن على يدي أحد الملائكة؛ ولعله أراد بهذا حتى يخلد ذكرى نجاته من ميلان. واستعان رفائيل بكل ما وهبه الفن من قدرة التأليف والتكوين ليبعث الوحدة والحياة في الصورة التي قسمتها النافذة إلى ثلاثة مناظر: منظر الحراس النائمين إلى اليسار، وملك يوقظ بطرس في أعلى النافذة، وملك إلى اليمين يقود الرسول الحائر الذي يداعب الناس أجفانه إلى الحرية. وإن ما يشع في حجرة السجن من تألق الملك يسطع على دروع الجند ويغشى أبصارهم؛ والهلال الذي ينعكس نوره على السحب فيجعلها ناصعة البياض، إذا هذا وذاك ليجعلان هذه الصورة نموذجاً فنياً لدراسة الضوء.

وكان الفنان الشاب ظمئاً إلى تطبيق للفن جديد. وكان برامنتي قد أخذ صديقه في السر، دون إذن من ميكل أنجلو، ليشاهد المظلمات التي في قبة سستيني قبل تمامها. وتأثر رفائيل بمنظرها أشد التأثر، ولعله أحس، بما لا يزال يصحب كبرياءه من تواضع، بأنه ماثل في حضرة فنان أعظم منه عبقرية وإن كان أقل منه رقة ولطافة. وهجر رفائيل هذه المؤثرات الجديدة تحركه في موضوعات المظلمات التي صورها على سقف حجرة هليدورس وفي أشكال هذه المظلمات: فقد مثل فيها الله يظهر إلى نوح؛ وإبراهيم يضحّي بولده، وحلم يعقوب، والأجمة المحترقة. ويظهر أيضاً في صورة النبي إشعيا التي رسمها لكنيسة القديس أوغسطين. وشرع في عام 1514 ينقش الحجرة التي عهدت باسم حجرة حريق المدينة Stanza dell' Incendio del Borgo، ويريد بالمدينة الجزء المحيط بالفاتيكان من روما. وتفصيل هذا حتى إحدى قصص العصور الوسطى تروي حتى البابا ليوالثالث أطفأ حريقاً كان ينذر بالتهام هذا الجزء من المدينة، ولم يكلفه هذا اكثر من حتى يرسم أكثر من الصورة التمهيدية لهذا الرسم الجداري، ثم عهد إلى تلميذه جيان فرانتشيسكوبني Gianfransesco Penni بإتمامها وتلوينها. وهي مع هذا صورة قوية في تأليفها، ومن طراز رفائيل الممتاز الذي يروي فيه حادثات الأيام. وقد مزج رفائيل في هذه الصورة السيرة الرومانية القديمة بالسيرة المسيحية، فصور إلى اليمين إينياس وسيما مفتول العضلات يحمل أباه أنكبسيز Anchises الشيخ ذا العضلات القوية لينجيه من اللهب، وهناك أيضاً صورة أخرى متقنة الرسم إلى أبعد حد تمثل رجلاً عارياً يتعلق في أعلى جدار البناء المحترق، ويتأهب لإلقاء نفسه على الأرض؛ ويظهر في هذه الصور الثلاث العارية تأثير ميكل أنجيلوفي رفائيل. لكن ثمة صوراً أكثر اتفاقاً مع نزعة رفائيل نفسه، منها صورة أم مرتاعة تطل من فوق الجدار لتسلم طفلها إلى رجل يقف فوق الأرض على أطراف أصابع قدميه. وترى بعين عمد فخمة جماعات من النساء يتلمسن معونة البابا، فيأمر من إحدى الشرفات النار حتى تخمد. ولا يزال رفائيل في هذه الصورة في عنفوان مجده.

ورسم رفائيل الرسوم التمهيدية لبقية الصور التي في هذه الحجرة؛ ولعل تلاميذه قد ساعدوه حتى في هذه الصور الباقية نفسها. ومن الرسوم التمهيدية رَسَمَ بيرينول فاجا Perino del Vaga فوق النافذة صورة قسم ليوالثالث وهويبرئ نفسه أمام شارلمان (800)؛ وصوَّر جويليورومانووهوتلميذ آخر أعظم من التلميذ السابق على الجدار المجاور لباب الحجرة واقعة أستيا التي رد فيها ليوالرابع (وهويظهر في الصورة شديد الشبه بليوالعاشر) الغزاة المسلمين (849). وجويليورومانوهوالفنان الوحيد من أهل روما الذي علا نجمه في فن النهضة. وصوّر أولئك التلاميذ النابهون في أماكن أخرى صوراً لملوك أحسنوا إلى الكنيسة، وجعلوا هذه الصور مثالية لا واقعية. وفي الصورة الأخيرة صورة تتويج شارلمان يصبح ليوالعاشر هوليوالثالث بعينه، ويصوّر فرانسس الأول كأنه شارلمان يحقق (بالنيابة عن شارلمان) أمله في حتىقد يكون إمبراطوراً. والحقيقة حتى هذه الصور تمثل التقاء ليوبفرانسس في بولونيا في العام السابق (1516).

ورسم رفائيل رسوماً تخطيطية مبدئية للحجرة الرابعة وهي المعروفة بردهة قسطنطين Sala Constantino؛ وقد رسمت هذه الصور ولونت بعد وفاته برعاية البابا حدثنت السابع. وكان ليوفي هذه الأثناء يستحثه على حتى يبدأ بزخرفة الشرفات المكشوفة التي بناها برامنتي لكي تحيط بفناء القديس دماسوس St. Damasus بالفاتيكان. وكان رفائيل نفسه هوالذي أكمل تشييد هذه الشرفات؛ ثم صمم وقتئذ (1517-1519) لسقف واحدة منها اثنين وخمسين مظلماً تروي قصص الكتاب المقدس من خلق العالم إلى يوم الحساب. وقد عهد بالتصوير نفسه إلى جويليورومانو، وجيان فرانتشيسكوبني، وبرينودل فاجا، وبليدوروكلدارا داكر فجيوPotidoro Caldara da Caravaggio، وغيرهم؛ بينما قام جيوفني دا يوديني Giovanni de Udine بزخرفة العمد المربوعة، والأجزاء الداخلية من العقود بصور رائعة ونقوش عربية الطراز في الجس وبالألوان. وقد استخدمت أحياناً في مظلمات الشرفات هذه موضوعات مما عولج في سقف سستيني، ولكنها أخف منها يداً،وأقل منها تصنعاً، وأكبر مرحاً؛ لا تهدف إلى الفخامة أوالتعالي بل تصور حادثات لطيفة كصورة آدم وحواء وأبنائهما يستمتعون بفاكهة الجنة، وصورة إبراهيم يستقبل الملائكة الثلاثة، واسحق يعانق رفقة، ويعقوب وراحيل عند البئر، ويوسف وزوجة فرعون، والتقاط موسى، وداود وباثشيع، وعبادة الرعاة. ولا حاجة إلى القول بأن هذه الصور الصغيرة لا يمكن حتى تضارع صور ميكل أنجيلو، فهذه في عالم غير عالم تلك ومن صنف غير صنفها - لأنها تمثل عالماً ذا رشاقة نسوية، لا عالماً ذا قوة عضلية؛ وهي شاهد على رفائيل المرح في الخمس السنين الأخيرة من حياته؛ على حين حتى سقف سستيني إنما يمثل ميكل أنجيلوفي عنفوان قوته.

ولعل ليوقد دبَّ في قلبه شيء من الغيرة من جمال هذا السقف، ومما أفاءه على حكم يوليوس من مجد، فلم يكد يعتلي العرش حتى فكر في تخليد عهده بنقش جدران معبد سستيني بصور الطنافس المزركشة. ولم يكن في إيطاليا من النساجين ممن يضارعون تساجي فلاندرز، وظن ليوأنه لم يكن في فلاندرز من المصورين من يضارعون رفائيل. ولهذا عهد إلى هذا الفنان (1515)، حتى يرسم عشر صور تمهيدية تمثل مناظر من أعمال الرسل. وقد ابتاع روبنز (1630) ستاً من هذه الصور في بركسل لتشارلس الأول ملك إنجلترا، وهي الآن محفوظة في متحف فكتوريا وألبرت بلندن، وتعد من أعظم ما رسم من الصور في أي عصر من العصور. وقد أغدق عليها رفائيل كا ما لديه من فهم في التأليف، والتشريح، والتأثير المسرحي؛ وقلّما يوجد في ميدان التصوير كله بتر نفوق صورة معجزة جر السمك، أوعهد المسيح إلى بطرس، أوموت أنانياس، أوبطرس يداوي الأعرج، أوبولس يعظ في أثينة - وإن كان شكل بولس الجميل في هذه الصورة الأخيرة مسروق من مظلمات مساتشيوفي فلورنس.

وأوفدت الرسوم التمهيدية العشرة إلى بركسل، حيث أشرف برنارت فان أورلي Bernaert van Orley، الذي تتلمذ على رفائيل في روما، على نقل هذه الرسوم على الحرير والصوف. وتمت سبع من هذه الطنافس في فترة قصيرة لا تتجاوز ثلاث سنين، وتم خلق العشر كلها قبل عام 1520؛ وفي السادس والعشرين من ديسمبر عام 1519 علقت سبع منها على جدران سستيني ودعي لمشاهدتها الصفوة المختارة من أهل روما. وذهل الحاضرون من جمالها وروعتها، فنطق باريس ده جراسيس Paris de Grassis في يومياته: "وذهل جميع من في الكنيسة حين سقطت أعينهم على هذه الستر، وأجمعوا كلهم بلا استثناء على ا،ه ليس في العالم كله ما أجمل منها"(77). وقد أنفق على جميع واحدة منها ألفا دوقة (25.000،يا ترى؟ دولار)، وكانت نفقاتها جميعاً من مسببات إقفار خزائن ليووإغرائه على بيع صكوك الغفران والمناصب الكنسية . وما من شك في حتى ليوقد أحس وقتئذ بأنه التقى هوورفائيل مع يوليوس وميكل أنجيلوفي معركة فنية في كنيسة واحدة وأنهما قد انتصرا في هذه المعركة.

وإن ما يتصف به رفائيل من خصب في الإنتاج وهوفي سن السابعة والثلاثين أعظم من خصب ميكل أنجيلوفي سن التاسعة والثمانين - نقول إذا ما يتصف به من خصب في هذه السن ليجعل من الصعب علينا حتى ننصفه حين نصف روائع أعماله الفنية وصفاً موجزاً شاملاً، وذلك لأن جميع عمل من أعماله تقريباً كان آية خليقة بأن تخلد. لقد رسم صوراً في الفسيفساء، والخشب، والجواهر،وعلى المدليات، والفخار، والآنية البرنزية، والنقوش المحفورة البارزة، وصناديق العطور، وعلى التماثيل، والقصور. واضطراب ميكل أنجيلوحين سمع حتى رفائيل خلق نموذجاً لتمثال يونس راكباً حوته، وأن المثال لفلورنسي لورندستولتي Lorenzetto Lotti نحت من هذه النماذج تمثالاً رخامياً له. ولكن النتيجة أعادت إليه سكينته لأن رفائيل بعمله هذا قد خرج من ميدانه الخاص وهوميدان التصوير الملون، ولم يكن في خروجه هذا حكيماً. لكنه كان أكثر توفيقاً في ميدان العمارة لأن صديقه برامنتي كان يرشده في هذا الميدان. ولمّا عهد إليه حوالي عام 1514 العمل في كنيسة القديس بطرس، طلب إلى صديقه فابيوكلفوFabio Calvo حتى يترجم له كتاب ڤتروڤيوس Vitrivius إلى اللغة الإيطالية، وشغف منذ ذلك الحين حباً بالطرز المعمارية الرومانية القديمة ووسر ليومن استمراره في العمل في شرفة برمنتي سروراً جعله يعينه مديراً لجميع المصالح المعمارية والفنية في الفاتيكان. وشاد رفائيل بعض القصور الممتازة في روما، واشهجر في تخطيط فلا ماداما Villa Madama للكردنال جويليوده ميديتشي. على حتى هذا العمل يرجع معظم الفضل فيه إلى جويليورومانوالمهندس المعماري، والمصور، وإلى جيوفنيدا أوديني Giovanni da Udine الذي قام بزخرفته ولم يبق من آيات رفائيل المعمارية إلاّ قصر بندلفيني Palazzo Pandolfini الذي بنى بعد موته على أساس رسومه التخطيطية، ولا يزال هذا القصر معدوداً ن أجمل القصور في فلورنس. وسخر رفائيل بعدئذ مواهبه لخدمة صديقه المصرفي تشيجي Chigi وكان ذلك منه تضحية تعلّي من قدره.وقد شاد لهذا الصديق معبداً في كنيسة سانتا ماريادل بوبولو، وبنى لجياده اسطبلات (الاسطبلات الشجيانية Stalle Chigiani 1514) تليق لأن تكون قصوراً. وإذا شئنا حتى نفهم رفائيل، وروما في عهد ليو، حق الفهم، وجب علينا حتى نتريث قليلاً لنلقي نظرة على ذلك الرجل العظيم تشيجي.


أجستينوتشيجي

يمثل أجستينوتشيجي طائفة من أهل روما: طائفة أغنياء التجار أورجال المصارف، وأصلهم عادة من غير أهلها علا شأنهم على شأن نبلاء الرومان الأقدمين، ولم يكن يعلوعليهم في سخائهم على الفنانين والكتّاب إلاّ سخاء الكرادلة والبابوات. وكان مولده في سينا، وكأنما طَعِم الدهاء في الشئون المالية مع طعامه اليومي. وقبل حتى يبلغ الثالثة والأربعين من عمره أصبح أكبر مقرضي المال الإيطاليين إلى الجمهوريات والمماليك مسيحية كانت أوغير مسيحية. وكان يمول التجارة المتبادلة بين أكثر من عشرة بلاد من بينها هجريا، وحصل بعقد من يوليوس الثاني على احتكار الشب والملح(78). وفي عام 1511 أعطى ليوليوس سباً جديداً من مسببات الحرب على فيرارا - ذلك حتى الدوق ألفنسوقد جرؤ على حتى يبيع الملح بثمن أقل مما يستطيع أجستينوحتى يتقاضاه(79). وكان لشركته فروع في جميع مدينة إيطالية كبيرة، كما كان لها فروع في القسطنطينية، والإسكندرية، والقاهرة، وليون في فرنسا، ولندن، وأمستردام، وكانت مائة سفينة وسفينة تمخر عباب اليم رافعة رايته، كما كان عشرون ألف رجل عمالاً مأجورين عنده. وكان بضعة ملوك وأمراء يبعثون إليه بالهدايا، وكان أحسن جواد عنده هدية من سلطان هجريا؛ ولمّا زار البندقية (وكان قد أقرضها 125.000 دوقة) وضع مقعده بجوار مقعد الدوج نفسه(80). ولمّا سأله ليوالعاشر عن مقدار ثروته أجابه حتى الرد على ذلك محال، ولعل الباعث له على هذا الجواب هوالتهرب من الضرائب، على حتى دخله السنوي كان يقدر بنحو70.000 دوقة (875.000،يا ترى؟ دولار). وكانت صحافه الفضية وجواهره تعدل ما عند نبلاء روما كلهم مجتمعين. وكان سريره محفوراً في العاج ومرصعاً بالمضى والحجارة الكريمة، وكانت أدوات حمامه من الفضة(81). وكان له اثنا عشر من القصور والبيوت الريفية ذات الحدائق، أجملها كلها بيت تشيجي الريفي القائم على الضفة الغربية لنهر التيبر. وكان الذي خططه هوبلدساري بروتشي، وزينه بالصور بروتشي ورفائيل، وسودوما، وجويلي رومانو، وسبستيانودل بيمبو؛ وقد وصفه الرومان حين تم بأنه أفخم قصور روما بأجمعها.

وكان لموائد تشيجي من الشهرة ما يضارع شهرة موائد لوكلس Lucullus في أيام قيصر. ولمّا أتم رفائيل بناء أسطبلاته وقبل حتى توضع فيها جياد أجمل من الرجال، استقبل فيها أجستينوالبابا ليووأربعة عشر من الكرادلة في عام 1518، وأقام لهم فيها مأدبة كان يتباهى بأنها كلفته ألفي دوقة (25.000،يا ترى؟ دولار).وقد سرقت في أثناء هذه الحفلة الممتازة صحاف فضية كبيرة، وأكبر الظن حتى اللذين سرقوها خدم في حاشية بعض المدعوين. وأمر تشيجي ألاّ يجري أي تفتيش، وأظهر دهشته في لطف ومجاملة من قلة ما سرق(82). ولمّا انتهت المأدبة، وحملت الطنفسة الحريرية، وطنافس الجدران، والأثاث الدقيق، ملأت الاسطبلات بمائة جواد.

وأقام المصرفي الثري بعد بضعة أشهر من ذلك الوقت حفلة عشاء أخرى، وأقامها هذه المرة في شرفة القصر الريفي المطلة على نهر التيبر، وكانت الصحاف الفضية، بعد الفراغ من جميع صنف من الطعام، تلقى في النهر على مشهد من المدعوين، حتى يتأكدوا من حتى أية صفحة منها لن تستعمل أكثر من مرة واحدة. ولمّا انتهت المأدبة استخرج خدم تشيجي الصحاف من النهر بشبكة كانت قد وضعت سراً في مجراه تحت نافذة الشرفة(83). وحدث في مأدبة عشاء أقيمت في قاعة القصر الريفي في 28 أغسطس 1519 حتى قدم الطعام لكل مدعووفيهم البابا ليوواثنا عشر كردنالاً - في صحاف من الفضة أوالمضى نقش عليها شعاره، وتاجه، ودرعه، وأطعم جميع واحد منهم نوعاً خاصاً من السمك، واللحم، والخضر، والفاكهة، والمشهيات، والنبيذ المستورد حديثاً من بلده أومنطقته لهذا الغرض خاصة.

وحاول تشيجي حتى يكفر عن هذا التظاهر الوضيع بالثراء، بمناصرته الأدب والفن مناصرة سخية كريمة - من ذلك أنه أدى إلى العالم كرنيليوبنينيوCorneiio Benigo من فيتيربوViterbo نفقات طبع أشعار بندار، وأنه أنشأ في بيته مطبعة تلك المؤلفات؛ وكانت الحروف اليونانية التي عملت لتلك المطبعة تفوق في جمالها الحروف التي استخدمها ألدوس مانوتيوس في نشر قصائده قبل ذلك بعامين. وكان هذا أول نص يوناني طبع في روما (1515). وبعد عام من ذلك الوقت أصدرت المطبعة طبعة سليمة من ثيوقريطس. وكان أجستينونفسه واسع الفهم، ولكنه كان يفخر بأن من أصدقائه بمبو، وجيوفيو، وأرتينونفسه. وقد أغدق أرتينوهذا المال بسخاء، وكان يتباهى بإنفاق هذا المال. وكان أكثر ما يحبه بعد المال وعشيقته هوجميع أنواع الجمال التي يستطيع الفن حتى يصورها. وكان ينافس ليوفيما يعهد به من الأعمال إلى الفنانين، وقد فاقه كثيراً في تفسيره الوثني للنهضة، وجمع في قصوره في المدينة وضواحيها مقادير من التحف الفنية تكفي لإنشاء متحف من المتاحف. ويبدوأنه كان يعتقد حتى قصره ليس بيتاً فحسب، بل هوإلى ذلك معرض عام للفن يسمح للجماهير حتى تدخله من حين إلى حين.

وحدث في ذلك القصر الذي أقيمت فيه مأدبة العشاء السالفة الذكر في 25 أغسطس سنة 1519، حتى تزوج تشيجي بعشيقته الوفية التي ظل يعيش معها طوال الست السنين السابقة، وقام بمراسيم الزواج البابا ليونفسه. لكنه توفي بعد ثمانية أشهر من ذلك الوقت بعد أيام قليلة من موت رفائيل.

وقسم الجزء الأكبر من ثروته التي قدرت بثمانمائة ألف دوقة (10.000.000 دولار) بين أبنائه. وعاش لورندسوأكبر هؤلاء البناء عيشة البذخ والفساد، وحكم عليه بالجنون في عام 1553. أما بيت تشيجي الريفي الواقع على ضفة التيبر فقد بيع إلى الكردنال ألسندروفرنيزي الثاني بثمن زهيد حوالي عام 1580؛ وأطلق عليه من ذلك الحين اسم الفارنيزينا Farensina.


رفائيل (خاتمة المطاف)

وكان رفائيل قد قبل حتى يقوم للمصرفي المرح الظريف بأعمال فنية منذ عام1510، وفي عام 1514 رسم له صوراً جصية ملونة في كنيسة سانتا ماريا دلا باتشي Santa Maria della Pace. وكان المكان الذي خصص لهذه الصور ضيقاً غير منتظم؛ ولكن رفائيل جعله يظهر صالحاً للرسم بأن وزع عليه صوراً لأربع عرافات - تومائية، وفارسية، وفريجية، وتيبورتية، وهن متنبئات وثنيات سلبتهن قواهن في هذا الرسم الملائكة المحيطة بهن. وصورهن رشيقة لأن رفائيل كان يصعب عليه حتى يصور شيئاً خالياً من الرشاقة. ويظن فاساري أنهن أجمل ما أنتجه الفنان الشاب؛ والصور جميعها ما عدا صورة العرافة التيبورتية محاكاة ضعيفة لعرافات أنجيلو. أما صورة هذه الكاهنة الأخيرة الهزيلة الجسم التي أوهنها الكبر، وروعها المستقبل البشع الذي تتنبأ به، فهي صورة ذات قوة مبتكرة مسرحية. وتقول سيرة لا يمكن الرجوع بها إلى ما قبل القرن السابع عشر، إذا شيئاً من سوء التفاهم وقع بين رفائيل والقائم على أموال تشيجي خاصاً بالأجر الذي يتقاضاه الفنان عن هذه الصور. وكان رفائيل قد أخذ منه خمسمائة دوقة، ولكنه طلب المزيد من الأجر بعد حتى أتمها؛ وظن خازن أموال تشيجي حتى الخمسمائة من الدوقات التي أخذها رفائيل هي جميع ما يحق له حتى يأخذه. وعرض رفائيل حتى يعين الخازن فناناً خبيراً ليقدر قيمة الرسوم؛ فاختار الخازن ميكل أنجيلولهذا الغرض ووافق رفائيل على هذا الاختيار. وحكم ميكل أنجيلو، رغم ما يزعم الناس وجوده بينه وبين رفائيل من غيرة، حتى جميع رأس في الصورة يساوي مائة دوقة. ولمّا اتى الخازن المذهول بهذا الحكم إلى تشيجي أمره المصرفي بأن يؤدي إلى رفائيل أربعمائة دوقة أخرى وحذره قائلاً: "واستخدم معه الرفق حتى يرضى بهذا القدر، لأنه إذا اضطرني إلى أداء اجر الأثواب التي تلبسها العرافات أفلست لا محالة"(84).

وكان من واجب تشيجي حتى يصطنع الحذر، لأن رفائيل كان في ذلك العام نفسه يرسم مظلماً أنيقاً في قصر تشيجي الريفي - وهومظلم غلاطية. وقد أخذ قصته من جيوسترا Giostra تأليف بولتيان، ومضمون السيرة إذا بوليفيموس Polyphemus السيكلوب Cyclops الأعور يحاول إغراء الحورية غلاطية بأغانيه ومزماره، ولكنها تبتعد عنه في ازدراء - كأنها تقول: من هي التي ترضى حتى تتزوج فناناً،يا ترى؟ - ثم تسلم الزمام إلى دلفينين يجذبان سفينتها الصدفية الشكل إلى البحر. وتقف إلى جانب غلاطية حورية ممتلئة الجسم مرحة يمسك بها تريتون قوي، وفي السحب عدد من آلهة الحب (كيوبد) يطلقون سهاماً كثيرة يؤيدون بها الحب القائم بينهما. وتتجلى النهضة الوثنية في هذه الصورة بأجلى مظاهرها، ويغتبط رفائيل إذ يصور النساء كما يجب حتى يكن حسب ما يصورهن خياله الساطع.

وفي عام 1516 نقش حمام الكردنال بببينا مظلمات تمجد فينوس وفوز الحب. وفي عام 1517 نقش سقف القاعدة الوسطى في قصر تشيجي الريفي وزواياه بصور أكثر من الصور السابقة تبذلاًّ. فقد هداه خياله المرح في هذه المرة إلى سيرة استمدها من كتاب التناسخ لأبوليوس Apuleius. وخلاصة هذه السيرة حتى سيكي Psyche ابنة أحد الملوك تستثير بجمالها حسد فينوس، فتأمر هذه الإلهة الحقود ابنها كيوبد حتى يوحي إلى سيكي بأن تحب أحقر رجل في الوجود. ويهبط كيوبد إلى الأرض ليؤدي رسالته، ولكنه لا يكاد يمس سيكي حتى يهيم بها حباً. ويزورها في ظلمة الليل، ويأمرها حتى تكبت في نفسها غريزة حب الاستطلاع فلا تسأله من هو. غير أنها لا يسعها إلاّ حتى تنهض من فراشها ذات ليلة، وتضيء مصباحاً، فتتبين أنها تنام مع أجمل الأرباب كلهم.ولكنها في اضطرابها تسقط منها نقطة من الزيت على كتف إله الحب، فيستيقظ من نومه ويؤنبها لفرط تشوفها، ويهجرها وهوغاضب غير عالم أنه إذا حرمت المرأة من غريزة حب الاستطلاع في مثل هذه الأحوال أدى هذا إلى فساد أخلاق المجتمع. وتخرج سيكي هائمة على وجهها في الأرض محزونة يائسة وتضع فينوس كيوبد في السجن لأنه عصى أمه، وتشكوإلى جوبتر من ضعف النظام السماوي، فيرسل جوبتر عطارد ليأتيه بسيكي وتصبح بعدئذ أمة مغواة عند فينوس. ويهر بكيوبد من سجنه ويرجوجوبتر حتى يهبه سيكي. ويقع الإله في حيرة إذ يجد نفسه وسط مطالب متعارضة، فيدعوأرباب أولمبس للنظر في هذا الأمر. وينحاز هوإلى كيوبد مدفوعاً إلى هذا بما جبل عليه من التأثر بمفاتن الذكور؛ أما الآلهة الآخرون ذوالقلوب الرقيقة فيطلبون إطلاق سراح سيكي، وحملها إلى مقام الإلهات، وإعطائها لكيوبد؛ ويحتفلون في المنظر الأخير بزواج كيوبد وسيكي ويقيمون لهذه المناسبة وليمة يطعمون فيها طعام الآلهة. ويؤكد رواة السيرة أنها كلها رموز واستعارات، وأن سيكي تمثل النفس البشرية، التي تدخل الجنة بعد حتى يطهرها العذاب؛ لكن رفائيل وتشيجي لم يريا في هذه السيرة أية رموز دينية، وإنما هي فرصة أتيحت لهما ليتأملا كمال الأجسام البشرية في الذكور والإناث على السواء. لكننا نرى مع ذلك نزعة رفائيل الشهوانية رقةً وظرفاً يفلان سلاح المتزمتين؛ ويبدوحتى ليوالمتسامح الدمث المرح لم يجد في هذه الرسوم ما يأخذه على الرجلين. وليس رفائيل في هذه الصور إلاّ الأشكال والتأليف؛ أما في عدا هذا فإن جويليورومانووفرانتشيسكوبني هما اللذان صورا المناظر الملونة بعد حتى خططها رفائيل، ثم أضاف إليها جيوفني دا أوديني أكاليل جذابة مغرية مثقلة بالأزهار والثمار. إلى غير ذلك نرى حتى مدرسة رفائيل الفنية قد أصبحت منطقة انتنطق لا يكاد يوجد أدنى شك في حتى ثمارها النهائية ستكون صورة ما من وصر الجمال.

ولم تمتزج الوثنية والمسيحية امتزاجاً ممتعاً كامتزاجهما في صور رفائيل. فهذا الفتى ذوالنزعة الدنيوية الذي كان يعيش كما يعيش الأمراء، ويحب كثيراً من النساء حباً عابراً مؤقتاً، والذي كان يعبث على السقف (إذا جاز هذا التعبير) بالذكور العراة والنساء العاريات، نقول إذا هذا الفتى نفسه رسم في تلك السنين (1513-1520) عدداً من أكثر الصور جاذبية في التاريخ كله. وكان رغم شهوانيته الظاهرة المكشوفة يعود دائماً إلى العذراء موضوعه الحبيب، فقد رسم لها خمسين صورة، يساعده فيها أحياناً أحد تلاميذه كما في صورة مادنا دل أمباناتا Madonna dell' Impannata (العذراء المؤفخرة) ؛ ولكنه كان في معظم الأحيان يعمل في هذا الطراز من الصور بيده هو، وفي قلبه مسحة من تقى أمبريا Umbria القديم. وفي هذه السنة التي نتحدث عنها (1515) رسم عذراء سستيني لدير سان سستوSan Sisto القائم في بياتشندسا ، وهي في الواقع مجموعة من الأشكال في شكل هرم تام يحتوي على صورة الشهيد القديس سكستس الطاعن في السن، والقديسة بربارا المتحاشمة المفرطة قليلاً في الجمال وفي فخامة الملبس؛ وثوب العذراء الأخضر اللون فوق مسة من الاحمرار، تهفهفه ريح السماء، وصورة المسيح الطفل الذي يظهر إنساناً يحق في سذاجته وشعره الأشعث؛ ووجه العذراء الوردي الساذج تعلوه مسحة من الحزن والدهشة (كأن لافرنرينا التي من الممكن كانت نموذج هذه الصورة قد أدركت أنها غير أهل لهذا الوضع)، والسجف التي يزيحها المكان وراء العذراء لتيسر بينهما إلى الجنة: هذه هي أحب الصور إلى العالم المسيحي كله، وأحب ما رسمته يد رفائيل إلى العالم أجمع. ولا تكاد تقل عن هذه ظرفاً ورقةً رغم التزامها الشكل التقليدي صورة الأسرة المقدسة تحت شجرة البلوط (المحفوظة في برادوPrado)، وهي التي تسمى أيضاً لابيرلا La Perla (عذراء اللؤلؤة). وفي صورة عذراء سيديا أوسجيولا Seggiola (الموجودة في بتي) نرى النزعة الدينية أقل منها في الصورة السابقة والنزعة البشرية أكثر ظهوراً. فالعذراء أم إيطالية صغيرة السن مرحة ذات عواطف هادئة تضم طفلها السمين ويبدوعلى محياها الحب الممتزج بغريزة المِلكية والرعاية، وهويلتصق في وجل بجسمها، كأنه قد سمع بإحدى الأساطير التي تروي سيرة اغتال الأطفال البريئين، إذا صورة للعذراء تغفر له كثيراً من صور فرنارين.

والصور التي رسمها رفائيل للمسيح قليلة إذا قورنت بغيرها من الصور. ذلك حتى روحه المرحة كانت تأبى حتى تفكر في تصوير العذاب والألم، أولعله كان يدرك كما يدرك ليوناردواستحالة تصوير الموضوعات الإلهية. وكان من هذه الصور القليلة صورة المسيح يحمل الصليب التي رسمها في عام 1517 لدير سانتا ماريا دلوإسبازيوMaria dello Spasino في مدينة بالرم، والتي سميت من أجل ذلك لواسبازيمودي تشيتشيليا La Spasimo di Cicilia وأكبر الظن حتى بتي كان يساعده في رسمها. ويقول فاساري إنه كان لهذه الصورة تاريخ مليء بالمغامرات: فقد هبت عاصفة على السفينة التي كانت تحملها إلى صقلية فحطمتها؛ وطفت الصورة الموضوعة في قفص على سطح الماء ووصلت سالمة إلى جنوي، لأن "الرياح والأمواج الثائرة نفسها قد أكبرت وأجلت هذه الصورة الرائعة". كما يقول فاساري. ونقلت الصورة سفينة أخرى وأقيمت في بالرم حيث "أضحت أوسع شهرة من جبال فلكان"(86). وفي القرن السابع عشر أمر بها فليب الرابع ملك أسبانيا فنقلت سراً إلى مدريد. وليس المسيح في هذه الصورة إلاّ رجلاً مغلوباً منهوك القوى لا يلوح عليه أنه يحمل رسالة ارتضاها وقام بأدائها. لكن رفائيل وفق أكثر من هذا في الإيحاء بالألوهية في صورة أخرى هي صورة رؤيا حزقيال وإن كان يستعير آلهة الأجل في هذه الصورة من صورة خلق آدم لميكل أنجيلو.

ومن الصور التي رسمت في هذه الفترة أيضاً صورة القديسة تشيتشيليا التي لا تكاد تقل شهرة عن صورة عذراء سستيني. وكان سبب رسمها حتى سيدة من بولونيا أعربت في خريف عام 1513 أنها سمعت أصواتاً سماوية تأمرها بأن تقيم معبداً للقديسة تشيتشليا في كنيسة سان جيوفني دل منتي San Giovanni del Monte. وتعهد أحد أقاربها بأن يبني المعبد، وطلب إلى عمه الكردنال لورندسوبتشي Lorenzo Pucci حتى يطلب إلى رفائيل صورة قياسية للمذبح نظير ألف اسكودي Scudi مضىي. وأناب رفائيل عنه جيوفني دا أوديني في رسم الآلات الموسيقية، وأتم هوالصورة في عام 1516 وأوفدها إلى بولونيا مع رسالة رقيقة إلى فرانتشيا كما أشرنا إلى ذلك من قبل. ولا حاجة بنا إلى حتى نعتقد حتى فرانتشيا قد ذهل بجمال هذه الصورة ذهولاً أحس معه بما فيها من روعة، وشعر بأن ما ينبعث من نغمات من آلاتها الموسيقية يكادقد يكون نغمات سماوية، وأدرك جمال صورة القديس بولس في "حلم اليقظة"، والقديس يوحنا في نشوة لا تكاد تقل عن نشوة البنات، وتشيتشليا الجميلة، ومجدلين الأجمل منها - والتي خلع عليها هنا طهراً ساحراً- والأضواء الحية والظلال الملقاة على الأثواب وعلى قدمي مجدلين.

وفي هذه الفترة أيضاً رسمت صورة أخرى رائعة منها صورة بلدساري كستجليوني (متحف اللوفر) وهي إحدى الصور التي عمل فيها رفائيل بذمة وضمير حي، وهي قوة الإغراء، ولا تزيد عليها في قيمتها من صور رفائيل إلاّ صورة يوليوس الثاني. وفيها تقع عين الإنسان أولاً على غطاء الرأس الزًّغبي، ثم يستلفته بعدئذ ثوب الفراء، واللحية الكثة، فيخيل إليه حتى الجرل أحد شعراء المسلمين أوفلاسفتهم، أوحاخام إسرائيل صوّره رمبرانت Rembrandt؛ ويشاهد بعد ذلك العينين الرقيقتين، والفم، واليدين المقبوضتين، وكلها تكشف عن وزير إزبلا الثاكل ذي العقل الرحيم، والعاطفة الجائشة، وقد انتقل إلى بلاط ليو. وخليق بالإنسان حتى يطيل التأمل في هذه الصورة قبل حتى يقرأ كتاب "حامل الرسائل The Courier". وتظهر صورة ببينا Bibbiena الكردنال في آخر سني حياته وقد ملّ رؤية صور فينوس وارتضى المسيحية.

ولسنا نستطيع الجزم بأن صورة لادنا فيلاتا La donna Velata من خلق رفائيل، ولكنا نكاد نجزم بأنها هي التي يقول فاساري إنها صورة عشيقة رفائيل؛ فملامحها هي الملامح التي استعان بها على رسم صورة مجدلين وصورة تشيتشيليا نفسها في صورة القديسة تشيتشيليا التي تجاوز الكلام عليها، ولعلها أيضاً الملامح التي نشاهدها في عذراء سستيني - وهي هنا سمراء متحاشمة، يتدلى من رأسها قناع طويل، وحول جيدها عقد من الجواهر، وتلتف على جسمها أثواب فضفاضة تستهوي العين. وأكبر الظن حتى صورة لافرنرينا La Fornarina المحفوظة في المعرض البرغيزي Borghese هي أيضاً من خلق رفائيل، ولكنها لا تمثل عشيقته في وضوح كما كان يظن الخبراء الأقدمون. ومعنى حدثة فرترينا الخبازة أوزوجة الخباز أوابنته، ولكن هذا الاسم وأمثاله كحداد أونجار لا يعني حتماً حتى صاحبه ينتسب إلى هذه المهنة. وليست هذه السيدة فانتة ساحرة إلى حد كبير، ذلك حتى المرء لا يجد فيها النظرة المتواضعة التي تجعل من هذه الإيحاءات غير المتواضعة أكثر فتنةً وسحراً . ويبدوحتى من غير المعقول حتى تكون صورة السيدة ذات القناع المتواضعة هي صورة لنفس هذه السيدة التي توزع المتع السريعة في جرأة على طالبها؛ ولكنا لسنا بحاجة إلى البحث في هذا فقد كان لرفائيل أكثر من عشيقة.

بيد أنه كان أكثر وفاءاً لعشيقته مما ينتظره الإنسان من الفنانين الذين يتأثرون بالجمال أكثر مما يتأثرون بالعقل. وشاهد ذلك أنه لما حثه الكردنال ببينا على حتى يتزوج ماريا ببينا ابنة أخيه لم يقبل رفائيل إلحاحه إلاّ وهوكاره (1514) مع أنه كان مديناً للكردنال بأعمال درت عليه المال الكثير، ثم أخذ يتملص من إتمام الزواج شهراً بعد شهر وسنة بعد سنة، وتقول الرواية المأثورة إذا ماريا أثر فيها هذا الإراتى فماتت حزينة كسيرة القلب(87). ويشير فاساري إلى حتى رفائيل كان يرجئ هذا الزواج أملاً منه بأنه سيصبح كردنالاً؛ والزوج عقبة كبرى في سبيل هذا المنصب السامي؛ أما العشيقة فإنها من العقبات التي يمكن التغلب عليها. ويبدوحتى الفنان كان يجعل عشقته قريبة منه يسهل عليه الوصول إليها حينما كان يقوم بعمله. ولمّا حتى عثر تشيجي حتى المسافة بين قصره الريفي الذي كان رفائيل يصور فيه تاريخ سيكي ومسكن عشقته تضيع على الفنان كثيراً من وقته، اتى المصرفي بالسيدة وأسكنها في شقة من هذا القصر؛ ويقول فاساري إذا "ذلك هوالسبب في إتمام العمل"(88). ولسنا نعهد هل هذه هي السيدة التي انغمس معها رفائيل في "النادىرة الطليقة غير المألوفة" هي التي يعزوإليها فاساري سبب موته(89).

وكانت آخر صورة له إحدى تفسيراته السامية لسيرة الإنجيل. ذلك حتى الكردنال جويليوده ميدشتشي كلّف رفائيل وسبستيانودل بيمبوفي عام 1517 حتى ينقشوا ستار مذبح لكنيسة نربونة التي عينه فرانسيس الأول أسقفاً لها، وكان سبستيانويحس من زمن بعيد حتى موهبته الفنية لا تقل عن موهبة رفائيل إذا لم تسم عليها، وإن لم يكن مثله معترفاً له بهذه الموهبة. وهاهي ذي الفرصة قد لاحت له لإثبات موهبته. واختار لموضوعه "ارتفاع المجذوم الأبرص" واستعان بميكل انجيلوفي رسم الصورة الأولية. واستثارت المنافسة رفائيل فسما إلى فوزه النهائي، واختار لموضوعه رواية منى لحادث جبل تابور:

"وبعد ستة أيام أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا أخاه وصعد بهم إلى جبل عال منفردين وتغيرت هيئته قدامهم، وأضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور. وإذا موسى وإيليا قد ظهرا لهم يتحدثان معه.... ولمّا اتىوا إلى الجمع تقدم إليه رجل جاثياً له وقائلاً يا سيد ارحم ابني فإنه يصرع ويتألمن شديداً، ويقع كثيراً في النار وكثيراً في الماء، وأحضرته إلى تلاميذك فلم يقدروا حتى يشفوه(90)".

وأخذ رفائيل هذين المنظرين كليهما ووحدهما، وتعسف كثيراً في وحدة الزمان والمكان. فالمسيح يظهر فوق قلة الجبل يسبح في الهواء. وقد تبدل وجهه من فرط النشوة، وظهرت ثيابه بيضاء ناصعة لسقوط الضوء عليها من السماء. وعلى أحد جانبيه موسى وعلى الجانب الآخر إيليا، ومن تحتهم الرسل الأربعة المحببون يرقدون فوق هضبة. وعند سفح الجبل يظهر أب يائس يدفع إلى الأمام ابنه المسلوب العقل، وهجرع الأم هي وامرأة أخرى، وكلتاهما رائعة الجمال، إلى جان بالغلام وتطلبان إلى الرسل التسعة المجتمعين إلى اليسار علاجاً للغلام. ويفزع أحد أولئك الرسل وهومنكب على كتاب يقرؤه، ويشير رسول آخر إلى المسيح الذي بدلته النشوة، ويقول إنه هووحده الذي يستطيع حتى يعالج الغلام. وقد اعتاد النقاد حتى يثنوا على الجزء الأعلى من الصورة ويصفوا المجموعة السفلى منها بالخشونة والعنف؛ وهذه المجموعة هي التي رسمها جويليورمانو؛ ولكن الحقيقة حتى مقدمتها السفلى تحتوي صورتين من أجمل الصور هما صورة القارئ الفزع، والمرأة الرائعة ذات الكتف العارية والأكواب المتلألئة الساطعة.

وبدأ رفائيل العمل في صورة تجلّي المسيح عام 1517 ولكنه توفي قبل الفراغ منها. ولسنا نعهد ما في سيرة فاساري من الصدق لأنه خطها بعد ثلاثين عاماً من وقوع الحادث.وإلى القارئ هذه السيرة:

"لقد أطلق رفائيل العنان لملذاته الخفية إلى أقصى حد؛ وحدث بعد ليلة حمراء صاخبة أنه عاد إلى بيته وقد انتابته حمى شديدة، واعتقد الأطباء حتى قد أصابه برد شديد. ولم يعهد هوبسبب اضطرابه، فحجمه الأطباء خطأ منهم وقلة دراية ، وبذلك اضعفوا حسمه وهوفي أشد الحاجة إلى ما يعيد إليه قوته، فما كان منه إلاّ حتى خط وصيته، بعد حتى أخرج عشيقته من بيته، كما يعمل المسيحي الصادق، وهجر لها من المال ما تستطيع به حتى تعيش عيشة شريفة، ثم قسم ما عنده بين تلاميذه جويليورومانوالذي كان يؤثره بحبه على الدوام، وجيوفني فرانتشيسكوبني من أهل فلورنس، وقس من أربينو، وأحد أقاربه.... وبعد حتى اعترف وتاب وأناب اختتم حياته في مثل اليوم الذي ولد فيه يوم الجمعة الحزينة، ولمّا يتجاوز السابعة والثلاثين من عمره (6 أبريل سنة 1520)(91)".

ورفض القس الذي اتى ليتلقى اعترافه حتى يدخل حجرة المريض قبل حتى تخرج عشيقة رفائيل من بيته؛ ولعل سبب ذلك الرفض هوشعور القس بأن استمرار وجودها في البيت قد يوحي بأن رفائيل تعوزه الندامة التي لا بد منها قبل حتى تغفر له ذنوبه.ولهاذ منعت حتى من الاشتراك في تشييع الجنازة، فانتابها الحزن والكمد حتى كادت تصاب بالجنون لولا حتى أقنعها الكردنال ببينا بأن تترهب. وسار على جميع الفنانين في روما في جنازة الشاب الراحل حتى ووري الثرى، وحزن ليوعلى فقدان مصوره المحبوب؛ وأخرج أمين سر البابا وشاعره، وهوبمبوBembo الذي تنقصه البلاغة الممتازة في اللغتين اللاتينية والإيطالية، أخرج بمبوهذا جميع ما أوتي من فصاحة وخط قبرية لرفائيل في البنثيرون لم يزد فيها على حتى نطق:

llle Hec est Raphael

"إن الذي هنا هورفائيل"

وكفاه هذا. وبعد فقد كان رفائيل بإجماع معاصريه أعظم المصورين في عصره. نعم إنه لم يخرج شيئاً يضارع في سموه سقف سستيني، ولكن ميكل أنجيلولم يخرج قط شيئاً يضارع في جماله الكلي صور العذراء الخمسين التي أخرجها رفائيل.ولقد كان ميكل أنجيلوأعظم الفنانين لأنه كان عظيماً في ميادين ثلاثة، وكان أعمق من سائر الفنانين في تفكيره وفي فنه.ولمّا حتى نطق عن رفائيل: "إنه مثل لما تستطيع الدراسة العميقة حتى تثمره"(92) كان يعني في أكبر الظن حتى رفائيل قد نال بفضل المحاكاة جميع الصفات الممتازة التي يتصف بها كثيرون من المصورين، وإنه صاغها بفضل ما وهب من الجد والمثابرة حتى أصبحت طرازاً بلغ ذروة الكمال. على حتى ميكل أنجيلولم يشعر حتى رفائيل قد أوتي تلك القوة العاصفة المبدعة التي تطرح المحاكاة وتشق لنفسها طريقاً خاصاً بها، تجتازه بقوة تكاد تصل إلى حد العنف، وتصلبه إلى ما تريد. ويبدوحتى رفائيل قد بلغ من السعادة حداً يمنعه أ،قد يكون عبقرياً بالمعنى التقليدي لهذا اللفظ؛ وهوالمعنى الذي يجعل العبقرية تشرف على الجنون.ولقد تخلص رفائيل من صراعه الداخلي حتى لم تعد تظهر عليه إلاّ قلة من أعراض الروح أوالقوة الشيطانية التي تحرك أعظم النفوس، فتدفعها إلى الإبداع والمآسي؛ ولهذا كان عمل رفائيل ثمرة الحذق الكامل المصقول لا الشعور العميق أوالعقيدة.وقد كّيف نفسه لحاجات يوليوس وأهوائه في أول الأمر، ثم لحاجات ليووأهوائه من بعده، ومن بعدهما لتشيجي، ولأنه ظل على الدوام الشب الذي لا يعهد الختل والخداع، والذي يتقلب وهومغتبط بين صور العذارى والعشيقات؛ وكانت هذه هي وسيلته المرحة للتوفيق بين الوثنية والمسيحية.

وإذا فهمنا من لفظ الفنان معناه التطبيقي الآلي كان رفائيل أبرع الفنانين لا يعلوعليه واحد منهم. ذلك حتى أحداً لم يضارعه قط في ترتيب عناصر الصورة، ولا في انسجام أجزائها، أوالانسياب الهادئ لخطوطها. وكانت حياته كلها مكرسة لإتقان الشكل،ولهذا كان ينزع إلى البقاء على ظاهر الأمور، فنحن لا نراه يسبر غور ما في الحياة أوالعقيدة من أسرار خفية أومتناقضات. وكان دهاء ليو، وإحساس ميكل أنجيلوبمآسي الحياة عديمي المعنى بالنسبة له، وكان حسبه بهجة الحياة ومتعتها، وخلق الجمال وتملكه، ووفاء الصديق والحبيب. وكان رسكن Ruskin صادقاً حين نطق إنه كانت تظهر من حين إلى حين في النحت القوطي، وفي التصوير بإيطاليا وفلاندرز "قبل عصر رفائيل" بساطة، وإخلاص وسموفي الإيمان والأمل، يتعمقان النفس أكثر مما تتعمقها صور العذراء وفينوس الجميلة التي أبدعها رفائيل. ومع هذا فإن صورتي يوليوس الثاني وعذراء اللؤلؤة لا يمكن وصفهما بأنهما من الصور السطحية غير ذات العمق الكبير. ذلك أنهما تصلان إلى لب مطامع الذكور وحنان الأثاث، فصورة يوليوس أعظم وأعمق من صورة موناليزا.

وليوناردويبعث في نفوسنا الحيرة، وميكل أنجيلويبعث فيها الخوف، أما رفائيل فيبسط علينا السلام، وهولا يلقى أسئلة، ولا يثير شكوكاً، ولا يستثير مخاوف، بل يعرض علينا جمال الحياة كأنه شراب الآلهة. وهولا يقر بوجود صراع بين العقل والشعور، أوبين الجسم والروح؛ بل جميع شيء فيه توافق وتناسق بين الأضداد، تتألف منه موسيقى فيثاغورية. وفنه يسموبكل ما يمسه فيجعل منه مثلاً أعلى، أوحتى حرباً؛ وإذ كان هوسعيداً محظوظاً فقد كان يشع على جميع ما حوله جميع ما أوتي من نعمة وصفاء نفس. ومكانه في سلم العبقريات التعسفي بل أعظم عظماء العباقرة مباشرة، ولكنه في زمرتهم: دانتي، وجيته،وكيتس؛ وبيتهوفن، وباخ، وموزار؛ وميكل أنجيلو، وليوناردو، ورفائيل.


ليوالسياسي

وكان من دواعي الأسف حتى ليواضطر وهوبين جميع هذا الفن والأدب حتى يخوض بحر السياسة الخضم. ولكن عذره في هذا أنه رئيس دولة، وأنه يعيش، وأنه الدول التي وراء الألب كان على رأسها جميعاً زعماء ذوومطامع، ولها جيوش جرارة، وقواد أشداء؛ ولم يكن يستبعد حتى يتفق لويس الثاني عشر ملك فرنسا، وفرديناند الكاثوليكي، في أي وقت من الأوقات على اقتسام إيطاليا كما اتفقا من قبل على اقتسام مملكة نابلي. وأراد ليوحتى يقابل هذا التهديد، وأن يقوى في الوقت ذاته البابوية ويعلّي شأن أسرته، فعمل على حتى يضم فلورنس (التي كان يحكمها وقتئذ على يد جوليانوأخيه ولورندسوابن أخيه) وميلان، وبياتشندسا، وبارما، ومودينا، وفيرارا، وأربينوفي اتحاد قوي حديث يحكمه أفراد من آل ميدشيتشي الموالين له؛ وأن يجمع هذه الولايات وبين ولايات الكنيسة الموجودةوقتئذ، لتكون حاجزاً يصد المغيرين من الشمال، وأن يحصل بزواج أحد أعضاء أسرته إذا استطاع على عرش نابلي بعد خلوه من شاغله؛ فإذا تم له بهذه الكيفية توحيد إيطاليا وتقويتها، أمكنه أ، يقود لأوربا في حرب صليبية أخرى ضد الأتراك الذين لا يفتئون يهددونها بالغزو. ورحّب مكيفلي، وهوالرجل الذي لم يكن يميل إلى المسيحية ولا إلى البابوات، بهذه الخطة، أوأنه في القليل رحب بما يتصل منها بتوحيد إيطاليا وحمايتها، وكانت هذه هي الفكرة الأساسية في كتاب الأمير.

وسعى ليولتحقيق هذه الأغراض بما كان تحت تصرفه من الموارد العسكرية المحدودة، فلجأ إلى جميع الأساليب السياسية والدبلوماسية التي كان يلجأ إليها أمراء زمانه. نعم إنه لم يكن من اليسير على رئيس الكنيسة حتى يكذب، ويحنث بالوعد، ويسرق ويقتل؛ ولكن الملوك كلهم كانوا مجمعين على حتى هذه الأساليب لا غنى عنها لحفظ كيان الدولة؛ واندفع ليو، وهوالميديتشي أولاً والبابا بعدئذ، في هذ الخطة بالقدر الذي تسمح له به بدانته، وناسوره، وصيده، وسخاؤه وأمواله. وندد به جميع الملوك لأنه لم يسلك مسلك القديسين، ونطق في ذلك جوتشيارديني: "إن ليوقد خيب الآمال المعقودة عليه وقت تتويجه، فقد بدا أنه ذوبصيرة نفاذة، ولكنه أقل صلاحاً مما كان يتصوره جميع الناس(93). وظل أعداؤه وقتاً طويلاً يظنون حتى دهاءه المكيفلي إنما يرجع إلى نفوذ جويليوابن عمه (الذي أصبح فيما بعد حدثنت السابع) أوإلى الكردنال ببينا، لكن تطور الحوادث فيما بعد أوضح أنهم لا بد لهم حتى يحسبوا حساب ليونفسه، وأن ليوهذا ليس أسداً بل ثعلباً، وأنه لين زلق، ماكر لا يسبر غوره، نهاز زائغ، يخاف في بعض الأحيان ويتردد في أغلبها؛ ولكنه إذا جد الجد قادر على اتخاذ القرار الحاسم، ماض في عزيمته، عنيد في خططه السياسية.

وسنرجئ الحديث عن علاقاته بالدول الواقعة شمال جبال الألب إلى فصل آخر من هذا الكتاب، ونقصر بحثنا هنا على الشئون الإيطالية، فنتحدث عنها بإيجاز لأن فنون عهد ليوأبقى على الزمن من سياسته. لقد كان يمتاز كثيراً عن أسلافه، لأن فلورنس التي قاومت من قبل الإسكندر ويوليوس كانت وقتئذ جزءاً من دولته، ولأنه أفاء على أهلها كثيراً من نعمه. ولمّا حتى زار المدينة التي حكمها أسلافه أقامت له أكثر من عشر أقواس فنية ترحيباً به. ومن هذه القاعدة ومن روما نفسها استخدم رجاله الدبلوماسيين ومن يدينون له بالفضل، كما استخدم جنوده، في توسيع رقعة دولته؛ فاستولى أولاً على مودينا في عام 1514، ولمّا حتى تأهب فرانسس الأول في عام 1515 لغزوإيطاليا والاستيلاء على ميلان، حشد ليولمقاومته جيشاً وعقد حلفاً إيطالياً، وأمر دوق أربينو، بوصفه تابعاً للكرسي البابوي وقائداً في خدمة الكنيسة، حتى ينضم إليه في بولونيا على رأس أكبر قوة يستطيع حشدها. ولكن الدوق رفض المجيء رفضاً صريحاً، وإن كان ليوقد حباه من وقت قصير بما يلزمه من المال لأداء رواتب جنوده. وظن البابا، وله بعض الحق في حتى يظن، أنه قد تفاهم في السر مع فرنسا(94)؛ فلم يكد يتخلص من مشاكله الخارجية، حتى استدعى فرانتشيسكوإلى روما؛ فلم يسع الدوق إلاّ حتى يفر إلى مانتوا. فحرمه ليومن حظيرة الدين وأصم أذنيه عن سماع تضرع إلزبتا جندساجا وإزبلا دستا وتوسلاتهما، وكانت أولاهما عمة الأمير الطائش وثانيتهما أم زوجته. واستولت جنود البابا على أربينودون حتى تلقى مقاومة، وأعرب خلع فرانتشيسكو، كما نودي بلورندسوابن أخي ليودوقاً على أربينو(1516). لكن أهل المدينة ثاروا بعد عام من ذلك الوقت وطردوا لورندسو، وحشد فرانتشيسكوجيشاً استعاد به دوقيته؛ ولاقى ليوأشد الصعاب في جمع المال والجنود لاستعادتها لنفسه؛ ونجح في لذك بعد حرب دامت ثمانية أشهر، ولكن نفقات الحرب أفقرت خزانة البابوية، واحفظت قلوب الإيطاليات على ليووأسرته الطامعة المغتصبة.

وانتهز فرانسس الأول هذه الفرصة لكسب صداقة البابا، وعرض حتى يتزوج لورندسودوق أربينوالذي عاد إلى عرشه نم مادلين ده لافور دوفرني Madeleine de La Four d'Auvergne الت كان له ولج كبير لا يقل عن عشرة آلاف كرون (125.000،يا ترى؟ دولار) في العام. ووافق ليوعلى هذا العرض، وسافر لورندسوإلى فرنسا (1518)، كأنه صدى صوت بورجيا، وعاد بمدلين وبائنتها. وماتت مادلين بعد عام من ذلك الوقت أثناء وضعها بنتاً هي كترينا Caterina التي صارت فيما بعد كاترين ده مدتشي ملكة فرنسا؛ ثم توفي لورندسوبعد ذلك بقليل، وينطق إذا سبب موته سقم سري أصيب به وهوفي فرنسا(95). وحينئذ أعرب ليوحتى أربينوولاية بابوية وأوفد مندوباً من قبله ليحكمها.

وكان لابد له أثناء هذه الارتباكات حتى يعاني الأمرين من مسألتين تقضان مضجعه وتشهدان بضعفه السياسي وكره الشعب إياه كرهاً مطرد النماء. أما أولاهما فهي أ، قائداً من قواده هوجيان باولوبجليوني حاكم بروجيا برضاء البابا كان قد انضم هووبروجيا نفسها إلى فرانتشيسكوماريا؛ فما كان من ليوإلاّ حتى خدع جيان بالوفأغراه بالمجيء إلى روما بعد أ، أمنه على نفسه في المجيء والعودة، فلمّا اتى أمر به فقتل (1520). وكان بجليوني هذا قد اشهجر في مؤامرة تهدف إلى اغتيال البابا يتزعمها ألفنسوبتروتشي وغيره من الكرادلة (1517). وكان أولئك الكرادلة قد أثقلوا على كرمه بمطالب لا يستطيع مع سخائه العظيم حتى يجيبهم إليها؛ كما أ، بروتشي كان فوق ذلك غاضباً مغتاظاً لأن أخاه أبعد عن حكم سينا، ولأن البابا قد غض النظر عن هذا العمل فلم يتدخل لمصلحته. ولهذا فكر أولاً في اغتال ليوبيده، ولكنه أشير عليه بدلاً من هذا حتى يرشوطبيب ليوليدس السم للبابا وهويعالجه من ناسوره. وكشفت المؤامرة، وقتل الطبيب وبتروتشي، وسجن عدد من الكرادلة الذين اشهجروا فيها، وعزلوا من مناصبهم، ثم أطلق سراح بعضهم بعد حتى أدوا غرامات باهظة.

وكانت حاجة ليوإلى إيطاليا تنغص عليه وقتئذ حكمه الذي كان من قبل موفقاً سعيداً. ذلك حتى عطاياه للأقارب والأصدقاء، والفنانين، والكتاب، والموسيقيين، ونفقات بلاطه الذي لم يكن له من قبل مثيل، ومطالب كنيسة القديس بطرس الجديدة التي لا حد لها، ونفقات حب أربينووالاستعداد إلى حرب صليبية، جميع هذا كان يقود خزينة البابا إلى هاوية الإفلاس. ولم يكن إيراده العادي البالغ 420.000 دوقة (2.250.000 دولار) في العام والذي يستمده من الأجور، والمرتب الأول لموظفي الكنيسة، والعشور، لم يكن هذا الإيراد العادي يكفي هذه النفقات. على حتى هذا الإيراد نفسه كان يصعب دائماً تحصيله من أوربا التي لم تكن راضية عن انسياب هذه الأموال الكنسية إلى روما. وأراد ليوحتى يملأ خزانته بالمال فأنشأ في عام 1353 مناصب جديدة يبيعها لطالبيها وبلغ مجموع المال الذي جمع ممن عينوا في هذه المناصب 889.000 دوقة (11.112.500،يا ترى؟ دولار). على أننا يجب ألاّ نغالي في استنكار هذا العمل؛ ذلك حتى معظم هذه المناصب لا يؤدي من يشغلها عملاً، وإن تطلبت شيئاً قليلاً منه فقد كان من المستطاع حتى يعهد به إلى من ينوبون عن أصحابها؛ وكانت الأموال التي يقدمها شاغلوها في واقع الأمر قروضاً للبابوية، وكان متوسط راتبها البالغ عشرة في المائة جميع عام من المال الأصلي المدفوع عنها بمثابة فائدة لهذه القروض. فكان ليوفي الحقيقة يبيع ما نسميه في أيامنا هذه سندات حكومية(96)، وكان من حقه بلا ريب حتى يقول إنه يؤدي عنها فوائد أكثر مما تؤديه أية حكومة 'ن أوراقها المالية في هذه الأيام. على أنه لم يبع هذه المناصب الاسمية وحدها، بل باع أيضاً أعلى المناصب الكنسية كوظيفة رئيس التشريفات البابوية(97). وفي شهر يولية من عام 1517 رشح واحداً وثلاثين كردنالاً جديداً، كثيرون منهم ذووكفايات عظيمة، ولكن الكثرة الغالبة منهم قد اختير أفرادها لقدرتهم على أداء ثمن ما يستمتعون به فيها من الجاه والسلطان. ولنضرب لذلك مثلاً الكردنال بندستي - الطبيب، والعالم، والمؤلف - الذي أدى ثمناً لمنصبه 30.000 دوقة. وبلغ مجموع ولج ليوفي هذه المرة بجرّة قلم نصف مليون دوقة(98). وروعت لذل ك إيطاليا نفسها وهي التي فسدت عقليتها في هذه الناحية فلم تعد تفرق بين ما خير منها وما هوشر؛ وكانت سيرة هذا العمل بعد حتى وصلت إلى ألمانيا مما زاد من حدة غضب لوثر وثورته. (أكتوبر 1517). وكان من جراء هذا أنه لما فتح السلطان سليم بلاد مصر في تلك السنة الحاسمة في التاريخ وضمها إلى أملاك الأتراك العثمانيين، ونادى البابا بحرب صليبية، لم يلب أحد نداءه. ودفع البابا تهوره الأعمى إلى حتى يبعث بعماله في جميع أنحاء اللابد المسيحية يعرضون صكوك غفران واسعة المدى إلى درجة غير عادية على من يتوبون، ويعترفون، ويتبرعون بنفقات الحرب الصليبية.

وكان في بعض الأحيان يقترض المال من مصارف روما بفائدة تبلغ أربعين في المائة. وكان أصحاب هذه المصارف يتقاضون منه هذا الثمن المرتفع لأن إهماله في إدارة الشئون المالية البابوية لابد حتى يؤدي في رأيهم إلى الإفلاس. ورهن البابا ضماناً لبعض هذه القروض صحافه الفضية، وطنافس جردان قصره، وجواهر. وقلّما كان يفكر في مراعاة الاقتصاد في الإنفاق، فإذا ما اقتصد كان ذلك بالشح على مجمعه الفهمي اليوناني، وجامعة روما، فلم يكد يحل عام 1517 حتى أغلق المجمع لحاجته إلى المال. ومع هذا فقد واصل البابا خيراته بلا حساب، فكان يرسل الأموال الطائلة إلى الأديرة، والمستشفيات، والمعاهد الخيرية في جميع أنحاء العالم المسيحي، ويغدق المال وألقاب الشرف على آل ميديتشي، ويولم الولائم الفخمة إلى أضيافه يقدم لهم فيها الأطعمة الشهية النادرة على حين أنه هونفسه كان يراعي جانب الاعتدال في طعامه وشرابه(99). وقد بلغ مجموع ما أنفقه خلال جلوسه على كرسي البابوية 4.500.000 دوقة (56.250.000،يا ترى؟ دولار)، ومات وعليه فوق ذلك دين يبلغ 400.000 دوقة. وقد هجاه أهل روما بقصيدة تفصح عن رأيهم فيه فنطقوا: "لقد التهم ليوثلاث بابويات: أموال يوليوس الثاني، وإيراد ليو، ودخل من خلفه من البابوات(100)". ولما توفي عانت روما أزمة من شر ما وقع في التاريخ كله من أزمات.

وكانت آخر سنة في حياته سنة اشتعلت فيها نار الحرب. ذلك أنه قد بدا له، بعد حتى استرد أربينووبروجيا، حتى لابد له من السيطرة على فيرارا ونهر البولضمان سلامة الولايات البابوية، وتمكينها من صد فرنسا عند ميلان. وكان الدوق ألفنسوقد خلق هونفسه سبب الحرب بإرساله الجنود والسلاح إلى فرانتشيسكوماريا ليستخدمها ضد البابا، وحارب ألفنسوبشجاعته المألوفة مع أنه كان مريضاً منهوك القوى بعد حتى ظل جيلاً كاملاً يناصب البابا العداء حتى أنجاه موت ليومن سوء المصير.

وانتاب السقم البابا أيضاً في أغسطس عام 1521؛ وكان بعض سببه الآلام الناشئة من ناسوره، وبعضه الآخر متاعب الحرب وما تسببه من قلق واضطراب بال. وشفي من سقمه، ولكنه عاوده في شهر أكتوبر من ذلك العام نفسه. واسترد صحته في نوفمبر بالقدر الذي أمكن معه نقله إلى قصره الريفي في مجليانا؛ وفيه ترامت إليه الأنباء حتى الجيش البابوي - الإمبراطوري قد استولى على ميلان من الفرنسيين. وعاد في الخامس والعشرين من ذلك الشهر إلى روما واستقبل فيها ذلك الاستقبال الرائع الصاخب الذي لا يستقبل به إلاّ الغزاة الفاتحون. وأجهد نفسه في السير على قدميه في ذلك اليوم، وتصبب عرقه حتى ابتلت منه ملابسه، فلمّا كان صباح اليوم التالي لزم الفراش مصاباً بالحمى، وسرعان ما زادت حالته سوءاً وأدرك حتى منيته قد اقتربت. وفي أول يوم من ديسمبر جائته الأنباء بأن الجيوش البابوية استولت على بياتشندسا وبارما عملا وجهه البشر؛ وكان قد أعرب في يوم من الأيام أنه يسره حتى يضحي بحياته ثمناً لضم هذين المدينتين إلى ولايات الكنيسة. ومات في منتصف ليلة 1-2 من ديسمبر سنة 1521 قبل حتى يتم السنة الخامسة والأربعين من العمر بعشرة أيام. ونقل كثيرون من الخدم، وبعض أفراد آل ميدتشي من الفاتيكان جميع ما يستطيعون الاستيلاء عليه من الكنوز. وظن جيوتشيارديني، وجيوفيو، وكستجليوني أنه توفي مسموماً؛ وأن ذلك من الممكن كان بتحريض ألفنسوأوفرانتشيسكوماريا، ولكن يلوح أنه توفي بحمى الملاريا كما توفي بها الإسكندر السادس(101).

وابتهج ألفنسوحين بلغه النبأ، وضرب مدلاة جديدة خط عليها "من أنياب الأسد". وعاد فرانتشيسكوماريا إلى أربينووجلس مرة أخرى على عرشه. واستولى رجال المال على ما استطاعوا الاستيلاء عليه. وكان مصرف بيتي قد أقرض ليو200.000 دوقة، ومصرف جدي Gaddi قد أقرضه 32.000، ومصرف ريكاسولي Ricasoli 10.000؛ وفوق هذا فإن الكردنال بتشي أقرضه 150.000 والكردنال سلفياتي 80.000(102) وكان من حق البابوات حتى يستولوا قبل غيرهم على جميع ما أنقذ من أملاك البابا؛ ولكن ليوتوفي وهوشر من المفلس.واشهجر غير هؤلاء في التشنيع على البابا واتهامه بسوء الإدارة المالية، ولكن روما كلها تقريباً حزنت عليه، وكانت تعده أكرم من رأته من المحسنين في تاريخها كله. وأدرك الفنانون، والشعراء، والفهماء، حتى يوم سعدهم قد مضى، وإن لمقد يكونوا قد فكروا بعد في مدى خسارتهم، وفي ذلك يقول باولوجيوفيو: "إن المعارف، والفن، ورفاهية الشعب بأكمله، ومباهج الحياة، - وملاك القول إذا جميع ما خير - قد ووري التراب مع ليو"(103).

وبعد فقد كان ليورجلاً صالحاً قضت عليه فضائله. وقد أثنى إزرمس على رحمته وإنسانيته، وشهامته، وفهمه الغزير، ومناصرته الفنون، ووصف عهد ليوبأنه عهد المضى(104). ولكن ليوكان قد اعتاد التصرف في المضى حتى فقد عنده قيمته. فقد نشأ في القصور، فتفهم الترف كما تفهم الفن، ولم يشتغل قط ليكس بالمال، وإن كان قد قابل الأخطار بجنان ثابت، ولمّا وضعت موارد البابوية تحت إشرافه انزلقت من بين أصابعه لقلة عنايته بشأنها، بينما كان ينعم بالسعادة التي ينعم بها من يتلقاها أويعد العدة لحرب لا تبقي ولا تذر.وسار ليوعلى الخطة التي سلكها الإسكندر ويوليوس، وورث ما قاما به من جلائل الأعمال؛ وحمل الولايات البابوية إلى درجة من القوة لم تشهدها من قبل، ولكنه خسر ألمانيا بتبذيره وتشدده في جمع المال. وكان في وسعه حتى يشاهد جمال وعاء من أوعية الزهر، ولكنه لا يستطيع رؤية الإصلاح الديني البروتستنتي يتشكل وراء الألب، وأصم أذنه عن سماع مئات النذر التي كانت ترسل إليه، بل ظل يطلب المزيد من المضى من أمة ثائرة عليه، فكان بذلك سبب مجد الكنيسة ونكبتها معاً.

وكان أكرم أنصار الفهم والأدب، ولكنه لم يكن أكثرهم استنارة، ولم يزدهر قط أدب عظيم في أيامه رغم سخائه على الأدباء. فقد كان أريستوومكيفلي فوق مداركه وإن كان في وسعه حتى يقدر بمبوBembo وبولتيان. ولم يكن تذوقه للفن سامياً أكيداً كما كان تذوق يوليوس له؛ ولم يكن هوالذي ندين له بكنيسة القديس بطرس أوبمدرسة أثينة. وكان مسرفاً في حبه جمال الشكل مقلاً في إدراك المعاني التي يكشف عنها الفن العظيم الذي يغشى الشكل الجميل. وقد أنهك رفائيل بكثرة العمل، وكان سبباً في انهيار صحة ليوناردو، ولم يستطع كما استطاع يوليوس، حتى يجد سبيله إلى عبقرية ميكل انجيلوبعد حتى يجتاز إليها مزاج هذا الفنان الحاد. وكان مفرطاً في حب النعيم إفراطاً يحول بينه وبين العظمة. ويؤسفنا حتىقد يكون هذا هوحكمنا عليه لأنه كان خليقاً بحبنا.

وسُمي العصر الذي كان يعيش فيه باسمه، ولعله كان خليقاً بأن يسمى به؛ ذلك بأنه وإن طبع بطابع العصر ولم يطبع العصر نفسه بطابعه، كان هوالذي اتى من فلورنس إلى روما بما خلفه آل ميديتشي من الثروة وحسن الذوق، وما شاهده في بيت أبيه من مناصرة للفهم والأدب والفن خليقة بالملوك والمراء؛ وبفضل هذه الثروة والرعاية البابوية عثر الحافز القوي الذي حمل الدب والفن إلى ما بلغاه من جمال الأسلوب والشكل. وكان هومثلاً احتذاه غيره من الرجال، فأخذوا يبحثون عن المواهب ويمدونها بالعون، ويضربون بدورهم لأوربا الشمالية مثلاً في تقدير القيم العالية ومستوى رفيعاً تجعله نصب عينيها. وقد عمل أكثر مما عمله غيره من البابوات لحماية بقايا الآداب الرومانية القديمة، وشجع الكتاب على محاكاتها.وقد ارتضى متع الحياة الوثنية، ولكنه بقي في مسلكه الخاص عفيفاً في عصر أطلق لشهواته العنان. وساعد بفضل تأييده للكتاب الإنسانيين في روما على غرس بذور الآداب والأشكال القديمة في فرنسا، وأصبحت روما برعايته قلب الثقافة الأوربية النابض، يهرع إليها الفنانون ليصوروا، أويحفروا، أويشيدوا؛ والفهماء ليدرسوا؛ والشعراء لينشدوا؛ والفكهون ليتلألأوا؛ وفي ذلك يقول إزرمس: "عليّ قبل حتى أنساك يا روما حتى أغرق في نهر النسيان ألا ما أعظم ما فيك من حرية ثمينة، وما حوته خزائنك من خط قيمة، وما أغزر ما في صدور فهمائك من معارف، وما فيك من صلات اجتماعية نافعة! وهل يستطيع الإنسان حتى يجد في غيرك من المدائن مثل ما يجده فيك من مجتمع أدبي راق، أوتعدد في المواهب مجتمعة كلها في مكان واحد؟"(105). وأنى يستطيع الإنسان حتى يجد مرة أخرى وفي مدينة واحدة وفي عقد من السنين،مثل هذا الحشد العظيم من الأعلام: كستجليوني الظريف، وبمبوالمهذب، ولسكارس العالم، والراهب جيوكندو، ورفائيل؛ وآل سانسوفيتي، وسنجلي، وسبستيانووميكل أنجلو.


رده على الاصلاح البروتستانتي

كان رد عمل ليوالعاشر على الإصلاح البروتستانتي أول الأمر دهشة متألمة. ولا عجب، فبابوات فترة الإصلاح البروتستنتي، من الممكن باستثناء واحد، كانوا رجالاً طيبين، على قدر ما يتاح لرجال دولة حتىقد يكونوا، لا مجردين من حب الذات أوخالين من الخطايا، بل في جوهرهم مهذبين رحماء أذكياء، مقتنعين في إخلاص بأن الكنيسة مؤسسة ليست رائعة في إنجازاتها فحسب، ولكنها ما زالت ضرورة لا غنى عنها لصحة الإنسان الأوربي الخليقة وسلامه النفسي. وإذا سلمنا بأن خدام الكنيسة البشريين قد سقطوا في رذائل خطيرة، أفلا نجد عيوباً كهذه أوشراً منها في جميع إدارة فهمانية،يا ترى؟ وإذا كنا نحجم عن الإطاحة بالحكومة المدنية عقاباً لها على جشع أمرائها واختلاسات موظفيها، فهلقد يكون إحجامنا أقل من هدم كنيسة ظلت ألف سنة الأم التي غذت الحضارة الأوربية بالدين والتعليم والأدب والفلسفة والفن؟. وأي ضير في حتى تبدوبعض العقائد التي رؤى عنها معوان على النهوض بالفضيلة والنظام عسيرة الهضم على المؤرخ أوالفيلسوف- وهل التعاليم التي يقترحها البروتستنت أكثر منطقاً أوأسهل تصديقاً إلى الحد الذي يبرر حتى تقلب أوربا رأساً على عقب بسبب هذا الخلاف؟. إذا التعاليم الدينية على أية حال لا يحددها منطق القلة بل حاجات الكثرة، إنها إطار للعقيدة يمكن في نطاقه تنشئة الإنسان العادي الميال بطبيعته إلى ارتكاب عشرات الأفعال غير الاجتماعية، ليكون مخلوقاً يملك من الدربة وضبط النفس ما يكفي لجعل المجتمع والحضارة أمراً ممكناً. ولوحتى هذا الإطار حطم، لكان لزاماً بناء إطار آخر، من الممكن بعد قرون من الفوضى الخلقية والمادية. أليس نادىة الإصلاح البروتستنتي متفقين مع الكنيسة على أه لا جدوى من الدستور الخلقي ما لم يعززه الإيمان الديني،يا ترى؟ أما الطبقات المفكرة فهل تراها حققت أي مزيد من الحرية أوالسعادة تحت إمرة الأمراء البروتستنت عنها تحت إمرة البابوات الكاثوليك ،يا ترى؟ ألم يزدهر الفن تحت زعامة الكنيسة، وألا يذوي تحت خصومة المصلحين البروتستنت الذين أرادوا حتى ينتزعوا من الناس تلك العصور التي تغذي ما في حياتهم من شعر وأمل،يا ترى؟ وأي مبررات قاهرة تدعوفي رأي العقول الناضجة إلى تفتيت العالم المسيحي إلى مذاهب لا تحصى، متنابذة، مبطل بعضها للبعض، عاجزة بمفردها أمام غرائز البشر؟.

البابا ليوالعاشر يمتطي الفيل هانو

إننا لا نستطيع حتى نعهد هل كانت هذه مشاعر البابوات المعاصرين لحركة الإصلاح البروتستنتي، لأن القادة النشطين قلّما يذيعون على الناس فلسفاتهم. ولكن لنا حتى نتصور الموقف النفسي للبابا ليوالعاشر (1513-21) على هذا النحو، إذ عثر البابوية تهتز تحت قدميه بمجرد حتى دعي للاستمتاع بها. كان رجلاً يشبه الكثيرين منا-مذنب بالخطيئة وبالإهمال الإجرامي، ولكنه في جملته جدير بالصفح عنه. كان عادة ألطف الناس وأكثرهم عطفاً، عليه رزق نصف شعراء روما، ومع ذلك فقد لاحق مهرطقي بريشة حتى الموت، وحاول حتى يؤمن بأن الأفكار الممزقة للكنيسة يمكن حتى تنتزع من البشر بحرق أصحابها. وقد أظهر من الحلم مع لوثر قصارى ما ننتظر من بابا ومن عضوفي أسرة مديتشثي، ولنتصور حتى الوضع انعكس، وكيف كان البابا مارتن يمحق المتمرد ليومحقاً! لقد حسب ليوحركة الإصلاح البروتستنتي نزاعاً غير مهذب بين رهبان أجلاف. ومع ذلك ففي بواكير عام 1517، وفي بدايته رياسته البابوية، ألقى جيانفرانشسكوپيكودلا ميراندولا (ابن أخي پيكوالأشهر منه) أمام البابا والكرادلة خطاباً يسترعي الاهتمام "يرسم فيه بأحلك الألوان ذلك الفساد الذي تسلل إلى الكنيسة" ويتنبأ بأنه "لوحتى ليو... أبى إبراء الجراح، فإنه يخشى حتى الله نفسه لن يستعمل بعد اليوم علاجاً بطيئاً، بل سيبتر ويبيد الأعضاء المريضة بالنار والسيف"=. ولكن ليوانصرف على الرغم من هذا الإنذار إلى الاحتفاظ بتوازن للقوى بين فرنسا والإمبراطورية حماية للولايات البابوية. يقول مؤرخ كاثوليكي: "لم يفكر قط في إصلاح على النطاق الواسع الذي أصبح ضرورياً... وظلت الإدارة البابوية في روما دنيوية شأنها في أي وقت مضى(2)".


انظر أيضاً

  • جمهورية فلورنسا
  • الإصلاح الپروتستانتي
  • مارتن لوثر
  • بيت مديتشي
  • الحروب الإيطالية
  • پورتريه ليوالعاشر
  • قائمة البابوات النشطين جنسياً
  • قائمة البابوات من آل مديتشي

الهامش

  1. ^ Vaughn, p. 5

المصادر

  • ول ديورانت. سيرة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود. Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)
  • Luther Martin. Luther's Correspondence and Other Contemporary Letters, 2 vols., tr.and ed. by Preserved Smith, Charles Michael Jacobs, The Lutheran Publication Society, Philadelphia, Pa. 1913, 1918. vol.I (1507-1521) and vol.2 (1521-1530) from Google Books. Reprint of Vol.1, Wipf & Stock Publishers (March 2006). ISBN 1-59752-601-0
  • Ludwig von Pastor, History of the Popes from the Close of the Middle Ages; Drawn from the Secret Archives of the Vatican and other original sources, 40 vols. St. Louis, B.Herder 1898
  • Vaughan, Herbert M. The Medici Popes. New York: G.P. Putnam’s Sons, 1908.
  • Zophy, Jonathan W. A Short History of Renaissance and Reformation Europe Dances over Fire and Water. 1996. 3rd ed. Upper Saddle River, New Jersey: Prentice Hall, 2003.

وصلات خارجية

اقرأ اقتباسات ذات علاقة بليوالعاشر، في فهم الاقتباس.
Wikisource has original works written by or about:
ليوالعاشر
  • : Pope Leo X
  • Vita de Leonis X life in Latin by Paulus Jovius
  • Henry VIII to Pope Leo X. May 21, 1521
  • Leo X to Frederic, Elector of Saxony. Rome, July 8, 1520
  • Paradoxplace Medici Popes' Page
  • forgery
  • Works by or about ليوالعاشر in libraries (WorldCat catalog)
ليوالعاشر
عائلة ميدتشي
وُلِد: 11 ديسمبر 1475 توفي: 1 ديسمبر 1521
ألقاب الكنيسة الكاثوليكية
سبقه
يوليوس الثاني
البابا
1513 - 1521
تبعه
أدريان السادس
تاريخ النشر: 2020-06-04 14:43:39
التصنيفات: صفحات تستعمل قالبا ببيانات مكررة, Pages using deprecated image syntax, Pages with citations using unsupported parameters, Persondata templates without short description parameter, Cardinal-nephews, بابوات, بابوات إيطاليون, مناهضة البروتوستنتية, مارتين لوثر, أشخاص من فلورنسا, عائلة ميدتشي, مواليد 1475, وفيات 1521, إيطاليون من القرن 15, إيطاليون من القرن 16, بابوية النهضة

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

أولى رحلات "طريق مكة" تصل المدينة قادمة من إندونيسيا السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-05-12 18:24:03
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 59%

التوقيت والقنوات الناقلة لمباراة نهضة بركان والزمالك المصري

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-12 18:25:54
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 62%

بطولة إسبانيا.. ريال مدريد يحتفل باللقب الـ36 ويتطلع إلى المستقبل

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-12 18:26:07
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 65%

أردوغان: نتنياهو بلغ مستوى يثير غيرة هتلر

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-12 18:25:36
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 70%

أردوغان: نتنياهو بلغ مستوى يثير غيرة هتلر

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-12 18:25:42
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 54%

إلياس المالكي يسلم نفسه ويمثل أمام النيابة العامة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-12 18:26:33
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 57%

التوقيت والقنوات الناقلة لمباراة نهضة بركان والزمالك المصري

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-12 18:26:00
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 57%

بطولة إسبانيا.. ريال مدريد يحتفل باللقب الـ36 ويتطلع إلى المستقبل

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-12 18:26:01
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 60%

وفاة خمسة تلاميذ غرقا بأحد شواطئ الجزائر

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-12 18:24:58
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 53%

إلياس المالكي يسلم نفسه ويمثل أمام النيابة العامة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-12 18:26:36
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 64%

تحميل تطبيق المنصة العربية