المحاكم القنصلية الأجنبية في مصر

عودة للموسوعة

المحاكم القنصلية الأجنبية في مصر

عندما بدأ النظام الإقطاعى في أوروبا يتهاوى ، ونشطت حركة الإنتنطق والإبحار والتجارة ، عثر التجار من مدينة إلى مدينة ، إختلافا في العادات بين الناس ، وتباينا في الأعراف المحلية ، وتغايرا في طرائق الحماية ؛ كما شقّ عليهم عُسف السلطة التى لم تكن تتقيد بنظم محددة مضمونة ، واضطراب القوانين التى لم تكن واضحة منظمة ، ومظالم القضاة الذين لمقد يكونوا مستقلين ولا متخصصين ولا محايدين . وإذ شرع ذلك في التأثير على حركة التجارة وتداول البضائع وتنامى الثروة ، فقد بدأت بيزنطة – عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية – في عقد إتفاقيات مع بعض المدن الإيطالية والفرنسية ، بقصد تحرير التجارة ، أدت إلى منح بعض الإمتيازات إلى التجار ، بما يكفل لهم الأمن والعدل والسلام


ويلوح حتى ما عملته بيزنطة (القسطنطينية ، والأستانة الآن) شاع في العلاقات التجارية والسياسية . ففى القرن التاسع الميلادى حصل التجار العرب من السلطات الصينية في كانتون على بعض الإمتيازات (Capitulations) .وخلال الإتصالات التى حدثت بين هارون الرشيد (786 – 808م) وشارلمان (742 – 814م) امبراطور الغرب وملك الفرنجة ؛ تمت اتفاقيات بينهما للتسهيل التجارى وتنظيم حقوق المرور في المناطق الخاضعة لنفوذهما ، وتحديد مزايا قانونية للقناصل .وفى 1251 حصل سانت لويس ملك فرنسا من الخلفاء المسلمين على حقوق خاصة للقناصل الفرنسيين في طرابلس (لبنان) وفي الإسكندرية، أكدها من بعده ابنه فيليب لى هاردي.

وفى 1290 منح الملك المنصور (في مصر ، وهومن المماليك) عهدا يتضمن إمتيازات إلى قنصل جنوا في الإسكندرية . وفى القرن التالى مُنحت هذه الإمتيازات لفرسان رودس وللفرنسيين. وقد أكد هذه الإمتيازات سليم الأول (1512 – 1519م) وابنه سليمان الثاني (1519 – 1566م).

مصر العثمانية

سليم الأول سلطان العثمانيين غزا مصر ، مقر الخلافة العباسية آنذاك (1517) ، وأكره الخليفة (المتوكل على الله محمد بن المستمسك) على التنازل له عن الخلافة الإسلامية ، ثم نقل سليم الأول مقر الخلافة من القاهرة إلى الأستانة ، بيزنطة والفسطنطينية من قبل ، صاحبة التنطقيد التجارية العريقة التى منحت للتجار الأجانب عنها إمتيازات تسهّل لهم التجارة وتنعش فيها الإقتصاد وتجعل منها مركزا مهما في المنطقة كلها.

ووافق سليم ثم ابنه سليمان من بعده على الإمتيازات التى كانت قد مُنحت قبل ولايتهما. غير حتى إنتنطق الخلافة الإسلامية إلى الأستانة ، وصيرورة السلاطين العثمانيين في مسند الخلافة، نادى إلى محاولات فقهية لإضفاء المِسْحة الإسلامية على الإمتيازات الأجنبية في بلاد السلطنة العثمانية، ومنها مصر.

كان الفقه الإسلامى بعدما اتسع نفوذ الخلافتين الأموية والعباسية وامتد إلى مناطق كثيرة ، قد ابتدع تخريجا مؤداه قسمة العالم إلى قسمين : دار السلام (أودار الإسلام) وهى البلاد التى تخضع لحكم مسلم وتطبق فيها أحكام الشريعة الإسلامية (مع أنهم خلطوا بين الشريعة والفقه) ، ودار الحرب وهى أى بلد أومكان آخر سوى دار السلام . ومن مقتضى هذا التقسيم ، بمسمياته ، حتى البلاد أوالأماكن أوالأمم التى لا تندرج في دار السلام وتدخل فيها تُعدّ بلادا وأماكن وأمما محاربة ، لا يجوز عقد أى معاهدة معها تفرض السلم وتضع الحرب ، إلا حتى تكون هدنة مدتها على الأكثر عشر سنوات ، قياسا في ذلك على صلح الحديبية ، الذى عقده النبى(صلعم) مع الأعداء من أهل مكة (سنة 6هـ) . وإعمالا لهذا الفقه الذى اختلط بالشرع ، فامتزج ما بشرى بما هومقدس ، قوى الاتجاه بعدم عقد أى اتفاقيات تجارية مع بلاد أوروبا ، التى تقع في نطاق دار الحرب ، والإستعاضة عنها بإجراء آخر ، يوافق ظاهر الفكر الإسلامى ويتحايل على المبدأ الفقهى (المظنون خطأ بأنه شرعى) والذى يمنع التعاهد والتعاقد مع البلاد والأماكن والأمم الكائنة في دار الحرب ، بمعاهدة تزيد مدتها على عشر سنوات ، ولا تكون هدنة في حرب ، يسبقها قتال ويلحقها قتال ، كما كان الوضع الذى عُقد فيه صلح الحديبية . إذ ذاك تفتّق التحايل الفقهى عن فكرة حتى يُصدر السلطان براءة سلطانية (أودكريتوأوفرمانا) يتضمن وعودا مؤكدة بمنح من يصدر له الأمر امتيازات معينة (Imperial diplomas containing sworn promises) وبهذه البراءات (أوالديكريتوأوالفرامانات) تجنب السلاطين معاملة غير المسلمين من أهل دار الحرب معاملة تقوم على قدم المساواة بين الطرفين ، أوتُفرغ في هيئة معاهدات محظورة فقهيا (يُظَن أنها ممنوعة شرعياً) .

نتيجة لهذا الوضع ، صار من اليسير غير العسير ، حتى يُصدر السلطان براءة (أودكريتوأوفرمانا) بمنح امتيازات خاصة لمن يريد من الأجانب ، أهل أوروبا ، ومن ثم توالت الإمتيازات ، والتى كان التقدير وقت إصدارها أنها ليست حقوقاً لمن مُنحت له ترتب التزامات على السلطنة ، وإنما هى إمتيازات ممنوحة يمكن الرجوع فيها أوالعدول عنها ، إذا ما عَنّ ذلك للسلطنة أوحَِزب أمر إلى إلغائها ؛ وهوتقدير أتت الأيام بعكسه ، بعد حتى قويت شوكة الدول الأوروبية ، فصارت الإمتيازات حقوقاً لأصحابها لا يمكن الرجوع فيها أوالعدول عنها ، وكان أسوأ حال لذلك ما وقع في مصر ، على نحوما يفترض أن يلى .

حصلت انجلترا من السلطان العثمانى على إمتيازات تجارية خاصة بالتجار وبمواطنيها وممثلها القناصل سنة 1579 ، وتبعتها في ذلك هولندا سنة 1598 ، ثم المجر سنة 1615 ، وروسيا سنة 1700 ، والسويد سنة 1737 ، ونابولى سنة 1740 ، والدنمارك سنة 1756 ، وپروسيا سنة 1781 ، واسبانيا سنة 1782 ، والولايات المتحدة الأمريكية سنة 1761 ، وبلجيكا سنة 1838 ، والاتحاد الألمانى (پروسيا وباقي البلاد الألمانية) سنة 1840 ، والبرتغال سنة 1843 ، واليونان سنة 1854. (المرجع الرئيسى : E.SAMAD, La Question D' Egypt, 1841 – 1939 , Paris , 1938) .

بطبيعة الحال ، كان الأمر (الدكريتوأوالفرمان) الذى يصدر عن السلطان العثمانى يسرى على جميع البلاد الخاضعة له ، وأولها مصر ؛ مما استتبع باللزوم والضرورة حتى تسرى جميع الإمتيازات الأجنبية السالف بيانها في مصر ، ويتمتع بها أبناء البلاد صاحبة الإمتيازات في التجارة وفى الإقامة وفى التملك . وساعد على ذلك مسقط مصر الجغرافى الفريد ، ومكانتها في التجارة العالمية ، والتنافس بين الدول الأوروبية – وخاصة فرنسا وبريطانيا وألمانيا والروسيا – للحصول فيها على وضع متميز ، وهجرة كثير من الأوروبين إليها ، وكان أغلبهم يبحث عن عمل أوينشد صيداً .وبينما كانت الإمتيازات أصلا تهدف إلى حتى تكون عونا للبلاد مانحة الإمتياز صارت عبئا ثقيلا عليها ، واستُغلت أسوأ استغلال من الشذّاب (عديموالنفع ممن لا موطن لهم) والأفاقين بل ومن المجرمين . وعُنى كثير ممن ليسوا من أهل البلاد صاحبة الإمتياز أساسا بأن يحصلوا على حماية بلد منها ، حتى يجدوا أنفسهم في منعة من تطبيق القوانين أوالنظم المحلية عليهم ، وعدم الخضوع لأحكام الإدارة ورقابتها أوالمعاناة من انحراف السلطة وسوء استخدامها .

ساعد على ذلك حال النظام القانونى والقضائى في السلطنة العثمانية ، وفى مصر . فالقانون بصفة عامة كان يعد في هذه السلطنة تعبيرا عن إرادة الحاكم (السلطان) ، لصيقا به هو، ينتهى العمل به بعد وفاته إلا إذا صدر تجديد من السلطان التالى لإستمرار العمل بأحكام قانون معين أوقوانين بذاتها . ومعنى ذلك أنه لم يكن ثمة ضمان بوجود نظام قانونى عام ثابت ، ما دام القانون مشخصناً في السلطان ، متعلقا بإرادته إذا شاء أبقاه وإن شاء ألغاه ، وهو– في جميع الحالات – ساقط بوفاة السلطان زائل بإنتهاء ولايته . يضاف إلى ذلك حتى السلطنة نفسها لم تكن مستقرة وطيدة ، فالحكم – طوال السلطنة العثمانية – لم يكن للشعب ولا لأشخاص مختارين منه ، بل كان في الغالب في يد ما يُعهد بنظام البادْشاه (أى ملك الملوك أوالأمبراطور) وهونظام قوامه أفراد يؤخذون من مناطق مختلفة ، كثيراً ما تكون بلاد شرق أوروبا التى كانت ضمن بلاد السلطنة ، ثم يُدربون على الحرب ، ويختار منهم الوزراء وكبار رجال السلطنة ، فيكون ولاؤهم المطلق للسلطان نفسه ، لأنهم بغير روابط مع الشعب ودون علاقات عائلية . ومع الأيام قويت شوكة هؤلاء ، وصارت السلطة العملية في أيديهم ، بل واستطاعوا تغيير السلاطين واغتيال من أرادوا .

لم تكن أحكام الشريعة ومبادىء الفقه مقننة في مواد ، مرتبة في موضوعات ؛ وإنما كانت في بطون الخط وعلى حواشى المتون ، غير معروفة للكثيرين ، وغير محددة سلفا للمسلمين أولغير المسلمين . وكانت أحكام الشريعة تطبق في مسائل الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ومواريث ووصية فقط . وكان يوجد في مصر قاض لكل ممضى من المذاهب الأربعة : الحنفى والمالكى والحنبلى والشافعى . وفى سنة 928 هـ رسم السلطان سليمان ابن سليم الأول بإبطال نظام قضاة المذاهب الأربعة، ومنعهم من التصرف في القضاء بالديار المصرية وسلّم جميع الأحكام لقاض واحد من قضاة الروم هوقاض العسكر (قاض عسكر ، أى قاضى عسكرى) بحيث لا تصح عقود أوأوقاف أووصايا أوعتق أوحُجة حتى تعرض على قاض العسكر الرومي. وكان القضاة – شأن قاضى العسكر – يُعينون من الأستانة ولا يقتضون مرتبات ، بل كانوا يفرضون رسوما على القضايا التي تُحمل إليهم فيحصلون منها على رواتب لهم ويدفعون لدولة الإحتلال العثمانية ما بقي، وما يلزم من رشوة لتجديد ولايتهم.

وكان القضاة يفصلون في المواد المدنية فقط ، بالإضافة إلى مسائل الأحوال الشخصية . وفى المسائل الجنائية كان يُعهد لقاض بالتحقيق إذا كانت الواقعة قد حدثت بين طرفين (مثل واقعة اغتال إنسان لآخر ، أوضرب فرد لغيره ، إلى غير ذلك) ثم يُهجر أمر الحكم وتطبيقه للوالى أوللشرطة . أما إذا كانت الواقعة الجنائية تتصل بأمن الدولة أوأمن الحكام فإن الحاكم أونوابه كانوا هم - دون القضاة – ولاة الأمر في التحقيق وتقدير العقوبة وتطبيقها .

مقتضى ذلك حتى النظام السياسى في السلطنة العثمانية وفى مصر – خاصة قبل محمد على – لم يكن مستقرا ، والنظام القانونى لم يكن محددا واضحا ، والنظام القضائى لم يكن كفؤا مستقلا ؛ وهى أمور دعت الأجانب إلى طلب المزيد من الإمتيازات لحماية أنفسهم وأموالهم من اضطراب السلطة وغيوم القانون وغياب القضاء ، ثم صارت الإمتيازات – التى كانت تُمنح ثم تُطلب – حقوقا للأجانب تُرتب التزامات على السلطات المحلية .


مصر العلوية

الاحتلال البريطاني

عندما احتلت بريطانيا مصر سنة 1882 وتوسّدت السلطة فيها تبينت حتى الإمتيازات الأجنبية تحد من سلطتها وتضع عراقيل أمامها . وإذ كانت ترغب سلطانا مطلقا فقد عُنيت بدراسة هذه الإمتيازات ومحاولة إلغائها أوالحدّ منها. وفي كتابه "مصر الحديثة Modern Egypt" أفرد كرومر (إڤلن بيرنگخمسة أبريل 1841 – 1917) الوكيل العام والمندوب السامي لبريطانيا في مصر من سنة 1883 حتى 1917 الفصل الثانى عشر عن الإمتيازات الأوروبية (European Privilege) . وفى هذا الفصل ذكر حتى الأجانب غير البريطانيين كانوا يحاجّونه عندما يحاول إلغاء الإمتيازات بأن البريطانيين أنفسهم طالبوا بهذه الإمتيازات وحصلوا عليها . وعلل دواعى الأجانب في الإحتفاظ بالإمتيازات بأسباب ثلاثة سلف الإلماع إليها ، وهى :

أ.. الخوف من تغوّل السلطة وتعسف الإدارة وقلة إنضباط النظام الحكومى . ب.. عدم وجود نظام قانونى عصرى ، واضح ومحدد ، يمكن على أساسه قيام جهاز حكومى حديث ، يعهد به الناس حقوقهم والتزاماتهم في جميع تصرف . ج.. عدم وجود نظام قضائى كفء ومستقل .

وفي هذه الأسباب بعض الحقائق – فمما يتكرر دائما في خط المؤرخين المسلمين عن فترة حكم المماليك – قبل محمد على – تعبير بأن خاطر السلطان تغيّر على فلان (شخص ما) فأوفد العساكر إلى حيث قتلوه هووجميع أفراد أسرته ، ونهبوا بيته ، ثم أحرقوه حتى صار رمادا . وفى عهد محمد على ، وإلى حتى صدر دستور 1923 ، كان الحكم أوتوقراطيا ينفرد فيه الأمير أوالباشا أوالخديوى أوالسلطان بالرأى ، ولا يشاركه أحد في إتخاذ القرار . وكان ينطق عنه إنه ولىّ النعم ، وهى تعبير تدل على أنه المعز المذل ، المُنِعْم المُحْرمْ . وقد أنف بيان الأمر بالنسبة للنظام القانونى ، وبالنسبة للنظام القضائى . ذلك بأنه لم يكن هناك قانون بالمفهوم الفهمى ، وكان القضاة يحكمون بالفقه الذى يقولون إنه شريعة (فيما عدا قواعد الزواج والطلاق والمواريث والوصية التى وردت في القرآن) .

ولم تكن هناك إجراءات لحمل النادىوى ، ولا مسببات (حيثيات) تُخط للأحكام ، ولا طعن بالإستئناف أوالنقض على الأحكام .. إلى غير ذلك . وكان الإختصاص بالفصل في مسائل الأحوال الشخصية لغير المسلمين معهودا به إلى مجالسهم الملّية ، التى تتعدد بتعدد الطوائف من أقباط أرثوذكس وكاثوليك وروم وأرمن ويهود وغيرهم . وفى هذا نطق أحد رؤساء الوزارة في مصر (نوبار باشا) إذا هناك بلبلة قضائية ، إذ كان يوجد 17 (سبعة عشر) جهة اختصاص قضائى في مصر .

كان من اللازم ، والحال كذلك ، حتى تعمد الحكومة المصرية إلى إجراء إصلاحات يمكن معها إتخاذ خطوات لإلغاء الإمتيازات وتأكيد السيادة المصرية . بدأ ذلك بإنشاء المحاكم المختلطة سنة 1875 التى انتزعت إختصاصات المحاكم القنصلية في المسائل المدنية والتجارية فيما يقع بين الأجانب مختلفى الجنسيات ، وبين هؤلاء الأجانب والمصريين .

فى سنة 1883 أجرت الحكومة تحديثا شاملا للقضاء المصرى (المحاكم الأهلية) يجعله قضاء عصريا وكفؤا ومستقلا . وحاولت الحكومة آنذاك تقنين أحكام الفقة الإسلامى (المسمى خطأ شريعة إسلامية) فيما يتعلق بالمعاملات المدنية والتجارية ، غير حتى فهماء الأزهر رفضوا هذا التقنين ، مما نادى الحكومة إلى ترجمة المجموعة المدنية المعروفة باسم (Code Napoleon) والتى كانت تطبق أمام المحاكم المختلطة لتطبق بالتالى في القضاء الأهلى ، خاصة وأن هذه المجموعة لم تكن تختلف عن أحكام الفقة الإسلامى إلا في القليل ، وهوأمر ثبت على مدى الأيام . ولأن الحدود (العقوبات الأربع الواردة في القرآن الكريم عن السرقة وقذف المحصنات والزنا والحِرابة) لم تكن تطبق في مصر طوال الإحتلال العثمانى ، بل وقبل ذلك بكثير ، فقد كان قانون العقوبات بمثابة عقوبات تعزيرية فيما تضمنه .

وحتى يدفع الإحتلال البريطانى الأجانب المقيمين في مصر ، من أصحاب الإمتيازات ، إلى أداء بعض الضرائب فقد أصدرت الحكومة البريطانية قرارا في 17 مارس 1885 يلزم رعاياها دفع الضرائب ، مثلهم في ذلك مثل المصريين ؛ وهوما أرادت هذه الحكومة حتى تجعله أساسا ومثلا لإلزام باقى الأجانب أداء ضرائب . وبالعمل ساعد ذلك على موافقة الأجانب على دفع بعض الضرائب ، وفى 18 مارس 1891 صدر دكريتوباخضاع الأجانب في مصر لبعض الضرائب .

فى 31 يناير 1889 صدر دكريتوينظم التشريع في المسائل الجنائية (العقوبات) بحيث لا يجوز حتى تُسقط على أى إنسان عقوبة الغرامة التى تزيد عن جنية مصرى أوالحبس الذى يزيد عن سبعة أيام بغير قانون يصدر بذلك سلفاً . هذا إلى حتى تعرض الحكومة المصرية على الجمعية العمومية للمحاكم المختلطة اقتراحاتها بسن تشريعات جنائية.

الحرب العالمية الأولى وثورة 1919

قامت ثورة 1919 بزعامة سعد زغلول لتحقيق استقلال مصر من خلال محورين :-أولهما : إخراج المستعمر البريطانى فيها ، وثانيها : إصدار دستور ينظم الحكم ويرتب حقوق المواطنين . وفى 1923 صدر دستور ينظم لأول مرة في العالم العربى أسلوب الحكم وحقوق وواجبات المواطنين ، في صورة عصرية محددة . وكان مما ضمه الدستور مبدأ حتى الملك يملك ولا يحكم إلا من خلال وزارة تشكلها الأغلبية السياسية وتكون مسئولة مسئولية تضامنية أمام نواب ينتخبهم الشعب ، ومبدأ الفصل بين السلطات الثلاث : التطبيقية والتشريعية والقضائية ، واستقلال القضاء ، والمساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات .. إلى آخر ذلك.

اتجهت الحكومات المصرية المتعاقبة إلى التفاوض مع الحكومات البريطانية المتتالية للحصول على الإستقلال ، وفى 1936 توصل عدد من كبار الساسة المصريين بزعامة مصطفى النحاس إلى توقيع معاهدة ، كان المفهوم وفقا للظروف الدولية آنذاك أنها خطوة مهمة على طريق الإستقلال التام . وأهم ثمار هذه المعاهدة إلغاء الإمتيازات الأجنبية في مصر . ففى المادتين 12 ، 13 من المعاهدة أقرت بريطانيا بسيادة مصر على جميع الأجانب المقيمين فيها وتعهدت بالعمل على مساعدة مصر في إلغاء الإمتيازات الأجنبية التى كانت تشكل حائلا وعقبة أمام هذه السيادة . وفىثمانية مايو1937 عُقدت معاهدة مونتريه (بسويسرا) بين مصر والدول صاحبة الإمتيازات، حيث تم الإتفاق على إلغاء الإمتيازات التشريعية والمالية والقضائية. واستردت مصر على الفور سيادتها في القضاء الجنائى على جميع المقيمين فيها من مصريين وأجانب ، بعد حتى كان الفصل في المسائل الجنائية التىقد يكون أحد أطرافها أجنبى من اختصاص قنصل بلده وحده . وصدر قانون العقوبات سنة 1937 ليُنفذ على الجميع ؛ واتُّفق على إلغاء المحاكم المختلطة بعد اثنى عشر سنة ، وبالعمل ألغيت في 14 أكتوبر 1949 ، ونفذت المجموعة المدنية الجديدة إعتبارا من اليوم التالى مباشرة . وتلى هذا إصدار قوانين للضرائب التى تسرى على الجميع دون أى استثناء .

مفاد ذلك حتى الإمتيازات الأجنبية بدأت أصلا في الأستانة – وهى في المنشأ مدينة بيزنطة والقسطنطينية – ذات التاريخ البعيد في منح الإمتيازات . وقد كانت الإمتيازات تُمنح بمقتضى براءة (أوفرمان أودكريتو) تصدر عن السلطان العثمانى من جانب واحد ولا تُفرغ في صورة معاهدات أوإتفاقيات تنظم حقوق والتزامات الطرفين ، وطريقة ومدة استعمال الإمتياز ، على تقدير فقهى (غير شرعى) بعدم جواز التعاقد مع حاكم أوأمة تقع في دار الحرب ولا توجد في دار السلام (أوالإسلام) . غير حتى هذا التقدير كان نظرا قاصرا مؤقتا ، ذلك بأن الإمتيازات التى كانت منحة صارت مع الوقت حقوقا لأصحابها ترتب التزامات على السلطنة العثمانية ، ولا تضع أى إلتزامات على المستفيدين منها ، وهوما لم يكن ليحدث لوكانت الإمتيازات قد تحددت نتيجة معاهدات أوإتفاقيات مشهجرة . ورثت مصر الإمتيازات الأجنبية من السلطة العثمانية ، بإعتبارها إيالة لها (أى آلت إليها بالغزوفصارت من أملاكها) . وتفشت الإمتيازات في مصر نتيجة لعوامل كثيرة فصارت انتقاصاً كبيرا من سيادتها وعدوانا بالغاً على أبنائها . وحتى تستطيع مصر التوصل إلى إلغاء الإمتيازات كان عليها حتى تُنجز اصلاحات مهمة لتحديث النظام الحكومى وضمان استقراره وعدم تغوّل الإدارة أوسوء استعمال السلطة (وهوما حققه إلى حد كبير دستور 1923 ، دون النظر إلى التطبيق السىء أوالتأويل الفاسد) .

كذلك حتى تعمل مصر على وضع قوانين بالأسلوب العصرى الذى يتضمن تقنين الحقوق والإلتزامات والجرائم والعقوبات في نصوص واضحة محددة ، تضمها مجاميع مُيسّرة مثل القانون المدنى وقانون العقوبات والقوانين الإجرائية .. إلى آخر ذلك . وقد أنجزت مصر هذا كله ، بل وقننت أحكام الأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والنفقة والحضانة ..) والمواريث والوصية اعتبارا من عشرينيات القرن الماضى .

يضاف إلى ذلك أنه كان من اللازم إنشاء نظام قضائى حديث كفء ومستقل ؛ وهوما عملت الحكومات المصرية المتعاقبة على تحقيقه . وفى سبيل ذلك فقد صدر قانون استقلال القضاء سنة 1943 ، وأنشىء مجلس الدولة سنة 1946 ، وأهم ما فيه اختصاص القضاء الإدارى بإلغاء القرارات الإدارية إذا شابها عيب أوانبنت على سوء استعمال للسلطة ، وقد كانت سلطة القضاء من قبل تقتصر على التعويض عن آثار القرار الباطل أوالمعيب دون إلغائه .

هذه العناصر الثلاثة : حكومية مدنية مسئولة ، ونظام قانوني عصرى ، وقضاء كفء مستقل ، صارت هى المقومات الأساسية للدولة في المفهوم الدولى المعاصر ، وفى المجال الإنسانى العام ، وهى التى يجب حتى تكون واضحة مفهومة للجميع ، وأن يؤكد عليها جميع من يريد ويعمل على احترام مجتمعه وإستقلال بلده . حتى لا تنفذ إليها قوى غريبة تفرض لنفسها إمتيازات خاصة ، تغلّفها بأسماء مختلفة وتسترها بعبارات ذات بريق . أما من يحاول العدوان على هذه المنظومة ، وتفكيك عراها ، بصورة أوأخرى ، سواء كان ذلك بتخريب النظام الحكومى بالفساد أوالرشوة أوالتعسف أوبالعدوان عليه أوبتوهين قوائمه أوبتدمير قواعده ؛ أوكان ذلك بتقويض النظام القانونى (الصالح السليم) بعصيانه أوعدم إعماله أوازدرائه أونشر عدم احترامه ، أوكان ذلك بضرب السلطة القضائية (النزيهة الكفوة) بالإهمال أوالغش أوالجهل أوالتحيز أوسحب الضمانات أواستغلال الحصانات .. أو، أو، أو... من يعمل ذلك عامدا أوجاهلا فهوفي الحقيقة يضر وطنه ضررا جسيما ويؤذى مجتمعه إيذاء بالغاً .


المصادر

  • المستشار محمد سعيد العشماوي


انظر أيضا

  • المحاكم المختلطة
  • مؤتمر مونتروالمتعلق بإلغاء الامتيازات في مصر
  • الاتفاقية بين بريطانيا العظمى والدنمارك فيما يتعلق بوقف الامتيازات في مصر
  • الاتفاقية بين بريطانيا العظمى واليونان فيما يتعلق بوقف الامتيازات في مصر (1920)
  • الاتفاقية بين بريطانيا العظمى والسويد فيما يتعلق بوقف الامتيازات في مصر (1921)
  • الاتفاقية بين بريطانيا العظمى والپرتغال فيما يتعلق بوقف الامتيازات في مصر (1920)
  • الاتفاقية بين بريطانيا العظمى والنرويج فيما يتعلق بوقف الامتيازات في مصر
تاريخ النشر: 2020-06-04 15:47:57
التصنيفات: صفحات تستعمل قالبا ببيانات مكررة, تاريخ مصر, تاريخ مصر القضائي, العلاقات الخارجية لمصر

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

القاهرة تحتفل بأصحاب الهمم بمشاركة ألفين شخصا

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-02 15:18:57
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 61%

أعلناها على فيسبوك.. انتحار شابين مصريين لأسباب صادمة!

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-02 15:17:31
مستوى الصحة: 88% الأهمية: 85%

التحالف يستأنف دورياته بشمال سوريا بعد تقليصها بسبب قصف تركيا

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-02 15:17:36
مستوى الصحة: 88% الأهمية: 95%

فان غال: لن نستهين أمام أميركا

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-02 15:18:04
مستوى الصحة: 88% الأهمية: 93%

أحد ذئاب "وول ستريت" يتوقع كارثة شبيهة بالأزمة المالية العالمية

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-02 15:17:59
مستوى الصحة: 81% الأهمية: 93%

تقرير.. علي معلول وثلاثي تونس يعتزلون اللعب الدولي

المصدر: الأهلى . كوم - مصر التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-12-02 15:18:38
مستوى الصحة: 42% الأهمية: 37%

بعيدًا عن كأس العالم.. "كلب" يقتحم الدوري المصري

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-02 15:18:01
مستوى الصحة: 77% الأهمية: 86%

باحثة من ذوي الهمم: نعيش العصر الذهبي في عهد الرئيس السيسي

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-02 15:19:01
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 68%

وثائق تكشف أن روسيا خططت لاحتلال أوكرانيا في أيام وقتل رئيسها

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-02 15:18:15
مستوى الصحة: 83% الأهمية: 87%

ميسي في المحاولة الأخيرة للخروج من عباءة مارادونا

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-02 15:18:13
مستوى الصحة: 84% الأهمية: 95%

إنفوجراف| أبرز أحداث التنمية المحلية في أسبوع

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-02 15:18:52
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 61%

إلغاء سباق فورمولا 1 في الصين للعام الرابع على التوالي

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-02 15:18:11
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 93%

التضامن: استمرار الزيارات المنزلية والتوعية عن العنف ضد المرأة

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-02 15:18:53
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 56%

أعلاها في سطات.. مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال الـ24 ساعة الماضية

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-02 15:18:34
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 63%

جامعة عين شمس تستعد لانتخابات الاتحادات الطلابية

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-02 15:19:00
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 53%

عضو بالشيوخ: إمكانيات «المنصورة الجديدة» جاذبة للاستثمار

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-02 15:18:58
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 63%

وزيرة الهجرة تلتقي كبار الأطباء المصريين بالخارج

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-02 15:18:51
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 55%

«التأمينات»: صاحب المعاش له الحق في التأمين الصحي مقابل خصم 1%

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-02 15:18:55
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 56%

الأرصاد: طقس مائل للبرودة صباحًا

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-12-02 15:18:56
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 55%

تحميل تطبيق المنصة العربية