جان-باتيست كولبير

عودة للموسوعة

جان-باتيست كولبير

جان بابتيست كولبير

جان بابتيست كولبير (1619-1683م). سياسي فرنسي عمل تحت إمرة الملك لويس الرابع عشر مشرفًا على وزارة المالية مدة 22 عامًا. وكان يؤمن بأن الازدهار الاقتصادي يتم بالسيطرة الصارمة المُحكمة للدولة على جميع أوجه الحياة الاقتصادية. وبذل جهدًا كبيرًا لكي يجعل من فرنسا قوة اقتصادية، كما شجَّع التجارة وإدخال التحسينات على البنية الأساسية، مثل شق القنوات وتعبيد الطرق. وبنى أسطولاً بحريًا قويًا، وبعث بالمُستكشفين والمستعمرين إلى أمريكا. وقد استفاد الكثير من الصناعات الفرنسية من دعمه.

النشأة

وُلِد كولبير في مدينة ريمس. كولبير رُشح للملك لويس من قِبل الكاردينال مزران.

كان جان باتيست كولبير ابن قماش في رامس، وابن أخي تاجر غني، وإذ كان بورجوازياً بدمه، اقتصادياً بمحيطه، فقد درب على كراهية الفوضى والعجز، وأعد بفطرته وبطول المرانة لتغيير اقتصاد فرنسا من جمود الفلاحة والتفتت الإقطاعي إلى نظام موحد قومياً، يشتمل الزراعة والصناعة والتجارة والمال، يواكب ملكية ممركزة، ويهيئ لها الأساس المادي لعظمتها وسطوتها.

دخل كولبير ديوان الحربية سكرتيراً صغيراً في العشرين (1639) وما لبث حتى شق طريقه بجهده إلى حيث استرعى نظر رؤسائه، فنقل إلى خدمة مازاران، وأصبح المدير الناجح لثروة الكردينال. فلما سقط فوكيه، وكل إلى كولبير مهمة خطيرة هي إعادة تنظيم مالية الأمة. وفي 1664 أضيفت إليه مهمة الإشراف على المباني، والمصانع الملكية، والتجارة، والفنون الجميلة؛ وفي 1665 عين مراقباً عاماً للمالية، وفي 1669 عين وزيراً للبحرية، ثم وزيراً للخاصة الملكية. ولم يرق رجل آخر في عهد لويس الرابع عشر بمثل هذه السرعة، ولا اشتغل بمثل هذه الهمة، ولا حقق مثل ما حققه من أعمال. بيد أنه لوث أرتقاع بمحاباته أقرباءه، وإذ أغدق الوظائف والأموال على الكثيرين من آل كولبير، وغالى في مكافأة نفسه مكافأة كادت تعدل ثروته. وكان نهباً للغرور، يتشبث بانحداره المزعوم من ملوك اسكتلندا، وقد يعبث عبثاً منكراً بالقوانين القائمة تعجلاً لتمضية المصالح، ويتغلب على المعارضة بالرشا يبذلها في الجهات العليا. فلما استفحل سلطانه غدا مستبداً، وأحفظ عليه النبلاء إذ داس على أقدام تنزف الدم الأزرق. وقد استخدم في إعادة تشكيل الاقتصاد الفرنسي نفس الأساليب الدكتاتورية التي استخدمها ريشليومن قبل في إعادة تشكيل الدولة الفرنسية. إلى غير ذلك لم يكن خيراً من هؤلاء الكرادلة.


بناء فرنسا

خط لويس الرابع عشر يقول: "لقد أشركت كولبير...مفتشاً مع فوكيه لكي أراقبه...وهورجل منحته ما استطعت من ثقة، لأنني كنت عليماً بذكائه وجده وأمانته(50)" وظن أصحاب فوكيه حتى كولبير تعقبه مدفوعاً بالرغبة في الانتقام منه، ولعل كولبير استشعر شيئاً من الحسد للرجل، ولكن فرنسا ذلك العهد لم تنجب ضريباً لكولبير في تفانيه الدؤوب في خدمة الصالح العام. روى حتى مازاران نطق للملك وهوعلى فراش الموت "مولاي، إني مدين لك بكل شيء، ولكني أدفع ديني...بإعطائك كولبير".

سياسته الاقتصادية

بدأ بفحص أساليب الماليين الذين يحبون الضرائب، ويزودون الجيش بالسلاح، والملابس، والطعام، ويقدمون القروض للإقطاعيين أولخزانة الدولة. وكان بعض هؤلاء المصرفيين يعدلون الملك ثراء. فبلغت ثروة صموئيل برنار مثلاً 33.000.000 جنيه(52). وقد أثار الكثيرون منهم حنق النبلاء بالزواج من طبقتهم، وبشراء ألقاب الشرف أواكتسابها، وبالعيش في ترف لا يقوى عليه من لا يملكون غير عراقة النسب. وكانوا يتقاضون فائدة على قروضهم تصل إلى 18% حسب درجة الشك في الوفاء بالقروض. وبناء على طلب كولبير شكل الملك "غرفة عدالة" للتحقيق في جميع المخالفات المالية التي ارتكبت منذ 1635، والتي اقترفها "أي إنسان أيا كانت صفته أوحالته(53)" وطلب إلى جميع موظفي الخزانة، وجباة الضرائب، وأصحاب الدخول حتى يقدموا سجلاتهم ويبينوا شرعية مكاسبهم، وفرض على جميع منهم حتى يثبت نظافة يده وإلا كان جزاؤه المصادرة وغيرها من العقوبات. وبثت الغرفة موظفيها في طول فرنسا وعرضها وشجعت المخبرين. وأودع السجن عدة رجال أغنياء، وأوفد البعض إلى مراكب تشغيل الأسرى، وشنق البعض الآخر. وصعقت الطبقات العليا لهذا "الإرهاب الكولبيري"، أما الطبقات الدنيا فصفقت له استحساناً. ونظم رجال المال في برجنديا حركة تمرد على الوزير، ولكن جماهير الشعب شهروا السلاح في وجوههم، ولقيت الحكومة عنتاً في إنقاذهم من غضب الشعب. ورد للخزانة نحو150.000.000 من الفرنكات، وخفف خوف العقاب فساد المالية جيلاً كاملاً(54).

ومضى كولبير يعمل منجل الوفر في خزانة الدولة. فرفت نصف الموظفين في وزارة المالية وأغلب الظن أنه هوالذي اقترح على لويس ما قام به من إلغاء جميع مناصب الخاصة الملكية التي تدفع عنها الرواتب دون حتى يؤدي أصحابها واجبات. فطرد عشرون من "سكرتيري الملك" ليكسبوا أقواتهم بطريق آخر. وخفض تخفيضاً قاسياً عدد المحامين العامين، وضباط النظام، والمستقبلين، وغيرهم من صغار الموظفين في البلاط الملكي، وأمر جميع موظفي الخزانة بأن يمسكوا حسابات دقيقة واضحة ويقدموها للفحص. وحول كولبير جميع الديون الحكومية القديمة إلى ديون جديدة بثمن فائدة أقل. ثم بسط جباية الضرائب. ولما تبين صعوبة جمع المتأخرات أقنع الملك بإلغاء جميع الضرائب التي لم تسدد عن المدة 1647-58. ثم خفض معدل الضريبة في 1661، وحزن حين اضطر إلى حمله ثانية في 1667 لكي يمول "حرب الأيلولة" وإسراف فرساي.

بيد حتى أسوأ ما مني به من إخفاق كان في احتفاظه بنظام الضرائب القديم. ولعله لوقلبه من أساسه لأحدث من الإخلال بالنظام ما يهدد تدفق إيراد الدولة. ذلك حتى الدولة كانت تمولها أساساً ضريبتان-التاي (الرؤوس) والجابيل (الملح). وكانت ضريبة التاي تقدر في أنطقيم من واقع الأملاك الحقيقية، وفي غيرها على أساس الدخل. وقد أعفي منها الأشراف والكهنة، فسقطت كلها على كواهل "الطبقة الثالثة"-التي تنتظم باقي السكان وكان يطلب إلى جميع إقليم حتى يجبي مبلغاً محدداً، ويسأل كبار المواطنين عن جباية المبلغ المقرر. أما الجابيل فضريبة على الملح. فقد احتكرت الدولة بيعه، وألزمت جميع الرعايا حتى يشتروا دورياً كمية مقررة بأسعار تحددها الحكومة. وإلى هاتين الضريبتين الأساسيتين أضيفت مختلف الرسوم الصغيرة، وعشر محصول الفلاح الذي يجب أداؤه للكنيسة. على حتى هذه الضريبة كانت عادة دون العشر بكثير(55)، وكانت تراعي الرأفة في جبايتها.

وكانت الزراعية أقل المرافق تأثيراً بإصلاحات كولبير. إذ بقيت طرق الفلاحة بدائية جداً بحيث عجزت عن إعاشة عشرين مليوناً من الأنفس يتكاثرون بغير حساب. وكان لكثير من الأزواج عشرون ولداً. ولولا الحرب، والمجاعة، والسقم، وارتفاع نسبة الوفيات في الأطفال، لتضاعف السكان مرة جميع عشرين سنة(56)، ومع ذلك منح كولبير الإعفاءات الضريبية للزواج المبكر، والمكافآت للأسر الكبيرة (ألف جنيه فرنسي للآباء إذا كان لهم أبناء عشرة، وألفين إذا كانوا اثني عشر ولداً(57)) وذلك بدلاً من حتى يعمل على زيادة خصوبة التربة. وقد احتج على تكاثر الأديار لأنه يهدد القوى البشرية لفرنسا(58). على حتى نسبة المواليد في فرنسا تقلصت رغم ذلك خلال حكم لويس، لأن الحرب زادت الضرائب وعمقت الفقر. ولكن حتى في هذه الحال، لم تقتل الحرب ما يكفي لحفظ التوازن بين المواليد والطعام، وكان على الطاعون حتى يتعاون مع الحرب. وكان نقص المحصول سنتين متعاقبتين كفيلاً بإحداث المجاعة، لأن وسائل النقل لم ترق بحيث تستطيع بكفاية سد العجز في إقليم من الفائض في آخر. ولم تخل سنة من مجاعة في مكان ما فرنسا(59) وكانت السنوات (1648-51، 1660-62، 1693-94، و1706-10) فترات انتشر فيها الرعب من الموت جوعاً، حين بلغت نسبة الموتى من السكان في بعض الأنطقيم ثلاثين في المائة. وفي 1662 استورد الملك القمح وباعه للفقراء بثمن بخس أووهبه لهم وأعفاهم من ثلاثة ملايين فرنك من الضرائب المستحقة(60).

وخفف التشريع بعض مآسي الريف، إذ حظر الاستيلاء على بهائم الفلاح أوعرباته أوأدواته وفاء للدين ولوكان دينا للتاج، وأنشئت المزارع للاستيلاد تتعهد أفراس الفلاح مجاناً، ومنع الصيادون من اختراق الحقول المبذورة بالحب، وقدمت الإعفاءات الضريبية لمن يصلحون الأراضي المهجورة ويغرسونها. ولكن هذه الملطفات ما كانت لتنفذ إلى صميم المشكلة-مشكلة اختلال التوازن بين خصوبة الإنسان وخصوبة التربة، والافتقار إلى الاختراعات الآلية. على حتى فلاحي أوربا على بكرة أبيهم كانوا يلقون مثل هذا العنت، ولعل الفلاحين الفرنسيين كانوا أيسر حالاً من نظرائهم في إنجلترا أوألمانيا(61).

لقد ضحى كولبير بالزراعة قرباناً للصناعة ولكي يطعم سكان المدن المتكاثرين، وجيوش الملك المتعاظمة، حظر حمل ثمن الغلال بما يتناسب وغيرها من الخدمات. وكان من الأوليات عنده حتى على الحكومة التي تبتغي القوة حتى تملك موارد كافية وجيشاً من الجند الأشداء المجهزين تجهيزاً حسناً؛ فطبقة الفلاحين المتمرسة بالمشاق تزود البلاد بمشاة أقوياء، والصناعة والتجارة الناميتان لا بد حتى توفر الثروة والأدوات. ومن كان هدف كولبير الذي لم ينثنِ دونه هوحتى يشجع الصناعة، لا بل إذا التجارة يجب إخضاعها لهذا الهدف، فلا بد حتى تحمى الصناعات الوطنية بالرسوم الجمركية التي تبعد المنافسة الخطرة من خارج البلاد. وجرياً على السياسات الاقتصادية التي انتهجها صلى وريشليو، أخضع كولبير جميع الصناعات الفرنسية-إلا أقلها شأناً-لسيطرة الدولة النقابية: فكانت جميع صناعة، بطوائفها، ومالياتها ومفهميها، وصبيتها، وعمالها اليوميين، تؤلف نقابة تنظمها الحكومة من حيث المعاملات، والأسعار، والأجور والبيوع. وأرسى المعايير الرفيعة لكل صناعة أملاً في كسب الأسواق بجودة التصميم والصقل في المنتجات الفرنسية. وقد آمن هوولويس بأن التذوق الأرستقراطي للأناقة يدعم الحرف الكمالية ويحسنها، ومن ثم عثر الصاغة، والنقاشون، ونجاروالأثاث، ونساجوالأقمشة المرسومة، كلهم وجدوا العمل والحافز والصيت البعيد.

وأمم كولبير مصنع جوبلان في باريس تأميماً تاماً، وجعله نموذجاً في الأسلوب والتنظيم. وشجع المشروعات الجديدة بالإعفاءات الضريبية، والقروض التي تمنحها الدولة، وخفض ثمن الفائدة إلى 5%، وسمح باحتكار الصناعات الجديدة إلى حتى ترسخ أقدامها. وقدم الحوافز لمهرة الصناع الأجانب حتى يجلبوا مهاراتهم إلى فرنسا، فاستوطن صناع الزجاج البنادقة في سان-جوبان؛ وجلب صناع المشغولات الحديدية من السويد، وأنشأ بورتستنتي هولندي في أبفيل صناعة القماش الرفيع بعد حتى كفل له حرية العبادة ورأس المال الذي أقرضته إياه الدولة. فما وافى عام 1669 حتى بلغ عدد الأنوال في فرنسا 44.000 وكان في تور وحدها 20.000 نساج. وقد غرست فرنسا أشجار توتها، وكانت آنئذ مشهورة بأقمشتها الحريرية. وتضاعف النسيج لتلبي حاجة جيوش لويس الرابع عشر المتزايدة. إلى غير ذلك اتسعت الصناعات الفرنسية سريعاً بفضل هذه الحوافز. وأنتج الكثير منها لسوق قومية أودولية، وبلغ بعضها فترة رأسمالية في الاستثمار، والتجهيز، والإدارة. وصادفت رسالة التصنيع التي آمن بها كولبير هوى في نفس الملك، فتفقد الورش، وسمح بأن تختم المنتجات الفاخرة بخاتم السلاح الملكي، وحمل من قدر رجال الأعمال الاجتماعي، وخلع ألقاب الشرف على كبار المقاولين.

وشجعت الدولة التعليم الفهمي والتقني أووفرته للشعب. وغدت الورش في اللوفر، والتويلري، ومصانع الجوبلان، وأحواض سفن البحرية، ومدارس يتتلمذ فيها الصبية من الصناع. وسبق كولبير موسوعة ديدرو، إذ احتضن موسوعة للفنون والحرف، ووصفاً مصور الكل الآلات المعروفة(62). ونشرت أكاديمية العلوم بحوثاً عن الآلات والفنون الميكانيكية، وسجلت "صحيفة الفهماء" تقنيات صناعية جديدة. وقد أخذ العجب بيرو-وهويبني القابلة الشرقية للوفر-حين رأى آلة تحمل كتلة من الحجر تزن 100.000 كيلو(1.100 طن)(63). على حتى كولبير عارض إدخال الآلات التي ينجم عنها تعطل العمال(64).

وإذ كان شديد الولع بالنظام والكفاية، فقد أمم تنظيم الصناعة بوساطة الكومونات أوالطوائف الصناعية. وتوسع في هذا التنظيم توسعاً أوشك حتىقد يكون خانقاً. وراحت مئات من الأوامر تصف أساليب الصناعة، وحجم المنتجات ولونها ونوعها، وساعات العمل وظروفه؛ وأنشأت اللجان في جميع قاعات المدن لفحص العيوب في إنتاج الحرف والمصانع المحلية. وعرضت علانية عينات من الصنعة المعيبة وإلى جوارها الصانع أوالمدير. فإذ عاد المخالف إلى مخالفته وبخ في اجتماع للطائفة فإن عاد ثالثة شد على عمود تشهيراً به وتنكيلاً(65). وشغل جميع ذكر قادر على العمل. وجند الأيتام من ملاجئهم ليخدموا في المصانع، وأخذ المتسولون من الشوارع إلى المصانع، ونطق كولبير للملك في اغتباط إنه حتى الأطفال يستطيعون الآن كسب بعض المال في المصانع.

وأخضع العمال لنظام يقرب من النظام العسكري، فالكسل وعدم الكفاية، والشتم، والأحاديث النابية، والعصيان، والسكر، والاختلاف إلى الحانات، ومعاشرة الخليلات، وعدم الخشوع في الكنيسة-كل أولئك يجب حتى يعاقبه رب العمل، وبالجلد أحياناً. أما ساعات العمل فطويلة-وقد تبلغ اثني عشرة أوأكثر تتخللها فترات من ثلاثين إلى أربعين دقيقة لتناول الطعام. أما الأجور فضئيلة، يدفع جزء منها أحياناً سلعاً يحدد رب العمل أسعارها. وقد حسب فوبان متوسط الأجر اليومي الذي يتقاضاه مهرة الصناع في المدن الكبيرة فكان اثني عشر سواً (ثلاثين سنتاً) في اليوم، ولكن السوالواحد كان يشتري رطلاً من الخبز(66). واختزلت الحكومة عدد أيام الأعياد الدينية التي تعفي العمال من العمل، وبقي من هذه العطلات ثمانية وثلاثون يوماً، فكان مجموع أيام الراحة في السنة تسعين(67). وحرمت الإضرابات، وحظرت اجتماعات العمال لتحسين أحوالهم، وقد سجن بعض العمال في روشفور لأنهم شكلوا ضآلة أجورهم. ونمت ثروة طبقة رجال الأعمال، وارتفعت موارد الدولة، ولكن لعل حال العمال كانت على عهد لويس الرابع عشر أسوأ منها في العصور الوسطى(58). لقد أخضعت فرنسا للنظام الصارم في الصناعة كما أخضعت في الحرب.

أما في مجال التجارة، فقد آمن كولبير كما آمن معظم رجال الدولة في جيله بأن اقتصاد الأمة ينبغي حتى ينتج أقصى ما يمكن من ثروة واكتفاء ذاتي داخل الأمة، وأنه مادام المضى والفضة عظيمي القيمة بوصفهما وسيطين في المبادلة، فلابد من تنظيم التجارة بحيث تكفل للأمة "توازناً تجارياً في صالحها" أي زيادة في الصادرات على الواردات، ومن ثم تدفقاً للفضة والمضى إلى البلاد. وبهذه الطريقة وحدها استطاعت فرنسا، وإنجلترا، والأنطقيم المتحدة-وكلها لم تكن تربتها تحوي مضىاً، حتى تحصل على حاجاتها، وأن متون جيوشها زمن الحرب، وهذه هي "المركنتلية" Mercantilism ومع حتى بعض الاقتصاديين سخروا منها، فقد كان وسوفقد يكون هناك الكثير من المبررات لها في عصر كثير الحروب. ولقد طبقت على الأمة نظام التعريفات والترتيبات الحامية التي كانت في العصور الوسطى تطبق على الكومون. ونمت وحدة الحماية حين حلت الدولة محل الكومون وحدة الإنتاج والحكم. إذن فبمقتضى نظرية كولبير يجب حتى تكون أجور العمال منخفضة تمكيناً لمنتجاتهم من حتى تنافس نظيرها في الأسواق الأجنبية وبذلك تجلب المضى إلى البلاد، ويجب حتىقد يكون جزاء أرباب العمل وفيراً حفزاً لهم على الاضطلاع بالمشروبات الصناعية لصنع السلع، لا سيما الكماليات، التي لا نفع لها في الحرب ولكن يمكن تصديرها بتكلفة قليلة لقاء عائد كبير، ثم يجب حتى تكون أسعار الفائدة منخفضة إغراء للمقاولين باقتراض رأس المال. إلى غير ذلك نرى طبيعة التنافس التي فطر عليها الإنسان، في تلك الغابة التي لا تخضع لقانون والتي تصطرع فيها الدول، قد كيفت اقتصادها الوطني وفق فرص الحرب وحاجاتها. فالسلام ليس إلا حرباً بوسائل أخرى.

إذن فوظيفة التجارة في رأي كولبير (بل في رأي صلي وريشليووكرومويل أيضاً) تصدير السلع المصنوعة نظير المعدن النفيس أوالخامات. ومن ثم نراه في 1664، ثم في 1667، يحمل الرسوم على الواردات التي هددت بأن تنافس في فرنسا منتجات الصناعات الوطنية المعتبرة ضرورية في الحرب، فلما استمر جلب هذه الواردات حظرها بتاتاً. وفرض رسوم تصدير باهظة على المواد الضرورية، ولكنه خفض الضريبة على تصدير الكماليات.

ثم حاول تحرير التجارة الوطنية من المكوس الداخلية. وقد عثر حتى التجارة الفرنسية تعترض سيرها المعوقات من الحواجز والتعريفات الإقليمية والبلدية الغربية. من ذلك حتى السلع المنقولة من باريس إلى المانش، أومن سويسرا إلى باريس، كانت تدفع عنها مكوس عند ست عشرة نقطة، ومن أورليان إلى نانت عند ثمان وعشرين، وربما كان هناك مبرر لهذه المكوس يوم كان جميع إقليم يطمح إلى الاكتفاء الذاتي ويجاهد في حماية صناعاته، وذلك بسبب صعوبات النقل واحتمالات الصراع الإقطاعي أوتنازع الكومونات. أما وقد توحدت فرنسا سياسياً الآن، فقد غدت هذه المكوس الداخلية عقبة كؤودا في طريق الاقتصاد القومي، وحاول كولبير بمرسوم أصدره في 1664 حتى يلغي جميع المكوس الداخلية، ولكن المقاومة كانت عنيدة، ففي نصف فرنسا استمرت المكوس، وظل بعضها إلى عهد الثورة الفرنسية وكان أحد أسبابها الصغيرة. وكاد كولبير حتى يقضي على الجهد الذي بذله للتوسع التجاري بإصداره اللوائح المعقدة التي استهدفت إصلاح ما فسد ولكنها عرقلت التجارة إلى حد تعطيلها أحياناً. نطق (هوأوأحد نقاده) "أن الحرية روح التجارة، عملينا حتى نهجر الناس ليختاروا أنسب الطرق لهم". (Il Faut Laisser Faire les Hommes)(69)، وهنا تعبير قدر لها حتى تصنع التاريخ.

وقد جاهد ليفتح مسالك جديدة للنقل الداخلي. فبدأ مجموعة من الطرق الرئيسية الملكية، وكانت حربية في هدفها الأول؛ ولكنها كانت إلى ذلك نعمة على التجارة عامة. كان السفر بالبر لا يزال شاقاً بطيئاً. مثال ذلك حتى مدام دسفينيه استغرقت ثمانية أيام في رحلة بالمركبة من باريس إلى ضيعتها في فيتريه ببربتاني وبناء على اقتراح من بيبربول دريكيه، استخدم كولبير اثني عشر ألف رجل في حفر قناة لانجدوك الكبرى، التي بلغ طولها 162 ميلاً، وارتفعت أحياناً إلى 830 قدماً فوق سطح البحر، ولم يحل عام 1681 إلا وقد اتصل البحر المتوسط بخليج باسكاي عن طريق الرون والقناة والجارون، واستطاعت تجارة فرنسا حتى تتجنب المرور بالبرتغال وأسبانيا.

وكان كولبير ينظر بعين الحسد إلى الهولنديين الذين ملكوا خمسة عشر ألف سفينة تجارية من بين الآلاف العشرين التي تمخر العباب، على حين لم تملك فرنسا منها سوى ستمائة. ومن ثم بنى شيئاً فشيئاً البحرية الفرنسية حتى بلغت سفنها 270 بعد حتى كانت لا تتجاوز العشرين، وأصلح المرافئ وأحواض السفن، وألزم الرجال في غير هوادة بالانخراط في سلك البحرية، ونظم أوأصلح الشركات التجارية بجزر الهند الغربية، والشرقية، وبحر المشرق، والبحار الشمالية. ومنح الشركات امتيازات الحماية، ولكن هنا أيضاً عطلتها اللوائح التي فرضها عليها تعطيلاً مدمراً. ومع ذلك نمت التجارة الخارجية، ونافست البضائع الفرنسية الهولندية أوالإنجليزية في البحر الكاريبي، والشرق الأدنى، والأوسط، والأقصى. وغدت مارسليا أكبر ثغور البحر المتوسط بعد ما أصابها من اضمحلال لقلة السفن الفرنسية. وبعد عشر سنين من الخبرة والتشاور والعمل الشاق أصدر كولبير (1681) قانوناً بحرياً للسفن والتجارة الفرنسيتين، ما لبثت الأمم الأخرى حتى طبقته. ثم نظم التأمين على الرحلات التجارية الخطرة وراء البحار. وبارك اشتراك فرنسا في تجارة الرقيق، ولكنه جاهد ليلطف من قسوتها باللوائح الرحيمة(70).

وقد شجع الارتياد الجغرافي وإنشاء المستعمرات، أملاً في حتى يبيعها السلع المصنوعة نظير خاماتها، ويستخدمها روافد لبحرية تجارية قد تكون ذات نفع في الحرب.وكان المستعمرون الفرنسيون منتشرين عملاً في كندا، وغرب أفريقيا، وجزر الهند الغربية، وفي طريقهم إلى داخل مدغشقر، والهند، وسيلان. وارتاد كورسيل وفونتناك البحيرات العظمى (1671-73). وأسس كادياك مستعمرة فرنسية كبيرة فيما هوالآن ديترويت. واستكشف لاسال المسسبي في 1672 (بعد حتى منح احتكار تجارة الرقيق في الأنطقيم التي يفتحها)، وهبط فيه في مركب هزيل، فوصل إلى خليج المكسيك بعد شهرين من رحلة حافلة بالمغامرات. واستولى على الدلتا وأطلق عليها اسم الملك. فسيطرت فرنسا على واديي السانت لورنس والمسسبي في قلب أمريكا الشمالية.

جملة القول- ونحن لم نسجل غير جزء من نشاط كولبير، وقد أغفلنا الحديث عن جهوده في سبيل الفهم والأدب والفن- حتى حياة هذا الرجل كانت من أعظم ما سجله التاريخ تفانياً في العمل وسعة في الانتشار. فلم يعهد الناس منذ شارلمان ذهناً واحداً مثل ذهنه من خلق حديث على هذا النحودولة بهذه العظمة في نواح بهذه الكثرة. سليم حتى هذه اللوائح والنظم كانت مزعجة، وقد نفرت الناس من كولبير، ولكنها شكلت النطقب الاقتصادي لفرنسا الحديثة، ولم يعمل نابليون أكثر من مواصلة جهود كولبير ومراجعتها سواء في الحكم أوالقانون. وعهدت فرنسا طوال عشر سنوات من الثراء ما لم تعهده من قبل. ثم انحسر هذا الثراء لعيوب النظام وأخطاء الملك. وقد احتج كولبير على إسراف الملك والبلاط. وعلى آفة الحرب التي كانت تنحر جسد فرنسا في شيخوخته، ولكن التعاريف العالية التي فرضها، شأنها في هذا شأن لويس بالسطوة والمجد-هي التي أفضت إلى بعض هذه الحروب. وندد غرماء فرنسا البحريون بإقفال موانيها في وجه بضائعهم. وسقط على كواهل الفلاحين ومهرة الصناع عبء إصلاحات كولبير، بل حتى رجال الأعمال الذين أثرتهم هذه الإصلاحات اتهموه بأن لوائحه عوقت التطور. نطق أحدهم للوزير "لقد وجدت العربة مقلوبة على أحد جنبيها، فقلبتها على الآخر"(71) فلما توفي (في سبتمبر 1683) رجلاً محطماً مهزوماً، اضطر ذووه إلى دفن جثمانه ليلاً مخافة حتى يسبه الناس في الشوارع(72).


الكولبيرية

كولبير من نادىة الممضى التجاري في فرنسا، حتى سميت هذه السياسة التي أنتهجها في هذا الميدان بإسمه (كولبيرية colbertism).

تمثال نصفي لكولبير، من نحت أنطوان كواسڤو

وقد عمل كولبير على تنمية الصناعة والتجارة، وحصر همه في خدمة قوة الدولة وعظمتها، وكان من اجراءاته لتحقيق هذا الغرض فرض الرسوم على الاستيرادات وتقديم الدعم المادي إلى الملاحة الفرنسية وإجراء التحسينات على وسائل النقل في الداخل وأصدار القوانين التي تمنع العمال الفرنسيين من مغادرة البلاد بهدف تأمين الأيدي العاملة الرخيصة وشجع الأحتكارات وخاصة فيما وراء البحار وأقام الصناعات النموذجية وروج المخترعات وبذلك تمكن خلال فترة قصيرة من مضاعفة ايرادات الملك وجعل من بلاده أقوى دولة في أوروبا.

باءت جهود كولبير للحفاظ على توازن الميزانية بالفشل؛ ذلك لأن منافسه المركيز ده لوڤوا، وزير الحربية، حثَّ لويس الرابع عشر وزيَّن له الشروع في خوض غمار سلسلة من الحروب باهظة التكاليف.

وفاته وذكراه

قبر كولبير، داخل إگليس سان-اوستاش، پاريس.

انظر أيضاً

  • هانز كارل فون كارلوڤيتس

مصادر

  • القاموس الاقتصادي - تأليف حسن النجفي - مديرية مطبعة اللفة المحلية - بغداد -1977م - صفحة 63.

وصلات خارجية

  • by Jean-Pierre Clément
مناصب ثقافية
سبقه
Jean Silhon
المقعد رقم 24

الأكاديمية الفرنسية
1667–1683

تبعه
جان ده لا فونتين
تاريخ النشر: 2020-06-04 16:45:26
التصنيفات: People from Reims, Government ministers of France, أعضاء الأكاديمية الفرنسية, Burials at Église Saint-Eustache, Paris, Heads of the Bâtiments du Roi, مواليد 1619, وفيات 1683, اقتصاديون فرنسيون

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

استبعاد إيكاردي من تدريبات باريس سان جيرمان ومونزا أقرب الفرق لضمه

المصدر: البطولة - المغرب التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-08-10 21:16:01
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 59%

الجيش المالى: ارتفاع حصيلة القتلى فى هجوم تيسيت إلى 42 جنديا

المصدر: الرئيس نيوز - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-10 18:26:33
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 67%

ضحية جديدة للرفض في مصر..شاب يقتل زميلته بـ15 طعنة

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-10 21:15:27
مستوى الصحة: 32% الأهمية: 43%

بعد رفع حد الإعفاء.. 7 حالات تسقط عن الموظف ضريبة الدخل

المصدر: الرئيس نيوز - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-10 18:26:35
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 60%

اليونان.. عشرات المفقودين إثر غرق قارب مهاجرين سريين

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-10 18:26:08
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 57%

الحكم بالسجن على رئيس الزمالك

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-10 21:15:23
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 35%

فرنسا.. تجدد الحرائق يدمر ستة آلاف هكتار وإجلاء الآلاف

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-10 21:15:25
مستوى الصحة: 42% الأهمية: 41%

اليونان.. عشرات المفقودين إثر غرق قارب مهاجرين سريين

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-10 18:26:07
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 58%

عبد اللطيف حموشي يستقبل المدير العام للشرطة الوطنية الإسبانية

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-10 21:15:30
مستوى الصحة: 43% الأهمية: 39%

حكومة أخنوش تعد برزمة إجراءات للرفع من “جاذبية” مهنة التدريس

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-10 21:15:28
مستوى الصحة: 38% الأهمية: 49%

اجتماع مرتقب لفسخ عقد البوسني خاليلوزيتش

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-10 21:15:29
مستوى الصحة: 36% الأهمية: 39%

رسميا.. تقديم مذكرة طعن على إعدام قاتل نيرة أشرف أمام محكمة النقض

المصدر: الرئيس نيوز - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-10 18:26:36
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 63%

تحميل تطبيق المنصة العربية