الحريري
محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري (446هـ/1054م -ستة رجب 516 هـ/11 سبتمبر 1112م) من أكبر أدباء العرب، وصاحب مقامات الحريري.
لم يبلغ كتاب من خط الأدب في العربية ما بلغته مقامات الحريري من بُعد الصيت واستطارة الشهرة، ولم يكد الحريري ينتهي من إنشائها حتى أقبل الوراقون في بغداد على كتابتها، وتسابق الفهماء على قراءتها عليه، وذكروا أنه وقَّع بخطه في عدة شهور من سنة (514هـ=1110م) على سبعمائة نسخة، وبلغ من شهرتها في حياة الحريري حتى أقبل من الأندلس فريق من فهمائها لقراءة المقامات عليه، ثم عادوا إلى بلادهم حيث تلقاها عنهم الفهماء والأدباء، وتناولوها رواية وحفظًا ومدارسة وشرحًا.
وصاحب هذا الأثر الخالد هومحمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري، ولد بالمشان، وهي من ضواحي مدينة البصرة سنة (446هـ/1054م)، ولما شبَّ عن الطوق رحل إلى البصرة، وسكن في محلة بني حرام، وهي قبيلة عربية كانت تسكن البصرة، وتأدب بها، واتصل بأبي الحسن بن فضال المجاشعي، فقرأ عليه العربية، ودرس الفقه على أبي إسحاق الشيرازي، كما سمع الحديث من عدد غير قليل من الحفاظ والمحدثين.
وكان الحريري مفرطًا في الذكاء، آية في الحفظ وسرعة البديهة، غاية في الفطنة والفهم، فما كاد يفرغ من تلقيه الفهم حتى جذب الأنظار إليه، وعُين في ديوان الخلافة في منصب "صاحب الخبر"، وهي وظيفة تشبه هيئة الاستعلامات في عصرنا، ولا يُعهد على وجه اليقين متى تقلدها، لكنه ظل بها إلى حتى تُوفي.
وكان الحريري من ذوي الغنى واليسار إلى جانب فهمه الواسع، وتمكنه من فنون العربية، وكان له بقريته "المشان" ضيعة كبيرة مليئة بالنخل، وكان له بالبصرة منزل يقصده الفهماء والأدباء وطالبوالفهم، يقرءون عليه ويفيدون من فهمه.
مقامات الحريري
المقامات فن من فنون الكتابة العربية ابتكره بديع الزمان الهمذاني، وهونوع من القصص القصيرة تحفل بالحركة التمثيلية، ويدور الحوار فيها بين شخصين، ويلتزم مؤلفها بالصنعة الأدبية التي تعتمد على السجع والبديع.
ويحكي الحريري عن سبب إنشائه المقامات، فيقول: "إن أبا زيد السروجي كان من أهل البصرة، وكان شيخًا شحاذًا أديبًا بليغًا فصيحًا، ورد البصرة، فوقف في مسجد بني حرام، فسلّم، ثم سأل، وكان المسجد غاصًا بالفضلاء، فأعجبتهم فصاحته وحسن كلامه، وذكر أسر الروم ولده، فاجتمع عندي عشية جماعة، فحكيت ما شاهدت من ذلك السائل، وما سمعت من ظرفه، فحكى جميع واحد عنه نحوما حكيت، فأنشأت المقامة الحرامية، ثم بنيت عليها سائر المقامات التي تبلغ خمسين مقامة". وقد بدأ في كتابتها في سنة (495هـ=1101م) وانتهى منها في سنة (504هـ=1110م).
البطل والراوي
وقد نسب الحريري رواية هذه المقامات إلى الحارث بن همام، فهوالذي يروي أخبارها، ويقول ابن خلكان: إنه قصد بهذا الاسم نفْسَهُ، ونظر في ذلك إلى قوله (صلى الله عليه وسلم): "كلكم حارث وكلكم همام" فالحارث: الكاسب، والهمام كثير الاهتمام بأموره، وما من إنسان إلا وهوحارث وهمام.
أما بطل هذه المقامات فهوأبوزيد السروجي، وهومتسول يعتمد على حسن الكلام وسحر البيان في جذب اهتمام الناس، واستلاب عواطفهم، واستمالة عقولهم ليمنحوه صدقاتهم. وتختلف الروايات في حقيقة أبي زيد السروجي، فمن قائل إنه اسم خيالي وضعه الحريري صاحب المقامات، واستوحاه من صورة الشحاذ الذي لقيه في مسجد بني حرام بالبصرة، في حين يمضى البعض أنه شخصية حقيقية، والأقرب إلى الصواب حتى أبا زيد السروجي شخصية نسجها خيال الحريري، ليحوك من حولها حيل أديب متسول، مثلما اتخذ بديع الزمان الهمذاني من أبي الفتح الإسكندري بطلاً لمقاماته.
وتبدأ المقامات بلقاء بين الحارث بن همام وأبي زيد السروجي في صنعاء، وهما في ريعان الشباب وربيع العمر، حيث لقي الحارث أبا زيد خطيبًا واعظًا في جمع من الناس، ثم تبعه فعهده مخادعًا كذابًا، وعلى هذا اللقاء بنى الحريري المقامة الأولى، وأطلق عليها "المقامة الصنعانية"، ثم أخذ الحارث يجوب البلاد ويواصل الأسفار ليلقى أبا زيد في أماكن مختلفة، في ساحات القضاء، ومجالس الولاة، وأندية الأدباء، ثم يلتقيان في مسجد البصرة، وقد تقدم بهما العمر، وهدَّ جسدهما طول الزمن، فإذا أبوزيد يقف في حشد من الناس يعلن توبته، ويندم على ما قدّم من ذنوب وآثام، ثم يعزم على العودة إلى بلده "سروج" وينصرف إلى العبادة والصلاة، أما الحارث بن همام فيتوقف عن السفر والترحال، ويجنح إلى الراحة، ويكون هذا هوآخر لقاء بينهما، وبه تنتهي المقامة الخمسون آخر المقامات.
بين القص والصنعة البيانية
تجمع المقامات التي أنشأها الحريري بين متعة القص والحكي وتحقيق الغاية البيانية البلاغية، ويذكر في مقدمة عمله مقصده بقوله: "أنشأت خمسين مقامة تحتوي على جد القول وهزله، ورقيق اللفظ وجزله، وغرر البيان ودرره، وملح الأدب ونوادره، إلى ما وشحتها به من الآيات، ومحاسن الكنايات ووضعته فيها من الأمثال العربية واللطائف الأدبية، والأحاجي النحوية والفتاوى اللغوية، والرسائل المبتكرة، والمواعظ المبكية، والأضاحيك الملهية".
غير حتى الصنعة البيانية قد غلبت على القص والحكاية، وزاد من افتتان الناس بها البراعة الفائقة والقدرة الفذة التي خط بها الحريري هذا العمل، وكأن المعجم العربي قد نُثِر كله بين يديه يختار منه ما يشاء في صنعة عجيبة وإحكام دقيق.
ولم يكتف الحريري بالسجع والمحسنات البديعية في مقاماته، وإنما أضاف إليها أمورًا أخرى غاية في التعقيد، لكنه تجاوز هذا التعقيد في براعة فائقة، فأورد في المقامة السادسة التي بعنوان "المراغية" رسالة بديعة تتوالى حدثاتها مرة منقوطة ومرة غير منقوطة، منها قوله: "العطاء ينجي، والمطال يشجي، والنادىء يقي، والمدح ينقي، والحر يجزي..."، ويسمى المقامة السادسة والعشرين باسم الرقطاء، لأنها تحتوي على رسالة، تتوالى حروف حدثاتها بالتبادل بين النقط وعدمه، مثل قوله: "ونائل يديه فاض، وشح قلبه غاض، وخلف سخائه يحتلب..."، وفي المقامة الثامنة يخطب أبوزيد السروجي خطبة جميع حدثاتها غير منقوطة، بدأها بقوله: "الحمد لله الممدوح الأسماء، المحمود الآلاء، الواسع العطاء، المدعولحسم اللأواء، مالك الأمم، ومصور الرمم، وأهل السماح والكرم ومهلك عاد وإرم...".
عناية الفهماء بمقامات الحريري
وقد حظيت مقامات الحريري منذ حتى ألفها الحريري باهتمام الفهماء فأقبلوا عليها يشرحونها، لما زخرت به من الألفاظ والأمثال والأحاجي والألغاز، والمسائل النحوية والبلاغية، وقد أحصى "حاجي خليفة" صاحب كتاب "كشف الظنون" أكثر من خمسة وثلاثين شارحًا، منهم: محمد بن علي بن عبد الله الحلي، ومحمد بن محمد المكي الصقلي المعروف بابن ظفر، وأبوالمظفر محمد بن أسعد المعروف بابن حكيم، وعبد الله بن الحسين العكبري، وأحمد بن عبد المؤمن من موسى الشريشي.
وقد انتبه المستشرقون منذ وقت مبكر إلى أهمية المقامات فأولوها عنايتهم وترجموها إلى لغاتهم، فقام المستشرق الهولندي "جوليوس" في سنة (1067هـ=1656م) بترجمة المقامة الأولى إلى اللغة اللاتينية، ثم نقل المستشرق الهولندي نفسه ست مقامات بين سنتي (1144هـ=1731م) و(1153هـ=1740م) إلى اللاتينية.
وفي فرنسا قام المستشرق "كوسان دي برسفال" بنشر المتن العربي الكامل سنة (1337هـ=1918م)، كما قام الأستاذ "دي ساسي" بجمع مخطوطات المقامات وشروحها، وعمل منها شرحًا عربيًا، وطبع المتن والشرح في باريس سنة (1238هـ=1822م).
كما ترجمت المقامات إلى الألمانية، وقام بالترجمة المستشرق "ركرت"، وتمتعت هذه الترجمة بشهرة واسعة في عالم الاستشراق، وتُرجمت إلى الإنجليزية سنة (1284هـ=1867م).
وكانت مقامات الحريري من أوائل ما طُبع من المخطة العربية، وتوالت طبعاتها في باريس ولندن وليدن ولكنوودلهي بالهند، والقاهرة وبيروت.
رسائل ومؤلفات
كان للحريري رسائل أدبية إلى جانب مقاماته، لم تحتفظ بها يد الزمن، فضاعت مع ما ضاع من تراثنا الضخم، ولكن احتفظت بعض الخط القديمة ببعض رسائله، وقد سجّل "ياقوت الحموي" في معجم الأدباء رسالتين اشتهرتا في عصر الحريري والعصور التي تلته، إحداهما عهدت بالسينية؛ لأن حدثاتها جميعًا لا تخلومن السين، والأخرى اشتهرت بالشينية، لالتزام حدثاتها بإيراد حرف الشين. وقد استهل الرسالة السينية التي خطها على لسان بعض أصدقائه يعاتب صديقًا له –بقوله: "باسم القدوس أستفتح، وبإسعاده أستنجح، سجية سيدنا سيف السلطان،… السيد النفيس، سيد الرؤساء، حُرست نفسه، واستنارت شمسه، وبسق غرسه واتسق أنسه، استمالة الجليس، ومساهمة الأنيس، ومواساة السحيق والنسيب...".
وللحريري غير المقامات والرسائل ما يأتي:
- درة الغواص في أوهام الخواص، بيّن فيه أغلاط الكتاب فيما يستعملونه من الألفاظ بغير معناها في غير موضعها، وقد طُبع في مصر سنة (1272هـ=1855م).
- وملحة الأعراب في صناعة الإعراب، وهي أرجوزة شعرية وقد طُبعت في باريس وبيروت والقاهرة.
وفاته
ظل الحريري في البصرة موضع تقدير أهل الفهم، واتى وضعه للمقامات فارتفعت منزلته وازدادت مكانته حتى لقي ربه في (6 رجب 516 هـ/11 سبتمبر 1112م).
اقرأ أيضا
المقامة الصنعانية للحريري
من مصادر الدراسة
ياقوت الحموي: معجم الأدباء – تحقيق إحسان عباس – دار الغرب الإسلامي – بيروت – 1993م.
ابن خلكان: وفيات الأعيان – تحقيق إحسان عباس – دار صادر – بيروت – 1397=1977م.
الشريرشي: شرح مقامات الحريري – تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم – المؤسسة العربية الحديثة – القاهرة – 1969م.
شوقي ضيف: الفن ومذاهبه في النثر العربي – دار المعارف – القاهرة – 1983م.
إسلام أون لاين: الحريري.. ومقاماته البديعة تصريح
انظر أيضاً
- بديع الزمان الهمذاني
- الأدب العربي
الهامش
وصلات خارجية
- page
- page
نطقب:MEast-mil-bio-stub
نطقب:Iraq-poet-stub