الثقافة والمثقفون في فكر الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله (3)


3- ثقافتنا المرجوة: ضوابط المثاقفة وسمات البدائل

يقرّ الإمام عبد السام ياسين رحمه الله تعالى مبدئيا بإمكانية الاستفادة من ثقافات الشعوب دون اعتراض ما دمنا مغروسين جيدا في تربتنا الخاصة، مُحكِمين لأساسنا المتين، واثقين من أنفسِنا، ونمتلك اليقظة اللازمة والوعي الكافي بما يُحاك وما يروج، “فنحن لا اعتراض لنا على ثقافة الشعوب مادامت لا تحاول تبليدنا بطرقات ضجيج الحداثة المسعور!” .

فالانفتاح القائم على نشدان الحكمة أنّى وُجدت، لكنّه انفتاحٌ واعٍ، وانتقاءٌ راشد، قائم على الغربلة والتمحيص والتأصيل والتجذير،  لا تلقُّفُ سَيْل أو حَطَبُ لَيل، بل بحثٌ صادِق، متتلمِذٌ بغير عقدة نقص، راغبٌ في إقامة الجسور وتقريب الفجوات، مؤمن بأن رسالة الإسلام جاءت استكمالا للفضائل وتتميما لمكارم الأخلاق.

لكنّ الرّهان الحقيقي، أن يكون لنا بضاعة نتقدّم بها بين يدي النّاس، ونعرضُها واثقين فيها معتزّين بها في أسواق الناس، ولذلك كان معظم حديث الإمام رحمه الله عن الثقافة والفنون في كتبه، عن سمات البديل المنتظر، وخصائص الإنتاج المرجو.

وقد جاءت مقدّمة المنظومة الوعظية، وافية محيطة بالمراد، وفصّلت فيما يجب، وكيف؟ ولِمَ؟ وتجاوزت توصيف الواقع وتشخيص أدوائه، إلى استشراف آفاق المستقبل، بل اقتراحه وصناعته، وهو الأمر الذي جعل الإمام رحمه الله تعالى يرسم مجموعة من الخطوات التي ينبغي أن يقتفي أثرها أهل الثقافة والفنون، كما أكد على مجموعة من الركائز الأساسية، حتى لا تتغيّر الوِجهة وتضيع البُغيَة، وتخبو الشعلة، وتنتكس الخُطى، ومن ذلك ما يأتي:

• ضرورة اعتبار الأدب والفن وسائل تربوية حاسمة، إن أُحسِن توظيفُها ولم تنصرف إرادة الفاعلين فيها إلى العناية بالصورة الجمالية على حساب المضمون العميق، أو تركّز القصد على الإمتاع الفني والإلهاء التخييلي، دون حمل النبأ العظيم: “ينبغي أن يكون الأدب الإسلامي وسيلة من وسائل التربية، كلمة لها مغزى، تحمل معنى، تبلغ رسالة. لا أداة تسلية وبضاعة استهلاك. وسيلة تربية وكلمة هادفة تأخذ من العصر وسائله، وتروضها وتتزين بزينة الله، وتتلطف بأشكال المقبول شرعا من أدوات التعبير العصرية كما تلطف مبعوث أصحاب الكهف ليقضي حاجة أصحاب الكهف من سوق كانوا يخشون غائلة أهلها. تربية ومساهمة في تربية ينبغي للخطاب الإسلامي عامة وللأدب الإسلامي خاصة أن يتحلى لها وفيها بجمالية المبنى ولين القول لفرعون العصر دون أن يخضع بالقول لاستكبار العصر، دون أن يتبنى نغمة الثقافة العالمية الأمريكية الهوليودية” .

• الانطلاق من القرآن الكريم وجعله روحَ الفعل الثقافي والفني ومدارَه ولُبَّه: “إن كان من المعقول أن يتدرج الأدب الإسلامي والفن والمسرح والشعر في جهاد تميزه عن الأدب الكاسح المادي، فاكتماله يرجى يوم يعبئ الطاقات الأدبية بشجاعة وصدق ليقف صفا متراصا خلف الكلمة القرآنية والبلاغ النبوي. وليستعمل الجمالية الأدبية ليبلغ كلمة القرآن وحديث الوحي، لا يلوي على بنيات الطرائق الفنية فيتسرب منه المضمون القرآني النبوي” .

• التذكير الدائم بالمآل والإسهام في إيقاظ عزائم الرجال: “لا خير في أدب يجول في عرصة الدنيا وعرسها يداعب أهواء الناس وتداعبه، يثير مشاعر الناس وتثيره، يؤجج مشاعر الناس وتؤججه غافلا مغفلا عن المآل، عاجزا مثبطا لعزمات الرجال” .

• لزوم الصدق الفني وصدق التعبير عن جوهر الرسالة القرآنية النبوية والارتباط بهموم الأمة وقضاياها: “صدق المضمون وبيان الحقيقة هما الكيف الذي به يكسب الأدب الإسلامي قوته ونفوذه وفضيلته ليغزو ضمير الإنسان في عالم التجارة العملاقة” .

خلاصة:

إن مواجهة الثقافة التغريبية بكل سماتها وخصائصها، كشفا لأخطارها، وبيانا لعُوارِها ونقضا لطروحاتها، ليس هدفُهُ إنتاج ثقافة على المنوال، تغيّرُ التسمية والعنوان، وتستلهم، من حيث شعرت أم لم تشعر، فكرة مراكمة المعارف بلا روح، وتأثيث العقول في غفلة عن القصد الأبعد، وتغرق في ردود الأفعال دون أن تنضج لتحمل رسالة الإسلام وتتسلّح ببيان القرآن وتتهمّم بإرشاد الإنسان، إنها إن فعلت ولم تحمل نور الإيمان بالغيب ونبأ الموعد مع الله، تتحول إلى ما أسماه رحمه الله ب”الأعرابية الفكرية”، ولذلك ما فتئ يؤكد أنه “من كان يوصي بمزيد من “الثقافة الإسلامية” ومزيد من المعاهد والكتب والعلم فنحن معه لا نعارض بل نحبذ ونشعر بالحاجة الملحة إلى تنوير العقل بالعلم. لكن الجهاز العلمي يتحول ركاما إن ابتعد في مفاهيمه ومقاصده، ويصُبّ في نهر داء الأمم تراكمه، إن حاد عن القرآن ومقعد القرآن وهدف القرآن، ألا وهو الإيمان والإحسان” .

كما لا يجب أبدا أن تحاول الثقافة البديلة المشي برجل واحدة، فتكرر مقولات الفقه المنحبس، حابسة المرأة عن المشاركة الفعالة بضوابطها الشرعية المعتبرة، حاملة لواء العدل والإحسان جنبا إلى جنب مع أخيها الرجل، مقتحمة غير هيّابة، ذلك أن المعركة حامية شاملة، مما يجعل مشاركة المرأة أوكد وأوجب: “يجب على المؤمنات أن يدخلن مع المؤمنين في صد العدوان حَمْلَةً واحدة. حرب واحدة ومعارك ومواقع وثُغور. في الثقافة ثغر، وفي الاقتصاد، وفي السياسة، وفي التعليم، وفي الإعلام سطوح خرقوها، وفي الأخلاق سدود حطموها” .


[1] الإسلام والحداثة، ص: 197.
[2] المنظومة الوعظية، ص: 15، 16.
[3] المنظومة الوعظية، ص: 9.
[4] المنظومة الوعظية، ص: 10.
[5] المنظومة الوعظية، ص: 13.
[6] سنة الله، ص: 47.
[7] تنوير المؤمنات، الجزء الأول، ص: 91، 92.
تاريخ الخبر: 2022-05-04 15:20:15
المصدر: الجماعة.نت - المغرب
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 58%
الأهمية: 59%

آخر الأخبار حول العالم

البرج: مشاريع في المياه والتهيئة برأس الوادي

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-15 03:24:13
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 62%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية