يؤمن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمقولة «الأفضل من تضييع الوقت في التنبؤ بالمستقبل هو صناعته»، وهذا ما دفعه لاختيار توقيت اعتبره مثاليا لإطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا منتصف ليل الاحتفال بذكري عيد حماة الوطن، وكان يوما حاشد بالأحداث التي تنذر بأن نهايته لن تكون عادية، وبعد مرور 74 يوما على هذه العملية، أصبح العالم ينتظر المفاجآت الحاسمة التي سيعلنها الرئيس الروسي في ذكري احتفالات عيد النصر الروسي يوم 9 مايو.

الاستطلاع الأمريكي الذي سبق العاصفة الروسية

في صباح الأربعاء 23 فبراير 2022 نشرت شبكة CNN الأمريكية استطلاع رأي ذكرت أنها أجرته عبر شبكة الأنترنت مع 1000 مواطن داخل روسيا ومثلهم داخل أوكرانيا، في الفترة من 7 إلى 15 فبراير، وكان ابرز ما جاء فيه أن نصف الروس يعتقدون أنه سيكون من الصواب لموسكو استخدام القوة العسكرية لمنع كييف من الانضمام إلى حلف الناتو، لكنهم اعتبروا أنه سيكون من الخطأ استخدام القوة العسكرية لإعادة توحيد روسيا وأوكرانيا، وفي المقابل يري الأوكرانيون أنهما وروسيا ليسوا شعبًا واحدًا ولا ينبغي أن يكونا واحدًا، لكن اللافت للنظر أن الروس والأوكرانيين اتفقا في هذا الاستطلاع على أن «بوتين» شخص قوي وحاسم، وزاد الروس على هاتين الصفتين بأنه «ذكي»، بينما أضاف الأوكرانيون بأنه «خطير».

رسالة بوتين للعسكريين قبل الحرب الأوكرانية بـ 12 ساعة

في منتصف نهار يوم عيد حماة الوطن.. وبعد مرور ما يقارب الـ 60 دقيقة من نشر استطلاع الشبكة الاخبارية الأمريكية، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يضع إكليلا من الزهور على ضريح الجندي المجهول في قلب العاصمة موسكو، احياء لذكرى الجنود الذين ضحوا بأرواحهم في معارك الوطن، وسرعان ما توارى الرئيس الروسي عن الأنظار عقب هذا المشهد.

لكن التلفزيون الروسي بث بعدها بحوالي 20 دقيقة تقررا عن برقية تهنئة من «بوتين» للعسكرين بمناسبة عيد حماة الوطن، قال خلالها: «نرى الأوضاع الصعبة على الساحة الدولية، وما تحمل التحديات القائمة في طياتها من مخاطر، ومنها زعزعة نظام الرقابة على الأسلحة والأنشطة العسكرية لحلف الناتو»، مضيفا أنه «لا تزال بدون رد دعوات روسيا لبناء نظام للأمن المتكافئ وغير القابل للتجزئة، من شأنه أن يحمي جميع البلدان»، مؤكد أن "بلاده منفتحة دائما على الحوار المباشر والصريح لإيجاد حلول دبلوماسية للقضايا الأكثر تعقيدا»،

وأن «مصالح روسيا وأمن مواطنينا أولوية غير مشروطة بالنسبة للقيادة الروسية، وأنها ستواصل تطوير الجيش والأسطول الحربي، معلنا أن المناورات المنتظمة واسعة النطاق واختبارات جاهزية القوات المسلحة الروسية أظهرت زيادة ملحوظة في مستوى جاهزيتها والانسجام بين الوحدات.

وقال بوتين في برقية تهنئته للعسكريين، إننا سنواصل تطوير الأنظمة الواعدة للأسلحة، بما فيها فرط الصوتية والمبنية على المبادئ الفيزيائية الجديدة، وتوسيع رقعة استخدام التكنولوجيات الرقمية المتقدمة وعناصر الذكاء الاصطناعي، وهذه هي أسلحة المستقبل التي ستزيد من القدرات القتالية لقواتنا المسلحة عدة أضعاف».

تقرير روسي يعلن الجاهزية للحرب

بعد مرور حوالى نصف ساعة من الإعلان عن برقية بوتين للعسكريين، بث موقع «روسيا اليوم» تقريرا مصورا من داخل الأكاديمية العسكرية لهيئةِ الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية، اقدم مؤسسة تعليمية عسكرية في روسيا، لرصد جانب من تدريبات كبار الضباط في واحدة من أكثر المؤسسات المحاطة بالسرية، وكان التقرير أقرب للترجمة العملية لبرقية الرئيس الروسي، وتضمن عدة مشاهد تستحق الوقوف أمامها.

كان اول متحدث في التقرير ألكسندر سيرجانتوف، نائب رئيس الأكاديمية للعمل العلمي، ولم يستغرق ظهوره أكثر من ثواني معدودة، ملخصها جملة واحدة (لا يوجد مثل هذه الأكاديمية في العالم كله).

كان المتحدث الثاني في التقرير: قسطنطين كاستورنوف، نائب رئيس الأكاديمية للعمل العسكري السياسي، وتحدث في ثوان ملخصها (هنا تتدرب القيادات لتعرف مهامها).

المتحدث الثالث: أليكسي كوزين، رئيس الكلية الخاصة في الأكاديمية (الدارسين الأجانب)، صاحب النصيب الأكبر من متحدثي التقرير، وأهم ما قاله (من هنا تخرجت كوادر أصبح منهم 30 وزير دفاع حالي)، وخلال حديثه ظهر خلفه 7 أعلام يتصدرها ثلاثة لدول عربية هي بالترتيب (الجزائر ومصر والسعودية) وخلفها أعلام لـ 4 دول إفريقية.

التقرير تضمن ايضا مشاهد خاطفة للمركز الرئيسي للتحكم الاستراتيجي، (مركز الألعاب العسكرية) وهو القسم الأكثر أهمية وسرية، ويتدرب فيه الضباط الكبار على قيادة قوات متنوعة (جوية وبرية وبحرية) والتنسيق بينها.

«بوتين» يعلن انطلاق العملية العسكرية

قبل أن يطوي المواطنون الروس صفحة الاحتفال بيوم حماة الوطن، بث التلفزيون الروسي رسالة مسجلة للرئيس «بوتين» أعلن خلالها أنه اتخذ قرارا بعملية عسكرية خاصة، وقال «سنبذل أقصى جهودنا لنزع السلاح وإزالة الطابع النازي» واعدا "باقتياد الذين ارتكبوا العديد من الجرائم والمسؤولين عن إراقة دماء مدنيين بمن فيهم مواطنون روس، إلى المحاكم»، مؤكدا أنه «ليس من بين خططنا احتلال أراضٍ أوكرانية ولا ننوي فرض أي شيء بالقوة على أحد»، داعياً الجنود الأوكرانيين إلى إلقاء أسلحتهم، موجها حديثه لمن وصفهم بأنه «الذين سيحاولون التدخل معنا»، قائلا «يجب أن يعلموا أن رد روسيا سيكون فوريًا وسيؤدي إلى عواقب لم تعرفها من قبل».

استطلاع رأي روسي في ذكرى تنصيب «بوتين»

بعد مرور 72 يوما على العملية العسكرية الروسية، وبالتحديد في 7 مايو، وهو التاريخ الذي يواكب ذكرى تنصيب «بوتين» رئيسا للاتحاد الروسي في ولايته الأولي عام 2000، نشرت وسائل الإعلام الروسية ما اعتبرته دراسة اجتماعية، قالت إن من أجراها هو صندوق الرأي العام، وذكرت أن ابرز نتائجها يتمثل في أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحظى بثقة 78٪ من الروس.

وقالت وسائل الإعلام الروسية إن الدراسة جرى تنفيذها في الفترة من 29 أبريل إلى 1 مايو بين 1500 مشارك من فئات عمرية متنوعة في 53 منطقة روسية، عبر المقابلات في مكان الإقامة، وذكرت أن 78٪ من الذين تم استطلاع آرائهم، قالوا إنهم يثقون بالرئيس بوتين، واختار 13٪ الإجابة بأنهم لا يثقون برئيس الدولة، ووجد 9٪ صعوبة في الإجابة عن السؤال، وأن 79٪ من المشاركين في الاستطلاع يرون أن الرئيس بوتين يعمل بشكل جيد في منصبه،  وأعرب 11٪ عن وجهة نظر معاكسة، وقال 10٪ إنهم وجدوا صعوبة في الإجابة عن السؤال.

العسكريون الروس يزرعون الورد الأحمر في أوكرانيا

في صباح الأحد 8 مايو نفذ مجموعة من العسكريين الروس عملية ترميم نصب تذكاري لأبطال الحرب الوطنية العظمى في إحدى مناطق جمهورية لوغانسك الشعبية، وتضمنت العملية زراعة الورد الأحمر في محيط النصب التذكاري، وكانت هذه أول مظاهر الاحتفال بعيد النصر وأول إشارة لتأكيد انضمام الإقليم لروسيا.

خارطة طريق عيد النصر

اعتادت روسيا أن تقيم احتفالا ضخما في الميدان الأحمر بالعاصمة موسكو، احياء لذكرى انتصار روسيا على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، وتوقيع ألمانيا في منتصف ليل الثامن من مايو 1945 اتفاقية استسلام في كارلشورست، إحدى ضواحي برلين، وفق مراسم ترأسها المارشال السوفيتي جورجي زوكوف، وبحضور ممثلين من القيادات العليا بالاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، ليطوي الجميع صفحة الحرب التي دامت 1418 يوما.

اكتسب عيد النصر مكانة قوية في نفوس المواطنين الروس بعد 20 عاما من الانتصار، حين اهتمت الدولة بتنظيم الاحتفالات في هذه المناسبة، بل إن الرئيس الروسي الحالي تمكن خلال التعديلات الدستورية الأخير من تضمين هذه المناسبة في الدستور، باعتبارها واحدة من أهم وأخطر المناسبات الوطنية، وهذا ما يجعل من ذكرى الاحتفال هذه المرة مختلفا، لأنه يأتي في ظل عملية عسكرية بدأت في عيد حماة الوطن.

الحرب الأوكرانية اصبحت حدثا ينحصر بين عيدين روسيين، والعالم كان ينتظر مفاجآت الرئيس الروسي في ذكرى النصر، وواحدة من التقارير الاستخباراتية الأمريكية توقعت أن يعلن بوتين عدة قرارات يوم 9 مايو باعتباره اليوم الذي سيحسم فيه خارطة طريق العملية العسكرية في أوكرانيا، معتبرا أن أهم ملامحها ضم اقليمي (دونيتسك ولوغانسك) على طريقة شبه جزيرة القرم، وإعلان تأسيس اقاليم جديدة في أوكرانيا (خيركوف وماريوبول وخيرسون) تمهيدا لانفصالها.