الفشل الأمريكى فى احتواء الصين


فى اللحظة ذاتها تقريباً التى أكد فيها الرئيس الأمريكى بايدن، أمام الزعماء العرب المشاركين فى قمة جدة التى اختُتمت قبل أربعة أيام، أن بلاده تخلت عن أخطاء الماضى وستركز فى المرحلة المقبلة لتبقى عنصراً مؤثراً فى منطقة الشرق الأوسط، ولن تترك فراغاً تستغله إيران أو الصين أو روسيا أو الثلاث معاً، دون أن يشرح كيفية حدوث ذلك، كان هناك رمز غربى آخر، وهو تونى بلير، رئيس الوزراء البريطانى الأسبق، يحاضر فى أحد المراكز فى لندن عن «ما بعد أوكرانيا.. الدروس الحالية للقيادة الغربية؟»، حيث انتهى إلى أربع نتائج مهمة، أولاها أن العالم سيصبح ثنائى القطبين أو متعدد الأقطاب، وثانياً أن الغرب والعالم بأسره يشهد ما وصفه بالحرف بـ«نهاية الهيمنة السياسية والاقتصادية الغربية»، وثالثاً أن التغيير الأكبر سيأتى من الصين وليس روسيا، ورابعاً أن على الغرب للحفاظ على قدر من النفوذ والهيمنة العالمية ألا يسمح للصين بالتفوق العسكرى، وأن يزيد من قدراته العسكرية تحسباً لأى مواجهة محتملة.

الحديثان السابقان من الرئيس بايدن وتونى بلير يكشفان عن حالة قلق شديد من الصعود الصينى تنتاب الغرب، الذى بدأ يستشعر جوانب كثيرة من ضعفه الذاتى، رغم أن لديه قدرات مادية ومعنوية أكبر بكثير مما لدى الصين منفردة أو متشاركة مع روسيا. وبدلاً من معالجة جوانب الضعف الهيكلية داخله، فإذا به يطرح استراتيجيات إما غامضة وبالتالى نتائجها ليست مؤكدة، وإما تتجاهل أسباب الصعود الصينى وتمدده فى أرجاء المعمورة، وتكتفى كما نصح بلير بالتركيز على التفوق العسكرى لمواجهة احتمال مواجهة مباشرة مع الصين.

وفى كلا التفكيرين نجد نقطة ضعف جوهرية تتجاهل مواجهة الصين فى أسباب نفوذها الاقتصادى والتكنولوجى المتصاعد بقوة والآخذ فى الانتشار عالمياً بمعدلات غير مسبوقة، والأهم أنه تمدُّد يحدث سلمياً وبقبول من عدد كبير من دول العالم، التى تستفيد، وإن بدرجات مختلفة، من هذا التفوق الصينى صناعياً وتكنولوجياً، فى الوقت الذى يتجاهل فيه الغرب احتياجات الكثير من الدول للصناعات الحديثة والبنية الأساسية المتطورة، والسلام الإقليمى القائم على الإنصاف والعدل وتسوية الصراعات بالتفاوض الجاد، وفقاً للقواعد الدولية كميثاق الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية المختلفة.

كان الأولى بالغرب أن يفكر فى كيفية إصلاح سياساته الاستعلائية ضد العديد من دول العالم، وأن يغير سياسات التجاهل وإغماض العيون عن الأزمات الإقليمية التى تسبّب فيها نتيجة أفكار وأوهام القدرة على تغيير العالم بالقوة العسكرية وبالضغط الاقتصادى، أو تلك الأزمات التى تتولد من قبَل أطراف تجد كافة صنوف المساندة من الغرب على حساب مصالح حيوية لدول ومجتمعات أخرى، ما يجسّد الازدواجية فى الفعل، والتناقض الصارخ فى المبادئ التى يتغنى بها الغرب.

كان الأولى أيضاً أن تفكر الولايات المتحدة، ومعها أوروبا، وهى تتحدث عن رؤيتها الجديدة لمنافسة الصين وروسيا فى الشرق الأوسط، فى أن تطرح شيئاً ملموساً يعبّر عن جدية فى الطرح وجدية فى التنفيذ، من قبيل سياسة واضحة لحل الأزمات الإقليمية المختلفة وفقاً للقوانين الدولية، وبناء حالة استقرار إقليمى ودولى أيضاً تجسد نفوذاً حقيقياً من أجل أمن العالم واستقراره، والتخلى عن الانحيازات المفضوحة للدول الاستعمارية سلوكاً وفكراً، التى يعرفها الجميع ويعتبرونها سبباً رئيسياً لفشل الغرب وتراجع القيادة الأمريكية، ومن ثم الميل الطبيعى للمشاركة مع القوى الدولية الصاعدة لتغيير هذا الميراث الغربى المفضوح.

والحقيقة أن المشكلة فى الغرب لا تتعلق فقط بالقيادات العليا، بل أيضاً بالمفكرين والمحللين الاستراتيجيين، الذين ينظرون للأمور من منظور يفتقر إلى النقد الذاتى، مستمرين على قناعة بأن الغرب عامة يمثل أعلى درجات التحضر والتفوق المادى والمعنوى، وأن النظام الدولى الذى أقامته الولايات المتحدة وحلفاؤها فيما بعد الحرب العالمية الثانية قائم على احترام القواعد والقوانين، وهو مُهدد الآن من قبَل قوى الاستبداد والقمع. وفى أفضل حالات النقد الذاتى يرى هؤلاء أو بعضهم أن الغرب، لا سيما الولايات المتحدة، قد أخطأ أحياناً حين تعمّد فرض قيمه على الآخرين، واستخدم القوة وتجاهل القواعد والقوانين التى وضعها بنفسه، سواء فى الأمم المتحدة أو فى غيرها من المؤسسات الدولية، ولم يحاسبه أحد، مما يتطلب العودة عن هذه السلوكيات، واللجوء إلى بناء التحالفات الموسعة للديمقراطيين لمواجهة دول الاستبداد والقمع. وهنا مرة أخرى يظل الإدراك الذاتى بأن الغرب يجب أن يكون هو المقنن للقواعد الدولية التى يخضع لها الآخرون.

المشكلة الكبرى لدى الولايات المتحدة والدول الأوروبية وحلفائهما أنهم لا يستطيعون تجاهل القوة الاقتصادية والتكنولوجية للصين، وأن اللجوء إلى منهج العقوبات ضدها فى المجال التجارى لا يسبب لها أى انتكاسة، بل على العكس يفيد الصين ويضع أعباء أكبر على الطرف القائم بالعقوبات. وتُجرى الآن إدارة الرئيس بايدن دراسة لتخفيض التعريفات الجمركية العالية التى فُرضت على السلع الصينية منذ إدارة الرئيس السابق ترامب عقاباً للصين، وما تم فرضه فى ظل الإدارة الحالية، بهدف تخفيض التضخم السائد، ولتحسين مستوى التأييد للرئيس بايدن استعداداً لانتخابات التجديد النصفى للكونجرس فى نوفمبر المقبل. والمغزى هنا أن الحاجة إلى السلع الصينية فى الأسواق الأمريكية والأوروبية هى التى فرضت تغيير سياسة العقوبات الأمريكية وليس العكس. وهى حاجة سوف تستمر طويلاً، لا سيما أن الجهود الأمريكية فى تصنيع بدائل للسلع الصينية تبدو غير فعالة إن لم تكن غير موجودة أصلاً.

وتبدو إجابات أحد كبار المديرين فى شركة أبل فى أحد الحوارات التليفزيونية حول أسباب استمرار تصنيع أجهزة الأيفون فى الصين كاشفة لحجم المشكلة التى تعانى منه الصناعة الأمريكية بوجه عام. ووفقاً لهذا المدير فإن السبب ليس أن التصنيع فى الصين أوفر مالياً، ولكن لأن لديها نظاماً تعليمياً كفؤاً يوفر آلاف المهندسين والفنيين ذوى المهارة العالية، كما أن نظم التدريب المستمر وترقية المهارات الفنية متوفرة وملزمة لكل العاملين فى المجالات الإلكترونية، بما يسمح لهم بمجاراة كل تطور فى هذه الصناعة المعقدة بيسر شديد. وهى عوامل ليست متوفرة فى المجتمع الأمريكى، وتحتاج حسب هذا المدير، الكثير من السنوات لتوفير مجتمع من المهندسين والفنيين الإلكترونيين الأكفاء.

وبالقطع فإن حالة صنع جهاز معقد لا تتوافر عناصره البشرية فى الولايات المتحدة ترسخ حالة الاعتماد الأمريكى وكذلك الغربى على الصناعة الصينية، وهو أمر يتطلب معالجة هيكلية فى الداخل الأمريكى والغربى قبل الحديث عن احتواء التمدد الصينى عالمياً.

*نقلاً عن "الوطن"

تاريخ الخبر: 2022-07-20 18:17:50
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 80%
الأهمية: 100%

آخر الأخبار حول العالم

قتل زوجته ففضحه «قوقل»! - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-07 03:23:34
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 51%

وفاة قبطان سفينة «تيتانيك» برنارد هيل - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-07 03:23:35
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 65%

أهدى شقيقته خاتماً في زفافها.. فقتلته أسرة زوجته! - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-07 03:23:36
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 67%

دعاية النظام الجزائري.. خطاب صبياني واتهامات مضللة

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-07 03:24:50
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 51%

شخص يتقدم بـ 21 ألف شكوى من ضوضاء الطائرات - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-07 03:23:37
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 52%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية