يرى كثير من العلماء أن الشيخوخة تحدث على مستوى التغيرات الجسدية نتيجة لتراكم كميات كبيرة من نواتج تفاعلات "الجزيئات" و"الخلايا" بمرور الوقت، مما يؤدي إلى تضاؤل تدريجي في القدرات النفسية والجسدية، مع زيادة احتمالية الإصابة بالأمراض، والموت في النهاية. ولكن هذه التغييرات ليست حتمية، فقد يصل بعض الأشخاص إلى سنّ السبعين أو أكثر، وهم يتمتعون بصحة جيدة، فيما يصيب بعضهم الوهن ويحتاجون إلى رعاية الآخرين.

نجد أن الشيخوخة في واقع الأمر هي حقيقة عضوية "بيولوجية" لها طريقتها المعينة في الحدوث خارج نطاق التحكم البشري، ويختلف تعريفها من مجتمع إلى آخر، ففي كثير من الدول المتقدمة والمجتمعات تُعتبر السن مؤشراً على الشيخوخة، إذ إن سنّ 60-65 عاماً هي سن التقاعد وبداية الشيخوخة، وفي عدة مناطق أخرى لا تؤخذ السن بعين الاعتبار لتحديد شيخوخة الشخص، فعوامل أخرى تحدّد سن التقاعد، مثل القدرة على أداء الأعمال الموكولة إلى الشخص، فالشيخوخة تبدأ عند عدم قدرة الشخص على المشاركة بفاعلية في المجتمع.

مؤخراً عُرّفت الشيخوخة بأنها ليست مجرد عملية بدنية، بل هي أيضاً حالة تعبّر عن تغيرات جذرية في مجال الأنشطة الاجتماعية التي اعتادها الفرد، فللشيخوخة عوامل نفسية وإجتماعية. واعتُبرت الشيخوخة مرحلة تُهجَر فيها العلاقات الاجتماعية والأدوار السابقة، مما يخلق للفرد عقداً نفسية تُفقِده الثقة بالنفس، وتجعله يشعر بأنه قد أصبح أداة عاطلة في المجتمع.

السنّ الحقيقية والسنّ البيولوجية

لا تكشف السن الحقيقية للشخص إلا عن قليل بشأن حالته الصحية والأداء الجسدي العام له، لكن يوجد تقييم آخر هو السن البيولوجية.

نجد أنه من الطبيعي أن تحدث عيوب أو تلف في الخلايا أو الأنسجة، ففي المراحل المبكرة من الحياة يكون الجسم عادة قادراً على تعويض هذه العيوب أو حتى إصلاحها، ولكن مع تقدم العمر، يصبح هذا الأمر أكثر صعوبة. والنتيجة تدهور تدريجي في الخلايا والأنسجة، يؤدي إلى فقدان الوظائف الجسدية والنفسية بمرور الوقت. وتختلف السرعة التي تحدث بها الشيخوخة من شخص إلى آخر، لذلك يمكن أن يكون للأشخاص في السن نفسها سنّ بيولوجية مختلفة.

لم يُتوصل بشكل قاطع إلى أفضل طريقة لحساب السنّ البيولوجية، فعادة ما يُستخدم عديد من المؤشرات الحيوية، مثل وظائف الرئتين والكلى والقلب، والقيم الناتجة عن تحاليل الدم المختلفة، وضغط الدم، ومؤشر كتلة الجسم، وصحة اللثة، وحالة الحمض الوراثي وخلافه.

الوحدة والاكتئاب يعجّلان الشيخوخة

توصلت دراسة مؤخراً إلى أن الشعور بالوحدة والتعاسة يؤدي إلى تسريع الشيخوخة أكثر من التدخين. كما يمكن أن تؤدي المشكلات النفسية إلى تسريع وتيرة تقدمك في العمر. فقد ذكر موقع "ميديكال اسكبرس" أن تراكم الضرر "الجزيئي" الذي يصيب الجزيئات داخل الخلايا نتيجة للعوامل البيئية الخارجية، يسهم ويؤدي إلى تطور الوهن والأمراض الخطيرة المرتبطة بالشيخوخة. في بعض الناس تكون هذه العمليات "الجزيئية" أكثر كثافة من غيرهم، وهي حالة يشار إليها عادة باسم "الشيخوخة المتسارعة".

ولحسن الحظ فإن الدراسة أظهرت أنه يمكن الكشف عن الوتيرة المتزايدة للشيخوخة قبل أن تظهر عواقبها الكارثية باستخدام ما يعرف بالنماذج "الرقمية للشيخوخة"، وهي التقنية المعروفة "بساعات الشيخوخة". كما يمكن استخدام هذه النماذج لاشتقاق علاجات مضادة للشيخوخة سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات.

أجرى تحالف دولي لباحثين بقيادة مؤسسة "العمر الطويل" الأمريكية مع علماء من الولايات المتحدة والصين دراسة لقياس آثار عدة عوامل على تسريع وتيرة الشيخوخة، مثل الشعور بالوحدة، أو النوم المضطرب، أو الشعور بعدم الرضا. وبالفعل تبين بعد الدراسة أنها عوامل مهمة وتلعب دوراً في تعجيل الشيخوخة. هذه الدراسة أُجريَت على أكثر من 11 ألفاً من البالغين الصينيين. وتُعَدّ هذه أكبر دراسة تجري على مجموعة صينية بهذا الحجم، إذ تم قراءة وتحليل بياناتهم الحيوية مثل الدم وخلافه.

ووفقاً لأحدث مقال نُشر في موقع Aging-US، فإن أي علاج مضادّ للشيخوخة يحتاج إلى التركيز على الصحة النفسية للفرد بقدر ما يركز على الصحة البدنية والجسمانية، وهو الأمر الذي لم يكن يُهتمّ به من قبل، إذ كان التركيز فقط على الحالة الجسدية للأشخاص، وقراءة وتحليل بياناتهم الحيوية.

اكتُشف تسارع الشيخوخة في الأشخاص الذين لديهم تاريخ من السكتة الدماغية وأمراض الكبد والرئة والمدخنين، أما العنصر الذي كان مثيراً للاهتمام حسب الدراسة، فهو أن الأشخاص الذين يعانون حالة نفسية ضعيفة وهشة كانوا أكثر عرضة للشيخوخة. كما بينت الدراسة أن الشعور باليأس والتعاسة والوحدة يزيد "السنّ البيولوجية" للفرد أكثر من التدخين. ومن العوامل الأخرى المرتبطة بتسارع الشيخوخة على سبيل المثال أن تكون عازباً وتعيش في منطقة ريفية لا تتوفر فيها الخدمات الطبية.

توصلت الدراسة إلى أنه لا ينبغي إهمال الجانب النفسي للشيخوخة سواء في البحث أو في التطبيقات العملية لمكافحة الشيخوخة. ووفقاً لمانويل فاريا من جامعة ستانفورد، فإن "الحالة والنفسية الاجتماعية من أقوى عوامل التنبؤ بالنتائج الصحية، ونوعية الحياة التي يمكن أن يعيشها الفرد مستقبلاً. وهي عوامل مهمة تُجوهلت وأُلغيَت إلى حد كبير من نظام الرعاية الصحية الحديثة".

مؤخراً طوّرت "Deep Longevity" نظاماً جديداً يقدم خدمة تمكّن مستخدميها من تحليل عديد من المؤشرات الحيوية مثل الدم ووظائف الكبد والكلي وغيرها، مما يمكّن من معرفة البيانات التي تشير إلى الشيخوخة، أو ما يطلق عليه "ساعات الشيخوخة"، لتوفير مقياس عالمي متعدد العوامل للسنّ البيولوجية للإنسان.

تأخُّر الشيخوخة

يمكن مواجهة علامات الشيخوخة المعروفة بحيث تكون السنّ البيولوجية أقلّ بشكل ملحوظ من السنّ الحقيقية، وذلك من خلال أداء بعض الأشياء، مثل ممارسة الرياضة بانتظام، ووضع برنامج رياضي، فضلاً عن اتباع نظام غذائي صحي ومتوازن.

يساعد أسلوب الحياة هذا على الحفاظ على عديد من المحددات السنّية أو حتى تحسينها في نطاق صحي وصولًا إلى مرحلة الشيخوخة، مثل الكتلة العضلية والقدرة على امتصاص الأكسيجين ونسبة الدهون في الجسم وكثافة العظام. هذا الأمر أيضاً له تأثير إيجابي في الخصائص الجسدية الأخرى، كالوزن وضغط الدم.

ومن المهم أن يكون الشخص متزناً نفسياً، ولديه شبكة اجتماعية تعمل جيداً، وهو أمر حاسم أيضاً للصحة والرفاهية والأداء، يساعد على أن تكون قادراً على التعامل الصحيح مع التوتر، إلى جانب الاعتماد على العائلة أو الشركاء أو الأصدقاء.

فضلاً عن تجنُّب العوامل التي يمكن أن تؤثّر سلباً، مثل السمنة والتدخين والكحول والتعرُّض المفرط للأشعة فوق البنفسجية والضغط النفسي.

TRT عربي