يقترب عام 2022 من إتمام أيامه، ومع ذلك حصيلة المآسي التي مرت بها القارة الأوروبية خلاله. فمع بداية العام، استفاق الأوروبيون على تصاعد التوتر على حدودهم الشرقية، بين روسيا وأوكرانيا، الذي استمر متحولاً إلى حرب دامية، وضعتهم أمام تحديات أمنية لم تعرفها القارة منذ عقود، كما سباق واسع نحو التسلح وخطر نووي محدق.

كل هذه التحديات حتَّمت على دول الاتحاد اتخاذ موقف إزاءها، وهو ما انعكس عليها اقتصادياً أيضاً بأزمة طاقة خانقة وارتفاع مستويات التضخم تبعاً لذاك، ما يهدد الاقتصاد الأوروبي بركود واسع.

من ناحية أخرى، عرفت البلدان الأوروبية خلال استحقاقات انتخابية كثيرة، شهدت معظمها صعود تيار اليمين المتطرف، وفي بعضها كان ذلك الصعود سابقة تاريخية لهذا الطيف السياسي. هذا إضافة إلى الأزمات الديبلوماسية التي هزت أعضاء الاتحاد الاتحاد الأوروبي، وأبرزها الجارين ألمانيا وفرنسا.

عام في الظلام والركود الاقتصادي

مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، وجد الأوروبيون أنفسهم وجهاً لوجه مع أبرز مورديهم من الغاز الطبيعي؛ روسياً التي تزود أوروبا بنحو 40% من حاجاتها من هذا المورد الطاقي. الأمر الذي وضع دول الاتحاد في مأزق عويص، يستوجب عليهم البحث عن بدائل لسد هذه الهوة العميقة التي خلَّفها الغاز الروسي.

هذا وتعتمد ست دول أوروبية بشكل كامل على الغاز الروسي في تلبية حاجياتها من هذه المادة، ومنها ثلاث دول تعتمد عليه في أكثر من ربع حاجياتها من الطاقة، حسب المفوضية الأوروبية. فيما تصدر روسيا ما يقدر بنحو 230 مليون متر مكعب من الغاز إلى أوروبا كل يوم، ويمر حوالي ثلثها غرباً عبر أوكرانيا.

بالمقابل، قرَّرت روسيا للرد على العقوبات الأوروبية ضدها ودعم الأوروبيين لكييف، تسعير بيع الغاز لتلك البلدان بعملتها المحلية الروبل. هذا وفي أبريل/نيسان الماضي، قطع عملاق الطاقة الروسي "غازبروم" إمدادات الغاز عن كل من بولندا وبلغاريا، لرفض البلدين سداد ثمنه بالروبل.

وللخروج من هذا المأزق، بحث الأوروبيون عن موردين جدد في الشرق الأوسط وإسرائيل وأذربيجان. كما طلبوا من مورديهم المعتادين، في الجزائر والنرويج، زيادة حجم تلك الواردات، وهو الأمر الذي تقابله صعوبات لوجستية وتحديات كبيرة في زيادة إنتاج هذه الدول.

كما عادت دول مثل ألمانيا وفرنسا والنمسا وهولندا وإيطاليا إلى الفحم لتوليد الطاقة الكهربائية. غير أن الفحم أيضاً يواجه نقصاً هو الآخر، بعد إعلان الاتحاد الأوروبي، شهر أغسطس/آب المنصرم، حظر وارداته من روسيا، والتي تمثل 45% من حاجيات الاتحاد.

كل هذه المعطيات أدت إلى انفجار فاتورة الطاقة الأوروبية، التي فاقت عتبة الـ 700 مليار دولار، وفق تقديرات شهر نوفمبر/تشرين الثاني. هذا بالرغم من إقرار الاتحاد خطة تقشف طاقي، في أغسطس/آب الماضي، حيث اتفق الأعضاء بموجبها على خفض استهلاكهم من الطاقة بـ15%.

وفي أواخر يوليو/تموز، كانت هانوفر الألمانية أول مدينة تعلن عن إجراءات تضمَّنت هذه تقييد تدفئة المباني العامة، إضافة إلى إيقاف الماء الساخن في الحمامات العمومية والحمامات في المباني العامة التي تديرها المدينة والمراكز الترفيهية. وفي فرنسا أيضاً، جرى تبني إجراءات مماثلة، بالإضافة إلى إطفاء الإنارة العمومية وإنارة المباني والصروح العامة.

هذا ووفق تقرير في صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، لجأ الكثيرون في أوروبا إلى العودة لمواقد الفحم والأخشاب كوسائل بديلة للتدفئة في الشتاء، وارتفع بذلك الطلب عليها مما أدى إلى فقدانها من السوق، فيما سُجّلت عدة حالات لسرقة الأخشاب.

ركود اقتصادي وتهديدات إفلاس

هذا المأزق الطاقي دفع بالدول الأوروبية إلى مأزق آخر اقتصادي، إذ أدى ارتفاع أسعار الطاقة إلى ارتفاع مستويات التضخم إلى أرقام قياسية. ووفق مكتب إحصائيات الأوروبي ”يوروستات”، بلغ التضخم في الاتحاد أعلى مستوياته شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حيث قارب عتبة الـ20% على أساسه السنوي، وهي أعلى نسبة تشهدها القارة منذ ربع قرن.

وحسب ذات الإحصاءات، انضمت أسعار الغذاء والكحول والتبغ إلى أسعار الطاقة في كونها السبب الرئيسي الأكبر في ارتفاع التضخم، إذ وصلت إلى 13.1% فيما بلغ ارتفاع أسعار الطاقة 41.9%.

هذا ويمثل الطلب على الطاقة لقطاع الصناعة في أوروبا نسبة 30% من مجموع الطلب القاري. وحسب إحصاءات سنة 2019، تأتي الصناعات الكيماوية والبيتروكيماوية على رأس ترتيب الاستهلاك الصناعي للطاقة، تليها الصناعات المعدنية ثم صناعات الصلب والحديد، حيث تستهلك مجتمعة 20% من واردات الطاقة في القارة العجوز. ما يعني أن الظروف الحالية ضربت الصناعة الأوروبية في مقتل.

على رأسها الصناعة في ألمانيا، فحسب مسح حديث أجراه معهد IFO لمناخ الأعمال الألماني، اشتكى أكثر من 68% من المصنعين الألمان من اختناق سلاسل الإمداد، كما انخفضت توقعات مبيعات التجزئة إلى مستوى قياسي جديد، ما جعل المعهد يتوقع بأن تشهد البلاد موجة ركود بحلول الشتاء.

وتبعاً لذلك تتسع رقعة التهديد بإفلاس الشركات الألمانية، وهو ما تؤكده دراسة لمؤسسة "إليانس ترايد"، حيث رصدت ارتفاع عدد الشركات التي يتوقع أن تشهر إفلاسها خلال عام 2023 إلى 16100 شركة، وهو ما يقارب 40% من مجموع الشركات الألمانية.

كما أظهرت بيانات رسمية تراجع الصادرات الألمانية أكثر من المتوقع في ديسمبر/كانون الأول الجاري، إذ أدّى ارتفاع معدلات التضخم وتراجع الطلب الخارجي وضعف سلاسل التوريد إلى زيادة خطر الركود في أكبر اقتصاد أوروبي هذا الشتاء.

وفي فرنسا، حسب توقعات وكالة الإحصاء إنسي "Insee"، فإن النمو الاقتصادي قد "يتلاشى" إلى الصفر خلال الربع الأخير من هذا العام. ويرى البنك المركزي الفرنسي بأن توسع "النشاط الصناعي الفرنسي" قد يتوقف بسبب حالة "عدم اليقين" المتزايدة وارتفاع أسعار الطاقة، كما قد يستمر الركود الاقتصادي في البلاد إلى عام 2023.

وبشكل عام، يُتوقع أن يرافق الركود الاقتصادي أوروبا إلى عام 2023، ليتباطأ إجمالي نمو الكتلة إلى 0.3%. وقد يتقلص الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا بنسبة 0.6%، كما من المقرر أن تنكمش اقتصادات لاتفيا والسويد، ومن المتوقع أن تكون إيرلندا أسرع الاقتصادات نمواً في الكتلة، حيث ستتوسع بنسبة لا تتعدى 3.2%.

احتجاجات عارمة وأزمات داخلية

وتهدد هذه الظروف الاقتصادية دول الاتحاد الأوروبي بموجة إضرابات واحتجاجات واسعة، عرفت أولى بشائرها خلال السنة التي نودع. وفي شهر أكتوبر/تشرين الأول المنصرم شهد قطاع الطيران في عدد من الدول الأوروبية إضرابات عمالية، عرقلت عدداً كبيراً من الرحلات الدولية من وإلى القارة.

وفي فرنسا، تزامناً مع ذاك، قاد عمال السكك الحديدية والنقل ومعلمي المدارس الثانوية وموظفو المستشفيات العامة إضرابا عاماً عطل معظم تلك المصالح. ومعهم كانت نقابات عمال النفط الفرنسية هي الأخرى تخوض احتجاجات للمطالبة بزيادة الرواتب ورفضاً لتدخل الحكومة في كسب حركتهم الاحتجاجية.

وفي العاصمة التشيكية براغ، شهر سبتمبر/أيلول المنصرم، خرج نحو 70 ألف شخص إلى الشوارع محتجين على ارتفاع الأسعار. حيث طالبوا باستقالة الحكومة اليمينية الوسطية، متهمين إياها بخذلان طموحات الشعب التشيكي منذ توليها السلطة، ومحملين إياها مسؤولية الأوضاع الاقتصادية الحاصلة.

وبعد أيام انضم آلاف الرومانيين إلى مسيرة في بوخارست للاحتجاج على تكلفة الطاقة والغذاء وغيرها من الضروريات التي قال المنظمون إنها تجعل ملايين العمال فقراء.

وفي ألمانيا أيضاً، خرج آلاف للتظاهر في أكثر من مرة خلال الخريف الماضي. وندد المتظاهرون الألمان، على غرار نظرائهم في الدول الأوروبية الأخرى، بارتفاع أسعار فواتير الطاقة. كما طالبوا الحكومة الفدرالية، بقيادة الاشتراكي أولاف شولتز، بإعادة فتح خط أنابيب "نورد ستريم 2" واستئناف استقبال صادرات الغاز الروسي عبره.

وحسب استطلاع سابق لمؤسسة "YouGov"، فإن نسب الامتعاض الشعبي من الأوضاع الاقتصادية ارتفعت بشكل متسارع في عدد من الدول الأوروبية. وفقاً له حلت بولندا في رأس التصنيف كأكثر البلاد تهديداً باندلاع اضطرابات اجتماعية، حيث 75% من مواطنيها مستعدون للاحتجاج ضد الأوضاع المعيشية، و63% مستعدون لخوض إضرابات.

هذا ما دفع عدداً من الدول إلى اتخاذ قرارات أحادية في تخصيص ميزانيات للتخفيف من أعباء الأوضاع الاقتصادية. إحداهما كانت ألمانيا، التي كانت قد أعلنت حكومتها حزمة دعم لأسعار الطاقة بـ200 مليار يورو.

هذا الإجراء الذي جر على البلاد سخط جيرانها الأوروبيين، وعلى رأسهم فرنسا. وحسب موقع "بوليتيك" الأمريكي، فإن فرنسا "اعتبرت أن برلين كان ينبغي أن تستشير حلفاءها بشأن مثل هذه الإنفاقات الضخمة التي يمكن أن تشوه الاقتصاد الداخلي".

وأثارت هذه النقطة خلافاً بين فرنسا وألمانيا، حيث هاجم الرئيس إيمانويل ماكرون نظيره المستشار الألماني أولاف شولتز، في تصريحات على هامش قمة زعماء دول الاتحاد الأوروبي في بروكسل، شهر أكتوبر/ تشرين الأول، قائلاً: "أعتقد أنه ليس من الجيد لألمانيا، أو أوروبا، أن تعزل ألمانيا نفسها"، مضيفاً أنه "بالتأكيد، يجب أن نحافظ على وحدتنا" في اتهام ضمني لبرلين بزعزعة هذه الوحدة.

صعود شبح اليمين المتطرف

إضافة إلى هذا، شهد عدد من الدول الأوروبية إجراء انتخابات عامة ورئاسية، أغلبها صبت نتائجه في مصلحة اليمين المتطرف. وفي أبريل/نيسان المنصرم، أعادت الانتخابات العامة في المجر منح الثقة للزعيم اليميني الشعبوي فيكتور أوربان، الذي فاز برئاسة الحكومة للولاية الثالثة على التوالي.

وفي إيطاليا، وإثر أزمة سياسية أطاحت بحكومة التيكنوقراط ماريو دراغي، شهر يوليو/تموز، جرى إجراء انتخابات مبكرة فاز بها تحالف اليمين الذي يضم كلاً من "إخوة إيطاليا" و"لا ليغا" اليمينيين المتطرفين و"فورزا إيطاليا" المحافظ، حيث حصل على 44.4% من الأصوات.

وتقود الحكومة الإيطالية زعيمة "إخوة إيطاليا" جورجيا ميلوني، ويدافع الحزب عن أيديولوجية قومية دينية متطرفة، ذلك ما يبرز من خلال شعاره الذي يختصرها في ثلاث كلمات: "الله والأسرة والوطن". كما يتبنى خطاباً شعبوياً، تفسره الزعيمة على أنه وضوح سياسي، هكذا صرحت لـ "واشنطن بوست" قائلة: "في عالم سياسي حيث يقول الجميع شيئاً ويفعلون شيئاً آخر، يكون نظام القيم الخاص بحزبنا واضحاً جداً (...) قد يعجبك ذلك أم لا، لكننا لسنا مضللين".

وفي سبتمبر/أيلول الماضي، فازت كتلة اليمين المتطرف واليمين المحافظ الليبرالي بالانتخابات في السويد، بنسبة أصوات عادلت 51%، وهو ما مكنها من الحصول على 176 مقعداً، مقابل 173 مقعداً لليمين الوسطي والخضر. ويقود الحكومة السويدية الحالية أولف كريسترسون، زعيم حزب "ديموقراطيي السويد" اليميني المتطرف.

وفي أبريل/نيسان، شهدت فرنسا انتخابات رئاسية، كانت سمتها الأبرز هي صعود الخطاب العنصري ضد المهاجرين والجالية المسلمة بالبلاد، وشهدت كذلك ترشح الصحفي العنصري إيريك زيمور. هذا ونجح الرئيس إيمانويل ماكرون، من خلال ذلك إلى المرور إلى الدور الثاني، لمواجهة زعيمة "التجمع الوطني" اليميني المتطرف مارين لوبان، التي تفوق عليها بحصوله على 58.55% من الأصوات.

وخلال الانتخابات التشريعية التي تلتها، شهر يونيو/حزيران، فقد الائتلاف الذي يقوده ماكرون أغلبيته البرلمانية، أمام ائتلاف الأحزاب اليسارية الذي حصل على 131 مقعداً. ومع ذلك حقق اليمين المتطرف، متمثلاً في حزب "التجمع الوطني"، اختراقاً كبيراً، إذ ضاعف فريقه البرلماني من 8 إلى 89 مقعداً، ليكون أبرز الفائزين في تلك الانتخابات.

TRT عربي