ما عواقب حرب الصحراء المرتقبة في مالي؟

التعليق على الفيديو،

مالي: لماذا تشهد المنطقة دعماً لتنظيم "نصرة الإسلام والمسلمين"؟

  • Author, فراس كيلاني
  • Role, مراسل بي بي سي الخاص

مراسل بي بي سي الخاص فراس كيلاني، قام برحلة طويلة وخطرة إلى شمالي مالي للتحدث إلى مدنيين دُمرت حياتهم، حيث باتت البلاد مقسمة بين نظام عسكري تساعده مجموعة من مرتزقة "فاغنر" الروسية، وتنظيم ما يسمى بالدولة الإسلامية، وجماعات مرتبطة بالقاعدة، فضلا عن انفصاليين طوارق وعرب في ما يعرف بإقليم أزواد شمالي البلاد.

في وقت متأخر من الليل، اقتربت دراجة نارية باتجاه معسكرنا في منطقة نائية من الصحراء شمال نهر النيجر. لم يكن سائق الدراجة عابر طريق، وإنما عضواً في كشافة تنتمي إلى جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، وهي جماعة إسلامية متشددة مرتبطة بالقاعدة، بحسب ما أبلغنا مرافقونا من مقاتلين ينتمون لما يعرف بتنسيقية الحركات الأزوادية.

و تنسيقية الحركات الأزوادية تعد لواء ينضوي تحته عدة حركات انفصالية تنظر إلى شمال مالي على أنه موطن العرب والطوارق مثل الحركة الوطنية لتحرير أزواد والحركة العربية الأزوادية والمجلس الاسلامي الأعلى.

كنا قد أمضينا أيامًا نسافر على طرق صحراوية وعرة، ونتوق للحصول على قسط من الراحة، لكن البقاء في ذات المكان، قد يعرضنا لخطر هجوم مسلح أو حتى محاولة اختطاف. حزمنا أمتعتنا وانطلقنا، ولم نتجرأ حتى على إضاءة مصابيحنا الأمامية في ليل الصحراء القاتم.

يستحيل استكمال عمل صحفي في هذه المناطق الشاسعة الخارجة عن سيطرة الحكومة المركزية في مالي دون مخاطرة كتلك. ونصحتنا القوة التي ترافقنا بارتداء الزي المحلي لتجنب خطر الخطف من قبل الجماعات المسلحة المختلفة الموجودة في تلك الصحراء الشاسعة.

تخطى قصص مقترحة وواصل القراءة
قصص مقترحة
  • قادة عسكريون في إيكواس يلوحون بإرسال قوات للتدخل إذا فشلت الجهود الدبلوماسية في النيجر
  • "مجزرة رابعة: نموذج لحملة القمع في مصر" - الغارديان
  • "خلل هيكلي" ينسف فرص تحقيق الاستقرار في ليبيا
  • محاكمة رئيس النيجر المعزول محمد بازوم بتهمة "الخيانة العظمى"

قصص مقترحة نهاية

التعليق على الصورة،

الرحلة من الحدود مع موريتانيا حتى كيدال استغرقت أياما

"قتلوا رجالنا وأحرقوا طعامنا"

الخطر والخوف جزء من حياة الكثيرين من سكان مالي الذين يعيشون في هذه المناطق، إذ أجبر ما لا يقل عن 440 ألف شخص على الفرار من ديارهم في السنوات العشر الماضية، وذلك وفقا للأرقام الصادرة عن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، يتحدرون في غالبيتهم من البلدات والقرى القريبة من الحدود مع النيجر وبوركينا فاسو. ويُتوقع أن الأرقام أعلى من ذلك بكثير بالنظر لانقطاع الاتصال والتواصل ضمن مساحات واسعة من البلاد.

"أجبرنا تنظيم داعش على المغادرة والمجيء إلى هنا" تقول فاطمة وهي تجلس مع أفراد من عائلتها في مخيم "إنتاكوا" للنازحين قرب مدينة كيدال شمال شرقي البلاد، قبل أن تضيف أن عناصر التنظيم "قتلوا جميع رجالنا وأحرقوا كل طعامنا وحيواناتنا، فاستقر بنا الحال هنا".

قطعت فاطمة مئات الكيلومترات مع ابنتها وأحفادها للوصول إلى المخيم، الذي يفتقر لأبسط مقومات الحياة الخدمية، وتقول إنها عثرت مع من تبقى من عائلتها على "الماء والمأوى فقررنا البقاء".

باستثناء البلدة الرئيسية، تخضع ولاية مينيكا التي فرت فاطمة وعائلتها منها لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية بشكل كامل تقريباً، ويتلاشى لديهم الأمل في العودة إلى ديارهم، ولا يبدو أن أمامهم أي فرصة لبناء حياة جديدة لأنفسهم في كيدال.

التعليق على الصورة،

فاطمة إحدى ضحايا عنف تنظيم ما يسمى بالدولة الإسلامية في مينيكا

انزلاق نحو الفوضى

تخطى البودكاست وواصل القراءة

بودكاست أسبوعي يقدم قصصا إنسانية عن العالم العربي وشبابه.

الحلقات

البودكاست نهاية

بدأ تردي الأوضاع الأمنية في مالي عام 2012 بعد الانتفاضة المسلحة التي أعلنها مقاتلون انفصاليون من الطوارق والعرب في شمالي البلاد. ويتهم سكان هذه المناطق الحكومة المركزية بالتمييز العنصري ضدهم منذ انتهاء الاحتلال الفرنسي عام 1960، وهو ما دفعهم لطرد القوات المالية من شمالي البلاد في يناير كانون ثاني عام 2012 بالتحالف مع تنظيمات متشددة.

وتغيرت الأوضاع لاحقاً مع طلب الحكومة التدخل الفرنسي ضد التنظيمات المتشددة عام 2013، وطردها من المدن التي سيطرت عليها، وتوقيع الحكومة اتفاقية الجزائر مع الحركات الأزوادية عام 2015، وتكليف قوة دولية تعرف باسم مينوسما لضمان تنفيذ الاتفاق.

لم يطرأ الكثير من التغيير على الأرض لأعوام، وظل الوضع على الأرض على حاله فيما يتعلق بتوزيع مناطق السيطرة بين الشمال والجنوب، مع ازدياد نفوذ التنظيمات المتشددة المرتبطة بالقاعدة، والتي اتحدت عام 2017 ضمن جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين"، وأيضاً توسع عمليات تنظيم الدولة الإسلامية الذي أنشأ فرعه في أفريقيا عقب سيطرته على مساحات واسعة من العراق وسوريا عام 2014.

وبحلول عام 2020 كان جنوب البلاد الذي يغلب على سكانه الأفارقة السود يحكمه الرئيس المنتخب إبراهيم بوبكر كيتا، وفي أغسطس آب من ذلك العام، استولى الجيش على السلطة في انقلاب عسكري، وسريعاً نأى قادة الانقلاب بأنفسهم عن فرنسا المستعمِرة السابقة، والتي كانت قواتها تنتشر في مالي وعدة دول أفريقية أخرى لمحاربة التنظيمات المتشددة.

طلب المجلس العسكري الذي أدار البلاد مساعدة عسكرية روسية، وتم تعزيز العلاقة مع موسكو على كافة الصعد، ومع بدء تدفق مرتزقة فاغنر إلى مالي، قررت باريس سحب قواتها.

ولم تكد فرنسا تنهي الانسحاب، حتى طلبت الحكومة المركزية التي شكلها المجلس العسكري من مجلس الأمن الدولي إنهاء عمل قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة "مينوسما"، وبالفعل اتخذ القرار على أن ترحل القوات الدولية عن مالي بحلول موعد نهائي أقصاه 31 ديسمبر كانون أول من العام الجاري، وقد يتم تسريعه بعدما وصفه متحدث باسم الأمم المتحدة "بتدهور" الأوضاع الأمنية.

التعليق على الصورة،

قاعدة القوات الأممية (مينوسما) في كيدال

تقدم حكومي

يشعر طوارق مالي والجماعات الانفصالية العربية بالقلق من أن رحيل القوات الدولية سيتبعه تقدم للقوات الحكومية، ويقول بلال أغ الشريف، الأمين العام للحركة الوطنية لتحرير أزواد إنه "إذا تم تسليم قواعد مينوسما إلى الجيش المالي، فستكون البعثة الدولية هي المسؤولة الوحيدة عما سيحدث بعد ذلك."

التعليق على الصورة،

بلال أغ الشريف – الأمين العام لتنسيقية الحركات الأزوادية

تسيطر تنسيقية الحركات الأزاوادية حاليًا على كيدال ومدن أخرى شمالي مالي، ويتوقع أن يتسبب أي صراع بين الحكومة المركزية وقوات التنسيقية بالمزيد من الفوضى التي يمكن أن تستغلها جماعة "نصرة الإسلام" وتنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية للسيطرة على مساحات أكبر من البلاد، مما يعرض مئات الآلاف من الأشخاص للخطر.

ويضيف أغ الشريف أن عواقب سحب القوة الدولية لن تقف عند التدهور الأمني، وإنما ستطال فرص العمل التي توفرها القوة، والتي يقول إنها تناهز 10000 وظيفة، ستختفي بانسحاب البعثة الدولية، ويتوقع أن "ترك هؤلاء الناس بدون أي عمل ولا أي مصدر دخل لإطعام عائلاتهم سيمثل فرصة كبيرة للجماعات المتطرفة للتجنيد".

التعليق على الصورة،

مراسل بي بي سي فراس كيلاني أثناء حديثه مع ضباط من ميونسما في كيدال

حاولنا زيارة قاعدة الأمم المتحدة في كيدال، ورُفضَ طلبنا بعد عدة محاولات بحجة أنهم يستعدون للانسحاب، وعدم وجود أي شخص متاح للتحدث إلينا. لكننا علمنا بأن البعثة ترفض السماح لأي شخص لا يحمل تصريحاً بدخول القاعدة بعد انتشار معلومات عن معدات كثيرة ستخلفها وراءها معروضة للبيع في مزاد خاص، يتداول السكان المحليون تفاصيلها، وبينها شاحنات مدرعة ومولدات للطاقة.

التعليق على الصورة،

صورة منتشرة في مدينة كيدال لمدرعات الأمم المتحدة التي ستعرض في مزاد خاص قبل رحيل مينوسما

وليس من الصعب توقع أن ينتهي الأمر ببعض هذه المعدات في أيدي الجماعات المتشددة التي كانت "مينوسما" تحاول الحد من وجودها في المنطقة.

وجود فاغنر

التعليق على الصورة،

صور جوية التقطتها القوات الفرنسية لمقاتلي فاغنر أثناء حفرهم مقابر جماعية لمدنيين في منطقة وسط مالي

مع رحيل القوات الفرنسية واستعداد قوات الأمم المتحدة للمغادرة، يزداد اعتماد الحكومة في باماكو على الدعم العسكري الروسي، ويشمل ذلك توفير الطائرات المقاتلة والمروحيات، إلا أنها لا تعترف بوجود مجموعة فاغنر في البلاد.

ومع ذلك، أكد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف وجود المرتزقة في مقابلة في يونيو/حزيران الماضي مع تلفزيون روسيا اليوم.

وقال أغ شريف إن لديهم معلومات تفيد بأن "مقاتلو فاغنر يرافقون قوات الجيش المالي في كل مواقعها التي تتمركز فيها في المناطق الشمالية من البلاد، وقد ارتكبت انتهاكات خطيرة جدا في مناطق وسط وبعض مناطق شمال مالي" مضيفا أن "روسيا سترتكب خطأً تاريخياً فادحاً إذا اقحمت نفسها في الصراع الأزوادي المالي من غير أي مبرر حقيقي"

مالي ليست الدولة الوحيدة في المنطقة التي ينمو فيها نفوذ روسيا وفاغنر، إذ سلط الانقلاب الذي وقع في النيجر الشهر الماضي الضوء على ازدياد هذا النفوذ في دول الساحل. ورغم عدم اتهام الولايات المتحدة لموسكو بالتورط في إبعاد محمد بازوم رئيس النيجر المنتخب عن السلطة، قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين لبي بي سي إن موسكو "حاولت الاستفادة من ذلك".

وألغت حكومة النيجر الجديدة خمس صفقات عسكرية مع فرنسا، وهو إجراء تكرر في عدة دول شهدت انقلابات وحكماً عسكرياً في دول الجوار، كما حدث في جمهورية أفريقيا الوسطى بعد وصول قوات فاغنر عام 2018، وما تلاه من انسحاب للقوة الفرنسية بعد ذلك بأربعة أعوام، وكذلك في بروكينا فاسو التي طلبت في يناير كانون ثاني الماضي القوات الفرنسية بمغادرة البلاد بعد توطيد علاقاتها مع روسيا، رغم عدم الاعتقاد بوجود مقاتلين لفاغنر هناك حتى الآن.

التعليق على الصورة،

محطة لتنقية الذهب في مدينة كيدال

على بعد عشرات الكيلومترات من كيدال، قمنا بزيارة أحد المقرات التي يعتقد العديد من المراقبين أنها أحد الأسباب التي تقف وراء اهتمام روسيا وفاغنر بالتمدد في مالي، وهي محطة لتنقية الذهب.

يظهر الموقع بسيطا بشكل نسبي، مع القليل من الآلات الثقيلة والكثير من عمليات غسل المعادن وصهرها بشكل يدوي، لكن حجم الصناعة في جميع أنحاء البلاد يجعل مالي رابع أكبر منتج للذهب في إفريقيا.

وتمتلك مالي الكثير من الثروات الطبيعية الأخرى، بما في ذلك اليورانيوم والنفط والغاز والنحاس والفوسفات.

وبينما لا يوجد دليل على سيطرة فاغنر على أي من مناجم الذهب في مالي، تقول الولايات المتحدة إن المجموعة تسيطر على عمليات استخراج الذهب والألماس في جمهورية أفريقيا الوسطى وآبار نفط في سوريا.

ويزداد قلق الحكومات الغربية من أن استبدال القوات الفرنسية والأممية بمقاتلين من فاغنر، وتوسع أعمال الشركة في النيجر وبوركينا فاسو يمكن أن يدفع دولاً أخرى في جميع أنحاء المنطقة لتحذو حذوها.

أبعاد الأزمة

ستطال تبعات تدهور الوضع الأمني في مالي ودول الجوار مناطق أبعد بكثير من حدود القارة السمراء.

خلال رحلتنا الطويلة عبر الصحراء رأينا سيارات دفع رباعي تتجه شمالًا نحو الحدود المالية الجزائرية، ويُعتقد أنهم مهربون يقلّون مهاجرين غير شرعيين نحو القوارب التي تحاول عبور البحر الأبيض المتوسط والوصول إلى أوروبا.

ومن المرجح أن يسلك عدد أكبر من المهاجرين هذا الطريق الخطير والصعب إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه في بلدانهم، وأقفلت في وجوههم أي آفاق لمستقبل أفضل، رغم ما تحمله الرحلة من مشاق ليس أقلها الموت غرقاً وهم يحاولون عبور الصحراء الكبرى والبحر الأبيض المتوسط.

وفضلا عن المهاجرين غير الشرعيين، تتدفق الأسلحة والمخدرات عبر الصحراء، ومن المفترض أن تصل هذه أيضًا إلى شواطئ أوروبا بأعداد أكبر إذا استمر نمو الجماعات المتشددة في المنطقة.

جيل ينتظره المجهول

عاش أغلب النازحين في المخيم الذي زرناه قرب كيدال في بلدات كانت تسيطر عليها "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، والتي كانت تطبق قوانين الشريعة في أماكن سيطرتها في ولاية مينيكا، وتتميز عن تنظيم الدولة بأنها تنظيم محلي أنصاره من سكان مالي، وتلقى تأييداً في أوساط كثيرة، كما يؤكد موسى آغ طاهر النازح من بلدة تلاتايت.

يقول موسى إن "النصرة تعاملنا معاملة إسلامية، داعش لا تعاملنا معاملة مسلمين، داعش تقول بأنها تبحث عن النصرة، ولكن في الحقيقة لا تقتل إلا الأبرياء وتحرق منازلهم ومواشيهم ومحلاتهم التجارية، هذه ليست معاملة المسلمين، النصرة تساعدنا، تأمرنا بالصلاة واتباع دين محمد".

ليس بعيداً عن المكان الذي التقينا به موسى، رأينا مُدرِّسة تضرب رؤوس الأطفال المتجمعين على الأرض بالعصا في خيمة يُطلق عليها اسم مدرسة وهم يكافحون لتلاوة آيات من القرآن، التعليم الوحيد الذي من المحتمل أن يتلقوه على الإطلاق.

التعليق على الصورة،

مخيم (إنتكوا) في كيدال

أطفالٌ غالبيتهم أيتام، عاشوا في منطقة كان يسيطر عليها تنظيم القاعدة، حتى هاجم مقاتلو تنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية بلداتهم وقتلوا آباءهم.

مشهد ينبئ بواقع مرير ومستقبل مرعب لأجيال جديدة ستكبر على صراعات دامية يتوقع أن تشهدها دول الساحل خلال الأعوام المقبلة إن استمر الوضع على ما هو عليه.