التَشيُّؤ ترجمة للحدثة (بالإنجليزية: reification)‏ «رييفيكيشن» (بالألمانية: Verdinglichung) ويعني تَحوُّل العلاقات بين البشر إلى ما يشبه العلاقات بين الأمور (علاقات آلية غير شخصية) ومعاملة الناس باعتبارها موضعاً للتبادل (أي حوسلة البشر باعتبارهم أشياء). وحـينما يتشيأ الإنسـان، فإنه سـينظر إلى مجتـمعه وتاريـخه (نتاج جهده وعمله وإبداعه) باعتبارهما قوى غريبة عنه، تشبه قوى الطبيعة (المادية) تُفرَض على الإنسان فرضاً من الخارج، وتصبح العلاقات الإنسانية أشياء تتجاوز التحكم الإنساني فيصبح الإنسان مفعولاً به لا فاعلاً، يحدث ما يحدث له دون أية فاعلية من جانبه، فهولا يملك من أمره شيئاً. وقمة التَشيُّؤ هي تطبيق مبادئ الترشيد الأداتي والحسابات الدقيقة على مجالات الحياة كافة.

ويمكن القول ببساطة شديدة بأن التَشيُّؤ هوحتى يَتحوَّل الإنسان إلى شيء تتمركز أحلامه حول الأمور فلا يتجاوز السطح المادي وعالم الأمور. والإنسان المُتشيِّئ إنسان ذوبُعد واحد قادر على التعامل مع الأمور بكفاءة غير عادية من خلال نماذج اختزالية بسيطة، ولكنه يفشل في التعامل مع البشر بسبب هجريبيتهم. والإنسان المُتشيِّئ إنسان قادر على الإذعان للمجردات المطلقة وأن يتوحد بها ويتصرف على هديها. وهذا وصف جيد للإنسان الطبيعي الرشيد، الذي يعيش حسب قوانين الطبيعة - المادة والمطلقات الفهمانية الأخرى التي تُعدُّ تنويعاً على الطبيعة - المادة.

المصطلح

يقصد بالتشيؤ عموماً، تحول ما ليس بشيء ليصبح شيئاً، وهذا يعني حتى تنطبق عليه الصفات التي تنطبق على الأمور، مما يغير من طبيعته، وبالتالي ماهيته، التي لا يوجد إلا بها فإذا تغيرت هذه الماهية، تغيرت صفاته وخرج من عالم غير الأمور لينتمي لعالم الأمور. غالباً ما يقسم الوجود إلى عالمين اثنين، هما عالم الأفكار وعالم الأمور. يتعلق الأول بكل ما ذهني أوعقلي أوفكري أوروحي، أما الثاني فيتعلق بما هومادي أوحسي (أمبيريقي) أووضعي أومتعين. وتكوُن المادة القوام الأساسي للعناصر التي ندعوها أشياء، مما يجعل خصائصها مختلفة جميع الاختلاف عن خصائص العناصر الأخرى الموجودة خارج عالم الأمور، فالصفات التي تنطبق على الأمور هي نفسها الصفات التي تنطبق على المادة، فهي متعينة في مكان، وذات ثلاث أبعاد، وقابلة للإدراك الحسي.

مثال على التشيؤ

كي يتوضح هذا الذي يظهر تعقيداً فلسفياً، لنقارن في المثال التالي بين عنصرين ينتمي أحدهما لعالم الأمور والآخر لعالم الأفكار، مع أنهما يحملان نفس الاسم. فحدثة " كرسي" تشير إلى مفهوم مجرد في الذهن يقابل شيئاً في عالم المادة تنحصر ماهيته الأساسية في الأداة التي تستخدم للجلوس عليها، دون حتى تخبرنا عن حجمه أومادته التي خلق منها أووزنه أوشكله أولونه. أما عندما أقول "هذا الكرسي الذي أجلس عليه الآن" فالحديث هنا عن شيء محدد من عالم الأمور، مصنوع من خشب الزان. مبطن بالإسفنج والقماش، وله مسند طويل ولا يتجاوز وزنه الخمسة كيلوغرامات.

الفرق الأساسي بين مفهوم الكرسي وبين الكرسي الذي أجلس عليه الآن حتى الأول يمكن حتى يطلق على جميع الكراسي الموجودة في العالم، بالإضافة إلى التي وجدت في السابق ولم تعد كذلك الآن "كرسي الإسكندر المقدوني"، والكراسي التي يمكن حتى توجد في المستقبل "كرسي الزينة الذي سأشتريه لزوجتي عندما أتزوج"، أما الاستخدام الثاني فلا ينطبق إلا على هذا الكرسي الذي أجلس عليه الآن من بين جميع الكراسي الموجودة في العالم، وذلك لأنه مرتبط بالمادة المعينة التي خلق منها، والمادة الأخرى وهي جسدي.

لنفترض حتى أماً أرادت حتى تفهم أبنها الصغير الجلوس على الكرسي، فاشترت له كرسياً جميلاً مصنوعاً من الخيزران خفيف الوزن وذا ألوان جميلة ومفرحة ، وصارت جميع يوم تفهمه الجلوس فتكرر على أذنيه دائماً حدثة "الكرسي" دون حتى تطلق هذه الحدثة على الكراسي الأخرى الموجودة في المنزل. وذات يوم اصطحبه والده في نزهة ودخلا أحد المقاهي ليستريحا قليلا، وبعد حتى اختارا طاولة طلب منه حتى يجلس على الكرسي الموجود إلى الطاولة، فصرخ الطفل محتجاً غاضباً " لكن هذا ليس الكرسي ، إنه من الحديد وثقيل ومتسخ ! " إذا الخطأ الذكي الذي سقط فيه ابن الأربع سنوات هوأنه قام بعملية عقلية خاطئة شيئت مفهوم الكرسي لتحصره فقط في كرسيه الخيزران الجميل والنظيف دائماً. هذا الأمر جعل والده الذي تعاطى القليل من الفلسفة فيما مضى، حتى يلقنه الدرس الفلسفي الأول في حياته، فيفهمه حتى جميع ما نجلس عليه هوكرسي، وأن جميع هذه الأمور الحديدية والمتسخة هي كراسي، وأن الكراسي توجد في السيارات والطائرات وعيادات الأطباء والمسارح والبرلمانات، فهم الطفل درسه الفلسفي، لكن ذلك جعله يغضب من أمه التي خدعته طويلاً.

لنتحول الآن عن النادىبة قليلاً، إذا العقل عندما يفكر فإنه يستخدم المفاهيم أدوات له لا الأمور. وهوكثيراً ما يقع في خطأ دون حتى يعيه، فلا يعي بالتالي حجم الضرر الذي لحق بتفكيره. هذا الخطأ هوأنه يشيئ المفاهيم التي يتعاطاها فيفكر فيها كما يفكر في الأمور، ويتعامل معها كعناصر ثابتة ومحددة لا تتغير ولا تتطور، مما يجعلها جامدة ضيقة متكلسة، فتفتقد المرونة التي بدونها لا يمكن حتى يستوعب عالم الأمور. لا يلبث هذا الخطأ حتى يتحول إلى سلطة عقلية مستبدة تفرض سلوكاً قسرياً على الواقع المتحرك، فتجمده وتقده على حجم نماذجها الثابتة التي لا تتغير، يؤدي هذا إلى أفكار مشوهة ممسوخة، تدعي أنها الصورة الحقيقية الوحيدة التي تفسر الوقائع والأمور.

أهمية المفهوم

مشكلة التشيؤ الذي يصيب المفاهيم إحدى المشكلات التي تعاني منها الفهم، وهي لا تختص بحقل معهدي دون آخر، فكل المفاهيم، أي كان حقلها، قابلة لأن تتشيّأ، سواء في الفهم الفهمية أوالإنسانية أوالأدبية أوالفلسفية أوالدينية أوالأخلاقية ....الخ. ولونظرنا إلى الكثير من الصراعات والخلافات الفكرية سنجد حتى معضلة التشيؤ سبب عدد كبير منها. فالصراع الذي شغل الأدب العربي عدة عقود من القرن العشرين حول مفهوم الشعر، إنما كان سببه بالدرجة الأولى تشيؤ مفهوم الشعر لدى بعض النقاد والشعراء والقراء، ليصروا على حتى الكلام الموزون والمقفى والمقام على عمودين متجاورين هوالصنف الأدبي الوحيد الذي يمكن حتى يسمى شعراً ولا يطلق هذا الاسم على غيره. انتهت هذه المشكلة الآن أوغيبت عن ساحة السجال، مع الاتفاق ضمنياً على تعليق الحل، وبقي عدد كبير من جميع طرف من الأطراف المتنازعة متمسكاً برأيه شريطة حتى لا تثار المشكلة من جديد، مع حتى بعض أكاديميينا مازالوا يثيروها سراً في القاعات والمدرجات الجامعية عندما يعلنون حتى الشعر هو، وهوفقط، الكلام الموزون المقفى والمقام على عمودين متجاورين، والويل الويل لطلابهم لويقولون غير ذلك.

أكثر المفاهيم قبولا للتشيؤ هي المفاهيم الأخلاقية، فحضورها الدائم وانتشارها الواسع في حياة الأفراد والجماعات، يجعلانها تأخذ شكل العادات والتنطقيد المحظور مناقشتها ونقدها وإثارة الشبهات حولها، وهي عادة ما تكون برسم حماية الكبار الذين أمضوا شطر عمرهم منقادين لها و"مهتدين بنورها"، فصارت جزء من حياتهم الروحية والمعنوية، ما عاد يقبل الإلغاء أوالاستبدال، فيدافعون عنها دفاعهم عن وجودهم، ويورثونها للأجيال التي تأتي بعدهم من خلال التربية التي عادة ما ترتبط بالمفاهيم الدينية التي تعمل كحامل مشرع لهذه القيم. الأمر الذي يجعل تغير منظومة المفاهيم والقيم الأخلاقية بطيئا قد يستغرق أجيالا بكاملها، وبناءه متماسكا لا يمكن اختراقه وهدمه إلا بثورات اجتماعية كبرى. إن الجمود الذي ينشا عن تشيؤ المفاهيم والقيم الأخلاقية يؤدي إلى حالة دائمة من صراع الأجيال، حين يحاول جميع جيل تعميم ثقافته الأخلاقية بقيمها ورموزها وممارساتها. وغالبا ما تظل هذه الصراعات ذاتية وعلى مستوى فردي، دون حتى تتحول لظاهرة نوعية وعامة تفرض نفسها على بنى المجتمع ومنظومته الكلية، إلا في الحالة التي تتوافر فيها شروط ثورة اجتماعية شاملة كم قلنا.

إن المفاهيم عندما تتشيء لا تصبح أشياء بالمعنى الحقيقي، ذلك حتى انتنطق عنصر من عالم الأفكار إلى عالم الأمور أمر محال كاستحالة انتنطق أحد عناصر عالم الأمور إلى الجهة الأخرى. ولكن العقل، بتعاطيه معها، هوالذي ينتقل من حيز التفكير في المفاهيم إلى حيز التفكير في الأمور. ولأنه لا يعي ذلك عندما يحدث، فإن تشيؤ المفاهيم إحدى المغالطات العقلية الأبستمولوجية (المنهجية) التي يحذر من الوقوع فيها. وأيضا لأنها نوع من المغالطات، فالعقل لا يأمن جانبها إلا بالمراجعة النقدية الدائمة لأفكاره وتصوراته، سالكا منهجا شكيا ينبهه دائما إلى حتى ما يعتقده صوابا إنما هوصواب يحتمل الخطأ.

الحقيقة أيضاً، خاصة عندما تكون مقدسة أوتصبح مقدسة، مفهوم يتشيأ، وليت معضلة تشيئه تنتهي إلى المآل الذي انتهت إليه معضلة تشيؤ مفهوم الشعر. وليت المختلفين حولهاقد يكونوا بتحضر المختلفين حول مفهوم الشعر، أوأنها تنتهي إلى صراع طبيعي بين الأجيال. المقصود هنا تحديداً حراس الحقيقة الدينية والمدافعين عنها. فالطفل الصغير الذي احتج على كرسي المقهى بأنه ليس كرسياً، يصبح هنا طفلا كبيرا ما عاد خطأه مجرد خطأ ذكي، وهويملك جميع وسائل "الاحتجاج" من اغتال وتدمير وتخويف وإرهاب، ليمارسها ضد جميع من لا يعتقد بهذا الشيء الذي يعتقده هوعلى أنه الحقيقة، ابتداء من هذا النص وهذا الطقس وهذه الشعيرة وهذه الفتوى وهذا القول وهذا العمل، وانتهاء بهذا اللون من الحجاب وهذا الطول من اللحى وهذا القصر من الثياب. نص الصفحة.

المصادر

  1. ^ [وصلة مكسورة]نسخة محفوظة 23 أغسطس 2014 على مسقط واي باك مشين.
  2. ^ [وصلة مكسورة]نسخة محفوظة 15 مارس 2020 على مسقط واي باك مشين.
تاريخ النشر: 2020-06-02 13:13:04
التصنيفات: علم النفس الاجتماعي, كتب 1999, مصطلحات ما بعد الحداثة, موسوعات عربية, نظرية ماركسية, جميع المقالات ذات الوصلات الخارجية المكسورة, مقالات ذات وصلات خارجية مكسورة منذ فبراير 2018, قالب أرشيف الإنترنت بوصلات واي باك, مقالات ذات وصلات خارجية مكسورة منذ مايو 2019, مقالات غير مراجعة منذ أكتوبر 2018, جميع المقالات غير المراجعة, مقالات غير مراجعة منذ 2018, جميع المقالات التي بحاجة لصيانة, مقالات تحتوي نصا بالإنجليزية, بوابة كتب/مقالات متعلقة, بوابة أدب عربي/مقالات متعلقة, بوابة شيوعية/مقالات متعلقة, بوابة فلسفة/مقالات متعلقة, بوابة اشتراكية/مقالات متعلقة, جميع المقالات التي تستخدم شريط بوابات

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

جريزمان يعلق على إنجازه التاريخي مع أتلتيكو مدريد

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-24 12:21:00
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 65%

سعر قنطار القطن اليوم 2022.. نقيب الفلاحين يكشف سبب تباين الأسعار

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-24 12:20:55
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 65%

«التعليم» تفعل مجموعات التقوية بالمدارس المطبق بها منهجية الجدارات

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-24 12:20:57
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 53%

رئيس معهد الفلك يحذر من النظر للشمس: كسوف جزئى غدًا

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-24 12:20:53
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 50%

«التعليم» تعلن تفعيل خدمة سداد رسوم امتحان طلبة منازل ثانوي عام وفني

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-24 12:20:56
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 53%

«الشباب والرياضة» تنهي استعداداتها لنهائي دوري مراكز الشباب

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-24 12:21:03
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 62%

الحميدات تتشح بالسواد.. وفاة شاب أثناء عودته من دفن صديقه في قنا

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-24 12:21:10
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 50%

المنتخب التونسي للأواسط: لقاء حاسم أمام منتخب الجزائر

المصدر: جريدة المغرب - تونس التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-24 12:21:10
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 66%

نائب وزير المالية: الدولة المصرية تعتمد على جهات استشارية قوية

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-24 12:20:52
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 61%

لتحديد مصيره قبل السوبر.. أليو ديانج يخضع لفحوصات طبية

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-24 12:21:01
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 60%

روسيا تعد خيرسون لتكون «حصنًا» في مواجهة القوات الأوكرانية

المصدر: جريدة المغرب - تونس التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-24 12:21:01
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 53%

حزب النور: المؤتمر الاقتصادى نقطة انطلاق نحو مستقبل أفضل

المصدر: صوت الأمة - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-24 12:20:46
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 59%

حمدين صباحى يتوجه بالشكر للرئيس السيسى بعد الإفراج عن "زياد العليمى"

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-24 12:20:53
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 53%

تحميل تطبيق المنصة العربية