قدر
للإيمان بالقدر أهمية كبرى بين أركان الإيمان عند المسلمين ، يدركها جميع من له إلمام ولويسير بقضايا العقيدة الإسلامية وأركان الإيمان ؛ ولذلك ورد التنصيص في السنة النبوية على وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره . وترجع أهمية هذا الركن ومنزلته بين بقية أركان الإيمان إلى عدة أمور :
- الأول : ارتباطه مباشرة بالإيمان بالله – الله – وكونه مبنياً على الفهم السليمة بذاته – الله – وأسمائه الحسنى ، وصفاته الكاملة الواجبة له – الله - ، وقد اتى في القدر صفاته سبحانه صفة الفهم ، والإرادة ، والقدرة ، والخلق ، ومعلوم حتى القدر إنما يقوم على هذه الأسس .
- الثاني : حين ننظر إلى هذا الكون ، ونشأته ، وخلق الكائنات فيه ، ومنها هذا الإنسان ، نجد حتى جميع ذلك مرتبط بالإيمان بالقدر .
- الثالث : الإيمان بالقدر هوالمحك الحقيقي لمدى الإيمان بالله – الله – على الوجه السليم ، وهوالاختبار القوى لمدى معهدته بربه – الله - ، وما يترتب على هذه الفهم من يقين صادق بالله ،وبما يجب له من صفات الجلال والكمال ؛ وذلك لأن القدر فيه من التساؤلات والاستفهامات الكثيرة لمن أطلق لعقله المحدود العنان فيها.
مراتب القدر
مراتب القدر أربع هي : الفهم ، الكتابة ، المشيئة ، الخلق :
- المرتبة الأولى : مرتبة الفهم :
يجب الإيمان بفهم الله عز وجل المحيط بكل شيء ، وأنه فهم ما كان ، وماقد يكون ، وما لمقد يكون كيف من الممكن أنقد يكون ، وأنه فهم ما الخلق عاملون قبل حتى يخلقهم ، وعلـم أرزاقهم وآجالهم ، وحركاتهم ، وسكناتهم ، وأعمالهم ، ومن منهم من أهل الجنة ، ومن منهم من أهل النار ، وأنه يفهم جميع شيء بفهمه القديم المتصف به أزلاً وأبداً .
- المرتبة الثانية : مرتبة الكتابة :
وهي حتى الله – الله – خط مقادير المخلوقات ، والمقصود بهذه الكتابة الكتابة في اللوح المحفوظ ، وهوالكتاب الذي لم يفرط فيه الله من شيء ، فكل ما جرى ويجري وسيجري فهومكتوب عند الله .
- المرتبة الثالثة : مرتبة الإرادة والمشيئة :
أي : حتى جميع ما يجري في هذا الكون فهوبمشيئة الله – سبحان والله – فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فلا يخرج عن إرادته الكونية شيء .
- المرتبة الرابعة : مرتبة الخلق :
أي : حتى الله – الله – خالق جميع شيء ، من ذلك أفعال العباد ، فلا يقع في هذا الكون شيء إلا وهوخالقه ، وهذه المرتبة هي محل النزاع الطويل بين أهل السنة ومن خالفهم .
أقوال في القدر
يقول شيخ المالكية في المغرب ابن أبي زيد القيرواني : (( والإيمان بالقدر خيره وشره ، حلوه ومره ، وكل ذلك قد قدره الله ربنا ، ومقادير الأمور بيده ، ومصدرها عن قضائه ، فهم جميع شيء قبل كونه ، فجرى على قدره ، لاقد يكون من عباده قول ولا عمل إلا وقد قضاه وسبق فهمه به {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [ الملك : 14 ]، يضل من يشاء فيخذله بعدله ، ويهدي من يشاء فيوفقه بفضله، فكل ميسر بتيسيره إلى ما تجاوز من فهمه ، وقدره من شقي أوسعيد، الله حتىقد يكون في ملكه ما لا يريد، أوقد يكون لأحد عنه غنى، خالقاً لكل شيء، ألا هورب العباد، ورب أعمالهم، والمقدر لحركاتهم وآجالهم )) .
ويقول الإمام البغوي في شرح السنة : ((الإيمان بالقدر فرض لازم ، وهوحتى يعتقد حتى الله- الله – خالق أعمال العباد ، خيرها وشرها ، خطها عليهم في اللوح المحفوظ قبل حتى خلقهم ، ذكر القرآن : {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [ الصفات : 96 ] ، ونطق عز وجل : { قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [ الرعد : 16 ] ، ونطق عز وجل : {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [ القمر : 49 ] ، فالإيمان والكفر ، والطاعة والمعصية ، كلها بقضاء الله وقدره ، وإرادته ومشيئته ، غير أنه يرضي الإيمان والطاعة ، ووعد عليها الثواب ، ولا يرضى الكفر والمعصية ، وأوعد عليها العقاب ،والقدر سر من أسرار الله لم يطلع عليه ملكًا مقربًا ، ولا نبيًا مرسلاً ، لا يجوز الخوض فيه ، والبحث عنه بطريق العقل ، بل يعتقد حتى الله – سبحانه والله – خلق الخلق فجعلهم فريقين : أهل يمين خلقهم للنعيم فضلاً ، وأهل شمال خلقهم للجحيم عدلاً )) .
مسألة الاحتجاج بالقدر
عقيدة الإيمان بالقدر لقيت كثيرًا من الاعتراضات ، وأثيرت حولها كثير من الشبهات ، ومن المعلوم حتى كثيرًا من الكافرين والمشركين الضالين والمقصرين في عبادة الله والمنحرفين عن منهج الله ، قد وجدوا في القدر مجالاً للاحتجاج به على كفرهم وفسادهم وتقصيرهم. ولذلك أوردنا الجواب على مسألة الاحتجاج بالقدر بأربع قواعد :
- ( القاعدة الأولى ) : حتى فهم الله الأزلي محيط بكل شيء مما كان ومما سيكون ومما لم يكن لوكان كيف من الممكن أنقد يكون . والأمور تقع على مقتضى فهمه الكامل ، لا يخرج شيء عنه .
- ( القاعدة الثانية ) : غنى الله الكامل عن العباد ؛ حيث لا تنفعه طاعة المطيع كما لا تضره معصية العاصي . وغناه الله تام ومطلق ، وهويفيد في طمأنينة القلب عند المؤمن في هذا الباب ، وأن الله ليس بحاجة إلى العباد حتى يجبرهم أويعذبهم بغير ذنب يستحقون العقاب عليه .
- ( القاعدة الثالثة ) : وهي مبنية على القاعدة السابقة ، وهي حتى الله لا يظلم ، وقد حرم على نفسه الظلم ، ونفاه في كتابه ، ذكر القرآن : ] إذا الله لا يظلم الناس شيئاً [
[ يونس : 44 ] ، وفي معنى هذه الآية آيات كثيرة تنفي عن الله ظلم العباد لا في عقوباتهم في الدنيـا ولا في جزائهـم يوم القيامة .
وهذه قاعدة مهمة في باب الاحتجاج بالقدر ، فإذا توهم العبد أووسوس له الشيطان فليتذكر حتى الله لا يظلمه مثنطق ذرة ، حتى يطمئن قلبه.
- ( القاعدة الرابعة ) : قيام الحجة على العباد ، وهذه مسألة ينبغي حتى يدركها جميع مسلم ، ومقتضاها حتى حجة الله قد قامت على عباده .
وقيام الحجة على العباد بأمور :
1. حتى لا يكلف إلا البالغ العاقل ؛ فالصغير والمجنون قد حمل عنه القلم .
2. وجود الإرادة للعبد ؛ ففاقد الإرادة المكره لا يكلف ، وحصول هذه الإرادة للعبد مما لا ينكره أي عاقل ، وبهذه الإرادة يختار بين الطاعة والمعصية .
3. القدرة ؛ فالعاجز عن عمل الشيء المطلوب لا يكلف ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، والله لم يكلف الناس ما لا يطيقون .
4. قيام الحجة الرسالية ، بإرسال الرسل وإنزال الخط .
وبهذه الأمور نفهم حتى الحجة قد قامت على العباد ، ولا تعارض بينها وبين القدر .
آثار الإيمان بالقدر
وللقدر آثار كبيرة على الفرد وعلى المجتمع نجملها فيما يلي : 1. القدر من أكبر الدواعي التي تدعوإلى العمــل والنشاط والسعي بما يرضي الله في هذه الحياة ، والإيمان بالقدر من أقوى الحوافز للمؤمن لكي يعمل ويقدم على عظائم الأمور بثبات وعزم ويقين .
2. ومن آثار الإيمان بالقدر حتى يعهد الإنسان قدْر نفسه ، فلا يتكبر ولا يبطر ولا يالله أبدًا ؛ لأنه عاجز عن فهم المقدور ، ومستقبل ما حادث ، ومن ثمّ يقر الإنسان بعجزه وحاجته إلى ربه الله دائمًا . وهذا من أسرار خفاء المقدور .
3. ومن آثار الإيمان بالقدر أنه يطرد القلق والضجر عند فوات المراد أوحصول مكروه ، لأن ذلك بقضاء الله الذي له ملك السموات والأرض وهوكائن لا محالة ، فيصبر على ذلك ويحتسب الأجر ، وإلى هذا يشير الله بقوله : ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل حتى نبرأها ذلك على الله يسير ، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب جميع مختال فخور ) [ الحديد : 22 ، 23 ]
4. الإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تعصف بالمجتمعات وتغرس الأحقـاد بين المؤمنين ، وذلك مثل رذيلة الحسد ، فالمؤمن لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله ؛ لأنه هوالذي رزقهم وقدر لهم ذلك ، وهويفهم أنه حين يحسد غيره إنما يعترض على المقدور . إلى غير ذلك فالمؤمن يسعى لعمل الخير ، ويحب للناس ما يحــب لنفسه ، فإن وصل إلى ما يصبوإليه حمد الله وشكره على نعمه ، وإن لم يصل إلى شيء من ذلك صبر ولم يجزع ، ولم يحقد على غيره ممن نال من الفضل ما لم ينله ؛ لأن الله هوالذي يقسم الأرزاق .
5. والإيمان بالقدر يبعث في القلوب الشجاعة على لقاءة الشدائد ، ويقوي فيها العزائم فتثبت في ساحات الجهاد ولا تخاف الموت ، لأنها توقن حتى الآجال محدودة لا تتقدم ولا تتأخر لحظة واحدة .
6. والإيمان بالقدر من أكبر العوامل التي تكون سببًا في استقامة المسلم وخاصة في معاملته للآخرين ، فحين يقصر في حقه أحد أويسيء إليه ، أويرد إحسانه بالإساءة ، أوينال من عرضه بغير حق ، تجده يعفوويصفح ؛ لأنه يفهم حتى ذلك مقدر ، وهذا إنما يحسن إذا كان في حق نفسه ، إما في حق الله فلا يجوز العفوولا التعلل بالقدر ؛ لأن القدر إنما يحتج به في المصائب لا في المعايب .
7. والإيمان بالقدر يغرس في نفس المؤمن حقائق الإيمان المتعددة ، فهودائم الاستعانة بالله ، يعتمد على الله ويتوكل عليه مع عمل الأسباب ، وهوأيضًا دائم الافتقار إلى ربه – الله – يستمد منه العون على الثبات ، ويطلب منه المزيد ، وهوأيضًا كريم يحب الإحسان إلى الآخرين ، فتجده يعطف عليهم .
8. ومن آثار الإيمان بالقدر حتى الداعي إلى الله يصدع بدعوته ، ويجهر بها أمام الكافرين والظالمين ، لا يخاف في الله لومة لائم ، يبين للناس حقيقة الإيمان ويوضح لهم مقتضياته ، وواجباتهم تجاه ربهم – تبارك والله - ، كما يبين لهم حقائق الكفر والشرك والنفاق ويحذرهم منها ، ويكشف الباطل وزيفه .
المؤمن والقدر
إن المؤمن الصادق لا يذل إلا لله ، ولا يخضع إلا له ، ولا يخاف إلا منه ، وحينقد يكون كذلك تجده يسلك الطريق المستقيم ، ويثبت عليه ، ويدعوا إليه ، ويصبر على ما يلقاه في سبيل الدعوة من عداء المعتدين ، وحرب الظالمين ، ومكر الماكرين ، ولا يصده شيء من ذلك ؛ لأن هؤلاء لا يملكون من أمر الحياة ولا أمر الأرزاق شيءًا ، وإذا كان الأمر هكذا فكيف يبقي في نفس المؤمن الداعية ذرة من خوف وهويؤمن بقضاء الله وقدره ؟ ! فما قـدر سيكون ، وما لم يقدر لنقد يكون ، وهذا كله مرجعه إلى الله ، والعباد لا يملكون من ذلك شيءًا .
المصادر
بحوث ودراسات إسلامية
القضاء والقدر
الإيمان بالقضاء والقدر