المقاومة في الشعر الأندلسي

عودة للموسوعة

المقاومة في الشعر الأندلسي

الأدب العربي حتى في جاهليته لم يخل من شعر المقاومة إلا أنه لم يكن بالتوسع والعمق اللذين نجدهما في الأدب الأندلسي، ولعله مما أكسبه ذلك طبيعة الأحداث التي جرت في منطقته، إذ حتى الأمة الإسلامية لم تعهد في تاريخها الطويل نكبة كتلك التي سقطت في أندلسها، ورغم ما سقط في مشرقها من حروب التتر والمغول والصليبيين إلاً أنها استطاعت حتى تنتصر على هؤلاء جميعا، وأن تخرج من تلك النكبات وهي أقوى عوداً وأمضى عزما وأشد مراساً بينما لم تستطع ذلك في الأندلس، فقد تقلص هناك ظلها، وطويت رايتها، وأفلت شمس وجودها، فلا عجب إذا كان الشعر الأندلسي أكثر بكاء وأحر ندبا وأشد حرقة وأعلى صوتا وأعمق أثرا في استنهاض الهمم وتحريك المشاعر حتى شعرهم الرثائي لم يكن خلواً من المضامين النضالية والصرخات الإنذارية والإشراقات الوطنية، فقد كانوا طوال فترة الحرب يعبئون الجهود، ويشحذون العزائم، وهم يرْثون المدن الضائعة ويبكون جمالها الذاهب، وقد فطن بعض الكتاب لهذا الملحظ فنطق: ((.. ولم تسقط مدينة في يد مسيحي الشمال إلا بكوها، وتفجعوا عليها تفجعا حاراً، وهوتفجع كانوا يضمنونه استصراخاً للمسلمين في مغارب الأرض ومشارقها لعلهم يستنقذون تلك المدن من براثن الأسبان، ويستعيدونها إلى حضيرة الإسلام قبل حتى تدك هناك جميع صروحه، وتسقط جميع رايته وأعلامه)) .

وقد توسع مدلول المقاومة عندهم فضم الدعوة إلى الثورة على الملوك الذين خضعوا لملوك النصارى، واستعانوا بهم على إخوانهم في العقيدة والوطن، كما ضم محاربة المنكرات الفاشية والمفاسد البادية بحسبانها سبب الضعف والهلاك، وضم كذلك الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله ومقاومة العدوالمغير، كما ضم أيضاً البحث عن قيادة رشيدة تجمع ضم الأمة، وتمضي بها في عزم وثبات، ولا ننسى القصيدة المادحة التي مجدت الأبطال، وتغنت بفوزاتهم وقد استعانت في نقل التجربة وتكثيف العاطفة بالمعنى الحي والحدثة المؤثرة والصورة المعبرة التي تستلفت النظر، وتستوقف العجل، وتستنفر القاعد، وتجعل المرء يخوض غمار الحرب بصدر رحب وجنان جريء وعزم قوي. هذا، وقد ارتفع صوت هذا الشعر حتى جاوز حدود الأندلس الجغرافية فشّرق وغرّب مستنجدا مستنهضاً.

ونحب حتى تقف عند بعض ضروب المقاومة التي ألمحنا إليها آنفاً، وذلك على سبيل المثال لا الحصر، إذ حتى تتبع جزئياتها والإلمام بها يحتاج إلى جهد متصل وبحث منفصل قد لا تتسع له مجلة تعالج أكثر من موضوع. من ذلك ما نطقه خلف بن فرج الألبيري في حكام غرناطة:

ناد الملوك وقل لهم ماذا الذي أحدثتموه أسلمتم الإسلام في أسر العدا سقطدتمو وجب القيام عليكمو إذ بالنصارى قمتمو لا تنكروا شق العصا فعصا النبي شققتمو

فالشاعر هنا يعلنها ثورة على هؤلاء الحكام الذين فرطوا في الدفاع عن الإسلام وخذلوه حين أسلموه للأعداء برضوخهم لهم، فتخلوا عن قيمه، سقطدوا عن حمايته، وقد مضوا في هذا الطريق الخطر إلى غاية ما بعدها إلا العثور وذلك حين استعانوا بالنصارى بعضهم على بعض في عراكهم الذي هوغير معهجر، ومن أجل ذلك وجب مقاومتهم وشق العصا عليهم، لأن طاعتهم والتسليم لهم سيقود حتما إلى نهاية أليمة وعاقبة مخزية وخيمة. والشاعر هنا يبرر الخروج على الملوك بأنهم أحدثوا في الإسلام حدثاً، وأنهم سلموه للأعداء، سقطدوا عن نصرته، وأنهم ما لأوالكفار وواطؤهم على النيل منه، وأنهم عصوا رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذه كلها براهين يسوقها لتأييد قضيته وتدعيم دعوته ووجاهة فكرته.

وقد تناول الشعر المنكرات، فشدد النكير على مرتكبيها مبينا مضارها وخطورة انتشارها، فنطق أحد الشعراء عند سقوط طليطلة، في يد الأسبان عام 478هـ:

فإن قلنا العقوبة أدركتهم واتىهم من الله النكير فإنا مثلهم وأشد منهم نجور وكيف يسلم من يجور أنأمن حتى يحل بنا انتقام وفينا الفسق أجمع والفجور وأكل للحرام ولا اضطرار إليه فيسهل الأمر العسير ولكن جرأة في عقر دار كذلك يعمل الكلب العقور يزول الستر عن قوم إذا ما على العصيان أرخيت الستور

إن نكبة طليطلة لم تأتي ضربة لازب، وإنما تقدمتها مسببات مهدت لها، وساقت إليها، من تلك الأسباب ما ذكره الشاعر في أبياته المتقدمة، وكما هوواضح فإنا ما ذكره لم يكن قاصراً على طليطلة منتشرا بين أهلها وحدهم وإنما هوعام في كثير من الأنطقيم والمدن، ولوحتى المسلمين هناك وعوا الدرس لعادت نكبة طليطلة ربحا حقيقياً لبقية مدن الأندلس، ولكنهم استمرأوا ارتكاب المنكرات من فسق وفجور وأكل للحرام من غير اضطرار، ومن تجرؤ على حدود الله وارتكاب للمعاصي في السر والعلن، فلا عجب إذا عمت مصيبتهم ونزلت من سماء الأندلس رايتهم. ولا شك حتى مقاومة هذه الأمراض الاجتماعية التي تفتك بالأمة أمر تحتمه المحافظة على جسم الأمة سليما وروحها قويا وعزمها صلبا حديداً، فذلك أدعى لصمودها أمام من عاداها وردٍ سهام من رماها.

وكان الشعر يدعوإلى الجهاد، ويرغب فيه ذاكراً ما أعد للمجاهدين من أجر عظيم ومثيراً الحفائظ بأبلغ ما تستثار به من حماية الدين وتدعيم لأركانه، وتمهيد لنشره بين الناس. من ذلك ما نطقه ابراهيم بن خلف المتوفى سنة 649هـ.

ورداً فمضمون نجاح المصدر هي عزة الدنيا وفوز المحشر يا معشر العرب الذين تواراثوا شيم الحمية كابراً عن كابر إن الإله قد اقتنى أرواحكم بيعوا ويهنيكم وفاء المشترى أنتم أحق بنصر دين نبيكم وبكم تمهد في قديم الأعصر أنتم بنيتم ركنه فلتدعموا ذاك البناء بكل لدن أسمر ولكم عزائم لوركبتم بعضها أغنتكم عن جميع طرف مضمر الكفر ممتد المطامع والهدى مستمسك بذناب عيش أغبر والخيل تضمر في المرابط غيرة ألاً تجوس حريم رهط أصفر كم نكروا من مفهم كم دمروا من معشر كم غيروا من معشر كم أبطلوا سنن النبي وعطلوا من حلية التوحيد صهوة منبر أين الحفائظ مالها لم تنبعث أين العزائم مالها لا تنبري أيهزٌ منكم فارس في كفه سيفاً ودين محمد لم ينصر

فالشاعر هنا يأمرهم بورود حوض المنايا جهاداً في سبيل الله ضامنا لهم نجاح المصدر فهو: إما نصر وسيادة وإما اغتال وشهادة، ثم يذكرهم بأنهم أهل الحمية الإسلامية والنخوة العربية التي هي إرث موروث لهم أبا عن جد مستنهضا بذلك ما همد من عزائمهم ومشعلاً ما خمد من رجولتهم، مذكراً لهم بأنهم قد باعوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى مشيراً بذلك إلى قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ.. الآية .

وهوهنا يشتار من رياض القرآن، ويعتصر رحيق الآيات، ليأخذ من جماله زينة لأسلوبه ومن قوته دعماً لمعانيه، فما دام الأمر كذلك فليس هناك أحد أحق بدعم هذا الدين منكم أنتم الذين بعتم أنفسكم وأموالكم في سبيله لقاء الجنة، ثم أنتم الذين شيدتم أركانه، وأعليتم بنيانه، ومهدتم طريق نشره بين العالمين، ومما يعينكم على ذلك عزائمكم الماضية التي لوركبتم بعضها لأغنتكم عن الخيول الضامرة، فلم هذا التقاعس والكفر مرفوع الراية ممتد الرواق مسنود الجانب طمعاً في القضاء على الإسلام بينما ((الهدى مستمسك بذناب عيش أغبر)) وهذا التعبير كناية عما يعانيه الإسلام الذي هودين الهدى من اضطهاد وخذلان وانكسار جناح، ثم يبالغ في استثارتهم فيقول إذا هذا الأمر قد استفز حتى العجماوات، فها هي الخيل تتحرق شوقا وتتحرك ضجراً في مرابطها ألا تجد سبيلا إلى ميدان الوغى لمقاتلة الرهط الكفار الذين أبطلوا سنن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وعطلوا المنابر من دعوة التوحيد ونكروا المعالم وغيروا المشاعر، وقتلوا المسلمين، لعله بذلك يبعث عزائمهم، ويثير حفائظهم، ويدفع إلى الجهاد كتائبهم، ثم يخاطبهم في لهجة استنكارية ونغمة توبيخية فيقول:

أيهزٌ منكم فارس في كفه سيفاً ودين محمد لم ينصر

ولئن سلكت هذه الحدثة مسلك الشدة في الخطاب والعنف في العتاب فإن الحدثة الآتية قد نهجت نهجا تميز بالهدوء والرقة إلا حتى قسوتها في رقتها، وعنفها في هدوئها، وأعني بهذا تلك القصيدة التي أوفدها لسان الدين بن الخطيب المتوفى سنة 776هـ إلى أهل المغرب في الاستنفار للجهاد وإغاثة الأندلس والتي يقول فيها:

إخواننا لا تنسوا الفضل والعطفا فقد كاد نور الله بالكفر حتى يطفأ وإذا بلغ الماء الزبا فتداركوا فقد بسط الدين الحنيف لكم كفا تحكم في سكان أندلس العدا فلهفا على الإسلام ما بينهم لهفا وقد مزجت أفواهها بدمائها فإن ظمئت لارى ألا الردى صرفا أنوماً وإغفاء على سنة الكرى وما نام طرف في حماها ولا أغفا أحاط بنا الأعداء من جميع جانب فلا وزراً عنهم وحداً ولا لهفا ثغور غدت مثل الثغور ضواحكا أقام عليها الكفر يرشفها رشفا

فهويبدأ قصيدته بحدثة ((إخواننا)) لإثارة الحمية والعطف في نفوس المخاطبين إدراكا للإسلام الذي كاد الكفر يطفئ نوره وقد بلغ الأمر مبلغه من الشدة والحرج ولم يعد ممكن الاحتمال، وها هوالدين يبسط لكم كفه مستنجدا بعد حتى أعطى الأعداء أياديهم إلى راياته، وبسطوا سطوته على أهله، وعاثوا في الأندلس فسادا، وأذاقوا أهلها ذلا واضطهادا، فمن ظمئ منهم لا يجد إلاً كأس المنية مشربا، فلم النوم والإغفاء وبلاد الإسلام لم ينم لها طرف ولا غفا لها جفن وها هم الأعداء قد أحاطوا من جميع جانب ولا معين ولا نصير. وفي البيت الأخير يشير إلى ما عليه ثغور الإسلام من رونق وجمال، وكأنها بذلك تطمع الأعداء فيها، وتغريهم بالهجوم عليها، ولما شبهها بالثغور رشح ذلك حتى يقول:

ثم بين الصلة التي تجمعهم والحبل الذي يربطهم والعروة التي يعتصمون بها فنطق: وسيلتنا الإسلام وهوأخوة من الملأ الأعلى تقربنا زلفى أخوفاً وقد لذنا بجاه من ارتضى وذلاً وقد عذنا بعز من استعفى فهل ناصر مستبصر في يقينه يجير من استعدى ويكفي من استكفى وهل بائع فينا من الله نفسه فلا مشتر أولى من الله أوأوفى أفي الله شك بعد ما وضح الهدى وكيف لضوء الصبح في الأفق حتى يخفى وكيف يعيش الكفر فينا ودوننا قبائل منكم تعجز الحصر والوصفا غيوث نوال حدثا سئلوا الندى ليوث نزال حدثا حضروا الزحفا فقوموا برسم الحق فينا فقد عفى وهبوا لنصر الدين فينا فقد أشفى

فالإسلام هوالدين الذي يجمع بين المسلمين على اختلاف أجناسهم وتباعد أقطارهم ويجعل منهم إخوة يأسى يعضهم لجراح بعض، ويسموبأرواحهم إلى الملأ الأعلى، ويكوّن. منهم وبهم قوة تهوي على رأس العدووتحطمه، فهم على الله متوكلون وبنصره واثقون، فلم الخوف وهوأقوياء، ولم الذل وهم أعزاء، ولم التهيب وركنهم شديد.

ثم يلتفت فيسأل في لهفة وشوق عن رجل قوي اليقين واثق من نصر ربه ليكون غياثا لهؤلاء الضعفاء، فيرد الطمأنينة إلى قلوبهم وسهام الأعداء إلى نحورهم ثم يعتب عليهم بأنهم قبائل لا يحصيها العدد، ولا يعوزها المدد والكفر ممتد رواقه ظاهر في الأرض عيثه وإفساده، فليهبوا للجهاد بأموالهم فهم غيوث هاطلة، وبأنفسهم فهم ليوث ضارية، فقد أظلهم زمانه، وحل بينهم إبانه.

ومما يدخل في شعر المقاومة المديح الذي مجد البطولة، وأثنى على الأبطال، وألهب المشاعر الوطنية، وأضرم القلوب والصدور غيرة وحماسا، ونظر بعين الأمل والراتى لعله يرى تباشير النصر تلوح من قريب. من ذلك ما نطقه أبوجعفر المرقشي من قصيدة يمدح بها أمير المؤمنين يوسف بن عبد الله المؤمن بن علي صاحب مراكش عندما ولج الأندلس، وأخذ يسترجع كثيرا مما أخذه النصارى من المدن مطلعها:

أبت غير ماء للنخيل ورودا وهامت به عذب الحمام ورودا يقول: ألا ليت شعري هل يمد لي المدى فأبصر ضم المشركين طريدا وهل بعد يقضي النصارى بنصرة تغادرهم للمرهقات حصيدا ويغزوأبويعقوب في شنث يافث يعيد عميد الكافرين عميدا ويلقي على إفرنجهم عبء ككل فيهجرهم فوق الصعيد هجودا يغادرهم جرحى وقتلى مبرحا ركوعا على وجه الفلا وسجودا

فهوهنا يتطلع مستشرقا إلى اليوم الذي يرى فيه ضم الكفار مبددا، وقد انتصر عليهم المسلمون بعد حتى ألحموهم سيوف الحق، وجرعوهم كئوس الموت، ومضى أبويعقوب فغزاهم في عقر دارهم ومكان عبادتهم.... في شنث يافث وهي كنيسة عظيمة في ثغور ماردة لها عند النصارى قداسة دينية عظيمة لأسباب ذكرها الحميري في كتابه: صفحة جزيرة الأندلس صفحة 115، وهناك ألقى عليهم بثقله، ورماهم بجنده، وأسر عميدهم فغادرهم ما بين قتيل وجريح وساجد على وجه الأرض. وهذا تعبير رائع يعج بالحركة، ويرسم صورة حية لما يتمنى حتى تنتهي إليه هزيمة الكفار، فهوأشبه ماقد يكون بمهندس بارع يرسم خريطة منزل على صفحة الورق ثم يطلب من العمال تطبيقها على صفحة الأرض.

وينعى شعر المقاومة على الناس هجرهم أوطانهم ونزوحهم إلى غيرها هروباً من المدافعة والتماسا للنجاة، فيقول أبوالمطرف بن عميرة المتوفى سنة 658هـ:

كفى حزناً أنا كأهل محصب بكل طريق قد نفرنا وننفر وإن كلينا من مشوق وشائق بنار اغتراب في حشاه تثمن ألا ليت شعري والأماني ضلة وقول ألا ليت شعري تحير هل النهر عقد للجزيرة مثلما عهدنا وهل حصباؤه وهي جوهر وهل للصبا ذيل عليه يجره فيزور عنه موجه المتكسر وتلك المغاني هل عليها طلاوة بما راق منها أوبما راق تسحر ملاعب أفراس الصبابة والصبا نروح إليها تارة ونبكر وقبل ذاك النهر كانت معاهد بها العيش مطلول الخميلة اخضر

في هذه الأبيات نجد نهجا جديدا في المقاومة.. نهجا يعتمد على الإقناع المنطقي والروح الإنساني، ويعدل عن اللهجة الحادة التي نجدها في قصيدة المرقشي السابقة والتي نادى فيها إلى حصد الأعداء وسحقهم واتخاذ بساط من أشلائهم إلى غير ذلك.

أما أبوالمطرف فقد عدل عن جميع ذلك إلى القول الهادي والأسلوب المقنع حين ذكر حتى هذه الأرض ذات الأنهار الجارية الخمائل المخضرة والمغاني الساحرة والهواء النقي هي ملاعب صبانا ومراتع لهونا ومنابت رزقنا، وهي من أجل ذلك واجب علينا البقاء فيها والدفاع عنها، وبهذه الجمل الهادئات الهامسات ينجح الشاعر في إقناع هؤلاء الفارين النازحين بالبقاء في ديارهم والعيش على أرضهم ودفع العدوالمغير حتى لا تثبت أقدامه فيها، وتمتد يده إلى ما سواها. ونحن نفهم أنه عندما سقطت طليطلة في يد الأسبان ظهرت دعوة تنادي إلى شد الرحال والهجرة إلى خارج الأندلس من ذلك ما نطقه ابن العسال:

حثوا رحالكم يا أهل أندلس فما المقام بها إلا من الغلط السلك ينثر من أطرافه وأرى سلك الجزيرة منثورا من الوسط من جاور الشر لا يأمن بوائقه كيف من الممكن أن الحياة مع الحيات في سفط

وقد تصدى الشعر لهذه الدعوة فحاربها، وبين سوء عاقبتها وعظيم مخاطرها من ذلك هذه الأبيات الرائية التي استغل الشاعر فيها العاطفة الوطنية ومازال يبدئ فيها ويعيد، ويعزف على هذا الوتر الحساس تكثيفاً للعاطفة وإثارة للحمية حتى يقنع هؤلاء النازحين بالرجوع إلى ديارهم والبقاء فيها، فذلك أحفظ لكرامتهم، وأحمى لحوزتهم.

ومن شعر المقاومة الشعر الذي تطلع إلى قائد ينهض بالأمة من كبوتها، ويخلصها من محنتها، ويدفع عنها وبها كيد عدوها. يقول بعضهم:

ألا رجل له رأي أصيل به مما نحاذر نستجير يكر إذا السيوف تناولته وأين بنا إذا ولت كرور ويطعن بالقنا الخطار حتى يقول الرمح ما هذا الخطير عظيم حتىقد يكون الناس طراً بأندلس قتيل أوأسير أذكر بالقراع الليث حرصاً على حتى يقرع البيض الذكور يبادر خرقها قبل اتساع لخطب منه تنخسف البدور يوسع للذي يلقاه صدراً إذا ضاقت بما تلقى الصدور

فهوهنا يستشرف إلى رجل عبقري في تفكيره حازم في رأيه وتدبيره قوية عزيمته مشدودة شكيمته، لا يرام ما وراء ظهره، صبور في ميدان القتال، لا يستسلم مهما عظمت الخطوب وكثرت العقبات وأظلمت الدروب بل يقتحمها بفكر نير وعزم قوي وسيف مسلول ذوداً عن حرمات الأمة وحماية لظهرها، وأنه إذا رأى خرقاً بادر بسده وإذا أبصر خطراً أسرع برده توحيداً للحدثة وصوناً لها من الفرقة والانقسام، ويزين جميع هذه الخلال سعة صدر يلقى بها الأمور الخطيرة إذا ضاقت بها الصدور.

إن الناظر في واقع الحكام المسلمين يوم ذاك يجدهم قد انشغلوا بملذاتهم عن الدفاع عن الإسلام وأهله ودياره، كما حتى المعارك فيما بينهم قد استوعبت جهدهم واستقطبت طاقتهم، ومن ثم فإن الشاعر قد يئس منهم، وانصرف عنهم، وأصبح كأنه يصيح في عالم المجهول بحثا عن قائد ذكي التفكير حكيم التدبير تجد فيه الأمة ضالتها المفقودة وأمنيتها المنشودة، يوحد صفها، ويجمع حدثتها، ويتجه بها إلى ميدان المعركة، ويقابل بها أعداءها صابراً محتسبا، لا يجد اليأس إلى نفسه سبيلاً، ولا ترى في أعماله من الرياء فتيلا. ومما يدخل في هذا الباب الشعر الذي تحدث عما حل بالمساجد من تحويلها إلى الكنائس وارتفاع صوت النواقيس بداخلها بدل الأذان وتعطيل الصلوات فيها وتلويثها بعقيدة الشرك وأكل الخنزير وشرب الخمر وما أصاب السكان من تقتيل وتشريد للرجال وسبي النساء وامتهان لعفتهن، وفي هذا يقول عمروبن المرابط:

كم من جامع فيها أعيد كنيسة فأهلك عليه أسى فلا تتجلد القس والناقوس فوق مناره والخمر والخنزير وسط المسجد أسفي عليها أقفرت صلواتها من قانتين وراكعين وسجد وتعوضت منهم بكل معاند مستكبر مذ كان لم يتشهد كم من أسير عندهم وأسيرة فكلاهما يبغي الفداء فما فدى كم من عقيلة معشر معقولة فيهم تود لوأنها في ملحد كم من وليد بينهم قد ودً من ولداه وداً أنه لم يولد كم من تقيٍ في السلاسل موثق يبكي لآخر في الكبول مقيد وشهيد معهجر توزعه الردى ما بين حد ذابل ومهند ضجت ملائكة السماء لحالهم ورقً لهم من قلبه كالجلمد

ثم يقول:

أكذا يعيث الروم في إخوانكم وسيوفكم للثأر لم تتقلد يا حسرة لحمية الإسلام قد خمدت وكانت قبل ذات توقد

فشعر كهذا مثير للحفائظ محرك للمشاعر، فقد استخدم فيه الشاعر القلم والريشة فاتىت صورة واضحة المعالم تستلفت النظر، وتستوقف العجل ثم يبالغ في استثارة المشاعر الدينية والعواطف الإنسانية، فيذكر ما حل بالمساجد التي غيرت إلى كنائس والمآذن التي تعطل الأذان فيها، وارتفع من فوقها صوت الناقوس والمحاريب التي خلت من الركع السجود، وعمرت بكل معاند متكبر لا ينطق بشهادة التوحيد.

وقد كان للنصارى تنطقيد معينة في تحويل المساجد إلى كنائس، فما إذا يفتحوا بلداً، وتتم لهم السيطرة عليه حتى ينتظموا في موكب فخم يتقدمه الكهنة وفرسان الجماعات الدينية، ويتجهوا صوب المسجد وهم ينشدون أناشيد الحمد والثناء ثم يتم تحويله إلى كنيسة، ويحمل فوق ساريتها فهم النصر .

ومن أبشع ما ارتكبه النصارى انتهاك الحرمات وامتهان الكرامة الإنسانية والاعتداء على عفة النساء، فكم من أسير وأسيرة امتهنت كرامتها، ولم يجدا إلى الفداء سبيلاً، وكم من امرأة مصونة اعتدي على عفتها حتى تمنت لوأنها في قبر، وكم من طفل حيل بينه وبين والديه حتى تمنيا أنه لم يولد، وكم من تقي عابد كبل بالسلاسل، وكم من شهيد بترته السيوف إرباً إرباً .. إنها حال بلغت من القسوة النهاية، وتجاوزت في سوءها الغاية حتى لقد ضج أهل الملأ الأعلى وانفطر منها قلب الجليد، واهتز لها وقار الحليم، ولا شك حتى ذلك من أبلغ ما يستثار به غيور أوتستنهض به همة، أويدعى به إلى نجدة.

وقد استعان الشاعر في تعبيره للوصول إلى هدفه بإثارة العواطف الدينية والأسرية وبالإلحاح على صور المأساة وأوضاعها مما كثف آثارها فجعلها تسيطر على نفوسنا، وتهيمن على حسنا، وتنفخ في جمرة الحمية. وقد استغل الشاعر ما وصلت إليه النفوس من حماس وغليان فنطق:

أكذا يعيث الروم في إخوانكم وسيوفكم للثأر لم تتقلد يا حسرة لحمية الإسلام قد خمدت وكانت قبل ذات توقد

ولكن هذه الصيحات مضىت جميعاً أدراج الرياح، ونفذ أمر الله، وخرج المسلمون من الأندلس بعد ثمانية القرون التي كانت حجر الزاوية في بناء الحضارة الأوروبية الحديثة.. خرجوا وقد هجروا تراثاً ثقافياً ضخماً على صفحات الخط وآثاراً عمرانية رائعة على صفحة الأرض تشاهد الآن وكأنها نوادب تبكي قوماً رحلوا، وتتطلع في لهفة إلى عودتهم.

المراجع

  • الدكتور عبد الرحمن بله علي (2007-11-21). "المقاومة في الشعر الأندلسي - دراسة تحليلية نقدية". منتديات ڤوي. Retrieved 2010-09-28.
  • مختصر تاريخ الأندلس
تاريخ النشر: 2020-06-04 09:16:32
التصنيفات: شعر أندلسي, حروب الاسترداد

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

اطلاق الفرقة الجهوية للمتفجرات بفاس

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-01 00:15:18
مستوى الصحة: 40% الأهمية: 41%

أزيد من 1500 مغربي غادروا أوكرانيا

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-01 00:15:29
مستوى الصحة: 43% الأهمية: 42%

رتال راعي ماسي لمعرض ريستاتكس الرياض

المصدر: صحيفة اليوم - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-02-28 21:25:32
مستوى الصحة: 44% الأهمية: 42%

الدرك يشن حملات تطهيرية على الدراجات النارية المعدلة ببرشيد

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-01 00:15:28
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 48%

ورشة عمل لجمعية النواب العموم العرب حول استرداد الأموال المهربة

المصدر: الرئيس نيوز - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-28 21:25:17
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 54%

«الغطاء النباتي»: بدء المرحلة الثالثة من حملة «لنجعلها خضراء»

المصدر: صحيفة اليوم - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-02-28 21:25:30
مستوى الصحة: 42% الأهمية: 42%

الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يمدد إجراءات “دعم السياحة”

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-01 00:15:31
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 39%

رسمياً ..استبعاد روسيا من المسابقات التابعة لـ(فيفا) و(يويفا)

المصدر: صحيفة اليوم - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-02-28 21:25:39
مستوى الصحة: 32% الأهمية: 45%

بداية من الغد .. الشروع في بيع قسيمة السيارات لسنة 2022

المصدر: صوت الشلف - الجزائر التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-02-28 21:25:24
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 57%

روسيا تغلق مجالها الجوي أمام 36 دولة

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-01 00:15:22
مستوى الصحة: 34% الأهمية: 43%

الإعلام العالمي يسلط الضوء على اكتشاف المملكة 5 حقول غاز جديدة 

المصدر: صحيفة اليوم - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-02-28 21:25:35
مستوى الصحة: 42% الأهمية: 44%

مجلس المنافسة: تحديد الأسعار يتم وفق آليات المنافسة الحرة

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-01 00:15:19
مستوى الصحة: 31% الأهمية: 40%

العملات الرقمية تسجل ارتفاعا في بداية أسبوع التداول الجديد

المصدر: صحيفة اليوم - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-02-28 21:25:34
مستوى الصحة: 37% الأهمية: 38%

حاليا في المغرب.. 4267 مصابا بكورونا منهم 204 حالة حرجة

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-01 00:15:23
مستوى الصحة: 39% الأهمية: 35%

الأول من نوعه.. «البلدية» تنظم ملتقى لتطوير الرقابة البلدية

المصدر: صحيفة اليوم - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-02-28 21:25:30
مستوى الصحة: 40% الأهمية: 43%

تحميل تطبيق المنصة العربية