مذكرة إسماعيل صدقي رئيس الوفد المصري إلى الوفد البريطاني، 1 أغسطس 1946، منشور من "وزارة الخارجية المصرية، القضية المصرية 1882 - 1954، المطبعة الأميرية بالقاهرة 1955، ص 520 - 525".

المنشور

قبل افتتاح المفاوضات الحالية بوقت غير قصير، انتهت الهيئة السياسية التي ألفتها الحكومة المصرية لتحديد الخطوط الأساسية للسياسة الخارجية لما بعد الحرب إلى حتى من مصلحة مصر الاحتفاظ بصداقتها التقليدية لبريطانيا العظمى، وأن تعقد معها في نطاق هيئة الأمم المتحدة معاهدة تحالف على غرار المعاهدات التي تعقد بين الدول المتساوية في السيادة والاستقلال.

ولقد آثرت مصر في الواقع، حرصا منها على المبادئ الديمقراطية، التي تدافع عنها بريطانيا العظمى، حتى تتبع بعد الحرب سياسة صداقة مع بريطانيا العظمى كما انضمت خلال الحرب بإيمان راسخ إلى معسكر الديمقراطيات.

ومن ناحية أخرى استقر عزم مصر على زيادة عدد جيشها وتجديد أسلحته بما يكفل لها وحدها حتى تتولى الدفاع عن أرضها وذلك حتى تتمكن هيئة الأمم المتحدة من حتى تأتي لنجدتها. ومثل هذا الدفاع يلقي على الدول أعباء ثقيلة في الحروب الحديثة. ومصر على استعداد للقاءة تلك الأعباء.

حقا إذا التحالف مع بريطانيا العظمى يدعم مركز مصر الدفاعي في انتظار تدخل مجلس الأمن تدخلا فعالا، ولكن مصر تؤدي من جانبها بهذا التحالف خدمة كبيرة لبريطانيا العظمى، وذلك بتخليصها من بعض المسئوليات والأعباء الثقيلة جدا مما كانت تنهض به من قبل.

ولكن بلدا يقبل الدخول في تحالف هذا شأنه، من حقه حتى يصر على احترام استقلاله احتراما كاملا. فلئن فرض على نفسه باسم ذلك الاستقلال، ومن أجل الدفاع عنه، أعباء عسكرية ثقيلة، فهولا يعمل هذا لينتقل استقلاله بعد ذلك إلى أيدي حليف في لقاء الحصول على تأييد ذلك الحليف.

وإذن. فالوفد المصري وهوممتلئ رغبة أكيدة في الوصول إلى اتفاق في أسرع وقت، ولج المفاوضات مع المندوبين البريطانيين لعقد محالفة قام هونفسه باقتراحها. ولقد صرحت الحكومة البريطانية من جانبها قبل افتتاح المفاوضات، ثم أيدت تصريحها، بأن بريطانيا العظمى على استعداد لعقد معاهدة على أسس جديدة من شأنها احترام استقلال مصر وسيادتها، وذلك طبقا لأغراض ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه.

ومع ذلك فقد اضطر الوفد المصري إلى حتى يلاحظ من البداية ميلا من الجانب البريطاني إلى عدم الاكتفاء بمعاهدة من طراز المعاهدات التي تبرم بين الدول المستقلة، بل اضطر حتى يلاحظ حتى الجانب البريطاني يميل على العكس إلى الاحتفاظ بشكل أوبآخر بالشروط الاستثنائية المأخوذة من معاهدة سنة 1936 والمستوحاة من روح ظلت سائدة خلال سنوات طويلة.

ولقد اقترح الجانب البريطاني على التوالي، النزول، بطريق الإيجار طويل الأجل عن جزء من الأراضي المصرية، واستبقاء التشكيلات الجوية في منطقة القنال على وجه مستديم، وإنشاء قواعد عسكرية إدارية في مصر تحت الإشراف البريطاني، ووضع مركز قيادة عامة (متحالفة) في منطقة القنال لتطبيق تدابير الأمن التي تتصل بالشرق الأوسط كله، واستخدام فنيين عسكريين بريطانيين لمدة غير محدودة، وأخيرا، تكوين لجنتين مختلطتين ليستا استشاريتين لتطبيق بنود المعاهدة، واحدة لأركان الحرب. والأخرى في مستوى الوزارات.

وفضلا عن ذلك، طلب الوفد البريطاني حتى تتمكن الجيوش البريطانية من الدخول بحرية في مصر، وأن تتمتع فيها بكل التسهيلات في حالة مجرد التهديد بالحرب أوفي حالة طارئ دولي يخشى أمره. وأخيرا قدم الوفد البريطاني مشروع اتفاق عسكري لم يكن سوى طبعة معادة من معاهدة سنة 1936.

ولم يكف الوفد المصري خلال المناقشات عن حتى يبين بوضوح حتى هذه المقترحات التي تستوحي الروح التي كانت سائدة في سنة 1936، تتعارض تعارضا صريحا مع المبادئ. التي ينبغي حتى تكون أساسا للمعاهدة، وهي المبادئ التي قبلتها الحكومة البريطانية ذاتها، وذلك فضلا عن كونها لا تطابق مبادئ ميثاق الأم المتحدة.

ولقد حارب الوفد المصري هذه المقترحات التي هبط عنها الجانب البريطاني أخيرا.

وكان لزاما على الوفد المصري حتى يسلك هذا المسلك اليقظ. وخاصة لأنه لم يلمس في الجانب البريطاني، خلال المفاوضات، رغبة. بغير تحفظ. في احترام استقلال مصر. ومثال ذلك ما تجلى من الضباط البريطانيين - في المحادثات بين الخبراء العسكريين للوفدين - من ميلهم إلى اعتبار مصر القاعدة الوحيدة للدفاع عن الشرق الأوسط. وكذلك توفرت لدى ضباطنا دلائل بأن هيئات أركان حرب بريطانية هامة ينبغي لها حتى تظل على اتصال بمنطقة قنال السويس.

وقد أثارت هذه الروح نوعا من التشكك بالنسبة للمبادئ التي تضمنتها تصريحات الحكومة البريطانية. وهذا ما حمل جانبا من الرأي العام المصري على حتى يجد في اللجنة المشهجرة للدفاع - ولوأنها هيئة استشارية بحتة - خطر التدخل في الشئون المصرية الداخلية.

ومع ذلك فقد برهن الوفد المصري أثناء المناقشات الطويلة على تشبعه بروح الوفاق بقصد الوصول إلى اتفاق سقم.

وبعد تبادل وجهات النظر مرارا عدة، قدّم الوفد المصري في النهاية إلى الوفد البريطاني مشروع معاهدة روعيت فيه أوفى رعاية التعديلات البريطانية الأخيرة في الحدود الدقيقة لاستقلال مصر.

ومع ذلك فقد حرص الوفد المصري بالنسبة للمادة الأساسية من مشروع المعاهدة وهي المادة الثانية على حتى ينص فيها بالتحديد على حتى المعاهدة لا تطبق إلا في حالة حرب بدون استفزاز من أحد الطرفين المتعاقدين. وتمسك الوفد المصري بعبارة "البلاد المتاخمة لمصر" بدلا من تعبير "البلاد المجاورة" وهي تعبير أكثر اتساعا تضم بلادا تبعد عن مصر كثيرا أوقليلا، ولا يتأتى لمصر - حتى تتدخل فيها عسكريا. وحرص أخيرا على حتى ينص صراحة على وجوب إجراء مشاورة بين الحليفين تسبق العمل المشهجر الواجب عليهما اتخاذه. وهذه المشاورة وهي أمر عادي ليس من طبيعتها حتى تعرقل أوحتى تؤخر العمل المشهجر الذي تكون اللجنة المشهجرة للدفاع قد تجاوز لها حتى انتهت من تقرير أساليبه وأقرتها الحكومتان. فإن لمصر - إذا تعرضت أراضيها للتهديد - مصلحة أكثر من بريطانيا العظمى في حتىقد يكون القيام بالعمل المشهجر سريعا وأنقد يكون التدخل على الفور.

وبعد انتظار أكثر من أسبوعين، أبلغ الوفد المصري حتى الحكومة البريطانية قد رفضت تعديلاته.

ويتجلى في الواقع في النصوص التي قدّمتها الحكومة البريطانية رغبتها في حتى تتخذ في المعاهدة احتياطات مبالغا فيها، ولا تتسق والحقائق الملموسة، وتنم عن انعدام الثقة في الحليف المستقبل، على حين حتى الوفد المصري يعتبر حتى الثقة المتبادلة هي العنصر الأساسي في المعاهدة.

وعلى أثر ذلك، وبعد حتى اجتمع الوفد المصري لدراسة الموقف البريطاني الأخير، اقترح الوفد البريطاني صيغا جديدة للمادة الثانية. فاستبدل بالتعبير "البلاد المجاورة" التعبير "بالأراضي المجاورة"، واستبدلت بعبارة "تعرض سلامتها للخطر" التعبير الأدق والأكثر الملاءمة وهو"تؤدي إلى أعمال عدائية" وأخيرا أومأ إلى المشاورات المنصوص عليها في المادة 3

وهذه الصيغ البريطانية الجديدة إذن لا ترضى الوفد المصري فيما يختص بمطالبه المتعلقة بالحرب بغير استفزاز وبالأراضي المتاخمة. وفضلا عن ذلك، فإن المشاورات التي تنص عليها تلك الصيغ هي المشاورات التمهيدية للجنة المشهجرة، في حين حتى الجانب المصري يطلب حتى تتشاور الحكومتان في الوقت الذي ينبغي فيه اتخاذ قرار خاص بالعمل المشهجر الذي يجب القيام به.

ومن ناحية أخرى فقد أعرب الشعب المصري بالإجماع، قبل بدء المفاوضات، عن أمنيتيه الأساسيتين، وهما الجلاء عن بلاده ووحدة وادي النيل باتحاد مصر والسودان تحت تاج مصر، هاتين الأمنيتين اللتين تولى الوفد المصري عرضهما وإيضاح مبرراتهما في مذكرته التمهيدية للمفاوضات.

وقد أصبح وجود قوات خارجية في أراضي دولة ما. أمرا لم يعد يطيقه بلد حر، في العالم الجديد الذي ولدته الحرب. وقد أ كدت هيئة الأمم المتحدة هذا المبدأ بصورة لا تدع أي مجال للبس حينما تولت درس بقاء قوات خارجية في جميع من سوريا وإيران.

وحتى لوتقيدنا بالمبادئ العتيقة التي تضمنتها معاهدة سنة 1936 لوجب حتىقد يكون قد تم عملا جلاء القوات البريطانية عن مدينتي القاهرة والإسكندرية. وأصبح اليوم أمرا واقعا. هذا بينما لا يزال في مصر وعلى الأخص في هاتين المدينتين جيش بريطاني تام على قدم الاستعداد للحرب مع أنه في جميع البلاد الأخرى التي اقتضت عمليات الحرب حتى تدخلها قوات أجنبية، قد شرع في سحب هذه القوات بمجرد وقف القتال؛ وقد تم الجلاء عن هذه البلاد في جميع مكان تقريبا.

سليم حتى الحكومة البريطانية قد أعربت حتى قواتها ستجلوعن مصر. ولكن حين اتى دور التطبيق يطالب الوفد البريطاني بمهلة أقصاها خمس سنوات لإتمام هذا الجلاء. فإذا سلمنا بأن أحكام معاهدة سنة 1936 لا تزال نافذة، لما جاز إلا لكتائب بريطانية ضئيلة العدد حتى تظل في منطقة قنال السويس ولمدة عشر سنوات لا أكثر.

إلى غير ذلكقد يكون جميع ما قد تحصل عليه مصر في شأن هذا المطلب الأساسي ليس إلا تقصير المهلة المنصوص عليها في معاهدة سنة 1936 بمقدار خمس سنوات.

فلا يسع الوفد المصري بداهة حتى يقبل هذه الإطالة في بقاء القوات البريطانية في مصر على حين حتى قد تخلصت جميع الدول في جميع مكان من بقاء جميع القوات الأجنبية بها. وخاصة في الوقت الذي اعتزمت فيه مصر وبريطانيا العظمى إقامة علاقتهما على أساس حديث وعقد محالفة جديدة تتفق مع المبادئ التي وضعها ميثاق الأمم المتحدة.

وفضلا عن ذلك فإن الوفد المصري يحرص على حتى يلفت النظر هنا إلى حتى مصر خلال الحرب قد تجاوزت الالتزامات التي فرضتها عليها معاهدة سنة 1936 وأن مؤازرتها أثناء تلك الفترة الحرجة للإمبراطورية البريطانية. ولقضية الديموقراطيات جديرة، بكل تأكيد؛ بأن تلقى تقديرا غير الذي لقيته.

ولكن أولئك الذين يدافعون عن إطالة مهلة الجلاء. وأولئك الذين يودون حتى يروا الاحتلال العسكري وقد عاد من جديد، يلوح أنهم يريدون استخدام مصر لمصلحتهم الذاتية تحت السيطرة البريطانية، ولا يريدون معاملتها معاملة الند للند وعلى قدم المساواة.

وفيما يختص بالسودان فإن الحكومة البريطانية لم تقبل من جهة أخرى حتى الآن حتى تقوم المفاوضات التي ستدور من أجل تسوية نظامه المستقبل على أساس التسليم بوحدة وادي النيل تحت تاج مصر.

في حين حتى هذا التسليم هوأمر يجب حتى يتقدم المفاوضات. ولا يستطيع الوفد المصري في الواقع حتى يقبل حتى تكون سيادة مصر علي السودان موضوع مفاوضات إذ إذا في ذلك اعترافا بأن هذه السيادة منازع فيها، كما حتى فيه عودا للبحث في حق لا يسقط بمضي المدة ولم تكف جميع الحكومات المصرية عن توكيده والاستمساك به حتى بالرغم من الظروف الصعبة في بعض الأحيان؛ وقد اعترفت به بريطانيا العظمى كذلك من جانبها على لسان ساستها المسئولين قبل 1899 وبعدها.

إن لمصر في الواقع على السودان كافة الحقوق دون أي استثناء. وقد لاقى آلاف من المصريين حتفهم من أجل ضمان وحدة وادي النيل.

فإن تكن مصر قد حرمت من ممارسة كافة حقوقها في إدارة السودان؛ فإن السودان مدين لها بمركزه الاقتصادي الحالي، إذ إذا الأعمال العامة الكبرى التي نفذت والسكك الحديدية والمواني والمنشآت الرئيسية وكذلك الأداة الاقتصادية، قد أنشأتها الأموال والأيدي المصرية كما حتى مصر هي التي كانت دائما تسد العجز المتوالي في ميزانيات السودان.

فسيادة مصر على السودان كان من شأنها دائما الحرص على رفاهية السودانيين، بل إذا مصر في الوقت الحاضر أيضا لا تضع نصب عينيها سوى مصالحهم وتقدمها على أساس المبادئ الديمقراطية.

وفي هذه الأحوال لا يستطيع أحد حتى يسلم بأن بريطانيا العظمى تستطيع حتى تحتج بمصالح السودانيين لتنازع في مبدأ وحدة وادي النيل تحت تاج مصر.

إن السودان لاقد يكون في الحاضر وحدة سياسية، وأن من مصلحة السودانيين حتىقد يكونوا جزءا من دولة بدلا من حتى يعيشوا تحت نظام غير طبيعي.

إن مصر التي توحد بينها وبين السودان علاقات تاريخية، هي الدولة التي يجب حتى يرتبط بها السودانيون أكثر من أية دولة أخرى، طالما حتى في مقدورها حتى تمنحهم مزايا دولة لها نظام إداري حديث، وأن تضمن لهم في نفس الوقت من ناحية أخرى إدراكا تاما لمصالحهم بالنظر لمسقط البلدين الجغرافي وتشابههما في الجنس والدين واللغة.

ولا يسع الوفد المصري بعد أربعة أشهر في مفاوضات مضنية، إلا حتى يعرب عن خيبة أمله إزاء النتائج التي أسفرت عنها هذه المحادثات مع أنه قد ولج المفاوضات وهوراغب في حتى يعقد في أسرع وقت معاهدة مع بريطانيا العظمى.

وهومضطر لأن يثبت حتى مادة من المواد الأساسية في مشروع المعاهدة الذي اقترحه رداً على التعديلات البريطانية الأخيرة، قد رفض نصها، وأنه فيما يتعلق بالمطلبين الوطنيين، وهما الجلاء ووحدة وادي النيل، لم يجد أية ترضية لا في الاقتراحات البريطانية ولا في المحادثات التي دارت حول هذا الموضوع.

ومن أجل جميع ذلك، لا يستطيع الوفد المصري إلا حتى يعبر عن أسفه لأن المفاوضات التي بدأها آملا، قد وصلت إلى نقطة لا يمكنه معها إلا حتى يستمسك بالمقترحات التي تضمنتها النصوص الأخيرة التي سلمت للوفد البريطاني.

إسماعيل صدقي

بولكلي في أول أغسطس سنة 1946

رئيس الوفد المصري

المصادر

• موسوعة مقاتل من الصحراء