عرب البحر الأدرياتيكي

عودة للموسوعة

عرب البحر الأدرياتيكي

محمد م. الأرناؤوط
ساهم بشكل رئيسي في تحرير هذا الموضوع
غلاف كتاب "عرب أولتشين"، بقلم علي لوني، بالألبانية، في 2014.

في وسط البحر الأدرياتيكي، وبالتحديد في مدينة أولتشين Ulqin العريقة، التي كانت تُعهد بلقب "عاصمة القراصنة"، تجمّعت وبرزت في حياة المدينة الاقتصادية والاجتماعية على مدى 400 سنة مجموعة إثنية عُرفت باسم "العرب"، بقي ما يذكّر بهم في هذه المدينة وضواحيها. ومع أنني كنتُ قد اهتممتُ بهم وخصّصتُ لهم فصلا في كتابي "دراسات في الصلات العربية البلقانية في التاريخ الوسيط والحديث" الذي صدر 2012، إلا أنني سررت بصدور كتاب "عرب أولتشين" عام 2014 للزميل علي لوني Ali Llunji، نظراً لأن المؤلف خالط هذه المجموعة في طفولته وخط عنها، كما أنجز فيلما وثائقيا عنها في سبعينيات القرن الماضي. في هذا الكتاب ما يستحق التوقف عنده، مع حتى "عرب أولتشين" حظوا خلال المائة سنة الأخيرة باهتمام الأوساط الفهمية اليوغسلافية والأوروبية والأميركية، وخاصة بعد حتى نشر الباحث اليوغسلافي، تيهومير جورجفيتش، دراسته الرائدة عنهم في 1930.

عُرفت أولتشين منذ الحكم الروماني للمنطقة، حيث ذكرها المؤرخ، تيت ليف، باسم "أولتسيناتاس" Olciniatas، ثم أصبحت في القرون الوسطى خط التماس بين الألبان والسلاف. وخلال حكم البندقية لها 1423-1571 زارها الألماني، أرنولد فون هارف، في طريقه إلى فلسطين للحج، فذكر أنه سمع فيها اللغة الألبانية لأول مرة في حياته ودوّن بعض الحدثات منها. وضمن الصراع بين البندقية والدولة العثمانية حول هذه المدينة المحصّنة بقلعتها، تمكّن العثمانيون من السيطرة عليها وبقيت تحت حكمهم إلى عام 1878، حين قرّر مؤتمر برلين ضمّها إلى مملكة الجبل الأسود.

وخلال الحكم العثماني 1671-1880 برزت في المدينة إلى جانب الألبان مجموعة متزايدة في العدد والدور اشتهرت باسم "العرب"(harapet أوarapet) نظرا للون الأسود الذي يميزها، ولأنها كذلك اتىت من السواحل العربية (شمال أفريقيا ومصر). وفي الواقع يرادف التراث الشعبي البلغاري والصربي والبوسني والألباني بين "العربي" و"الأسود" لاعتبارات تاريخية وثقافية، وهوما ساعد هذه المجموعة التي أصبحت تؤلف حوالى 10% من سكان المدينة على حتى تكون متماسكة، على الرغم من تنوع أصولها الإثنية. ومع انتنطق أولتشين المعروفة بتنطقيدها البحرية إلى الحكم العثماني، كانت قد انطلقت في البحر الأدرياتيكي/المتوسط اللقاءة بين الدولة العثمانية والبندقية وإسبانيا، التي تضمّنت "القرصنة" باعتبارها نوعاً من "الجهاد"، وأصبحت بعض المدن، مثل أولتشين وطرابلس الغرب وتونس والجزائر، شبه مستقلة بفضل ما يدرّه هذا النشاط على ريّاس البحر. وفي هذا السياق، كان لأولتشين أسطولها الذي يمخر أعماق الأدرياتيكي والمتوسط، ويقوم بهاجمة سفن البندقية وإسبانيا، لكي يستولي على ما فيها ويبيع ما يغنمه في أسواق العبيد. ونظراً لأن العبيد البيض كانوا مرغوبين في مصر وشمال أفريقيا، فقد كان أسطول أولتشين يعود من الإسكندرية وطرابلس الغرب وتونس والجزائر بالعبيد السود الذي كانوا مرغوبين في البلقان.

إلى غير ذلك تشكلت من هؤلاء العبيد السود المجموعة السكانية الجديدة، التي عملت في الأسطول والخدمة في البيوت بالإضافة إلى العمل في الزراعة خارج أسوار المدينة. ولكن سرعان ما كانوا يُعتقون من قبل أصحابهم ويُزوجون من بعضهم بعضاً حتى نمت علاقة جديدة بين الطرفين. وبرز من هؤلاء بعضُ ريّاس البحر، مثل علي عربي A. Arapi ، وداود كاليا D. Kalija، وما زالت أسماء الأماكن تذكّر بهم، لا سيما تلك التي عملوا أوتمركزوفيها، كـ"سهل العربي" وقرية "العرب" Arapaj التي تقع على "تلال العرب" إلخ.

تمكن المؤلف من حتى يلحق من بقي على قيد الحياة من رياس البحر والبحار،ة الذين عملوا ما بين موانىء أولتشين وبورسعيد وطرابلس الغرب وتونس والجزائر، وجلبوا معهم هؤلاء العبيد، الذين أعتقوا وأصبحوا مكوّنا مهما من المجتمع الأولتشيني بحكم الدين المشهجر (الإسلام).

وفي هذا السياق، ساعدته على ذلك اللقاءات التي أجراها مع كبار السن من العرب منذ ستينيات القرن الماضي، والتي أمدّته بمادة غنية عن حياتهم وفولكلورهم ودورهم في الحياة الاجتماعية للوسط الجديد.

إلى غير ذلك يميز المؤلف بين العرب السود والعرب السمر والعرب الخلّص. أما عن هؤلاء الأخيرين، فقد كانوا يأتون بأنفسهم من بلاد الحجاز في شهر رمضان من جميع عام، وذلك لعرض أنفسهم كأدلّاء لقوافل الحج، التي كانت تخترق الصحارى، أوليقوموا بالحج بدلا عن أحد من سكان المدينة.

أما عن الاختلاط والتزاوج بين العرب وسكان المدينة فقد وثقت أول حالة في مطلع القرن العشرين، حين تزوج عبدل العربي بفتاة بيضاء ورزقا بابنة "زلفية"، والتي كانت من أوائل البنات اللواتي التحقن بالمدارس الألبانية التي أنشأتها سلطات الاحتلال النمساوي خلال الحرب العالمية الأولى. وازداد الاختلاط والتزاوج بعد 1945، عندما أصبحت أولتشين جزءاً من يوغسلافيا الاشتراكية، ومن أشهر رموز هذه الفترة، رضا شورذا أورضا عربي Riza Arapi، الذي كان أول من افتتح محل تصوير وكان الزبائن من السياح البيض يتسابقون للتصور معه.

ويركز المؤلف في كتابه على دور العرب في الحياة الاجتماعية وانعكاس ذلك في الفولكلور المحلي. فقد اشتهر العرب بالقوة والطول وكانت تضرب بهم الأمثال، " قويٌّ كالعرب" و"طويلٌ كالعرب"، وإلى الآن وحين يتعرّض الشباب والشابات لأشعة الشمس على شاطى البحر ويسمرّ لونهم، تقول لهم الأمهات "أصبحتم كالعرب".

وقد اشتهر هؤلاء العرب بما أدخلوه في حياة أولتشين الاجتماعية، وخاصة في مجال الطبخ والموسيقى. فقد حظيت العربيات بشهرة خاصة في الطبخ، ولذلك كان الطلب عليهن كبيرا في الأعراس والمناسبات الخاصة. كذلك اشتهر العرب بالعزف والغناء، وخاصة النقر على الدفوف، ومن أشهر هؤلاء العازفين على الدف كان، سيد العربي.

وعلى ذكر الأعراس، يتحدث المؤلف عن ظاهرة "البولات" Bullat، التي تميزت بها أولتشين فقط. فقد كانت العائلات الغنية تحرص عند زواج بناتها ألا ترسل العروس مع فتاة مماثلة أوجميلة، بل ترسل معها عربية أكبر وأقلّ جمالا تكون برفقتها طيلة العرس لتبدوالعروس فائقة الجمال.

ويستذكر المؤلف هنا ما كانت ترويه جدته عن احتفالات العرب بالعيد، حيث كانوا يتجمعون في سهل خارج أسوار المدينة، وهوما بقي يعهد باسم "سهل العرب "، حيث كانوا يقومون بالغناء. ومن ذلك تستذكر الجدة المبتر الأول الذي من الممكن تعرض لبعض التحريف:

عرب.. عرب..أي والله
جزم..جزم.. أي والله.

وتجدر الإشارة أخيرا إلى حتى هذا الوجود العربي قد تقلّص بحكم التطورات السياسية والاجتماعية. فمع إلزام الدولة العثمانية بالتخلي عن أولتشين وضواحيها إلى إمارة الجبل الأسود في 1880، فضل الكثير من سكان المدينة الانتنطق إلى مدينة شكودرا المجاورة بشمال ألبانيا، ومضى مع هؤلاء نصف العرب الموجودين في أولتشين. ولذلك لدينا الآن في ألبانيا مئات الأسر التي تحمل صفة "عربي" أو"عرابي" Arapi. ومن ناحية أخرى، أصبحت الجبل الأسود جزءاً من مملكة يوغسلافيا خلال 1918-1941 ثم ضُمّتْ الى ألبانيا الكبرى تحت الحكم الإيطالي. ولذلك قامت القوات الإنكليزية في 1943 بقصف مواقع القوات الإيطالية حول المدينة، مما أدى إلى موجة أخرى للهجرة إلى مدينة شكودرا بشمال ألبانيا. ومع عودة أولتشين إلى جمهورية يوغسلافيا الاشتراكية في 1945، ازداد الانفتاح والاختلاط والتزاوج والانتنطق إلى الجمهوريات الأخرى في الفدرالية اليوغسلافية، التي انهارت بدورها في 1991-1992 وصولا إلى استقلال جمهورية الجبل الأسود في 2006.

وفي هذا السياق، نعت الصحافة الصربية في 2003/2/17 وفاة المصور، رضا عربي، الذي كان قد تزوج من الصربية ناديا راتشيتش وأنجب منها ابناً (ماريو) وابنة (أنيتا)، باعتباره "أسطورة أولتشين"، حيث ساهم من خلال عمله كمصور بتوثيق وجود العرب في المدينة. ولذلك اقترحتُ على االزميل، علي لوني، حتى يبادر إلى السعي إلى حفظ أرشيفه وينشر ألبوماً خاصاً عن العرب في أولتشين.

المصدر

  • محمد م. الأرناؤوط (2015-08-09). "عرب البحر الأدرياتيكي". صحيفة العربي الجديد.


وصلات خارجية

  • لقاء تلفزيوني مع مؤلف الكتاب علي لوني حول الكتاب. (بالألبانية)
تاريخ النشر: 2020-06-04 17:05:05
التصنيفات: البحر الأدرياتيكي, جماعات عرقية في ألبانيا, جماعات عرقية في الجبل الأسود, عرب الشتات, كتب 2014

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

الذكرى الـ12 للكارثة... اليابان لم تتعافَ بعد من آثار الزلزال وتسونامي

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-11 15:24:36
مستوى الصحة: 88% الأهمية: 90%

رسمياً.. اعتماد 3 تعديلات جديدة على العلم السعودي - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2023-03-11 15:24:51
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 60%

أربع نجوم يستعدون لإشعال نار المنافسة داخل كتيبة بلماضي

المصدر: آخر ساعة - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-11 15:24:48
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 60%

اللاعب الغيني ديابي فاديغا يعرض خدماته على الخضر وبلماضي

المصدر: آخر ساعة - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-11 15:24:45
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 70%

برعاية كردية في القامشلي: مركز لإعادة تأهيل أطفال عناصر «داعش»

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-11 15:24:43
مستوى الصحة: 86% الأهمية: 85%

سكيكدة: القبض على شابين يشتبه في قتلهما  “الفوردار” 

المصدر: آخر ساعة - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-11 15:24:35
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 57%

الراية السعودية.. ومراحل تطورها - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2023-03-11 15:24:53
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 67%

الرئيس الأوغندي يشرع في زيارة دولة إلى الجزائر

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-11 15:25:07
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 55%

كاليفورنيا مهدّدة بفيضانات بعد عاصفة «النهر الجوي»

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-11 15:24:43
مستوى الصحة: 76% الأهمية: 87%

هكذا ظهرت المرأة في فكر الشيخ محمد الغزالي

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-11 15:25:58
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 62%

الرئيس التونسي يقرر إعادة العلاقات الدبلوماسية مع سوريا

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-11 15:24:37
مستوى الصحة: 77% الأهمية: 100%

باتيلي يقترح خريطة طريق للانتخابات الليبية بحلول يونيو المقبل

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-11 15:24:38
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 89%

سكيكدة على موعد توزيع أكبر حصة سكنية منذ الإستقلال

المصدر: آخر ساعة - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-11 15:24:31
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 61%

ترحيب أوروبي باتفاق استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-11 15:24:41
مستوى الصحة: 87% الأهمية: 86%

السجن سنة و3 آلاف غرامة لمن يسيء للعلم الوطني - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2023-03-11 15:24:52
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 62%

الاستخبارات البريطانية: روسيا تسيطر على شرق باخموت وأوكرانيا على غربها

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-11 15:24:44
مستوى الصحة: 89% الأهمية: 92%

انطلاق المرحلة الثانية من عملية فرض القانون في ديالى

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-11 15:24:34
مستوى الصحة: 86% الأهمية: 99%

الرئاسة المصرية تُثمن النهج السعودي في استئناف العلاقة مع إيران

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-11 15:24:40
مستوى الصحة: 82% الأهمية: 89%

أكبر إفلاس منذ أزمة 2008.. إغلاق «إس.في.بي» الأمريكية - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2023-03-11 15:24:56
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 61%

تحميل تطبيق المنصة العربية