إحتاج الأمر إلى عقود عدّة تلت موت الشاعر الفرنسي ريمبو، ولكن - أيضاً - سنوات عدّة سبقت موته، كي تتكوّن تلك الاسطورة التي أحاطت به، حيّاً ثم ميتاً، وكانت فريدة من نوعها بين الأساطير التي أحاطت دائماً بالأدباء، وربما خصوصاً، طالما أننا نتحدث على ريمبو، بالشعراء الذين كانوا يُوصفون بـ «الملعونين». إذاً، إحتاج الأمر إلى جميع ذلك الزمن، ولكن في اللقاء إحتاج الأديب الفرنسي، الأكثر معاصرة من ريمبو، ايتيامبل، إلى حتى يضع كتاباً في أربعة مجلّدات، منها واحد ظل طويلاً من دون اكتمال، هوالثالث وليس الرابع، حتى ينسف ليس فقط «اسطورة ريمبو»، بل ما سمّاه هونفسه «أساطير ريمبو». ذلك أنّ ايتيامبل في كتابه عن صاحب «موسم في الجحيم»، أراد من كتابه حتى يقول إنّ اسطورة ريمبولم تكن واحدة بل متعدّدة، لكنها كلها كانت مصطنعة، وان ليس في الأمر أية اسطورة ولا هم يحزنون.

> بالنسبة إلى ايتيامبل، الذي عهد الشرق كما عهده ريمبو، ولكن من منطلقات أخرى، ليس ثمّة ما حقيقي وصادق في معظم ما خط عن ريمبوليؤسطره، ولا سيما من جانب بول كلوديل أوايزابيل ريمبو، أوخصوصاً اندريه بريتون وبقية الذين اعتبروا أنفسهم، واعتبروه معهم، سورياليين. وهذه الفرضية التي اشتغل عليها ايتيامبل طويلاً، في كتابه الذي كان يمكنه حتىقد يكون معادلاً في عالم الحديث عن شاعر مَعْلَم، لما خطه جان - بول سارتر، عن ناثر مَعْلَم من كبار الروائيين الفرنسيين هو، طبعاً، گوستاف فلوبير – «أحمق العائلة» بحسب عنوان سارتر - هذه الفرضية هي التي أفقدت كتابه، أي كتاب ريمبو، جزءاً كبيراً من صدقيّته، حتى بالنسبة إلى الذين لمقد يكونوا مخالفين لايتيامبل في رأيه. إذ، حتى هؤلاء، رأوا حتى الكتاب، على رغم امتلائه بالتحليلات المميّزة، والاستشهادات والاستطرادات، إنما استخدمها كلها للتشديد على فكرة وضعها منذ البداية تهدف إلى تهديم الوجه الاسطوري لحضور آرثر ريمبوفي الأدب وفي الحياة. وهوبهذا - وبحسب نقّاده - عمل عكس ما عمل سارتر، إذ إنّ هذا الأخير سار في تحليله في شكل منطقي من دون حتى يصدر أي حكم مبدئي على فلوبير، تاركاً الحكم يأتي - سلباً أوإيجاباً - بعد التحليل مسترشداً به، لا قبل التحليل موجّهاً له. وبالنسبة إلى النقاد، لم يكن هذا العيب الوحيد في كتاب «اسطورة ريمبو»، بل كان ما أسوأ: سارتر اشتغل أساساً على نصوص «بطل» كتابه مستخلصاً منها جميع تحليل وموقف ومرجع. أما ايتيامبل فإنه، بصورة عامة، اشتغل على الخط والمؤلفات التي رأى أنها من خلق الاسطورة، فأراد حتى ينسف الاسطورة من خلال نسفها، وكان يمكنه حتى يعمل ذلك من خلال دراسة معمّقة، وتحليل دقيق لعمل ريمبونفسه من دون استخدام العمل لنسف الخط التي تحدثت عنه.

> ومع هذا كله، لا يتعيّن أبداً، حتى نرمي جانباً، الجهود الكبيرة التي بذلها ايتيامبل لكي ينجز الكتاب، ولا الصواب الذي ميّز الكثير من نظراته، ولا سيما حين كان يشتغل ضدّ مفهوم التصنيف الذي كان المحررون عن ايتيامبل يسعون في جميع لحظة إلى فرضه. ومنذ البداية لا بد من أنّ نشير إلى أنّ الاسطورة الريمبوية، إنما نسجت، مؤلفاً بعد مؤلف، استناداً إلى الرغبات العارمة في التصنيف، وليس أبداً استناداً إلى فرادة إنتاج ريمبووفرادة حياته. وحسبنا للتيقّن من هذا بأن ايتيامبل في الكتاب يذكّرنا بالمؤلفين الذين تراوحت تصنيفاتهم لريمبوبين كونه رمزياً وبارناسياً، شاعراً ملعوناً وسوريالياً، من مناضلي الكومونة أوكاثوليكياً، وحتى شيوعياً... ثم بخاصة بعد هذا كله، فناناً حالماً منزّهاً عن المادّيات وأشياء الحياة الدنيا.

> خطأ... جميع هذا خطأ، يقول ايتيامبل على مدى مئات الصفحات... وليس فقط انطلاقاً من المبدأ الأساسي القائل إنّ جميع مبدع حقيقيقد يكون من شروط حقيقته هذه انه عصيّ على التصنيف وعن حتى يُوضع في خانة ضيّقة واحدة. بل لأنّ ريمبونفسه لم يكن في الإمكان، استناداً إلى حياته ونصوصه، حتىقد يكون أي شيء من ذلك القبيل. ومن هنا، بالنسبة إلى ايتيامبل، المطلوب منذ أول الأمر، عدم الدنومن ريمبو، إلا بعد تجريده من جميع تلك الأساطير التي «صاغها له جميع أولئك الذين أراد جميع واحد منهم حتى يضمّه إلى سربه». ذلك حتى الأساطير إنما تنتمي إلى فكر وصورة الذين صاغوها، وأيّ منه لا يشبه ريمبومن أية ناحية. وللبدء بالنهاية، يتساءل ايتيامبل، كيف من الممكن أن يمكن الحديث عن «شيوعية» أو«تنزّه ريمبوعن الماديات»، ونحن نعهد أنه إنما قصد الشرق الافريقي متاجراً بالسلاح ساعياً للحصول على المضى، غير متورّع عن تهريب العبيد حين قيّض له ذلك،يا ترى؟ وكيف يمكن الحديث عن كاثوليكية حقّة - تكاد تكون صوفية - ربطه بها بول كلوديل، ونحن نعهد الكثير عن مغامرات دنيئة وأمراض سفلس وموبقات اقترفها الرجل بين اثيوبيا وعدن وانتهى بها الأمر إلى القضاء عليه،يا ترى؟ ثم كيف من الممكن أن نتحدث عن سوريالية وكتابة تلقائية وصفحات كثيرة من كتابة ريمبوموجودة تشهد على تنقيحاته اللامتناهية وتعديلاته في جميع قصيدة ونصّ من قصائده ونصوصه،يا ترى؟ ثم أين هي الرمزية في شعر كان دائماً أقرب إلى الجناح العقلاني في البارناسية،يا ترى؟ وبالنسبة إلى النضال في صفوف الكومونة، من الممكن كان يمكن القول حقاً إنّ عواطف ريمبوكانت في صفوف جماعة الكومونة... ولكن التاريخ لا يحدّثنا عن أكثر من تعاطف لفظي، إذ انه حتى ضن على أهل الكومونة بأي نص قد يُستشف منه موقف واضح إلى جانبهم؟

> هذه كلها أسئلة يطرحها في نصه الطويل هذا، مؤلف لا يمكنه - أولم يسع بالأحرى حتى ولوكان ذلك في امكانه نظرياً - حتى يعثر في داخل نصوص ريمبوعلى ما يناقض الأساطير: إنه يتحدّث عما ليس موجوداً، لكنه لا يتحدث أبداً عما هوموجود. وما هوموجود، كان بالطبع، كثيراً جداً وقادراً - حتى - على تأكيد جميع ما اتى به ايتيامبل من أفكار، لكن المشكلة كمنت في حتى ايتيامبل إنما شاء دحض الأساطير بتبيان تناقضاتها وعدم صحّتها، ما انتهى به في بعض الأحيان، ليس فقط إلى نسف الأساطير الريمبوية من أساسها، بل كذلك إلى حتى ينسف أجزاء كثيرة من عمل ريمبونفسه، على رغم أنه يؤكد دائماً أنه لا يسعى ولن يسعى إلى ذلك. فما يهمّه هنا ليس حتى يضع كتاباً عن ريمبوالذي كان لإجلاله له، على أي حال، يضع أدبه وشعره في مكان يساوي أدب وشعر فكتور هوگوعلى أقل تعديل، بل حتى يكشف زيف الكتابات النقدية والتاريخية لكتّاب ومؤرّخين من الواضح أنهم حين يخطون عن ريمبو، إنما هم يخطون عن أنفسهم وعن رغباتهم، وعما يطلبون من ريمبوحتىقد يكونه، أولاً وأخيراً. وهنا، في هذا السياق، لا يعود غريباً حتى يلاحظ ايتيامبل ان الكاثوليكي بول كلوديل هوالذي «اكتشف» كاثوليكية ريمبو، والسوريالي اندريه بريتون هوالذي تحدث طويلاً عن «سوريالية» ريمبووكتابته التلقائية غير الموجودة أصلاً. كما حتى الشيوعيين والبولشفيين لم يبدأوا الحديث عن «بولشفية» ريمبوإلا بعدما سمحت السلطات الستالينية بنشر أعماله في موسكوإلى غير ذلك... أما بالنسبة إلى فكرة الشعراء الملعونين، فيكفي حتى نقول - بحسب ايتيامبل - انّ من اتى بها، انطلاقاً من علاقات وثيقة ومؤكدة بين ريمبووفيرلين، كي لا نذكر الآخرين، إنما كان أولئك الباحثون الذين أرادوا حتى يضفوا على «تيار» الشعراء الملعونين قيمة إضافية، ناسين في طريقهم نهم ريمبولكل ما مادي ومربح، ولوعلى حساب القيم.

> في اختصار كانت تلك هي فرضية ايتيامبل، الروائي والناقد والباحث الفرنسي المولود في العام 1910، والذي، إذا كنّا قد ذكرنا أول هذا الكلام انه عهد الشرق مثلما عهده آرثر ريمبو، فما هذا إلا لأنه بدوره زار مصر ولبنان وسوريا، وعمل لفترة أستاذاً للأدب الفرنسي ولا سيما في مدارس القاهرة والاسكندرية، وكان على علاقة وطيدة بطه حسين من طريق صديقهما المشهجر اندريه جيد. وإذا كان ايتيامبل أصدر جزأي كتابه الضخم هذا، الأولين عند بداية سنوات الخمسين من القرن العشرين، ثم استنكف عن إصدار الجزء الثالث، ليعود ويصدر جزءاً رابعاً لمناسبة مئوية ريمبوفي العام 1961، فإنه كان تجاوز له في العام 1936 حتى وضع كتاباً أوّل عن هذا الشاعر، وهوالكتاب الذي أعطى له، حين جابهه النقاد بأنه إذا أراد في الكتاب اللاحق حتى ينسف الأساطير الريمبوية، حتى يقول بوضوح: ... ولكن لا يحق لكم حتى تقرأوا هذا الكتاب من دون حتى تستبقوا ذلك بقراءة كتاب العام 1936.

المصادر

• دار الحياة